زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

فالحق ان الطهارة وما يقابلها ليستا من الامور الواقعية وإنما هما من الأحكام الشرعية مع انه لو سلِّم كونهما منها إلا ان الكاشف عنهما لا محالة يكون الشارع وعند الشك لا بدَّ من السؤال عنهما وهذا معنى الشبهة الحكمية.

الثاني : ما في الكفاية (١) وهو اختصاص القاعدة ببعض ابواب الفقه ، والمسألة الأصولية ما تفيد في جميع الأبواب.

وفيه : ان ضابط المسألة الأصولية استنباط الحكم الشرعي منها ، واما اعتبار كونها جارية في جميع ابواب الفقه ، فمما لم يدل عليه دليل ، كيف وجملة من المسائل الأصولية تختص بابواب خاصة ، لاحظ مسألة دلالة النهي على الفساد.

الثالث : ان الطهارة والنجاسة عين التكليف ، أو منتزعتان عنه ، وعليه فالشك فيهما شك في الحكم ومورد للبراءة فقاعدة الطهارة عين البراءة ولذا لم يعد قسما برأسه.

ويرده ما حققناه في مبحث الاستصحاب من ان الأحكام الوضعية ، ومنها الطهارة والنجاسة مستقلة في الجعل ، لا منتزعة من التكليف ولا عينه.

والصحيح ان يقال : انها من المسائل الأصولية ، وإنما لم تذكر في علم الأصول لعدم وقوع الخلاف فيها ، لا لعدم كونها منها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٣٧.

٣٠١

الفرق بين هذه المسألة ومسألة الحظر والاباحة

الأمر الرابع : في بيان الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة ان الاصل في الأشياء والافعال هو الحظر أو الإباحة.

وقد افاد المحقق النائيني (١) في مقام الفرق بينهما وجهين :

الأول : ان البحث عن الحظر والاباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالاعيان الخارجية ، من حيث كونه تصرفا في ملك الله تعالى ، وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث انه فعله ، وان لم يكن له تعلق بالاعيان الخارجية.

وفيه : ان البحث عن الحظر والاباحة لا يختص بالاعيان الخارجية ، بل ما ذكره القوم وجها لكل من القولين ، يعم جميع افعال العباد.

فان القائلين بالحظر ، استدلوا له بان العبد حيث انه مملوك ، لا بد وان يكون صدور الفعل منه عن اذن المولى ومالكه ، فما لم يأذن مالكه إذْناً مالكيا يكون تصرفه خروجا عن ذي الرقية ورسم العبودية ، ويكون تصرفا في سلطان المولى وقبيحا ، ومذموما عليه عقلا.

واستدل القائلون بالاباحة لما اختاروه ، بان الفعل حيث لم يمنع عنه الشارع ، لا شرعيا ، ولا مالكيا ، فهو ليس خروجا عن ذي الرقية ورسم العبودية.

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ٣ ص ٣٢٩ ، إلا أن الوجه الاول هنا عنده الثاني والعكس.

٣٠٢

وبديهي جريان هذين الوجهين في كل فعل من افعال المكلف وان لم يكن له تعلق بالاعيان الخارجية ، فانه لا محالة يكون تصرفا في بدنه ـ كلسانه ـ مثلا ، فيجرى فيه ، ما تقدم من الوجهين.

الثاني : ان البحث عن الحظر والاباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الاولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ، ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الاولية.

وفيه : ان مسألة الحظر والاباحة ، إنما تكون بلحاظ عدم ورود الدليل من الشارع لا بلحاظ ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية.

فالصحيح في مقام الفرق بينهما ، ان بحث الحظر والاباحة إنما هو فيما يستقل به العقل في حكم الأشياء ، مع قطع النظر عن ورود حكم من الشارع ، وبحث البراءة والاشتغال ، إنما هو بعد ورود حكم الأشياء من قبل الشارع.

ثم انه ربما يتوهم ان الاصل في الأشياء بحسب الأدلة الاجتهادية هي الإباحة ، وعليه فلا يبقى مجال لهذا المبحث في الشبهات التحريمية الحكمية لفقد النص التي هي العمدة في المقام.

واستندوا في ذلك إلى الآية الشريفة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(١).

__________________

(١) الآية ٢٩ من سورة البقرة.

٣٠٣

وفي بعض الكلمات ذكروا الآية كذلك (احل لكم ما في الارض جميعا) ، إلى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً)(١).

وفيهما نظر :

اما الآية الأولى : فبالكيفية الثانية ليس لها وجود ، وبالكيفية الأولى لا تدل على المطلوب ، بل ظاهرها ان ما في الارض خلق لمنافع العباد الدينية والدنيوية ، بأي وجه اتفق ، وذلك لا يلازم اباحة كل شيء ، إذ لا شيء من الأشياء إلا وفيه منافع.

مع انه قد ورد النص عن الإمام (ع) في تفسيرها خلق لكم ما في الارض لتعتبروا به الحديث (٢).

مع انها مختصة بالافعال المتعلقة بالاعيان الخارجية ، ولا تعم غيرها.

واما الثانية : فالظاهر انها اجنبية عما استدل بها له فانها تتضمن الأمر بالاكل مما في الارض حلالا طيبا لا حراما خبيثا ، وليست في مقام بيان ان أي شيء حلال وحرام ، ويؤيد ، ذلك ورودها في جماعة من الاصحاب حيث حرموا على انفسهم من الحرث والانعام وغير ذلك.

مع انها مختصة بالأكل : فإذا لا دليل على اباحة الأشياء مطلقا إلا ما خرج بالدليل حتى يقال انه لا مورد للنزاع في البراءة والاحتياط إذ يتمسك باطلاق

__________________

(١) الآية ١٦٨ من سورة البقرة.

(٢) بحار الانوار ج ٣ ص ٤٠ باب اثبات الصانع والاستدلال بعجائب صنعه ... ح ١٤ / التفسير المنسوب للامام العسكري (ع) ص ٢٢٥ ح ٩٩.

٣٠٤

ذلك الدليل ويحكم بالاباحة.

مضافا إلى ان الاخباري يدعى ان المرجع في الشبهات التحريمية ، إنما هو اخبار الاحتياط الدالة على لزوم الاحتياط والتوقف عند الشبهة.

الأمر الخامس : ان اقسام الشك في اصل التكليف وان كانت عديدة إذ ربما يكون الشك في التكليف الاستقلالي وربما يكون في التكليف الضمنى ، وعلى كل تقدير ، قد يكون الشبهة تحريمية ، وقد تكون وجوبية وعلى كل تقدير ربما يكون منشأ الشك فقد النص ، وربما يكون اجمال النص ، وثالثا يكون تعارض النصين ، ورابعا الامور الخارجية.

وخلاف الاخباريين مع الاصوليين إنما يكون في خصوص الشبهة التحريمية ، وقد اتفقوا على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية ، إلا ما عن الاسترابادي (١) ، حيث ذهب إلى وجوب الاحتياط ، وبعض الأدلة يختص ببعض اقسام الشبهة.

إلا انه مع ذلك كله الصحيح ما ذكره المحقق الخراساني (ره) (٢) من جعل محط البحث مطلق الشك في الحكم الجامع بين الأقسام ، لان عمدة ادلة البراءة

__________________

(١) كما حكاه عنه غير واحد من الاعلام منهم آية الله الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٥٢ وص ٢٧٩ أيضا / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٢٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٣٨ حيث صدّر البحث بأنه «لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني» ولم يستثني من ذلك الا تعارض النصين لخروجه عن موارد الأصول العملية كما علل ذلك في الحاشية ، فراجع.

٣٠٥

جارية في مطلق الشك في التكليف واختصاص بعضها بدليل خاص لا يوجب أفراده بالبحث.

نعم ، في خصوص تعارض الخبرين كلام سيأتي في التعادل والترجيح.

إذا عرفت هذه الامور :

فاعلم ان تمام الكلام في هذا المقصد في طي فصول :

* * *

٣٠٦

الفصل الاول : البراءة

الآية الأولى من الآيات التي استدل بها للبراءة

الفصل الأول : لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجة ، فالمشهور بين الاصحاب انه يجوز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني ، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، من غير فرق بين كون منشأ الشك فقدان النص ، أو اجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو الامور الخارجية.

وقد استدلوا لذلك بالادلة الاربعة ، فمن الكتاب بآيات.

منها : قوله عزوجل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) وتقريب الاستدلال بها : ان بعث الرسل بحسب الارتكاز والفهم العرفي كناية عن ايصال الحجة والبيان ، وعليه فمفاد الآية الشريفة نفى العقاب على مخالفة التكليف ما لم يصل.

وأورد عليه بايرادات :

الأول : ان المراد بالعذاب في الآية ، العذاب الدنيوي ، وهي راجعة إلى الامم السابقة فالمستفاد منها ان عادة الله كانت جارية على عدم انزال العذاب

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة الإسراء.

٣٠٧

على الامم السالفة إلا بعد اتمام الحجة عليهم فلا ربط لها بالمقام (١).

وفيه : ان الله تعالى اما ان يكون في مقام بيان حد رأفته بالعباد ، وان العذاب قبل اتمام الحجة غير لائق بشانه مع كونه رءوفا ، أو يكون في مقام بيان عدالته وعدم كونه ظالما ، ولا ثالث : بعد ظهور ، " ما كنا" في ان هذا الفعل لا يناسب صدوره من الفاعل كما يظهر من ملاحظة موارد استعماله وعلى كل تقدير تدل على المطلوب ، بالأولوية ، بعد كون العذاب الاخروي اشد من العذاب الدنيوي وكونه رءوفا بنا كرأفته بالامم السابقة أو اكثر.

الإيراد الثاني : ان الآية الشريفة تدل على نفي الفعلية ، وهو اعم من نفي الاستحقاق المطلوب اثباته في المقام.

واجيب عن هذا باجوبة :

منها : ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٢) وهو ان نفي الفعلية يكفي في المقام إذ الخصم يسلم الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

وأورد عليه المحقق الخراساني بايرادين (٣) :

أحدهما : ان ما شك في وجوبه أو حرمته عند الخصم ، ليس باعظم مما علم حكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه.

__________________

(١) ذكر هذا الإيراد آية الله الخوئي (قدِّس سره) ولم يذكر مورده كما في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٢٩.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٧.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٣٩.

٣٠٨

وفيه : ان الآية الشريفة إذا دلت على عدم الفعلية ، وقطع بعدم العقاب لا يبقى مجال للتمسك ، بقاعدة دفع الضرر المحتمل ، واخبار التوقف المعللة للأمر بالتوقف ، باحتمال الوقوع في الهلاكة والعقاب ، ومع عدم كون المورد من مواردهما ، لا خلاف بيننا وبين الاخبارين في ان المرجع هو اخبار الحل ، وهي تدل على نفى الاستحقاق ، فيكون عدم الاستحقاق مع عدم الفعلية في محتمل التكليف لأجل دليل آخر ، لا للملازمة بين نفيهما ، وهذا بخلاف موارد القطع بالحكم إذ لو دل دليل على نفى فعلية العقاب فحيث ان الدليل على ثبوت الحكم موجود فهو لا محالة يدل على الاستحقاق وعدم الملازمة ، بين النفيين.

وبهذا البيان يظهر الجواب عما أورد على من جمع بين التمسك بالآية الشريفة على البراءة ، وبين الرد على من استدل بها على عدم الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي.

بدعوى انها تدل على عدم العقاب ما لم يصل بيان من الشارع واطلاقها يشمل ما لو حكم العقل بقبحه أو حسنه ، فتدل على عدم الملازمة.

بان الآية تدل على عدم فعلية العقاب ، لا على عدم استحقاقه ، والذى يفيد في مقام الاستدلال على عدم الملازمة عدم الاستحقاق.

بان هذا مستلزم للتناقض إذ الآية ان دلت على نفى الفعلية ، فلا تدل على البراءة وان دلت على نفى الاستحقاق فالجواب عن الاستدلال بها على عدم الملازمة غير سديد.

وحيث عرفت ان الاستدلال بها على البراءة ليس بها وحدها بل بضميمة اخبار الحل فلا تناقض فتدبر جيدا.

٣٠٩

ثانيهما (١) : انه لو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا.

وفيه : ما عرفت من انه إذا قطع بعدم العقاب يكون المرجع عند الطرفين اخبار الحل فليس الاستدلال جدليا.

ومنها : الإجماع من الفريقين على التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

وفيه : انه لمعلومية مدرك المجمعين ليس هذا الإجماع اجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

ومنها : ان الظاهر من الآية الشريفة نفى الاستحقاق : والشاهد على ذلك ان الآيات المتضمنة للعقاب والعذاب ، إنما يخبر عن الاستحقاق والاقتضاء لا عن الفعلية ، وتكون تلك الآيات من قبيل قولنا السم قاتل ، فبقرينة المقابلة يكون السلب أيضاً سلبا للاستحقاق ونفيا له ، فتكون الآية بنفسها دليلا على نفى الاستحقاق من دون احتياج إلى ضم مقدمة أخرى.

وفيه : ان مبدأ المشتق المحمول على الذات ، قد يكون اثرا لموضوعه ، نظير السم قاتل ، فيكون ظهور الأولى لهذه القضية استناده إليه بنحو الاقتضاء ، وقد يكون فعله الاختياري ، وهو قابل لان يستند إليه بنحو الاقتضاء وان يستند إليه بنحو الفعلية ، ولكن الظاهر من تلك القضايا هو الثاني : والشاهد عليه في المقام استهجان ان يخبر عن ترتب العذاب ، ويعقبه بعدم الفعلية ، مثل : ان يقول

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٣٩.

٣١٠

اني اعذب تارك الصلاة ، ولو لم يتحقق العذاب في الخارج ، وهذا بخلاف التركيب الأول ، فانه يصح ان يقال ان النار محرقة ، وان لم يحرق في الخارج.

وبالجملة : من الاستهجان المزبور يستكشف ان الآيات المتضمنة للعذاب تدل على الفعلية ، فبقرينة المقابلة أيضاً ، يكون النفى نفيا للفعلية.

لا يقال انه على هذا يلزم الكذب تعالى الله عن ذلك : فان التائب لا يعاقب ومن شفع له أو عفى عنه لا يعاقب.

فانه يقال ان تلك الآيات يكون استعمالها كنائيا وبصدد بيان الأحكام ، ومن المعلوم ان الصدق والكذب في الكنايات يدوران مدار ما سيق الكلام لبيانه لاما هو مفاد القضية بالمطابقة ـ ألا ترى ـ ان قولك زيد كثير الرماد ، صدقُ إذا كان جوادا ، وان لم يكن عنده رماد فعلا ، وكذب إذا لم يكن جوادا ، فظهر ان جواب الشيخ الأعظم وحده تام.

ويمكن الجواب عنه بجواب آخر ، وهو ان الظاهر من الآية نفي الاستحقاق ، إذ الظاهر منها هو كونها بصدد بيان ان سنة الله جارية على ذلك ، وان العقاب غير لايق بمقامه ولا يناسب صدوره منه ، ومن البديهى ان العقاب مع عدم الاستحقاق لا يليق بشانه ، واما العقاب مع الاستحقاق فهو لايق بشأنه فمن نفى العقاب بهذا البيان يستكشف عدم الاستحقاق.

الإيراد الثالث : ان هذه الآية لا تنفع في مقابل الاخباري فانه يزعم صلاحية اخبار الاحتياط لكونه بيانا فيكون نسبة هذه الآية إلى دليلهم نسبة الاصل إلى الدليل.

٣١١

وفيه : ان المراد ببعث الرسل بيان الحكم الواقعي ، إذ الظاهر منه بيان ما يكون على مخالفته العقاب وليس هو إلا الحكم الواقعي ولا شبهة في ان اخبار الاحتياط ليست بيانا له.

الإيراد الرابع : ان المراد من بعث الرسل ، ان كان وصول الحكم ، صح ما ذكر ، ولكن من الممكن لو لم يكن هو الظاهر ان المراد به البيان في مقابل السكوت ، فيكون مفادها عدم العقاب على مخالفة ما لم يبينه الشارع وسكت عنه ، فيكون مفادها مفاد" اسكتوا عما سكت الله" (١) فلا تدل على البراءة.

الآية الثانية التي استدل بها للبراءة

ومن الآيات ، قوله سبحانه : (لايُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا)(٢).

وتقريب الاستدلال بها ان المراد من الموصول هو الحكم ، فيكون المراد من الايتاء الاعلام والوصول ، فيكون المراد بها ان الله تبارك وتعالى لا يكلف بالتكليف غير الواصل إلى المكلف.

وأورد عليه بايرادات :

الأول : ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٣) وحاصله : ان ما الموصولة تحتمل معان

__________________

(١) عوالي اللآلي ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦١.

(٢) الآية ٧ من سورة الطلاق.

(٣) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٦.

٣١٢

ثلاثة :

احدها : خصوص الحكم ، فيكون المراد من الايتاء الاعلام.

ثانيها : خصوص المال بقرينة قوله تعالى قبل ذلك (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ)(١) فيكون المراد بالإيتاء الملكية والسلطنة.

ثالثها : مطلق الفعل فيكون المراد بالإيتاء الاقدار عليه فتدل على عدم جواز التكليف بما لا يطاق ، وحيث لا ريب في عدم جواز ارادة خصوص الحكم منها ، لمنافاته لمورد الآية ، واردة المعنى الاعم الجامع بين المعان الثلاثة لا تعقل :

إذ على الأول يكون الموصول مفعولا مطلقا. وعلى الاخيرين يكون مفعولا به ، واضافة الفعل إلى كل منهما تباين اضافته إلى الآخر ، ولا جامع بين النسبتين ، فان المفعول المطلق يحتاج في اضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه من شئون الفعل ، وكيفياته وموجودا بوجوده ، والمفعول به يحتاج في اضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا في الخارج قبل الفعل ، وتعلق الفعل به موجبا لايجاد الفعل وصفا عليه فلا يمكن ارادة الجامع ، فيتعين ارادة احد الاخيرين أو الجامع بينهما كما اختاره هو (ره).

وفيه : انه يمكن ارادة الجامع وان يكون ذلك مفعولا به ولا يلزم كونه مفعولا مطلقا ، بان لا يكون المراد من التكليف الحكم ، بل المراد معناه اللغوى وهو الكلفة والمشقة ، فيكون المراد ان الله تعالى لا يوقع عباده في الكلفة من ناحية شيء حكما كان بان ينجزه ، ويعاقب عليه أم فعلا بان بأمر به إلا ما آتاه

__________________

(١) الآية ٧ من سورة الطلاق.

٣١٣

أي اعطاه ، فيكون الجامع هو المراد من الموصول ويكون مفعولا به.

الإيراد الثاني : ان الايتاء المنتسب إلى الحكم يراد به الاعلام والمنتسب إلى المال يراد به الملكية والمنتسب إلى الفعل يراد به الاقدار ولا جامع بينها.

وفيه : ان المراد به هو الاعطاء غاية الأمر اعطاء كل شيء بحسبه.

الإيراد الثالث : وهو الحق ان الايتاء بما انه استند إليه تعالى ، يكون المراد به اعلامه سبحانه بالطريق المتعارف بين الموالى والعبيد ، بتوسيط الوحى إلى سفرائه ، وابلاغ ما اوحى الله إلى العباد.

فيكون مفادها مفاد الآية المتقدمة ، وهو انه تعالى لا يوقع العباد في كلفة حكم لم يبينه وسكت عنه فتكون اجنبية عن المقام.

الآية الثالثة التي استدل بها للبراءة

ومن الآيات قوله تعالى مخاطبا لنبيه ملقنا اياه طريق الرد على الكفار حيث حرموا على انفسهم اشياء : (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)(١).

حيث انه تعالى ابطل تشريعهم ، بعدم وجدان ما حرموه فيما اوحى الله تعالى إليه ، فلو لم يكن عدم الوجدان كافيا في الحكم بالاباحة وعدم الحرمة ، لما صح هذا الاستدلال.

__________________

(١) الآية ١٤٥ من سورة الأنعام.

٣١٤

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) ، وتبعه المحقق النائيني (ره) (٢) ، بان عدم وجدانه (ص) دليل على عدم الوجود ، وكاشف عنه ، فلا يصح الاستدلال بها للحكم فيما لم يعلم وجوده.

والشيخ الأعظم (ره) قال انه مشعر بذلك لما فيه من العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان.

وانكر ذلك المحقق الخراساني (٣) وقال انه لعل النكتة في التعبير هو تلقين ان يجادلهم بالتى هي احسن ، فانه في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة الادب ما ليس في التعبير بعدم الوجود.

ولكن : الاظهر تمامية الاستدلال بها ، إذ هذه الآية نزلت في مقام المحاجة مع الكفار غير المعترفين بنبوته ، المعلوم ان علمه (ص) بعدم الحرمة لا يفيد لهم ، وفي هذا المقام لقنه ، بان يلزمهم بما هو من الأصول المسلمة عند العقلاء ، وهو ان ما لم يعلم حرمته لا يجوز الالتزام بتركه ، وترتيب آثار الحرام عليه.

فهذه الآية تدل على البراءة فتأمل.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٨.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٦٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢٩٦.

(٣) درر الفوائد للآخوند ص ١٨٩.

٣١٥

الآية الرابعة التي استدل بها للبراءة

ومن الآيات قوله سبحانه : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)(١) ، وتقريب الاستدلال بما ، في سابقتها ، لورودها في الرد على الكفار الملتزمين بترك الفعل الذي ليس فيما فصل دليل على حرمته ، فان الاستدلال لبطلان مقالتهم بعدم وجود ما حرموه على انفسهم فيما فصل من المحرمات دليل على اباحة ما لم يعلم حرمته.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) (٢) بان ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها ، ومن المعلوم ان لازم ذلك عدم كون المتروك من المحرمات الواقعية فالتوبيخ في محله.

وفيه : ان كون المحرمات الواقعية مفصلة باجمعها ، وعدم كون المتروك منها بنفسه ، لا يوجب العلم بعدم حرمة المتروك ، ما لم يحرز ذلك ، وليس في الآية الشريفة ما يدل على انهم كانوا عالمين بذلك ، فالتوبيخ ، يكون على الالتزام بترك شيء ، مع عدم كون المتروك فيما فصل وان احتملوا كونه من المحرمات الواقعية ولم يفصل.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الشريفة انها تدل على التوبيخ على ترك

__________________

(١) الآية ١١٩ من سورة الأنعام.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٩.

٣١٦

ما أحرز عدم كونه من المحرمات المفصلة أي المبينة التي اعلم بها ، وان احتمل كونه محرما واقعيا ، ولا كلام في ذلك ، إنما الكلام في اباحة ما احتمل كونه من المحرمات المفصلة.

الآية الخامسة التي استدل بها للبراءة

ومن الآيات قوله سبحانه : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١) أي ما يجتنبوه من الأفعال والتروك ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية ما في آية التعذيب.

وأورد عليه بايرادت :

الأول : ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٢) ، وهو ان هذه الآية كآية التعذيب ، ظاهرة في الأخبار عن حال الامم السابقة بالاضافة إلى العذاب الدنيوي فلا تشمل الامة المرحومة والعذاب الاخروي.

والجواب عنه ما تقدم في تلك الآية من ان الآية لم ترد في مقام الحكاية فقط ، بل اما ان تكون في مقام ، اظهار العدل ، أو الرأفة بالعباد وعلى كل تقدير تدل على المطلوب بالاولوية.

__________________

(١) الآية ١١٥ من سورة التوبة.

(٢) في مورد ذكر الآية في فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٨ ارجع الاشكال لما مر في آية التعذيب أي إلى ص ٣١٧ ، فراجع.

٣١٧

الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني في حاشيته (١) على الكفاية وحاصله : ان اضلاله تعالى إنما هو بخذلانه وسد باب التوفيق بالطاعة ، وإيكاله إلى نفسه الموجب للعقاب الدائمي والخلود الابدي ، وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف غيرها من المراتب عليه.

وفيه : ان الظاهر من الآية كما ذكرناه في آية نفي التعذيب ، كون ما تضمنته الآية مما جرت عليه سنة الله وعادته ، وان خلافه لا يليق بشأنه ، وعليه فلا فرق في ذلك بين مراتب العذاب والعقاب.

الثالث : ما ذكره المحقق العراقي (ره) (٢) ، من ان مفادها مساوق لكبرى قبح العقاب بلا بيان فلا ينفع التشبث بها في قبال الخصم المدعى لوجوب الاحتياط بمقتضى اخبار التوقف والاحتياط ، فان الخذلان على زعمه يكون عن البيان.

وفيه : ان الظاهر منها عدم العقاب على مخالفة التكليف غير المبين واخبار التوقف والاحتياط إنما تكون بيانا لوجوب الاحتياط الذي لا عقاب على مخالفته ، ولا تكون بيانا على التكليف الواقعي ، بل توجب تنجيزه مع عدم مبينيته.

وعليه فالآية تعارض تلك الأدلة.

فالصحيح ان يورد عليه بما اوردناه على الاستدلال بآية نفي التعذيب ، من ان بيان الله تعالى ، إنما يكون بانزال الكتب ، وارسال الرسل وتبليغ رسله

__________________

(١) راجع درر الفوائد للآخوند ص ١٨٩.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٠٤.

٣١٨

أحكامه بالطريق المتعارف بين الموالى والعبيد ، وعليه فيكون مفاد هذه الآية مفاد ما تضمن ، " اسكتوا عما سكت الله عنه" (١) ، ولا تتضمن حكم ما لو شك في حكم مبين.

الاستدلال للبراءة بحديث الرفع

واما من السنة ، فقد استدل للبراءة بروايات :

منها : حديث الرفع وهو الحديث المروى عن الخصال بسند صحيح (٢) عن حريز عن الإمام الصادق (ع) قال : قال رسول الله (ص) رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة (٣).

__________________

(١) عوالي اللآلي ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦١. كما مرّ.

(٢) الظاهر أن لا اختلاف في صحة الحديث خاصة ان بعض رواته من الفقهاء الاجلاء فضلا عن العمل به والاعتماد عليه في كثير من الابواب الفقهية ، واما السند كما في الخصال قال : «حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه ، قال حدثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حَريز بن عبد الله عن أبي عبد الله.

(٣) الخصال ج ٢ ص ٤١٧ ح ٩ / التوحيد للصدوق ص ٣٥٣ ح ٢٤ / الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٩ باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ح ٢٠٧٦٩ وفي نسخة منها بدل الوسوسة في الخلق ، الوسوسة في الخلوة. وفي بعض المصادر كما في الفقيه بدل" رفع" وضع عن امتي أشياء.

٣١٩

وحيث ان الخبر من الصحاح والاصحاب اعتمدوا عليه في الفقه ، فلا مورد للبحث في سنده ، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه وانه هل يدل على البراءة أم لا؟ وذلك يتم بالبحث في مواضع.

الأول : في بيان الامور التي يتوقف عليها فهم المراد من الحديث.

الثاني : في جملة (ما لا يعلمون).

الثالث : في سائر جملات الحديث.

اما الموضع الأول : ففي بيان أمور :

الأمر الأول : ان الدفع والرفع وان اشتركا في انهما إنما يصدقان مع وجود المقتضى ، وإلا فعدم المعلول يستند إلى عدم المقتضى لا إلى وجود المانع ، وأيضا هما مشتركان في المنع عن تحقق المقتضى في الزمان اللاحق ، إلا ان بينهما فرقا ، وهو ان الرفع يعتبر في صدقه وجود المعلول سابقا كي ، يكون الرافع مزيلا للشيء الثابت ، واما الدفع فيعتبر في صدقه عدم وجوده سابقا كي يكون سدا لباب المقتضى عن التأثير.

وعلى ذلك فقد يشكل على الرواية بأنه كيف استعمل الرفع في المقام مع عدم ثبوت المرفوع في زمان ، واجيب عنه باجوبة.

احدها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان مانعية شيء عن تأثير شيء آخر دائما يكون بنحو الدفع ، لان الرافع ما يمنع عن تحقق المقتضى بقاء ، ومن

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٧٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢٩٧ بتصرف.

٣٢٠