زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

واضاف إليها المحقق الخراساني (ره) (١) امرا آخر ، وجعل المقدمات خمسا وهو انه يعلم اجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

والحق مع المحقق الخراساني إذ مع اسقاط تلك المقدمة لا يبقى مجال للمقدمات الأخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ومجرد كونها واضحة لدلالة سائر المقدمات عليها لا يصلح وجها لاسقاطها ، وإلا كان بعضها الآخر كذلك.

واما ما أفاده الأستاذ (٢) تبعا للمحقق النائيني (ره) (٣) بان المراد من العلم بثبوت التكاليف ان كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ احكامها ، فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ، فان العلم بذلك كالعلم باصل وجود الشارع ، وان كان المراد منه هو العلم بثبوت أحكام في الوقائع المشتبهة التي لا يجوز اهمالها فهذه المقدمة هي بعينها المقدمة الثالثة في كلام المحقق الخراساني الثانية في كلام الشيخ.

فيرد عليه ان المراد به هو العلم بفعلية الأحكام ، وهو لا يرجع إلى الأمر الثالث فان ذلك الأمر إنما هو لزوم امتثال الأحكام على فرض وجودها وهذا إنما يكون هو العلم بثبوت الأحكام فالمقدمات خمس.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣١١ (الرابع).

(٢) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٢٢٦ / أجود التقريرات ج ٢ ص ١٢٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٢٨١

ثم ان المتعين جعل المقدمة الرابعة في كلام الشيخ هي عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الشكى والوهمى لكونه ، مستلزما لترجيح المرجوح على الراجع ، وهو قبيح كما صنعناه ، لا لزوم الامتثال الظنى كما أفاده الشيخ فانه نتيجة المقدمات.

واما الجهة الثانية : ففي تعيين نتيجة المقدمات المذكورة على تقدير تماميتها من حيث انها الكشف أو الحكومة.

وقبل بيان ما هو الحق في المقام لا بد وان يعلم ان المراد بالكشف هو استكشاف جعل الشارع الاقدس الظن حجة شرعية ، في تلك الحال ، وان المراد بالحكومة ان العقل يدرك كون المكلف معذورا غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع مع الاخذ بالظن ، ويراه مستحقا للعقاب على مخالفة الواقع على تقدير عدم الاخذ بالظن والاقتصار على الامتثال الشكي والوهمي ، فيحكم بتبعيض الاحتياط ، في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام ، فالمراد بالحكومة ، هو التبعيض في الاحتياط ، لا استقلال العقل بحجية الظن ، كما يوهمه ظاهر عبارة المحقق الخراساني (١) فلنا دعويان :

الأولى : ان المراد من الحكومة ، هو التبعيض في الاحتياط ، وتوضيحه ، ان العقل إنما يستقل بلزوم الإطاعة في الأحكام المولوية ، واحراز امتثالها تفصيلا أو اجمالا ، فان تعذر ذلك واحرز انه لا يجوز ترك التعرض لها رأسا فلا محالة يستقل بالتبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنى.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣١١ (خامسها) قوله : «فيستقل العقل حينئذ بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة ..».

٢٨٢

الثانية : انه ليس المراد استقلال العقل بحجية الظن : والدليل على ذلك عدم معقوليته إذ شان القوة العاقلة هو الدرك ، ولا تكون مشرعة وجعل الأحكام تكليفية كانت ، أم وضعية إنما هو وظيفة الشارع ، ولا يكون ذلك شان العقل ، وهذا من الوضوح بمكان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم ان النتيجة المترتبة على المقدمات الخمس ، على فرض تماميتها إنما تختلف باختلاف المدرك للمقدمة الثالثة في كلام الشيخ والرابعة فيما اخترناه :

إذ لو كان مدرك عدم وجوب الاحتياط ان الشارع إلا قدس لا يرضى بابتناء اساس الدين واكثر أحكامه على الاحتياط ، للاجماع ، والضرورة ، فان الاحتياط وان كان حسنا في نفسه ، إلا انه لا يكون حسنا فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في اكثر الأحكام على الامتثال الإجمالي ، المنافى لقصد الوجه والجزم ، فلا محالة تكون النتيجة هي الكشف.

إذ بعد فرض بقاء الأحكام ، وعدم جواز اهمالها وعدم حسن الاحتياط فيها لا محالة يكشف جعل الشارع الظن حجة إذ لا طريق غيره ومع عدم نصب الطريق تكون الأحكام تكاليف بما لا يطاق.

وان كان المدرك هو استلزامه العسر والحرج واختلال النظام فلا طريق إلى كشف العقل جعل الشارع الظن حجة بعد حكمه بكفاية الاحتياط بالامتثال الظنى.

واما الجهة الثالثة : فملخص القول فيها ان المقدمة الأولى ، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة ، قطعية.

٢٨٣

ولكن هذا العلم الإجمالي منحل إلى علم اجمالي آخر دائرته اضيق من دائرة هذا العلم الإجمالي ، وهو العلم بثبوت التكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال ، فيما بين الأخبار ، ولازم ذلك هو الاحتياط في خصوص الأخبار وقد تقدم تفصيل ذلك في الدليل العقلي الأول الذي اقيم على حجية الخبر الواحد.

واما المقدمة الثانية : فتماميتها بالنسبة إلى انسداد باب العلمي تتوقف على احد أمور ، اما عدم حجية الخبر الواحد ، أو عدم حجية الظواهر اما مطلقا ، أو لغير المقصودين بالافهام ، أو عدم وفاء الأخبار بمعظم الفقه.

والكل فاسدة : لما تقدم من حجية الخبر : والظواهر مطلقا ، والاخبار بحمد الله وافية بمعظم الفقه فهي غير تامة.

واما ما أفاده المحقق القمي (ره) (١) من تمامية مقدمات الانسداد حتى بناء على حجية الخبر والظواهر بدعوى ان الظاهر من ادلة حجية الخبر حجية مطلق الظن وانه لا خصوصية لخبر الواحد.

فغير تام إذ يرد عليه :

أولا : ان هذا احتمال محض لا دليل على الاعتناء به.

وثانيا : انه لو كانت ادلة حجية الخبر بانفسها دليل حجية الظن ، لا دليل الانسداد ، لا تكون مقدمات الانسداد تامة.

__________________

(١) راجع قوانين الأصول ج ١ ص ٤٤٠ الوجه الخامس من حجية خبر الواحد العاري عن القرائن المفيدة للعلم ، ثم دلل على ذلك بوجوه ثلاثة لتأكيد حجية مطلق الظن إلا ما أخرجه الدليل كالقياس ، وقال : اذا تأملتها تقدر على استنباط حجية خبر الواحد منها.

٢٨٤

واما المقدمة الثالثة : فان بنينا على ان العلم الإجمالي منجز فيما إذا لم يتمكن المكلف من الموافقة القطعية للاضطرار إلى بعض أفراده غير المعين تركا أو فعلا ، فملاكها واضح فان مقتضى العلم الإجمالي ، الاحتياط بالمقدار الممكن.

واما ان بنينا على عدم كونه منجزا في هذا المورد كما اختاره المحقق الخراساني (١) ، فمدركها ، انه من عدم التعرض لامتثالها بالمرة ، يلزم الخروج عن الدين ، بمعنى المخالفة الكثيرة للاحكام ، التي علمت بضرورة من الدين انها مرغوب عنها شرعا فلا يجوز ، ففي الحقيقة مدرك هذه المقدمة غير الإجماع ، احد أمرين : العلم الإجمالي بوجود الأحكام ، ولزوم الخروج عن الدين من اهمالها.

فلو كان المدرك هو الأول ، لزم الالتزام بكون النتيجة هو الحكومة ولو كان هو الثاني كانت النتيجة هو الكشف كما عرفت.

فعلى هذا يمكن ان يقال بفساد مسلك الحكومة ، لابتنائها على منجزية العلم الإجمالي ، وهي متوقفة على بقائه وعدم انحلاله ، فإذا فرضنا انه من عدم التعرض لامتثال الأحكام ، يلزم الخروج عن الدين ، فيكشف ذلك عن جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، وليس هو غير الظن ، وجعله طريقا يوجب انحلال العلم الإجمالي وعدم بقائه.

واما المقدمة الرابعة : وهي ، عدم جواز التقليد ، والرجوع إلى القرعة ، والاحتياط ، والرجوع إلى الأصول.

فملخص القول فيها : ان بطلان التقليد لا يحتاج إلى اقامة دليل فان المجتهد

__________________

(١) حيث اختار انحلال العلم الاجمالي كما في الكفاية ص ٣١٢.

٢٨٥

الذي يرى انسداد باب العلم يرى كون المجتهد القائل بالانفتاح جاهلا فكيف يجوز الرجوع إليه ، مضافا إلى ما ادعاه الشيخ (ره) (١) من الإجماع القطعي على عدم جوازه ، وبه يظهر حال الرجوع إلى القرعة ، مضافا إلى قصور ادلتها عن الدلالة على الرجوع إليها لاستنباط الأحكام الشرعية.

واما الاحتياط التام ، فان كان غير ممكن ، فلا اشكال في عدم وجوبه لقبح تكليف العاجز ، وان كان مخلا بالنظام فلا اشكال في قبحه عقلا وعدم جوازه شرعا ، واما ان كان موجبا للعسر والحرج.

فهل لا يكون واجبا لادلة نفي العسر والحرج كما ذهب إليه الشيخ الاعظم (ره) (٢)؟

أم لا يمكن نفي وجوب الاحتياط بأدلة نفي العسر والحرج كما اختاره المحقق الخراساني (ره) (٣) ، وجهان.

افاد الشيخ الأعظم (ره) (٤) ان تلك الأدلة إنما تدل على نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج ، ووجوب الاحتياط ، وان كان عقليا ، لا يمكن رفعه إلا برفع

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) كفاية الأصول ص ٣١٣.

(٤) فرائد الأصول ج ١ ص ١٩٧ إلى أن قال : «بل أدلة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الاصل فتقديمها عليها اوضح من تقديمها على العمومات الاجتهادية».

٢٨٦

منشأ انتزاعه إلا انه ناشئ من بقاء الأحكام الواقعية على حالها ، فهي المنشأ للحرج لاستناد الشيء إلى اسبق علله ، فبأدلة نفي العسر يرفع الأحكام الشرعية الواقعية ، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بان معنى دليل نفي الحرج ليس نفي الحكم الناشئ من قبله الحرج ، بل مفاده نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، بدعوى ان ظاهر الأدلة توجه النفي إلى العمل الحرجي ، ويكون المراد نفيه في عالم التشريع ، وهو عبارة أخرى عن نفي حكمه ، نظير قوله لا ربا بين الوالد والولد (٢).

وعليه فلا يكون دليل نفي الحرج حاكما على ما يقتضي الاحتياط : لأن الأحكام الواقعية متعلقة بافعال خاصة مرددة بين اطراف الشبهة وتلك الأفعال لا تكون حرجية كي ترتفع بأدلة نفي الحرج ، ووجوب الاحتياط ليس حكما شرعيا كي يرتفع بأدلة نفي الحرج فلا بد من الاحتياط وان استلزم الضرر.

ويرد على ما أفاده أمران :

أحدهما : ان لسان دليل نفي الحرج ليس نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فانه إنما يكون فيما إذا كان الحكم مترتبا على موضوع وتعلق النفي بنفس ما تعلق به الحكم كما في مثل لا ربا بين الوالد والولد : فان الربا بنفسه متعلق للحرمة فالرواية الشريفة تنفي حكمه بلسان نفيه واما في المقام فالفعل الحرجي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣١٣.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٥ باب ٧ (انه لا يثبت الربا بين الولد والوالد ...).

٢٨٧

لم يذكر في الدليل ، وإنما المذكور فيه هو الحرج ، وليس ذلك عنوانا للفعل ، ليكون النفي راجعا إليه ، فلا محالة يكون مفاد تلك الأدلة ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) فتكون حاكمة على قاعدة الاحتياط.

ثانيهما : ان قاعدة نفى الحرج تكون حاكمة على قاعدة الاحتياط حتى على مسلك المحقق الخراساني (ره) في مثل المقام مما كانت اطراف الشبهة من التدريجيات إذ الحرج لا محالة يكون في الأفراد الأخيرة.

وعليه فإن كان الحكم في الواقع مترتبا على الأفراد المتقدمة فقد امتثله المكلف على الفرض ، وان كان متعلقا بالأفراد الأخيرة كان متعلقة حرجيا فيرتفع بقاعدة نفي الحرج.

وان شئت قلت انه في التدريجات لو احتاط في اطراف الشبهة المتقدمة إلى ان وصل إلى حد الحرج ، يعلم بعدم ثبوت الحكم في اطراف الشبهة المتأخرة ، اما لكون التكليف في الأطراف المتقدمة أو لأنه ان كان متعلقا بالفرد المتأخر ، فهو لكونه حرجيا مرفوع بقاعدة نفى الحرج ، وان شئت توضيح ذلك بالمثال فلاحظ ما لو نذر صوم يوم معين وتردد ذلك بين يوم الخميس ، ويوم الجمعة ، وفرضنا كون الصوم فيهما حرجيا على الناذر ، فإذا صام يوم الخميس يعلم بعدم وجوب صوم يوم الجمعة اما لكون المنذور صوم يوم الخميس ، أو لكون صوم يوم الجمعة حرجيا مرفوعا بقاعدة نفى الحرج والمقام من هذا القبيل كما هو واضح فلا يظهر الثمرة بين المسلكين في المقام.

ولكن يمكن ان يورد على حكومة قاعدة نفي الحرج ، على قاعدة الاحتياط في المقام بوجهين آخرين :

٢٨٨

الأول : ان العسر والحرج ليس في الجمع بين محتملات كل تكليف من التكاليف الواقعية كي يرتفع ذلك الحكم بدليل نفى الحرج ، بل العسر والحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وليس مجموعها تكليفا وحدانيا ، يكون الحرج في الجمع بين محتملاته ، ويكون المقام نظير ما لو فرض كون امتثال مجموع التكاليف حرجيا ، فانه لا يرتفع المجموع بقاعدة نفى الحرج ، والمقام كذلك فيجب الاحتياط بالنسبة إلى كل تكليف ، إلى ان يتحقق الحرج في الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف الأخر فتدبر فانه دقيق.

الثاني : ان لازم الحكم بحكومة قاعدة الحرج نفى الأحكام الواقعية وهذا مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومجمع على بطلانه ، فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال ، فالاحكام الشرعية الواقعية غير مرتفعة بل هي باقية في حال الانسداد ، ومعه لا معنى لرفع وجوب الاحتياط الذي هو يحكم العقل ، فهذه المقدمة أيضاً غير تامة.

واما الأصول ، فهي على قسمين :

١ ـ ما يكون مثبتا للتكليف كالاحتياط والاستصحاب المثبت.

٢ ـ ما يكون نافيا للتكليف كالبراءة والاستصحاب النافي والتخيير.

اما ما كان مثبتا للتكليف ، فان كان من الأصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانها في مواردها.

واما ان كان من الأصول المحرزة كالاستصحاب ، فعلى القول بان المانع عن جريان الاستصحاب في اطراف العلم الإجمالي هو لزوم المخالفة العملية كما

٢٨٩

اخترناه تبعا للاستاذ (١) ، والمحقق الخراساني (٢) ، فلا مانع من جريانه أيضاً كما لا يخفى.

واما على ما اختاره الشيخ الأعظم (٣) والمحقق النائيني (ره) (٤) ، من ان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ، فلا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام للعلم بانتقاض العلم الإجمالي في الجملة كما هو المفروض.

وافاد المحقق الخراساني (ره) (٥) انه على هذا المسلك أيضاً لا مانع من جريان الاستصحاب في المقام لأنه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في اطرافه فعليا.

واما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض اطرافه وكان بعض اطرافه الآخر غير ملتفت إليه أصلاً ، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام الشرعية فلا يكاد يلزم ، لان الاستصحاب إنما يجري في خصوص الطرف المشكوك فيه ، ولا يجري في الطرف الآخر للغفلة وعدم الشك الفعلي ، وليس فيه علم بالانتقاض.

وفيه : ان الاستنباط ، وان كان تدريجيا والمجتهد حين استنباط كل حكم

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٧٧ فإنه بعد ذكره لما اختاره صاحب الكفاية قال وهو الصحيح.

(٢) كفاية الأصول ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) فرائد الأصول ص ٢٠٧.

(٤) فرائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٢٣٦.

(٥) كفاية الأصول ص ٣١٤.

٢٩٠

يكون غافلا عن المورد الآخر ، إلا انه بعد الفراغ عن استنباط الجميع وجمعها في رسالة يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي اجرى فيها الاستصحاب فليس له الافتاء بها ، فعلى مسلك الشيخ لا يجري الاستصحاب المثبت في الموارد المشتبهة.

واما ما كان من الأصول نافيا للتكليف كالبراءة واستصحاب عدم التكليف ، فعلى مسلك الشيخ الأعظم من ان الاضطرار إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يمنع من تنجيز العلم الإجمالي ، لا يجوز الرجوع إلى تلك الأصول النافية كما هو واضح.

وعلى مسلك المحقق الخراساني من كونه موجبا لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ، فلا مانع من الرجوع إليها ، إلا إذا لزم من اجرائها في الموارد المشتبهة المخالفة للاحكام الكثيرة المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين فلا تجري.

وما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من انه لا مانع من جريانها لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم بالإجمال لا ينطبق على المورد إذ بعد كون المعلوم بالإجمال كثيرا ويعلم بثبوت جملة منها في موارد الأصول النافية لا سبيل إلى هذا الكلام ، مع ان كون تلك الموارد بمقدار المعلوم بالإجمال كما ترى.

اللهم إلا ان يقال ان نظره الشريف إلى انه لا يلزم حينئذ الخروج عن الدين فلا مانع من جريانها والله العالم.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣١٣.

٢٩١

فالمتحصّل عدم تمامية اكثر مقدمات الانسداد.

وعليه فلا وجه لإطالة الكلام في بيان تنبيهات المسألة.

والحمد لله أولا وآخرا.

* * *

٢٩٢

المقصد الثامن

من مقاصد علم الأصول

في

الأصول العملية

وفيه فصول :

٢٩٣

المقصد الثامن

الأصول العملية

وهي القواعد المجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي وعدم امارة عليه ، وقبل الشروع في مباحث هذا المقصد لا بد من بيان أمور.

الأمر الأول : ان المحقق الخراساني (١) عرّف الأصول العملية بقوله : وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل مما دلّ عليه حكم العقل أو عموم النقل انتهى.

وذلك إنما يكون من جهة ما ذكره في أول الكفاية (٢) ، من ان تعريف القوم للمسائل الأصولية بانها القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، غير تام ، لاستلزامه استطرادية مسائل الأصول العملية.

وقد مر في أول الجزء الأول من هذا الكتاب ، انه بعد تعميم الأحكام الشرعية إلى الواقعية ، والظاهرية ، تدخل الأصول العملية في القواعد الممهدة للاستنباط فكما ان حجية خبر الواحد تقع كبرى لقياس الاستنباط ، ويستنبط

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٣٧.

(٢) كفاية الأصول ص ٩ وبعد ذكره لتعريف القوم قال : «والاولى تعريفه بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي اليها في مقام العمل».

٢٩٤

منها الأحكام الواقعية ، كوجوب جلسة الاستراحة ، ووجوب السورة في الصلاة وما شاكل ، كذلك حجية أصالة البراءة ، أو الاستصحاب ، تقع كبرى لقياس الاستنباط ، ويستنبط منها الأحكام الظاهرية ، كجواز شرب التتن وما شاكل ، بلا فرق بينهما ، غاية الأمر ان الحكم المستنبط من الأولى واقعى ، ومن الثانية ظاهري.

فان قيل ان ما ذكر إنما يتم في الأصول الشرعية ، واما الأصول العقلية ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة البدوية ، ووجوب دفع الضرر المحتمل ، في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فلا يتم فيها فانه لا يستنبط الحكم منها ، لا الظاهري ، ولا الواقعي ، ولذا ليس للفقيه ، الافتاء بالاباحة مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

اجبنا عنه بما يظهر ببيان أمرين :

أحدهما : ان المسألة الأصولية هي ما يقع احد طرفي المسألة في طريق الاستنباط ، ولا يعتبر فيها وقوع النتيجة على جميع التقادير في طريق الاستنباط مثلا ، البحث عن حجية خبر الواحد لا يقع نتيجته على تقديري الحجية وعدمها في طريق الاستنباط بل إنما تقع في طريقه على التقدير الأول خاصة.

الثاني : ان البحث في البراءة العقلية ليس عن تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعدمها لان محل البحث في ذلك هو علم الكلام ، ولم يخالف في هذه القاعدة احد إلا الاشعري ، وإنما يبحث في الأصول ، عن انه هل تدل اخبار الاحتياط ، والتوقف وما شاكل على لزوم الاحتياط في الشبهة البدوية كما يدعيه الاخباري ، أم لا تدل على ذلك كما هو مدعى الاصوليين ، واما كون

٢٩٥

المرجع على تقدير عدم الدلالة هو قاعدة القبح فهو متفق عليه بين الفريقين ، وبديهي ان البحث في ذلك يكون من المسائل الأصولية لوقوع النتيجة على تقدير الدلالة في طريق الاستنباط.

وبذلك يظهر الحال في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ في الأصول لا يبحث عن هذه القاعدة ، وإنما يبحث عن ان اخبار الحل والاباحة هل تشمل اطراف العلم الإجمالي أم لا؟.

ولا كلام في انه على فرض عدم الشمول يكون المرجع القاعدة المشار إليها ، وبديهي ان البحث في ذلك يكون من المسائل الأصولية.

وعلى الجملة ، بعد تعميم الأحكام إلى الظاهرية ، وتعيين مورد البحث في الأصول العملية العقلية ، دخول مسائل الأصول العملية مطلقا في المسائل الأصولية من دون ان يضم القيد المزبور ، واضح.

اقسام المسائل الأصولية

الأمر الثاني : ان المسائل الأصولية تنقسم إلى اقسام خمسة :

القسم الأول : ما يوجب القطع الوجداني بالحكم الشرعي ، كالبحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، والبحث عن إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، وما شاكل ، وتسمى هذه المباحث بالبحث عن الاستلزامات العقلية ، والبحث عن المداليل.

القسم الثاني والثالث : ما يوجب العلم التعبدي بالحكم الشرعي ، وهذا

٢٩٦

قسمان :

أحدهما : ما يكون البحث صغرويا كمباحث الالفاظ ، من قبيل البحث عن ان الأمر ظاهر في الوجوب ، أم لا؟ وما شاكل.

ثانيهما : ما يكون البحث كبرويا ، أي يكون البحث فيه عن حجية شيء لاثبات الأحكام الشرعية كالبحث عن حجية الخبر الواحد وسائر مباحث الحجج ، وقد مر الكلام في هذه الأقسام الثلاثة.

القسم الرابع : ما لا يوصلنا إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجدانى ولا بالعلم التعبدى ، بل يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لبيان الأحكام الظاهرية في فرض الشك في الحكم الواقعي ، وتسمى هذه القواعد بالاصول العملية الشرعية ، ويعبر عن الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي ، كما يعبر عن الدليل الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي ، وإنما يعبر عن الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي بالحكم الظاهري لتمييزه عن الحكم المجعول للشيء بعنوانه الأولى ، لا بعنوان انه مشكوك فيه ، وإلا فالحكم الظاهري أيضاً حكم واقعى مجعول للشيء بعنوان انه مشكوك فيه.

والقسم الخامس : ما يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لتعيين الوظيفة العقلية عند العجز عن ما تقدم ، وتسمى هذه القواعد بالاصول العملية العقلية ، ومحل الكلام في المقام هو القسمان الاخيران وحيث ان الاصوليين ادرجوا الخامس في الرابع وتعرضوا للبحث عنهما في عرض واحد ونحن نتبعهم في ذلك.

٢٩٧

انحصار الأصول العملية في اربعة

الأمر الثالث : ان الأصول العملية التي هي محل البحث فعلا ، والمرجع عند الشك منحصرة في اربعة ، وهي البراءة والاحتياط الاستصحاب ، والتخيير.

وهذا الحصر استقرائي بلحاظ نفس الأصول ، وعقلي بحسب المورد : إذ الشك : اما ان تعلم له حالة سابقة وقد اعتبرها الشارع أو لا؟ : بان لم تعلم له حالة سابقة ، أو علمت ولم يعتبرها الشارع كما إذا كان الشك في بقاء شيء ناشئا من الشك في المقتضي على القول بعدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي. والثاني : قد يكون الشك في اصل التكليف ، وقد يكون الشك في المكلف به. والثاني : ربما يمكن الاحتياط وربما لا يمكن كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

الأول مورد للاستصحاب ، والثاني يكون مجرى للبراءة ، والثالث يكون مجرى للاشتغال ، والرابع مورد التخيير.

وذكر الاصحاب في وجه عدم ذكر أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة ، في علم الأصول ، وجوها :

الأول : ان الطهارة والنجاسة من الامور الواقعية فالشك فيهما شك في الموضوع دائما.

وتقريب كونهما منها ، ان مقابل الطهارة أي الحدث والخبث ، من الامور الواقعية ومن مقولة الكيف ، ويكون الخبث كيفا قائما بالجسم ، والحديث كيفا

٢٩٨

قائما بالنفس ، كما هو المعروف من انه حالة معنوية بدعوى : ان القذارة ما يوجب تنفر الطبع وموجبيتها لذلك إنما تكون لعدم الملاءمة لقوة من القوى الظاهرية ، فما فيه رائحة منتنة غير ملائم للشامة ، وهكذا بالنسبة إلى سائر القوى ، ولا يختص ذلك بالاعيان الخاصة بل القلب المشحون بالعقائد الباطلة ، نجس لتنفر الطبع السليم منه ، فانه نقص للنفس ، وبهذا الاعتبار تكون التوبة مطهرة للعاصي ، وعلى هذا فتكون الامور المعلومة ، موجبة لحصول اثر في الجسم ، أو النفس ، موجب لتنفر الطبع ، ويزول ذلك الأثر باستعمال الطهور ، فدائما يكون الشك فيهما من الشبهة الموضوعية ، ومن الواضح ان البحث عن حكم الشبهة الموضوعية ليس من المسائل الأصولية.

هذا تقريب حسن ، إلا انه لا يدل على كونهما من الامور الواقعية بل بلائم مع كونهما من الأحكام الشرعية الناشئة عن ما يكون في المتعلقات من المصالح والمفاسد كما لا يخفى ، بل لا يعقل ان تكونا منها : إذ المتنجس إنما يتنجس بذاته على ما هو عليه من دون عروض كيف حقيقي عليه ليكون منطبق عنوان نجس وهل يتوهم ان يكون في بدن الكافر شيء موجود خارجي ، ويرتفع بمجرد اظهار الاسلام ، إذ بدن هذا الشخص قبل الاسلام وبعده حسا وعيانا على حد سواء ، فما ذلك الكيف القائم بالجسم في حال الكفر الذي لا يحس بقوة من القوى.

اللهم إلا ان يقال : ان دعوى ان المتنجس ينجس بذاته على ما هو عليه من دون عروض كيف حقيقي عليه.

تندفع بان ذلك أول الدعوى فالخصم يدعى عروضه ، غاية الأمر انه لا يرى

٢٩٩

بدون الاسباب ، وكم له نظير في الموجودات ، والمكروبات.

وبعبارة أخرى : انهما من قبيل الخواص والآثار كخواص الادوية التي لا يعرفها إلا الاطباء ، واما بدن الكافر ، فيمكن ان يقال ان الشارع حكم بنجاسته تنزيلا وحكومة ، أي نزل بدنه منزلة النجاسة لقانون تعاكس النفس والبدن ، والكفر موجب لكثافة النفس ولذلك حكم بنجاسة بدنه ، والاسلام يرفع تلك الحالة النفسانية.

والحق في الجواب ان يقال انهما لو كانا أمرين واقعيين لما اختلفت الشرائع في عدد النجاسات ، ولا اختلفت في المطهرات ، مع ان الشرائع مختلفة في ذلك كله.

أضف إلى ذلك ان ظاهر الأدلة جعلهما لا كشفهما ، سيما المتضمنة لجعل الطهارة الظاهرية ، إذ لو كانتا من الامور الواقعية ، لزم حمل تلك الأدلة على جعل الآثار ، وهو خلاف الظاهر.

واما الكيف القائم بالنفس في الحدث فحيث لا ريب في عدم كونه من الاعتقاديات فلو كان فلا محالة يكون من الاوصاف الرذيلة النفسانية نظير سائر الملكات والصفات غير الحميدة ، إذ لا ثالث لصفات النفس ، ولا شبهة في عدم كونه منها لوجهين :

الأول : ان الحدث حالة تحصل للانبياء والاوصياء وحاشاهم من اتصاف نفوسهم بصفة نقص.

الثاني : ان اسبابه قد تقع على وجه العبادية المكملة للنفس.

٣٠٠