زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

الأول : في معارضة الخبر مع الأصول اللفظية.

الثاني : في معارضته مع الأصول العملية.

اما المورد الأول : فظاهر الشيخ الأعظم (١) ، والمحقق الخراساني (٢) ، وصريح المحقق الأصفهاني (٣) ، عدم تقديمه على العمومات والمطلقات ، والمنسوب إلى المحقق العراقي (ره) (٤) هو العمل به في مقابلها وتقديمه عليها.

وقد استدل للاول بان العمومات والمطلقات حجج لا يرفع اليد عنها إلا بحجة أقوى ومع عدم حجية الخبر كيف يرفع اليد عنها.

واستدل للثاني بان مقتضى أصالة الظهور الجارية في الأخبار الصادرة المعلومة بالإجمال هو خروج العمومات المثبتة والنافية عن الحجية ، لانتهاء الأمر فيها إلى العلم الإجمالي بارادة خلاف الظاهر في بعض تلك العمومات والمطلقات من المثبت والنافي ولازمه بعد عدم المرجح هو إجراء حكم التخصيص والتقييد عليها ، لسقوطها بذلك عن الاعتبار.

وحق القول في المقام هو التفصيل بين الصور ، لأنه تارة يكون مفاد العام أو المطلق حكما الزاميا ، كقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبَا)(٥) ومفاد الخبر حكما غير

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٠٥.

(٣) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٤١.

(٤) مقالات الأصول ج ٢ ص ١١٦.

(٥) الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

٢٦١

الزامي كقول امير المؤمنين (ع) ليس بين الرجل وولده ربا وليس بين السيد وعبده ربا (١) واخرى يكون عكس ذلك فيكون مفاد العام أو المطلق حكما غير الزامي كقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ومفاد الخبر حكما الزاميا كالنبوي المشهور نهى النبي (ص) عن بيع الغرر (٣).

اما في الصورة الأولى فالصحيح هو ما أفاده الشيخ وتابعوه ، إذ العلم الإجمالي بورود التخصيص على العام ، والعلم الإجمالي بعدم ارادة أصالة العموم ، في بعض تلك العمومات لا يمنع من جريانها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانها.

وبعبارة أخرى : لا اثر للعلم الإجمالي إذا لم يكن متعلقه حكما الزاميا.

واما في الصورة الثانية فالصحيح ما أفاده المحقق العراقي (ره) لما اشار إليه من العلم الإجمالي الذي متعلقه حكم الزامي.

وبعبارة أخرى : يلزم من جريان الأصول اللفظية في جميع الموارد ، العلم بمخالفة التكليف الواصل بالعلم وجريانها في بعض الموارد دون بعض ترجيح بلا مرجح فلا يجري الاصل اللفظي في شيء من الموارد.

واما في المورد الثاني : وهو معارضة الخبر مع الأصول العملية ، فملخص

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٤٧ ح ١ و ٣ / وسائل الشيعة ج ١٨ باب ٧ من ابواب الربا ص ١٣٥ ح ٢٣٣١٩ و ٢٣٣٢١ وفي ط القديمة ج ١٢.

(٢) الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٧ باب ٤٠ من ابواب آداب التجارة ح ٢٢٩٦٥.

٢٦٢

القول فيه ، ان الخبر ، اما ان يكون مثبتا للتكليف كما لو دل الخبر على وجوب السورة في الصلاة ، أو يكون نافيا له كما لو دل الخبر على عدم وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، والاصل قد يكون نافيا كاصالة البراءة ، وقد يكون مثبتا كقاعدة الاشتغال ، واستصحاب بقاء التكليف كنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه.

فان كان الخبر مثبتا للتكليف يعمل به كان الاصل مثبتا له أو نافيا كما هو واضح ، وكذلك يعمل به لو كان نافيا له وكان الاصل أيضاً كذلك أي نافيا.

واما إذا كان الخبر نافيا ، والاصل مثبتا له ، وكان الاصل هو قاعدة الاشتغال ، كما لو علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، ودل الخبر على عدم وجوب الجمعة في زمان الغيبة ، لا اشكال في انه لا يعمل بالخبر في هذا المورد الذي يقتضي العلم الإجمالي لزوم الاتيان بالجمعة بعد كون الوجه المتقدم مقتضيا للاتيان بما ادى إليه الخبر من باب الاحتياط لا الحجية ، فانه لا اقتضاء له مع كون الخبر نافيا ، والمقتضى لا يعارض مع ما لا اقتضاء له.

واما لو فرضنا كون الاصل المثبت هو الاستصحاب فان لم يبلغ حدا يعلم اجمالا بمخالفة بعضها للواقع فكذلك أي لا بد من العمل بالاستصحاب وان بلغ إلى هذا الحد ، فجريان الاستصحاب ، ومنعه عن العمل بالخبر ، يبتنيان على القول بجريان الاستصحاب في اطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة العملية كما هو الاظهر.

واما على القول بعدم جريانه في اطراف العلم الإجمالي كما اختاره الشيخ

٢٦٣

الأعظم (ره) (١) والمحقق النائيني (ره) (٢) فلا يجري الاستصحاب ، ويعمل بالخبر حينئذ كما لا يخفى.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب الوافية (ره) (٣) لحجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة مع عمل جمع به ، من غير رد ظاهر.

وحاصله : انه لا ريب في حدوث التكليف بعدة أمور سيما بالاصول الضرورية كالصلاة والحج ونحوهما ، وبقاء ذلك إلى يوم القيامة وحيث ان اغلب اجزائها وشرائطها وموانعها إنما تثبت بالخبر غير القطعي الصدور بحيث لو لم يعمل به خرج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور ، فلا مناص عن العمل بالخبر الواحد.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٤) وتبعه المحقق النائيني (ره) (٥) وغيره ، بان العلم الإجمالي إنما هو تعلق بوجود الاجزاء والشرائط ، والموانع ، للاصول الضرورية في مطلق الأخبار ، بل مطلق الأمارات ، فاللازم هو الاحتياط بالعمل بكل ما

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ١ ص ٢٠٧ من المقدمة الثالثة من دليل الانسداد قوله : «ان العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات يمنع من اجراء البراءة والاستصحاب ...»

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٧٨ (الامر الثالث) وعلل ذلك في الامر الرابع من نفس الصفحة.

(٣) الوفية في الأصول للفاضل التوني ص ١١٦ (المبحث الثالث).

(٤) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٢.

(٥) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٢١٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ١٢٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

٢٦٤

يدل على جزئية شيء ، أو شرطيته ، أو مانعيته لأحد تلكم الأصول.

ويمكن الجواب عنه بان صاحب الوافية ، يدعى العلم الإجمالي بصدور الأخبار الموجودة في تلك الكتب المشتملة على القيود المذكورة بمقدار المعلوم بالإجمال منها ، وعليه فيوجب ذلك انحلال العلم الإجمالي بثبوتها في مطلق الأمارات ، ودعوى العلم الإجمالي بمصادفة بعض الأمارات الأخر للواقع وصدور اخبار اخر غير الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة ، لا تفيد بعد احتمال انطباق الصادر منها والمصادف للواقع على ما في تلكم الأخبار مضمونا.

فالصحيح في الجواب عنه ان يقال ان لازم هذا الوجه ، العمل بالاخبار المثبتة لها دون النافية ، أضف إليه انه يرجع إلى الوجه الأول غير ان دائرة العلم الإجمالي في المقام اضيق منه في ذلك الوجه ، فيرد عليه ما اوردناه عليه اخيرا ، مضافا إلى انه لا يثبت به حجية الخبر القائم على اصل التكليف.

الوجه الثالث : ما أفاده بعض الاساطين (١) ، وحاصله ان الثابت يقينا بالضرورة ، والاجماع ، والخبر المتواتر : انا مكلفون بالرجوع إلى السنة إلى يوم القيامة فان تمكنا من الرجوع إليها على وجه يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلا بد من الرجوع إليها كذلك ، وإلا فلا بد من الرجوع إلى الظن في تعيينها.

__________________

(١) الظاهر انه المحقق الاصفهاني صاحب هداية المسترشدين راجع ص ٣٩١ وأيضا ص ٣٩٧ عند قوله : «السادس : أنه قد دلت الاخبار القطعية والاجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة .. الخ».

٢٦٥

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) وتبعه المحققون بأنه ان اريد بالسنة نفس قول المعصوم أو فعله ، أو تقريره ، فوجوب الرجوع إليها ضروري ، إلا انه لا يلازم مع وجوب العمل بالخبر الحاكي عنها ، مع عدم العلم بالمطابقة ، إلا إذا انضم إليها بقية مقدمات الانسداد.

وان اريد بها الأخبار الحاكية ، فلا دليل على وجوب العمل بها سوى العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة منها فهو يرجع إلى الوجه الأول.

وأورد عليهم المحقق الخراساني (ره) (٢) ، بان ملاك هذا الوجه هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة.

وفيه : انه إذا كان هناك دليل قطعي على ذلك ، سوى الدليل على حجية الخبر بالخصوص المفروض عدمه ، والعلم الإجمالي بصدور جملة منها ، واستقلال العقل من جهة التنزل إلى الامتثال الظنى ، مع عدم إمكان الامتثال القطعي كان لما ذكره المحقق الخراساني (ره) وجه ولكنه ليس فلا يتم ذلك.

فالصحيح : ما أفاده المحققون.

* * *

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٣.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٠٧.

٢٦٦

ادلة حجية مطلق الظن

وقد استدل لحجية الظن مطلقا من غير خصوصية للظن الحاصل من الخبر الواحد بوجوه اربعة :

الوجه الأول : ان في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبى ، أو التحريمي مظنة للضرر : لان الوجوب والحرمة يقتضيان العقاب على الترك في الأول ، والفعل في الثاني ، فالظن باحدهما ظن بترتب العقاب على مخالفته : ولان الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة في الترك ، كما ان الظن بالحرمة ظن بالمفسدة في الفعل ، بناء على قول العدلية بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وبذلك يظهر ان ما أفاده في النهاية (١) من جعل كل من الضررين دليلا مستقلا على المطلب ، هو الاحسن في التقريب.

وكيف كان فلو انضم إلى ذلك الكبرى الكلية ، وهي لزوم دفع الضرر المظنون لاستقلال العقل بذلك يستنتج حجية الظن.

واجيب عنه باجوبة :

احدها : ما عن الحاجبي (٢) وتابعيه ، من منع الكبرى ، لان لزوم دفع الضرر المظنون إنما يبتنى على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولا نقول به إذ غاية

__________________

(١) حكاه عن النهاية الشيخ الاعظم في فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٥.

(٢) كما حكاه عنه الشيخ الاعظم في فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٥.

٢٦٧

ما يمكن ان يقال كون ذلك احتياطا مستحسنا لا واجبا.

ويرد عليه : أولا : انه لا سبيل إلى انكار لزوم الحكم المذكور بعد اطباق العقلاء عليه في جميع امورهم.

ولذا استدل به المتكلمون على وجوب شكر المنعم ، الذي هو الاساس لوجوب معرفة الله تعالى.

واستدلوا به أيضاً لوجوب النظر إلى معجزة النبي (ص).

وثانيا ان ملاك وجوب دفع الضرر المظنون ، ليس هو التحسين والتقبيح العقليين ، بل ملاكه كون الضرر منافرا للطبع ، والفرار من ما ينافر الطبع مما يستقل به العقل ، وملاك التحسين والتقبيح العقليين ، كون بعض الأفعال على وجه يحسن فاعله ويمدح عليه ، وبعضها الآخر على نحو يقبح عليه ويذم ، ولا ربط لاحدهما بالآخر ولذلك اتفق العقلاء على لزوم دفع الضرر المظنون ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح العقليين.

واما ما أجاب به الشيخ الأعظم (١) من ان تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية والاخروية مما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى (وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) وغيره.

فهو غريب لان ، ما يحذر عن العقوبة الاخروية ، لا يوجب الحكم الشرعي ،

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٦.

(٢) الآية ١٩٥ من سورة البقرة.

٢٦٨

ولذلك اتفقوا على ان أوامر الإطاعة ارشادية لا مولوية ، وما يحذر عن الوقوع في المضار الدنيوية لم نعثر عليه والآيات المشار إليها كلها من قبيل الأول ، أضف إليه : ان التمسك بتلك الأدلة مع عدم احراز الموضوع ، لم يظهر وجهه مع انه يخرج عن الدليل العقلي والكلام إنما هو فيه.

ثانيها : ما عن الشيخ في العدة (١) والسيد في الغنية (٢) من ان الحكم المذكور مختص بالامور الدنيوية فلا يجري في الاخروية مثل العقاب.

وأورد عليه بان المضار الاخروية اعظم.

ويمكن ان يقال ان مراد هؤلاء ، ان وجوب دفع الضرر المظنون بالوجوب المولوي النفسي الذي يراد استكشافه من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون يختص بالمضار الدنيوية : إذ حكم العقل بلزوم دفع العقاب المظنون لا يكون ، إلا حكما ارشاديا لوقوعه في سلسلة معاليل الأحكام ، بخلاف وجوب دفع الضرر الدنيوي ، فانه يمكن ان يكون مولويا لوقوعه في سلسلة علل الأحكام.

ويمكن ان يكون مرادهم ان الضرر الاخروي قسمان : عقاب ، وغير عقاب.

والاول : مأمون ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به ، بخلاف الضرر الدنيوي التابع لنفس الفعل أو الترك ، علم حرمته أو لم يعلم.

__________________

(١) العدّة ج ١ ص ١٠٧.

(٢) حكاه عنه غير واحد كالشيخ الاعظم في الفرائد ج ١ ص ١٧٦ / أجود التقريرات ج ٢ ص ١٢٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢١٦ ، وفي الحاشية : الغنية ص ٣٦٣.

٢٦٩

والثاني : دل العقل والنقل على وجوب اعلامه على الحكيم وهو الباعث له على التكليف ، ولكن ذلك يرجع إلى منع الصغرى كما نبه عليه الشيخ الأعظم (١).

ثالثها : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٢) وهو منع الصغرى.

اما العقوبة فهي لا تلازم الحكم ليكون الظن به ظنا بها ، فان العقاب يكون مترتبا على تنجز الحكم ومعصية الحكم ، ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به كي يكون مخالفته عصيانا.

ثم قال إلا ان يقال ان العقل وان لم يستقل بتنجزه بمجرده ، إلا انه لا يستقل أيضاً بعدم استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا.

واما المفسدة فالظن بالحكم وان كان يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه إلا انها ليست بضرر على كل حال : لان تفويت المصلحة ليس فيه مضرة بل ربما يكون في استيفائها مضرة كما في الاحسان بالمال ، والمفسدة في الفعل الحرام ، لا يلزم ان يكون من الضرر على فاعله ، بل ربما يوجب منقصة في الفعل بلا ضرر على فاعله ، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه بل إنما هي تابعة لمصالح فيها.

ولكن ما أفاده في العقاب من عدم استقلال العقل ، بعدم استحقاقه مع

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٠٨ (والصواب في الجواب).

٢٧٠

الظن بالحكم فيحتمل العقاب حينئذ على المخالفة ، والعقل مستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل.

غير تام فان منشأ احتمال العقاب ان كان هو احتمال حجية الظن بالحكم فيحتمل وجود الحكم المنجز ، ففيه ما حققناه وصرح هو به ، من ان الظن المجرد مما يقطع بعدم حجيته (١) ، فيقطع بعدم تنجز الحكم.

أضف إليه انه في مبحث البراءة (٢) يصرح بان ادلة البراءة توجب القطع بعدم العقاب ، وبها يرتفع موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل.

وما أفاده في ذلك المبحث متين.

وما أفاده من عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات (٣).

يرده النصوص والروايات الواردة في علل الشرائع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد للاحكام.

رابعها : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٤) بعد تسليم ان الظن بالحكم ظن بترتب الضرر الدنيوي على مخالفته بما حاصله ان الضرر المظنون مما يقطع أو يظن بتداركه ، والعقل لا يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب الضرر مع القطع

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٠٩ قوله : «وبمجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به كي يكون مخالفته عصيانا».

(٢) كفاية الأصول الدليل الرابع من أدلة البراءة ٣٤٣ (واما العقل).

(٣) كفاية الأصول ص ٣٠٩ وسياتي تخريجه أيضا في غير هذا الموضع.

(٤) فرائد الأصول ج ١ ص ١٧٦ عن قوله : (وهذا كسابقه في الضعف ... الخ).

٢٧١

بتداركه أو الظن به : إذ الظن بالحكم الذي لم يدل دليل على حجيته مشمول لادلة الأصول العملية الشرعية من الاستصحاب والبراءة الشرعية ، وتلك الأدلة اما ان تكون مقطوعة الصدور عنهم صلوات الله عليهم ، أو تكون مظنونة الصدور ، ولازم شمولها له تدارك المفسدة المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، اذ مع عدم احراز التكليف لا بد للشارع ، اما من ايجاب الاحتياط ، أو تدارك الضرر ، وحيث لم يوجب الاحتياط عند الظن بالتكليف فلا يظن بالمفسدة غير المتداركة ، بل يقطع أو يظن بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الاقدام على المفسدة المتداركة.

وفيه أولا : انه (قدِّس سره) (١) يصرح في مبحث البراءة بان الظن بالضرر غير العقاب ، قد جعله الشارع الاقدس طريقا شرعيا ، إلى الضرر الواقعي ، ويجب التحرز عنه ، ولا تجرى فيه البراءة ، كسائر موارد الطرق الشرعية : لان هذا الحكم العقلي أي وجوب دفع الضرر المظنون ، يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية والاستصحاب ، ومع ذلك كيف يحكم بشمولها له وتدارك الضرر.

وثانيا : انه لم يقم دليل على لزوم تدارك المفسدة الواقعية في ظرف انسداد باب العلم والعلمي ، الذي هو فرض جريان الأصول العملية ، فانها إنما تكون في مورد انسداد باب العلم ، وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع بالعلم أو

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ١ ص ٣٧٠ قوله : «الظن بالحرمة لا يستلزم الظنة بالضرر» إلى أن قال : «ولو فرض حول الظن بالضرر الدنيوي فلا محيص عن التزام حرمته كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي».

٢٧٢

العلمي : فانه في فرض الانسداد لا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع.

وثالثا : ان شمول ادلة الأصول لذلك المورد أي الظن بالضرر بما انه يتوقف على اثبات تدارك الضرر والمفسدة وهو غير ثابت فلا تشمله ، ولا يلزم من عدم شمولها له بقاء العموم بلا مورد بعد كون المشكوكات والموهومات باقية تحته.

والحق في الجواب يبتني على بيان أمور :

الأول : ان المشهور بين العدلية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وخالفتهم المحقق الخراساني (١) والتزم بانها تابعة للمصالح في نفس الجعل.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بأنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل ، كان اللازم حصولها بمجرد الأمر ، ولم يبق موقع للامتثال.

وفيه : ان لزوم الامتثال غير مربوط بالمصلحة والمفسدة ، بل يجب الامتثال حتى بناء على مسلك الاشعري القائل بجواز جعل الأحكام جزافا ، لأنه إنما

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٠٩ ، وقد بيّن ذلك في فوائد الأصول ص ١٣٧ بقوله : «وأمّا الأوامر والنّواهي الظّاهريّة فيمكن أنّ يكون صوريّة لو لم يكن متعلّقاتها بما هي ممّا أدّى إلى حكمه هذا الطّريق أو الأصل ذا مصلحة أو مفسدة ، ويمكن أن يكون حقيقيّة لو كانت كذلك ، فلا وجه للاستدلال بها على الاحتمالين».

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٥٩.

٢٧٣

يجب لكونه مما يقتضيه قانون العبودية والمولوية.

فالحق في الجواب عنه ان هذا في نفسه وان كان ممكنا ، إلا انه يرده النصوص والروايات الواردة في علل الشرائع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد للاحكام.

ثم ان المصالح والمفاسد ربما تكون شخصية كمصلحة الصوم ومفسدة شرب المسكر ونحوهما وربما تكون نوعية كمصالح الواجبات النظامية ، ومفاسد اكل مال الغير وقتل النفس المحترمة وغيرهما.

الأمر الثاني : ان للعقل حكمين في باب الإطاعة والعصيان :

أحدهما : انه يجب على المولى انزال الكتب وارسال الرسل وبيان الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى العبد ، وان لا يعاقب على المخالفة بدون ذلك.

ثانيهما : انه يجب على العبد الفحص عن تكاليف المولى في مظان وجودها ، ويترتب على ذلك انه لو خالف العبد التكليف الواقعي ، فان كان ذلك لقصور من ناحية المولى ، لا يصح له عقاب العبد ، ويعبر عن هذا بقبح العقاب من غير بيان ، فلو تفحص العبد ولم يصل إليه التكليف من جهة هذا الحكم العقلي يقطع بعدم العقاب ، وان كان لقصور من ناحية العبد ، بان لم يتفحص عنه ، صح عقابه على مخالفة التكليف ، وكان قبل الفحص موردا لقاعدة ، وجوب دفع الضرر المحتمل ، الشامل للمظنون ، والموهوم ، فبذلك يظهر انه لا يعقل ورود القاعدتين في مورد واحد.

٢٧٤

فما احتمله الشيخ الأعظم (١) ، من انه لو ظن بالتكليف ، لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وان العقل لا يستقل بعدم العقاب ، فلا محالة يحتمل العقاب ، فيكون موردا لقاعدة وجوب الدفع.

في غير محله ، إذ الظن الذي لم يثبت حجيته ، لا يكون بيانا من قبل المولى ومع عدم البيان تجرى قاعدة قبح العقاب.

الأمر الثالث : ان تحمل الضرر الدنيوي المقطوع لا دليل على حرمته إلا في موارد خاصة ، كما سيأتي تفصيل القول فيه في مبحث لا ضرر ، وعلى فرض كونه حراما ، لم يدل دليل على حرمة تحمل الضرر المظنون وجوده ، لاصالة البراءة الجارية في الشبهات الموضوعية ، بلا خلاف في غير الموارد الخاصة التي اوجب الشارع فيها الاحتياط تحفظا للملاك الذي لا يرضى الشارع الاقدس بتفويته حتى في مورد الشك ، فمن عدم جعل وجوب الاحتياط وعموم ادلة البراءة يستكشف ان الملاك ليس بمثابة من الاهمية في نظر الشارع بنحو لا يرضى بفوته في فرض الشك ، ومعه لا مورد لقاعدة وجوب الدفع.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم ، ان المراد بالضرر في كلام المستدل ان كان

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٦٤ فبعد ان تحدث عن حسن الاحتياط قال : «وحينئذٍ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا وعلى كل تقدير فلا ينفع قول الأخباريين له إن العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ولا قول الأصولي له إن العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.

٢٧٥

هو الضرر الاخروي ، أي العقاب ، فهو لا يكون محتملا ، فضلا عن كونه مظنونا ، لما عرفت من انه لا ملازمة بين ثبوت التكليف الواقعي ، والعقاب على مخالفته ، بل العقاب إنما يكون على مخالفة التكليف الواصل ، فلا يكون الظن بالتكليف ظنا بالعقاب على المخالفة ، بل مع عدم حجية الظن يكون العقاب مقطوع العدم لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالصغرى ممنوعة.

وان كان المراد به الضرر الدنيوي ، فهو في موارد الواجبات لا يحتمل ، فان في مخالفتها تفويت للمصالح خاصة لا تحملا للضرر ، فالصغرى ممنوعة أيضاً وفي موارد الأحكام التحريمية ، فما يكون من قبيل الأحكام الناشئة عن المفاسد النوعية ، لا يكون الضرر محتملا ولا مظنونا ، فالصغرى ممنوعة أيضاً ، وما يكون من قبيل الأحكام الناشئة عن المفاسد الشخصية ، فالصغرى وان كانت ثابتة وتامة ، إلا ان الكبرى ممنوعة كما عرفت في الأمر الثالث.

الدليل الثاني من ادلة حجية مطلق الظن

الوجه الثاني : انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح وهو قبيح ، ولتوضيح هذا الوجه لا بد من بيان أمور :

الأول : انه ليس المراد من ترجيح المرجوح ما هو كذلك بحسب الاغراض الشخصية فانه محال لا قبيح لاستحالة تأثير الاضعف دون الاقوى.

ولذلك افاد المحقق القمي (ره) (١) ان لفظ الترجيح بمعنى الاختيار والراجح

__________________

(١) قوانين الأصول ج ١ ص ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

٢٧٦

والمرجوح ، هو القول بان المظنون ، أو الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه.

الثاني : ان الوجه المذكور في كلماتهم محتمل للوجهين ، فانه قد يقرر بالنسبة إلى الحكم بمقتضى الظن ، وجعل حكم الله الظاهري ما اقتضاه ، وآخر يقرر بالنسبة إلى العمل بمقتضاه.

الثالث : ان الوجه المذكور قياس استثنائي وانتاجه يتوقف على ثبوت الملازمة بنفسها أو بالدليل ، بين عدم الاخذ بالظن وبين ترجيح المرجوح على الراجح ، وثبوت رفع التالى باحد الوجهين ، فتمامية هذا الوجه تتوقف على ثبوت أمرين ، والامر الثاني واضح ، اما الأول فغاية ما يقال في تقريبه ان الظن اقرب إلى الواقع والوهم ابعد فإذا لم يعمل بالظن فلا محالة يعمل بالوهم.

وأورد على ذلك بوجوه :

١ ـ ما عن صاحب حاشية المعالم (١) وهو ان المرجوح ربما يوافق الاحتياط كما لو ظن عدم وجوب شيء أو عدم جزئيته ، فان الوجوب أو الجزئية يوافق الاحتياط الذي هو حسن عقلا فلو أتى به وعمل بالمرجوح لا محالة يكون اولى من العمل بالراجح وترك ذلك الشيء.

ويرد عليه : ان المراد من ترجيح المرجوح ان كان هو العمل على طبقه ولو من باب الاحتياط ففي الفرض لو أتى بذلك الشيء يكون عاملا بهما معا إذ الراجح لا يلزم بترك ذلك الشيء بل يرخص في فعله وتركه ، فالفعل عمل

__________________

(١) هداية المسترشدين ص ٤١١ ـ ٤١٢ وقد أطال الكلام في النقض والابرام لدقة مطلبه وتحقيق الوصول إلى المراد راجع وتأمل.

٢٧٧

بهما معا لا تقديم للمرجوح ، وان كان هو الحكم بان مفاده هو حكم الله فلا ريب في كونه خلاف الاحتياط.

وبعبارة أخرى : الاتيان بذلك الشيء بقصد الوجوب لا بقصد احتمال الأمر يكون خلاف الاحتياط ، والاتيان بداعي احتمال الأمر لا يكون طرحا للراجح لان الاتيان لا ينافى عدم الوجوب.

٢ ـ ما هو معروف بين الاصحاب قالوا ان ذلك فرع وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ، واما إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ولا الراجح ، والظاهر ان مرادهم من ذلك ما أجاب به الشيخ الأعظم (١) ، وحاصله ان هذا الوجه يتم لو تعلق الغرض بالواقع وتنجز التكليف ، ولم يمكن الاحتياط ، واما إذا لم يتنجز التكليف لا مانع من الرجوع إلى الأصول النافية للتكليف ، وليس فيه ترجيح للمرجوح ، وكذا لو تنجز التكليف ، وامكن الاحتياط فيجب العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال فليس فيه أيضاً ترجيح للمرجوح.

نعم ، لو تنجز التكليف ولم يمكن الاحتياط كما لو دار ، امر القبلة في آخر الوقت بين جهتين يظن كون القبلة في احداهما ، ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت تعين الاخذ بالظن ، وإلا لزم ترجيح المرجوح ، وعليه فتمامية هذا الوجه تتوقف على تمامية مقدمات الانسداد من بقاء التكليف وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم لزوم الاحتياط أو عدم امكانه وغير ذلك من المقدمات ، وبدونها

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٨١.

٢٧٨

لا يتردد الأمر بين الاخذ بالراجح والاخذ بالمرجوح ، وهو تام.

ولا يرد عليه ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله ان التوقف عن ترجيح الراجح أيضاً قبيح كترجيح المرجوح ، فان الظاهر ان الشيخ (ره) زعم ان المراد من هذا الوجه كون المراد منه مجرد عدم ترجيح المرجوح ، فأجاب بذلك ولكن بعد ما عرفت مراد القوم ، لا يرد عليه هذا الوجه.

٣ ـ ان العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات يقتضي وجوب الاحتياط في جميع الشبهات بإتيان كل ما يحتمل وجوبه ولو موهوما وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ولكنه موجب للعسر المنفي في الشريعة ، فلا بد من التبعيض في الاحتياط ، والاخذ بالمظنونات.

وبعبارة أخرى : الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج ، بالعمل بالاحتياط ، في المظنونات خاصة : لان الجمع على غير هذا الوجه ، باخراج بعض المظنونات ، وادخال بعض المشكوكات والموهومات باطل اجماعا.

ويرد عليه ان الامرين المشار اليهما بعض مقدمات الانسداد ، فلو لم ينضم اليهما ان باب العلم والعلمي منسد ، والرجوع إلى ما ينفى التكليف في جميع الوقائع مع الانسداد أو إلى الأصول لا يجوز ، لا ينتج ذلك وجوب العمل بالظن كما هو واضح.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٧٩

حول دليل الانسداد

الوجه الرابع : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وتنقيح القول فيه بالبحث في جهات :

الأولى : في بيان اصل المقدمات التي يتألف منها هذا الدليل.

الثانية : في النتيجة المرتبة عليها.

الثالثة : في تمامية المقدمات وعدمها.

اما الجهة الأولى : فافاد الشيخ الأعظم (١) انها أمور اربعة :

الأول : انسداد باب العلم والظن الخاص في معظم المسائل الفقهية.

الثاني : انه لا يجوز لنا اهمال الأحكام المشتبهة وترك التعرض لامتثالها أصلاً.

الثالث : انه لا يجب الاحتياط التام في جميع الشبهات ، اما لعدم امكانه ، أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر ، ولا يجوز الرجوع إلى الاصل الجارى في كل مسألة ولا إلى القرعة ، ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي.

الرابع : انه لا يجوز التنزيل إلى الشك أو الوهم لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٨٣ (الدليل الرابع هو الدليل المعروف بدليل الانسداد).

٢٨٠