زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

نعم يصح جعل وجود القطع نفسه ، لكنه غير جعل الطريقية له ، الذي هو محل الكلام هذا بالنسبة إلى الجعل التكويني واما عدم قابليتها للجعل التشريعي ، فلانه لا يتعلق بما هو متكون بنفسه ، وإلا يكون من اردأ أنحاء تحصيل الحاصل.

واما المقام الثاني : فالأقوال فيه ثلاثة :

١ ـ ان وجوب العمل على وفق القطع ، إنما هو من لوازم ذاته ، اختاره صاحب الكفاية (١) ، حيث قال ، وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم.

٢ ـ ان ذلك إنما يكون بحكم العقل وإلزامه ، اختاره المحقق الخراساني (٢) في التعليقة.

٣ ـ انه إنما يكون ببناء العقلاء اختاره المحقق الأصفهاني (٣).

والحق هو الأول فان العقل بعد القطع بالحكم ، يرى ان مخالفته مناف لذي الرقية ، وخروج عن رسم العبودية ، وهتك لحرمة المولى وظلم عليه ، والعمل على وفقه عمل بوظيفة العبودية ، ولهذا يدرك العقل انه لو عاقبه المولى على

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٥٨ (الأمر الأول).

(٢) درر الفوائد للآخوند ص ٢٥ قوله : «ان وجوب اتباع القطع عقلا ولزوم العمل على وفقه بما هو كاشف ... بديهي لا يحتاج إلى مزيد بيان ومئونة برهان كما يشهد به الوجدان». ط. وزارة الإرشاد الإسلامي ـ طهران ١٤١٠ ه‍. ق

(٣) نهاية الدراية ج ٢ ص ٣١.

٢١

مخالفته لم يعد قبيحا ، بل يحسن ذلك لعدم منافاته للحكمة.

وبعبارة أخرى : ان العقل كما يدرك استحالة العقاب من الحكيم في صورة عدم العصيان لكونه عقابا بلا بيان ، ومنافيا للحكمة ، كذلك يدرك صحته وإمكانه في صورة العصيان لعدم التنافي بينه وبين الحكمة بل بينهما كمال الملاءمة ، وهذا الدرك العقلاني إنما هو كدرك العقل امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أو جوازه.

واستدل المحقق اليزدي (ره) (١) في درره لعدم جعل الحجية للقطع : بأنه لو قلنا باحتياجها إليه لزم التسلسل ، لان الأمر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي ، بل لا بد من العلم ، وهذا العلم أيضاً كالسابق يحتاج في التنجيز إلى الأمر وهكذا.

ولكن يرد عليه ان الأمر الثاني وان كان وصوله مما لا بد منه في تنجيز الأمر الواقعي المعلوم ، إلا انه لا تنجز له حتى يحتاج تنجزه إلى الجعل فانه أمر بداعي تنجز الأمر الأول.

وبعبارة أخرى : ان جعل المنجزية للقطع لا يكون من الأحكام المتعلقة بفعل المكلف حتى يتصور فيه المخالفة فتوجب استحقاق العقاب بل هو من الأحكام الوضعية التي لا مخالفة لها ، وعليه فلا معنى لمنجزيته حتى يحتاج إلى جعل آخر فلا يلزم منه التسلسل ، فالصحيح ما ذكرناه.

واما القول الثاني : فيرده ان شأن القوة العاقلة ، ليس هو البعث

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٤.

٢٢

والتحريك ، والإلزام ، بل شانها إدراك الأشياء ، بل الإلزام والبعث التشريعي وظيفة المولى ، نعم الإنسان يتحرك نحو ما قطع بكونه نفعا له ، ويحذر عما يراه ضررا ، ولكن ذلك ليس بإلزام العقل بل إنما يكون منشأه حب النفس ، ولذا لا يختص ذلك بالإنسان ، بل الحيوان بما انه بفطرته يحب نفسه ، يتحرك نحو ما يراه نفعا له ، ويحذر عما يراه ضررا عليه ، وهذا التحرك تكويني ، لا انبعاث تشريعي.

واما القول الثالث : وهو القول بان حجية القطع إنما تكون ثابتة ببناء العقلاء ، والأحكام العقلائية عبارة عن القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاءً للنوع لحسن العدل وقبح الظلم والعدوان.

فيرده ان وجوب العمل على طبق القطع كان ثابتا في زمان لم يكن فيه إلا بشرٌ واحد ولم يكن نوع ليكون العمل على طبقه لحفظه ، وان شئت فاختبر ذلك بفرض نفسك ذلك البشر.

النهي عن العمل بالقطع

واما المقام الثالث : فالحق عدم إمكان النهي عن العمل به ، وذلك لوجهين :

أحدهما : لزوم التناقض اعتقادا مطلقا ، وواقعا في صورة الإصابة.

وبعبارة أخرى : المكلف لا يتمكن من تصديق النهي عن العمل به بعد تصديقه بحرمة الفعل كما لو علم بحرمة الخمر : إذ النهي عن العمل به إذن في

٢٣

الفعل ، وهو لا يجتمع مع الحرمة.

وان شئت قلت : ان الحرمة عبارة عن الزجر عن الفعل مع عدم الترخيص في الفعل ، فالترخيص فيه مع الحكم بالحرمة متناقضان والمكلف بعد إذعانه بالأول غير متمكن من الإذعان بالثاني.

وقد أورد على هذا التقريب بإيرادين :

الأول (١) : بأنه قد ورد النهي عن العمل بالظن القياسي حتى في حال الانسداد فإذا جاز النهي عن العمل به في حال الانسداد ، جاز النهي عن العمل بالعلم في حال الانفتاح ، لان الظن في تلك الحال كالعلم في هذه.

وفيه : انه ان أريد بهذا التنظير ان الظن بالحكم غير الفعلي ، وان صح المنع عن العمل به ، إلا ان القطع به كذلك والقطع بالحكم الفعلي لا يمكن النهي عن العمل به ، للزوم اجتماع النقيضين ، فالظن به أيضاً كذلك ، لأنه يلزم منه الظن باجتماعهما وهو أيضاً غير معقول.

فيرد عليه : ان التكليف الواصل بالقطع بما انه لا يحتمل الخلاف فلذا لا يعقل جعل حكم آخر في مورده.

واما الظن فحيث انه ليس وصولا حقيقيا فالتكليف باق على مجهوليته ومرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، فيصح جعل حكم في مورده وتمام الكلام في محله.

__________________

(١) نقل هذا الإيراد غير واحد من الأعلام منهم آية الله الحائري في درر الفوائد ج ٢ ص ٤.

٢٤

وان أريد به ان الظن في حال الانسداد كالعلم يستقل العقل بمنجزيته لما تعلق به فإذا صح الترخيص في مخالفته شرعا صح في القطع.

فيرد عليه ، ما سيأتي في محله من ان حكم العقل بمنجزية الظن في حال الانسداد تعليقي ، بخلاف القطع فانه تنجيزي فيصح المنع عن العمل به دونه.

الثاني : ما عن المحقق العراقي (ره) (١) وهو انه لا مناقضة ولا تضاد بين الحكمين بعد كون مرجع ردعه إلى الترخيص في الرتبة اللاحقة عن القطع والحال ان حرمة الفعل ثابتة له في الرتبة السابقة على القطع ، ومع اختلاف الرتبة بين الحكمين ، يرتفع المناقضة والتضاد بين الحكمين.

وفيه : ما سيأتي في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي ، والظاهري ، من ان اختلاف الرتبة لا يكفي في رفع التناقض والتضاد فانتظر.

الوجه الثاني : انه يلزم من النهي عن العمل بالقطع ، الإذن في المعصية في صورة المصادفة للواقع ، وفي التجرِّي في صورة المخالفة ، وهما قبيحان ، فالإذن فيهما أيضاً قبيح.

وان شئت قلت ان النهي عن العمل بالقطع ، إما ان يكون بسلب طريقيته ، أو بالمنع عن متابعته ، والعمل على وفقه وشيء منهما لا يمكن :

أما الأول فواضح إذ سلب الشيء عن نفسه محال.

واما الثاني فلما ذكرناه.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٨ (ففيه).

٢٥

الأمر بالإطاعة لا يكون مولويا

واما المقام الرابع : فقد استدل لعدم إمكان تعلق الأمر المولوي بالإطاعة بوجوه :

الأول (١) : لزوم التسلسل : إذ الأمر بالإطاعة لو كان مولويا يتحقق عنوان إطاعة أخرى فيتعلق به الأمر لكونها إطاعة ، وهذا الأمر أيضاً ، يحقق عنوان إطاعة أخرى ، فيتعلق به الأمر أيضاً وهكذا إلى ان يتسلسل.

وفيه : ان ذلك يلزم لو قيل باحتياج وجوب الإطاعة إلى الأمر ، لاما هو محل البحث ، وهو إمكان تعلقه بها كما لا يخفى ، مع انه للآمر ان يأمر بها بنحو القضية الطبيعية فيشمل جميع الأفراد غير المتناهية ، وانحلال الأمر المتعلق بالطبيعة إلى أوامر غير متناهية حيث يكون بإيجاد واحد لا محذور فيه.

الثاني (٢) : لزوم اللغوية لان الأمر المولوي ليس إلا من جهة دعوة المكلف إلى الفعل وهي موجودة هنا فلا حاجة إليه.

وفيه : انه يكفي في عدم لزوم اللغوية تأكيد داع المكلف لأنه يمكن ان لا ينبعث من أمر واحد ، وينبعث لو تعدد.

الثالث (٣) : ما ذكره المحقق صاحب الدرر وهو انه يعتبر في صحة الأمر

__________________

(١) ذكر لزوم التسلسل غير واحد من الأعلام منهم درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٦.

(٢) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٦ (ومنها).

(٣) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٧.

٢٦

قابليته ، لان يصير داعيا مستقلا ، لان حقيقته البعث نحو الفعل والأمر المتعلق بالإطاعة لا يصلح لذلك ، لان المكلف إما ان يؤثر فيه أمر المولى أو لا.

وعلى الأول يكفيه الأمر المتعلق بالفعل ، وهو المؤثر لا غير لأنه اسبق رتبة من الأمر المتعلق بالإطاعة. وعلى الثاني لا يؤثر الأمر المتعلق بالإطاعة فيه استقلالا لأنه من مصاديق أمر المولى.

وفيه أولا : ان حقيقة الأمر كما تقدم ، إما إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المأمور ، أو إبراز شوق المولى إلى الفعل ولا يعتبر في ذلك سوى ما يخرجه عن اللغوية وقد عرفت ، انه يكفي في ذلك تأكيد داع المكلف ، واما اعتبار كونه قابلا لان يصير داعيا مستقلا فلا وجه له أصلاً ، بل لو سلِّم كون الأمر عبارة عن البعث نحو الفعل لا نسلّم اعتبار ذلك فيه ، إذ البعث نحو الفعل ، ليس إلا عبارة عن جعل ما يمكن داعويته ، واما إمكان داعويته مستقلا من دون ان يضم إليه شيء فليس ذلك مأخوذا في حقيقة البعث.

وثانيا : لو سلمنا اعتبار ذلك فيه ولكن في المقام يتصور ذلك ، فان كل واحد من الأمرين قابل لان يكون داعيا مستقلا ، ولكن لفرض اجتماعهما كل منهما يصير جزء الداعي وذلك ليس لقصور في الأمر كما لا يخفى.

فالحق في وجه ذلك يبتنى على مقدمتين :

الأولى ان التكليف تأكيديا كان أم غير تأكيدي ، ـ وبعبارة أخرى ـ كان في مورده تكليف آخر أم لم يكن ، كان دليله المثبت حكم العقل ، بضميمة قاعدة الملازمة أم كان دليلها الكتاب والسنة ، لا بد وان يترتب عليه ثمرة ، وإلا جعله يكون لغوا ، وصدوره من الحكيم محال.

٢٧

الثانية : ان العناوين الحسنة قسمان ، الأول : ما لا يكون مرتبطا بالمولى من حيث انه مولى كالإحسان إلى الغير والظلم عليه. الثاني : ما يكون له ارتباط خاص بالمولى من حيث انه مولى كإطاعته والانقياد له. وفي الأول لو لم يتعلق به الأمر المولوي لاوجه لعقاب المولى على المخالفة ولا الثواب على الموافقة ، ولا يوجب الفعل قربا إلى المولى ، ولا الترك بعدا عنه. واما في الثاني ، فتصح العقوبة على المخالفة والثواب على الموافقة ويوجب الفعل قربا إليه والترك بعدا عنه.

إذا عرفت هاتين المقدمتين :

فاعلم ان الأمر والطلب حيث لا يصح إلا فيما يوجب الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة بحيث لولاه لما كان في البين ما يمكن ان يتقرب به أو فيما يوجب ازدياد الثواب والعقاب ، وإلا يكون التكليف لغوا ، فلا يصح الأمر المولوي في المقام لترتب هذه الآثار على نفس الموضوع بل هو الموضوع لهذه الآثار دون الأمر كما لا يخفى.

قال المحقق الخراساني (ره) (١) في الكفاية ثم لا يذهب عليك ان التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة وان كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة انتهى.

وفيه : ان التفكيك بين الثواب والعقاب ، لاوجه له : إذ الحكم ان كان فعليا فموافقته توجب الثواب ومخالفته توجب العقاب ، وان لم يكن فعليا فان كانت

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٥٨.

٢٨

المصلحة تامة ملزمة وإنما لم يؤمر به لمانع في الأمر غير المفسدة ، كالغفلة في المولى العرفي ، فمخالفته توجب العقاب كما ان موافقته توجب الثواب ، من جهة تفويت الغرض الملزم ، وان كان لم يؤمر به لمانع من قبيل المفسدة في الأمر فمخالفته ، وان كانت لا توجب العقاب إلا ان موافقته أيضاً لا توجب الثواب فتدبر.

الموضع الثاني في التجرِّي

وقبل الشروع في البحث لا بد من التنبيه على أمر.

وهو ان موضوع البحث في كلمات الأعلام ، وان كان هو القطع ، إلا ان الظاهر انه اعم منه ، ومن الأمارات المعتبرة والأصول العملية ، بل يعم كل احتمال منجز كالمقرون بالعلم الإجمالي ، والشبهة البدوية قبل الفحص.

فالأولى ان يعنون البحث هكذا إذا قامت حجة أي ما يحتج به المولى على العبد على حكم ، بان قطع به ، أو قامت إمارة معتبرة عليه ، أو استصحب ، أو احتمل ولم يكن له مؤمن ، وخالفه العبد ، ولم يكن ذلك موافقا للواقع ، يكون فعله ذلك تجريا ، فلو قامت البينة على خمرية شيء أو استصحب تلك ، أو علم إجمالا بخمرية هذا المائع ، أو المائع الآخر فشربه ولم يكن في الواقع خمرا ، كان متجريا.

ودعوى : انه في موارد الطرق والأمارات الشرعية والأصول العملية يكون كشف الخلاف موجبا لانتهاء أمد الحكم لا انه يستكشف عدم الحكم من الأول

٢٩

فلا يتصور فيها التجرِّي.

مندفعة ، بان ذلك يتم على القول بالتصويب ، واما بناء على ما هو الحق من ان المجعول في باب الأمارات والطرق الشرعية هي الطريقية والكاشفية كما ستعرف فلا يتم ذلك كما لا يخفى.

ثم ان مورد الكلام إنما هو القطع الطريقي ، واما القطع الموضوعي ، فهو خارج عن محل البحث لأنه لو كان القطع تمام الموضوع فليس له كشف الخلاف وان كان جزء الموضوع ، فكشف الخلاف وان كان يتصور فيه إلا ان تنجز التكليف ، إنما يكون بواسطة القطع بالحكم المتعلق بما هو جزء الموضوع وجزئه الآخر فنزاع التجرِّي إنما يجري باعتبار ذلك القطع الذي يكون طريقيا.

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في حكم التجرِّي من حيث ، استحقاق العقاب ، والقبح ، والحرمة فلا بد من البحث في مقامات.

المقام الأول : في ان التجرِّي هل يوجب استحقاق العقاب ، مع بقاء الفعل المتجري به على ما هو عليه من المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟

وبهذا الاعتبار تكون المسألة كلامية.

المقام الثاني : في ان الفعل المتجري به هل يكون قبيحا كي يستتبعه الحرمة بقاعدة الملازمة أم لا؟ وبهذا الاعتبار تكون المسألة أصولية.

المقام الثالث : في البحث عن حرمة الفعل المتجري به.

والكلام فيه في جهتين :

الأولى : في البحث عن حرمته بنفس ملاك الحرام الواقعي باعتبار ان

٣٠

موضوعات الأحكام هي الأشياء بوجوداتها العلمية فإطلاق الأدلة يشمل الفعل المتجري به.

الجهة الثانية : في البحث عن حرمته لا بملاك الحرام الواقعي بل بملاك التمرد على المولى.

والفرق بين الجهتين مضافا إلى انه في الجهة الأولى ، يكون البحث عن حرمة الفعل المتجري به بعنوانه الأولى ، وفي الثانية يكون عن حرمته بالعنوان الثانوي : ان البحث في الأولى مختص بما إذا كان الخطأ في الانطباق ، مع كون الحكم مجعولا في الشريعة كما إذا قطع بخمرية شيء فشربه ، ولا يتصور فيما إذا كان الخطأ في اصل جعل الحكم كما لو قطع بحرمة شرب التتن فشربه ولم يكن في الواقع محرما ، واما البحث في الجهة الثانية فهو عام لكلا القسمين.

استحقاق المتجري للعقاب

أما المقام الأول : فالأقوال فيه أربعة :

الأول : استحقاق العقاب عليه مطلقا ولعله المشهور بين الأصحاب (١).

الثاني : استحقاق العقاب على قصد العصيان والعزم على الطغيان لا

__________________

(١) نسبه إلى المشهور أو نقل الحكاية عنهم غير واحد من الأعلام منهم : الميرزا الرشتي (قدِّس سره) في بدائع الأفكار ص ٣٣٢ / نهاية الدراية ج ٢ ص ٤١ / منتهى الأصول ج ٢ ص ٤٤.

٣١

على الفعل اختاره المحقق الخراساني (١).

الثالث : عدم استحقاق العقاب لا على القصد ولا على الفعل.

الرابع : استحقاق العقاب عليه إذا لم يكن الفعل المتجري به واجبا واقعا.

وحق القول في المقام انه ان قلنا ان استحقاق العقاب على المعصية ، إنما هو بجعل الشارع كما هو أحد طرقه على ما نسب إلى الشيخ الرئيس في الإشارات (٢) وغيره في غيرها : نظرا إلى ان ردع النفوس عن فعل ما فيه المفسدة وترك ما فيه المصلحة واجب بقاعدة اللطف ، فالمتجري لا يستحق العقاب لان ما فيه المفسدة ذات شرب الخمر لاما اعتقد انه شرب الخمر.

وان قلنا انه إنما يكون بحكم العقل كما هو المشهور ، فالمتجري يستحقه لاتحاد الملاك فيه مع المعصية الواقعية : لان العقاب على المعصية ليس لأجل ذات المخالفة مع التكليف ، ولا لأجل تفويت غرض المولى ، ولا لأجل ارتكاب المبغوض بما هو لوجود الكل في صورة الجهل ، بل لكونها هتكا لحرمة المولى وجرأة عليه ، وعدم العمل بما يقتضيه قانون العبودية والمولوية إذ بها يخرج العبد عن ذي الرقية ورسم العبودية إذ مقتضى ذلك تعظيم المولى لا هتك حرمته ، والهتك يوجب الدخول في زمرة الظالمين فلهذا يستحق العقاب من المولى والذم من العقلاء ، وهذا الملاك موجود بعينه في المتجري.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٠.

(٢) حكاه المحقق الاصفهاني عن الشيخ الرئيس في الاشارات ، راجع نهاية الدراية ج ٢ ص ٤١.

٣٢

وقد أفاد المحقق النائيني (ره) (١) ردا على هذا الوجه بأنه مركب من أمرين.

الأول : كون العلم تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الإطاعة والمعصية حيث ان الإرادة الواقعية لا اثر لها عند العقل ولا يمكن ان تكون محركة لعضلات العبد إلا بالوجود العلمي والوصول.

الثاني : كون المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي ولا اثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك.

وكل منهما قابل للمنع :

أما الأول : فلان العلم وان كان له دخل في المستقلات العقلية ، إلا ان العلم غير المصادف للواقع ليس علما بل هو جهل ، واعتبار هذا العلم في موضوع هذا الحكم العقلي إنما هو من جهة ان الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل ، بل المحرك هو انكشاف الإرادة ، وفي المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى الفاعل ، بل هو تخيل الإرادة فلا عبرة به في نظر العقل ، وعلى الجملة ان الموجب للعقاب هو مخالفة تكليف المولى الواصل إلى العبد ، وأين هذا مما لم يكن في الواقع تكليف ، وكان من تخيل التكليف.

واما الثاني : فلان مناط استحقاق العقاب عند العقل ، وان كان هو القبح الفاعلي ، إلا ان له قسمين :

أحدهما : ما يتولد من القبح الفعلي الذي يكون إحرازه موجبا للقبح

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٤٨.

٣٣

الفاعلي.

ثانيهما : ما يكون متولدا من سوء السريرة وخبث الباطن ، وبينهما فرق واضح ، والذي يوجب استحقاق العقاب هو القسم الأول ، والموجود في التجرِّي هو الثاني.

ويرد عليه انه ليس المدعى تأثير العلم في استحقاق العقوبة على المخالفة كي يقال انه في مورد التجرِّي لا يكون علم بل هو جهل مركب ، بل المدعى ان العلم يصير سببا لانطباق عنوان على المعلوم كعنوان الطغيان على المولى والجرأة عليه ، ولا فرق وجدانا في انطباق هذا العنوان بين المعصية والتجري ، وعلى الجملة قد عرفت ان الموجب لاستحقاق العقاب ليس مخالفة تكليف المولى بما هي مخالفة كي يقال انه ليس في مورد التجرِّي تكليف ، بل الموجب هو الهتك ، والطغيان عليه ، وفي ذلك لا فرق بين كون العلم مخالفا للواقع أم موافقا له.

نعم في المعصية الواقعية جهة أخرى موجبة للعقاب أيضاً ، وهي تقويت الغرض الواصل وهذه الجهة غير موجودة في التجرِّي وعليه ففي المعصية سببان للعقاب بحيث لو أمكن انفكاك تفويت الغرض الواصل عن الهتك والطغيان ، لكان يوجب العقاب أيضاً ، ولكن بما انه لا يصدر في الخارج عن المكلف إلا فعل واحد فيعاقب بعقاب واحد ، اشد من عقاب التجرِّي.

٣٤

ولعل هذا هو مراد صاحب الفصول (ره) (١) من ان العاصي يعاقب بعقابين متداخلين ، وعليه فإيراد المحقق الخراساني (٢) عليه من ان المعصية الحقيقية لا توجب إلا عقوبة واحدة وعلى تقدير استحقاقهما لاوجه للتداخل ، غير وجيه.

ثم انه هل يكون استحقاق العقوبة على نفس الفعل ، أو على الإرادة كما اختاره المحقق الخرساني (٣) ، قد استدل للأول بوجوه :

١ ـ انه لو فرضنا رجلين قطع أحدهما بخمرية المائع وشربه فصادف ، والآخر قطع بخمرية المائع آخر فشرب وخالف ، يدور الأمر بين أمور أربعة ، وهو استحقاق كليهما للعقاب ، وعدم استحقاقهما له ، واستحقاق المصادف قطعه ، دون الآخر ، وعكس ذلك ، وحيث ان الثلاثة الأخيرة باطلة فيتعين الأول ، أما بطلان الثاني ، والرابع فواضح ، واما بطلان الثالث فلاستلزامه إناطة استحقاق العقاب ، بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته. وفساده بين.

ولكنه يندفع بأنه لا محذور في الالتزام به فانه للخصم ان يقول بان السبب

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٧٨ التنبيه الرابع من مقدمة الواجب (الرابع : تظهر ثمرة النزاع في مواضع) قوله : «التحقيق ان التجرِّي على المعصية معصية أيضا لكنه إذا صادفها تداخلا وعدا معصية واحدة».

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٢ (ثم لا يذهب عليك ..)

(٣) كفاية الأصول ص ٢٥٩ (الأمر الثاني).

٣٥

لاستحقاق العقاب هو المخالفة العمدية وانتفاؤها ، تارة بانتفاء كلا الجزءين ، وأخرى بانتفاء الثاني ، كما لو ارتكب الحرام عن عذر ، وثالثة بانتفاء الأول كما في المتجري ، ولكن الجزءين حاصلان في المعصية ، وعليه فالمصادفة التي هي غير اختيارية دخيلة في تحقق علة الاستحقاق وهو المخالفة لا في نفسه ، ودخل الأمر غير الاختياري في ذلك لا منع منه ، بل واقع كوجود المكلف وما شاكل ، وإنما لا يعاقب المتجري لعدم تمامية علَّة الاستحقاق.

٢ ـ ما ادعاه جماعة : من الإجماع على ان ظان ضيق الوقت ، يكون عاصيا إذا ترك الصلاة ، ولو انكشف بقاؤه (١).

ويرده مضافا إلى عدم تمامية الإجماع المزبور ، صغرى ، وكبرى.

أما الصغرى فلمخالفة جماعة.

واما الكبرى فلان المسألة عقلية ، مع ان مدرك المجمعين معلوم أو محتمل ، انه يمكن ان يكون للظن موضوعية في هذا الحكم ، بل الظاهر من جهة التعبير بالعاصي هو ذلك.

وبه يظهر ما في الدليل التالي :

٣ ـ وهو دعوى الشيخ (٢) ظاهرا ، في ان سالك الطريق المظنون الضرر أو مقطوعه عاص ، يجب عليه إتمام الصلاة ، ولو بعد انكشاف عدمه.

__________________

(١) حكى الإجماع عن جماعة عدّة من الأعلام منهم الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ١ ص ٨ وأيضا في مطارح الأنظار ص ٩٩.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٨ (الأول : هل القطع حجة سواء صادف الواقع أم لم يصادف).

٣٦

٤ ـ بناء العقلاء.

ويرده انه لعله على الإرادة لا على الفعل.

٥ ـ انه إنما يحكم بالاستحقاق من جهة تجريه وهتك حرمته لمولاه ، وخروجه عن رسم عبوديته كما مر وهذا العنوان إنما ينطبق على الفعل المتجري به لا على مقدماته كالعزم والإرادة : لان العبد بفعل ما ، يراه انه مبغوض للمولى يخرج عن رسم العبودية ويكون ظالما ، والعزم عليه عزم على الظلم ، لا انه بنفسه ظلم ، وهذا هو الوجه في عدم العقاب على الإرادة والعزم.

لا ما ذكره بعض (١) من ان الإرادة غير إرادية وإلا لتسلسل.

ومن المعلوم ان العقاب لا بد وان يكون على الأمر الاختياري ، لما عرفت من ان الإرادة إرادية بنفسها لا بواسطة إرادة أخرى ، فلا يلزم التسلسل ولا العقاب على الأمر غير الاختياري فتدبر.

الفعل المتجرى به قبيح

واما المقام الثاني : فقد استدل لكون الفعل المتجرى به قبيحا بوجهين :

أحدهما : ان التجرِّي يكشف عن سوء سريرة العبد ، وخبث باطنه ، وانه في مقام الطغيان على المولى ، وهذا يوجب قبح الفعل المتجري به.

__________________

(١) وهو ظاهر الكفاية ص ٧٣ في مبحث التعبدي والتوصلي (قلت مع امتناع اعتباره ...).

٣٧

ويرده ان الفعل وان كان يكشف عن سوء السريرة وخبث الباطن ، إلا انه لا يكون المنكشف قبيحا عقلا ، وان كان موجبا لاستحقاق اللوم كسائر الصفات والأخلاق الذميمة ، وعلى فرض تسليم قبحه قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف كما ان حسنه لا يوجب حسن الكاشف.

ثانيهما : ان تعلق القطع بقبح فعل وحرمته ، يوجب تعنون الفعل المقطوع قبحه بعنوان قبيح ويصير قبيحا ، سواء كان ذلك القطع مخالفا للواقع أم موافقا له.

وأنكر ذلك جماعة منهم المحقق الخراساني في الكفاية (١) قال : ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه : بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ولا يغير حسنه أو قبحه بجهة أصلاً انتهى.

وقد ذكر في الاستدلال له بما محصله يرجع إلى أمور أربعة :

الأول : ان العلم المرآتي المتعلق بالفعل ، لا يكون مؤثرا في صفة الفعل ، بان يغيره عما هو عليه ، وان قلنا ان الحسن والقبح يعرضان للفعل بالوجوه والاعتبار ، بداهة انه ليس كل وجه واعتبار يغير صفة الفعل ، والوجدان أقوى شاهد عليه ، وحال العلم في ذلك حال البصر في المبصرات ، فكما ان البصر لا يؤثر في المبصر ، كذلك العلم لا يؤثر في المعلوم.

وبعبارة أخرى : ان لا واقع للحسن والقبح عقلا ، ولا لكون شيء وجها

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٣٨

موجبا لهما إلا في وجدان العقل.

وعدم كون المقطوع بهذا العنوان من العناوين الموجبة لاحدهما بعد وضوح عدم كونه بهذا العنوان ذا مصلحة أو مفسدة في نظر العقل ، واضح.

ويرده ان المدعي لا يدعي كون العلم بنفسه موجبا لذلك بل يقول بتأثير العلم في انطباق عنوان على المعلوم على تقدير المخالفة ، وهو عنوان التجرِّي على المولى والطغيان عليه ، وهتك حرمته.

الثاني : ان العناوين المحسنة والمقبحة ، لا بد وان تكون اختيارية متعلقة للإرادة والاختيار ، وعنوان القطع ليس من هذا القبيل : إذ القاطع لا يقصد الفعل بما هو مقطوع الوجوب أو الحرمة أو الخمرية أو شاكل ، وإنما يقصد العنوان الواقعي ، فهذا العنوان لا يكون مقصودا.

وفيه : ان المراد من القصد في قوله ان القاصد لا يقصد إلا الفعل بعنوانه الأولى ، ان كان هو الداعي كما هو ظاهر كلامه فهو صحيح ، إذ من يشرب الخمر يكون داعيه الإسكار مثلا لا عنوان مقطوع الخمرية إلا انه لا يعتبر في اختيارية الفعل أزيد من الالتفات إليه والقدرة على الفعل والترك ، ألا ترى ان من شرب الخمر لا بقصد انه خمر مسكر بل بقصد انه المائع بارد ، يصدق انه شرب الخمر اختيارا ويستحق بذلك العقاب وان كان المراد منه الالتفات ، فهو يرجع إلى الوجه الثالث.

الثالث : ان عنوان المقطوعية ، يكون غالبا مغفولا عنه ، وغير ملتفت إليه ، فكيف يكون من الجهات المحسنة أو المقبحة عقلا ، ولا يكاد صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية والشيء ما لم يكن ملتفتا إليه لا يكون اختياريا.

٣٩

وفيه : مضافا إلى كونه أخص من المدعى كما هو واضح : ان المراد من الالتفات ، ان كان هو الالتفات التفصيلي فعنوان المقطوعية ، وان كان غير ملتفت إليه إلا انه لا يعتبر الالتفات التفصيلي في الاختيارية بل يكفي الإجمالي منه.

وان كان المراد ما يعم الالتفات الإجمالي الارتكازي ، فهو وان كان دخيلا في الاتصاف بالاختيارية ، إلا ان عنوان المقطوعية ، يكون ملتفتا إليه بالالتفات الإجمالي دائما ، كيف وان الأشياء إنما تكون حاضرة عند الذهن بالقطع ، ويسمى بالعلم الحصولي ، واما حضور القطع فهو يكون بنفسه ، بل لا حقيقة للقطع إلا الحضور عند النفس ، ويعبر عنه بالعلم الحضوري ، فلا يعقل وجود القطع وعدم الالتفات إليه.

الرابع : (١) ان المتجري لا يصدر فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ، كما في التجرِّي بارتكاب ما قطع انه من مصاديق الحرام كما إذا قطع مثلا بان مائعا خمر مع انه لم يكن خمرا ، فان شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه ، وشرب الماء مما لم يقصده ، فلم يصدر منه فعل بالإرادة والاختيار إذ ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصده.

وأجاب عنه بعض المحققين بما حاصله ان البرهان المذكور إنما يتم بالنسبة إلى الخصوصيات ولا يتم في الجامع فانه من شرب المائع باعتقاد انه خمر يعلم انه مصداق للجامع وهو شرب المائع وقادر على تركه فكيف يمكن ان يقال انه

__________________

(١) هذا الوجه من الاستدلال ذكره المحقق الآخوند في كفاية الأصول ص ٢٦٢.

٤٠