زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

العادل على تقدير تحقق الشرط ، كما عن المحقق صاحب الدرر (١).

وفيه : ان دخالة كل قيد مأخوذ في الدليل سواء جعل قيدا للموضوع ، أو الحكم في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء ورجوعه إلى الموضوع ثبوتا لا ينكر ، والاختلاف إنما هو في مقام الإثبات لا الثبوت والواقع واللب مع انه لو لم يكن الموضوع ذات النبأ يمكن ان يقال : ان الموضوع هو النبأ المحقق المردد بين القسمين فيصير المعنى يجب التبين عن النبأ المحقق إذا جاء به الفاسق فيدل على المفهوم.

ودعوى انه على هذا لا بد وان يعبر بما يدل على المضي لا الاستقبال.

مندفعة : بأنه لاوجه لذلك إلا دعوى ان ما لم يوجد لعدم تشخصه ، وعدم وقوعه على وجه ، لاوجه لدعوى انه لا يكون هناك مجال إلا للترديد بخلاف ما وجد ، وهي مندفعة بان ما فرض في المستقبل إذا كان واحدا شخصيا ، فهو بحسب الفرض جزئي لا يعقل وقوعه إلا على وجه واحد ، فهو غير قابل للانقسام إلى أمرين بل امره مردد بين الامرين بلحاظ جهل الشخص.

ويمكن ان يقرر دلالة الآية على المفهوم بجعل الشرط مركبا من جزءين ، النبأ ، وكون الآتي به فاسقا ، وتوضيحه يتوقف على مقدمة ، وهي :

ان المقدم في القضية الشرطية ، قد يكون أمرا واحدا ، وقد يكون مركبا من أمور.

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٤٩.

٢٠١

وقد عرفت ان الأول على قسمين أي قد يكون لتحقق الموضوع ، وقد لا يكون كذلك ، واما الثاني فهو ايضا على قسمين :

الأول : ما إذا كان الحكم بالنسبة إلى كل منها قابلا للإطلاق والتقييد مثل" ان جاء زيد ، وكان على رأسه عمامة ، وفي يده عصا ، فأكرمه".

الثاني : ما إذا كان بالنسبة إلى بعضها كذلك ، وبالنسبة إلى الآخر لبيان تحقق الموضوع ، مثل ان رزقت ولدا في يوم الجمعة فاختنه ، حيث ان رزق الولد ذكر لبيان تحقق الموضوع ، بخلاف يوم الجمعة.

وفي القسم الأول يكون الحكم مقيدا بمجموع القيود وتدل القضية على انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد من القيود ، واما في القسم الثاني فبالنسبة إلى ما سيق لتحقق الموضوع لا مفهوم لها ، وينحصر مفهومها بالقياس إلى القيد الآخر.

وعليه ، فما يتوقف عليه الجزاء في المقام عقلا إنما هو النبأ ولا مفهوم للآية بالقياس إليه ، وما هو قيد للحكم شرعا إنما هو القيد الثاني فينتفي الحكم بانتفائه.

وبذلك كله ظهر ما في كلام المحقق الخراساني (ره) (١) حيث قال انه لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.

واما ما ذكره بقوله : مع انه يمكن ان يقال : ان القضية ولو كانت مسوقة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٩٦.

٢٠٢

لذلك إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر انتهى (١).

فيندفع بان القضية الشرطية تدل على انحصار ثبوت الجزاء في الموضوع المفروض على فرض تحقق الشرط ولا تدل على انحصار الموضوع بما اخذ في لسان الدليل فتدبر فانه دقيق.

الإيراد الثاني : ان صدر الآية الشريفة وان كان ظاهرا في المفهوم إلا انه من جهة التعليل ، لعدم حجية خبر الفاسق بإصابة القوم بالجهالة ، أي عدم العلم بصدق المخبر ، وهو عام شامل لخبر العادل غير المفيد للعلم أيضاً ومقتضاه عدم حجية خبر العادل ، أي كل خبر لا يفيد العلم ، لا بد من الالتزام بعدم المفهوم للقضية ، إذ يقع التعارض ، بين ظهور ، القضية في المفهوم ، وعموم التعليل ، ولا بد من رفع اليد عن أحدهما ، وعليه فبما ان ظهور التعليل في العموم أقوى من ظهور القضية في المفهوم فيقدم ، ولا اقل من التساوي وعدم أظهرية أحدهما عن الآخر فيتساقطان فلا يصح التمسك بالمفهوم.

والفرق بين هذا الإيراد وسابقه ان السابق كان بملاك عدم المقتضى للمفهوم ، وهذا يكون بملاك ثبوت المانع عن انعقاد الظهور في المفهوم.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين :

أحدهما : ان المراد بالجهالة السفاهة ، أي فعل ما يكون شأن أرباب الجهل ، ولا يكون من زي العقلاء. وبعبارة أخرى : الجهالة العملية نظير :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٩٦.

٢٠٣

قوله تعالى (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(١) ، والشاهد على ذلك مضافا إلى ظهور الآية ، انه لو اريد به عدم العلم لزم تخصيص التعليل ، بما دل على حجية الفتوى ، والبينة ، وغير ذلك من الأمارات التي ثبتت حجيتها ، مع ان سياق الآية آب عن التخصيص فلا مناص عن حمله على إرادة السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

وأورد على هذا الجواب الشيخ الأعظم (ره) (٢) بان أصحاب النبي (ص) الذين هم من العقلاء قد عملوا بخبر الوليد حتى نزلت الآية فحمل الجهالة على السفاهة يلزم ، إما الالتزام بعدم كونهم من العقلاء ، أو عدم شمول الآية للمورد ، وهما كما ترى ، فلا محالة يكون المراد بها عدم العلم.

وفيه : ان السفاهة على قسمين :

الأول : فعل ما لا يصدر من العقلاء أصلاً.

الثاني : انه يصدر ولكنه مع الغفلة عن كونه من مصاديق كبرى كلية خاصة ، نظير من يعلم انه لا يقدر على ان يسبح في الشط الذي عرضه مائة ذراع ، ولكنه غفلة عن كون هذا الشط عرضه هذا المقدار يقدم على ذلك.

وبالجملة : صدور عمل السفهاء من العقلاء في غاية الكثرة ، كما يظهر من ملاحظة حال العصاة ، أترى ان العصيان من زي العقلاء بما هم عقلاء كلا.

__________________

(١) الآية ٤٦ من سورة هود.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ١٢٠.

٢٠٤

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من حكومة المفهوم على عموم العلة.

توضيح ذلك : ان العلة بعمومها متعرضة لبيان الردع عن العمل بغير العلم ولا نظر له إلى عقد الوضع ، كما هو الشأن في كل دليل ، والمفهوم الدال على حجية خبر العادل المستلزم لتنزيل خبر العادل منزلة العلم ، وجعله من أفراد العلم ، يوجب ، خروج خبر العادل عن موضوع التعليل ، فيكون حاكما عليه ، ولا يلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل الحاكم يقدم في جميع الصور.

وأورد عليه بإيرادات :

أحدها : ما أفاده المحقق البروجردي (٢) ، وهو انه على فرض ثبوت المفهوم ، يكون حاكما على عموم العلة ، ولكن الكلام في ثبوته ، والمدعى ان عموم العلة مانع عن انعقاد الظهور لهذه القضية الشرطية.

وفيه : ان مانعيته عن انعقاد الظهور لها ، فرع ثبوت التنافي بين المفهوم ، وعموم العلة ، وإلا فلا وجه لمانعيته كما لا يخفى ، ونحن تبعا للمحقق النائيني (ره) ، ندعى انه لا تمانع ولا تدافع بينهما إذ كل منهما متكفل لبيان شيء ، ولا ربط لمفاد أحدهما بالآخر ، إذ المفهوم إنما يثبت الحجية لخبر العادل ، ويجعله علما تعبدا وطريقا تاما ، والعلة متكفلة لبيان الحكم ، وانه لا يجوز اتباع ما ليس بعلم.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١٧٢ / أجود التقريرات ج ٢ ص ١٠٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٨٥ الإيراد الثالث قوله : «وثالثا : سلمنا أن المراد من الجهالة عدم العلم ... الخ».

(٢) راجع نهاية الأصول ص ٤٩٤.

٢٠٥

وبعبارة أخرى : أحدهما متكفل لعقد الوضع ، والآخر لعقد الحمل ، فأي تمانع بينهما ومع عدمه كيف يعقل ان يكون عموم العلة مانعا عن انعقاد الظهور للشرط في المفهوم.

وبالجملة الظاهر انه خلط بين دعوى حكومة المفهوم على العلة وتخصيصها به ، وما ذكره يتم في الثاني دون الأول.

ثانيها : ما أفاده بعض الأعاظم (١) وهو : ان الحكم في الآية الشريفة علل بالإصباح نادما ، وهذه العلة تشترك بين خبر العادل والفاسق حتى مع الدليل على حجية خبر العادل ، فان مخالفة الواقع موجبة للندم مطلقا فلا محالة تكون مانعة عن انعقاد الظهور في المفهوم.

وفيه : ان الظاهر من العلة التعليل بما يصلح رادعا عند العقلاء وهو إنما يكون في الندم على عدم العمل بالوظيفة لا في الندم على مخالفة الواقع مع العمل بالوظيفة.

وبعبارة أخرى : ان الندم تارة يكون مع اللوم والعقوبة ، وأخرى يكون بدون ذلك وما يصلح ان يكون رادعا عند العقلاء هو الأول ، دون الثاني ، وحيث ان الظاهر كون التعليل بما يصلح ان يكون رادعا عند العقلاء فلا محالة يكون الظاهر من الندم هو القسم الأول منه ، ومن المعلوم ان خبر العادل على فرض حجيته لا يوجب العمل به الندم ، فالمفهوم يصلح رافعا لموضوع العلة.

__________________

(١) وهو صريح بعض المعاصرين ، وظاهر شرح المعالم للمازندراني ص ٢٤١ إلا انه لم يرتضه ورد هذا الإيراد ص ٢٤٣ فراجع.

٢٠٦

ثالثها : ان المفهوم متفرع على المنطوق ، ومترتب عليه ترتب الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية ، والمنطوق مترتب على عموم التعليل ترتب المعلول على علته فلا يعقل ، ان يكون المفهوم حاكما على التعليل ، إذ ما يكون متأخرا عن الشيء رتبة لا يعقل ان يكون حاكما عليه.

وفيه : أولا : ان تأخر المفهوم عن المنطوق إنما هو في مقام الكشف والدلالة لا في مقام المدلول.

وبعبارة أخرى : حجية خبر العادل لا تكون متأخرة عن عدم حجية خبر الفاسق ، بل المتأخر هو كشف القضية عن حجية خبر العادل عن كشفها عن عدم حجية خبر الفاسق ، والحاكم إنما هو نفس المفهوم لا كشفه.

وثانيا : ان الحكومة لا تنحصر في ما إذا كان الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له بل هناك قسم آخر من الحكومة ، وهو ما إذا كان دليل الحاكم متضمنا لبيان موضوع مستقل يكون نتيجته التوسعة أو التضييق في دليل المحكوم كما في المقام.

وبما ذكرناه ثانيا يظهر اندفاع ، ما ربما يورد على الحكومة من ان الحكومة إنما هي فيما إذا كان لسان الدليل نفى الموضوع ، وكان الغرض منه نفى الحكم كما في قوله : " لا ربا بين الوالد والولد" (١) ، واما لو كان لسان الدليل نفى الحكم ابتداء فليس هناك حكومة والمقام كذلك إذ المستفاد من المفهوم

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٥ باب ٧ (انه لا يثبت الربا بين الولد والوالد ...) بتصرف في اللفظ.

٢٠٧

عدم وجوب التبين عن خبر العادل ، وعموم العلة يدل على وجوبه ، فيكون المفهوم مخصصا لعموم العلة لا انه يكون حاكما عليه.

وجه الاندفاع ان الموضوع في المقام بنفسه قابل للتعبد به بلا احتياج إلى لحاظ اثر شرعي فالمفهوم تعبد بالموضوع ، وهو العلم ويترتب عليه آثاره العقلية من التنجيز والتعذير ويكون خارجا عن عموم التعليل موضوعا بالتعبد وهو من الحكومة بالمعنى الثاني فتدبر فانه دقيق.

الإيراد الثالث : على الاستدلال بالآية الشريفة ، ان مورد الآية هو الأخبار بارتداد بنى المصطلق ولا إشكال في ان الخبر لا يفيد في الأخبار بارتداد شخص واحد فضلا عن الأخبار بارتداد جماعة.

فلو كان للآية مفهوم لزم تخصيص المورد المستهجن فلا مفهوم لها.

وفيه : أولا ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) وحاصله : ان المستهجن تخصيص المورد ، واما تقييد إطلاق الدليل بالقياس إلى المورد فلا قبح فيه أصلاً ، مثلا : إذا سأل عن وجوب إكرام زيد ، وأجيب بما يكون مختصا بغيره يكون هذا مستهجنا ، واما لو أجيب بكبرى كلية ، لزم تقييدها بالاضافة إلى زيد ، فلا استهجان فيه ، والمقام من قبيل الثاني : فان المورد لا يكون خارجا عن الكبرى المذكورة في الآية ، بل لا بد من تقييدها في خصوص المورد بالتعدد ولا يخرج بذلك عن تحت الكبرى الكلية كي يكون مستهجنا.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٢١ بتصرف.

٢٠٨

وأورد عليه بعض المحققين (١) : بان المراد من التبين ان كان هو العلم ، كان الأمر إرشاديا ، إذ وجوب العمل على طبق العلم عقلي ، فالأمر به لا محالة يكون إرشاديا ، لا شرطيا ، فلا مفهوم له : لعدم استفادة المفهوم من الأمر الإرشادي ، وان كان المراد منه الوثوق لزم خروج المورد عن تحت الحكم المذكور في المنطوق ، إذ لا يكفي الوثوق الحاصل من خبر الفاسق في مثل ذلك فلا يمكن التحفظ على كون وجوب التبين شرطيا مع عدم لزوم تخصيص المورد.

وفيه : أولا : ان وجوب العمل على طبق العلم عقلي والواجب هو تحصيل العلم لا العمل به وتحصيله ليس واجبا عقليا بل هو شرعي.

وثانيا : ان التبين إنما هو بمعنى الظهور والوضوح فالمستفاد من المنطوق هو عدم العمل بخبر الفاسق إلا بعد ظهوره ووضوحه ، وهذا المعنى في نفسه ظاهر في العلم الوجداني ، إلا انه كلما ثبت بدليل حجيته ، دخل في هذا العنوان بعنوان الحكومة كان هو خبر العادل الثابت حجيته بالمفهوم ، أو غيره من الأمارات الثابتة حجيتها بدليل خارجي ـ وبالجملة ـ ليس المراد به خصوص العلم الوجداني ، ولا الوثوق ، بل هو الظهور والوضوح فتدل الآية على إناطة جواز العمل بخبر الفاسق بالظهور وانكشاف الواقع ، وهذا معنى عدم حجيته في نفسه ، كما ان مفهومه جواز العمل بخبر العادل بلا اعتبار ذلك وهو معنى حجيته ، وحينئذٍ كلما ثبت حجيته دخل في عنوان التبين والظهور وإلا فلا.

هذا كله في الجواب الأول عن هذا الإيراد.

__________________

(١) حكاه عن بعض الأعاظم آية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ١٦٦.

٢٠٩

ويمكن ان يجاب عنه بجواب ثان ، وهو ان المورد مورد للمنطوق لا المفهوم ، وهو لم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود لعدم ورود الآية مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون المفهوم من هذه الجهة كسائر الكليات الابتدائية ولا ملازمة بين المنطوق والمفهوم في المورد.

الإيراد الرابع : ما أفاده بعض الأعاظم (١) ، وهو ان المراد ان كان هو خصوص العلم الوجداني ، لا يمكن ان يكون وجوب التبين نفسيا ، أو شرطيا ، أو مقدميا ، لان مقسم هذه الأقسام الوجوب المولوي ، ولزوم اتباع العلم عقلي وأمر الشارع به لا محالة يكون إرشاديا فلا مفهوم للآية ، وان كان المراد به الوثوق ، يكون المستفاد من مجموع منطوق الآية ومفهومها حكما مخالفا للإجماع ، فان العلماء اختلفوا على قولين : أحدهما : حجية قول العادل ، أفاد الوثوق أم لا؟ ، ثانيهما : حجة الخبر الموثق ، والآية على هذا بمفهومها تدل على حجية خبر العادل ، وان لم يفد الوثوق ، وبمنطوقها تدل على حجية الموثق ، وان لم يكن المخبر عادلا وهذا إحداث قول ثالث ، فلا محالة يقع التعارض بين المنطوق والمفهوم.

وفيه : أولا : انه يمكن ان يكون المراد من التبين ، العلم الوجداني ، ويكون الأمر به مولويا ، فان اتباع العلم والعمل على طبقه لا يعرضه الوجوب المولوي ، واما تحصيل العلم فلا بد من كون وجوبه مولويا ، والمقام من قبيل الثاني ، لا الأول ، فمنطوق الآية حينئذ ان العمل بخبر الفاسق مشروط بحصول

__________________

(١) وهو ظاهر كلام المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج ٣ ص ١٠٨.

٢١٠

العلم فمفهومه عدم اشتراط العمل بخبر العادل بذلك.

وثانيا : ان البناء على حجية خبر العادل سيما بعد تقييد الحجية بما إذا لم يكن معرضا عنه عند الأصحاب ، وان لم يفد الوثوق ، وحجية الخبر الموثق وان لم يكن المخبر عادلا ، ليس إحداثا للقول الثالث ، بل الظاهر ان بناء المشهور على ذلك.

حجية الخبر الواحد في الموضوعات

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأول : ان مقتضى عموم مفهوم الآية الكريمة حجية الخبر الواحد في الموضوعات أيضاً إلا ما خرج بالدليل : ويشهد لها مضافا إلى ذلك استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقاة فيما يتعلق بمعاشهم ومعادهم ، وسيرة المتشرعة على اخذ معالم دينهم عن الثقاة ، ولم يرد عن الشارع ردع عن ذلك.

وقد استدل لعدم حجيته فيها بموثق مسعدة عن الإمام الصادق في حديث" والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة" (١) فانه يدل على انحصار الحجة في الموضوعات ، بالعلم الوجداني ، والبينة ، فيكون رادعا عن بناء العقلاء ، والسيرة ، ومقيدا لإطلاق مفهوم الآية ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / الوسائل ج ١٧ ص ٨٩ باب ٤ من ابواب ما يكتسب به من كتاب البيع ح ٢٢٠٥٣ ط. ق ح ٤.

٢١١

فان النسبة بينهما وان كانت عموما من وجه ، إلا ان دلالة الموثق تكون بالعموم ، ودلالة الآية بمفهومها بالإطلاق ، وقد حقق في محله ان ما دلالته بالعموم مقدم على ما يكون دلالته بالإطلاق.

ويرد عليه ، أولا : انه بناء ـ على ما هو الحق المتقدم في محله ، ان مفاد دليل حجية الخبر جعل ما ليس علما وظهورا ، علما ـ يصير خبر الواحد بمقتضى مفهوم الآية من مصاديق الاستبانة بالحكومة ، ويشمله الشق الأول المذكور في الموثق.

فان قيل على هذا يلغو ذكر البينة.

اجبنا عنه بأنها إنما ذكرت للتنبيه على حجيتها ، مع ان ذكرها من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

وثانيا : انه يمكن ان يقال ان الاستبانة هي التفحص والاستكشاف ، والبينة ما يظهر بقيام دليل من الخارج.

وبعبارة أخرى : ان المراد من البينة الحجة وما يكون مثبتا للشيء ، وإطلاق البينة على هذا المعنى إنما هو من جهة كونه معناها اللغوي واستعمالها فيه ليس بعزيز ، بل ورود في القرآن الكريم وكلمات العلماء.

قال الله تعالى : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)(١).

وقال (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ

__________________

(١) الآية ٨٧ من سورة البقرة.

٢١٢

وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١).

وقال تعالى (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ)(٢) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فالأدلة المتقدمة حاكمة ، أو واردة على الموثق فإنها تدل على ان خبر الواحد من مصاديق البينة حقيقة بعد الجعل.

وثالثا : ان عدم حجية الخبر في مورد الموثق مما يكون الحلية مستندة إلى اليد والاستصحاب لا يلازم عدم حجيته فيما لا معارض له.

ورابعا : انه قد تقدم في محله عدم تسليم تقدم ما دلالته بالعموم على ما يكون دلالته بالإطلاق ، بل يعامل معهما معاملة المتعارضين ، وحيث ان احد طرفي التعارض الآية الشريفة فلا وجه للرجوع إلى المرجحات غير الموافقة للكتاب فيقدم الكتاب.

فالأظهر : حجية الخبر الواحد في الموضوعات مطلقا إلا ما خرج بالدليل.

ويعضد ما ذكرناه من النصوص الواردة في الأبواب المتفرقة الدالة على ثبوت الموضوعات الخاصة به.

مثل ما ورد في ثبوت الوقت بأذان الثقة العارف (٣).

__________________

(١) الآية ٨٦ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١٠١ من سورة الأعراف.

(٣) يدل على ذلك عدّة روايات ، راجع وسائل الشيعة ج ٥ ص ٣٧٨ باب ٣ من ابواب الاذان والاقامة (جواز التعويل في دخول الوقت على أذان الثقة).

٢١٣

وما دل على جواز وطء الأمة إذا كان البائع عادلا اخبر باستبرائها (١).

وما دل على ثبوت عزل الوكيل به (٢) إلى غير ذلك من الموارد.

فلا ينبغي التوقف في حجيته في الموضوعات إلا ما خرج بالدليل.

تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة

التنبيه الثاني : ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) قسّموا الأخبار المعتبرة إلى أقسام :

الأول : الصحيح وهو ما كان رواته عدولا زكاهم الثقاة.

الثاني : الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور.

الثالث : الموثق وهو ما كان رواته موثقين وان لم يكونوا إماميين ، ويدخل فيه خبر الفاسق الموثق.

الرابع : الحسن وهو ما كان رواته اماميين ممدوحين من دون ان يصرح بعدالتهم.

أما الخبر الصحيح فهو المتيقن إرادته من المفهوم.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٢٦٠ باب ١١ من ابواب بيع الحيوان (باب سقوط الاستبراء عن الصغيرة واليائسة ومن أخبر الثقة باستبرائها ..) ح ٢٣٦٣٠ وغيره.

(٢) الوسائل ج ١٩ ص ١٦٢ باب ٢ من ابواب الوكالة ح ٢٤٣٦٨ وما بعده.

٢١٤

واما الضعيف المنجبر فهو يثبت حجيته بمنطوق الآية : لان التبين ، هو طلب الوضوح عن صدق الخبر وكذبه ، وعمل الأصحاب من طرق ذلك.

واما الموثق فيمكن ان يستدل لحجيته بوجهين :

الأول : ان ظاهر تعليق هذا الحكم على الفاسق بواسطة مناسبة الحكم والموضوع المغروسة في أذهان أهل العرف ، ان الموضوع هو غير المتحرز عن الكذب ، إذ لا مدخلية لارتكاب سائر المحرمات من شرب الخمر وعدمه في مثل هذا الحكم الذي يكون مناطه صدق المخبر ومطابقة خبره للواقع فمفهوم الآية حجية خبر المتحرز عن الكذب.

ودعوى ان هذه حكمة جعل الحكم على خبر الفاسق فالمتبع هو ظاهر الآية وهو عدم حجية خبر الفاسق مطلقا.

مندفعة بان ما ذكرنا من المناسبة إنما تكون قرينة صارفة للظهور وموجبة لانعقاد الظهور الثانوي فيما ذكرناه.

ودعوى ، ان غير العادل المأمون في نوع اخباره لا وثوق بصدقه في خصوص هذا الخبر.

مندفعة بان الموضوع لعدم الحجية غير المتحرز عن الكذب في نوع إخباره ، وموضوع الحجية المتحرز عنه في نوع إخباره. وبعبارة أخرى : الموضوع هو خبر الفاسق ، وغير الفاسق ، مع قطع النظر عن هذا الخبر بالخصوص.

الثاني : الاستدلال بمنطوق الآية الشريفة ، إذ التبين الذي هو شرط للعمل بخبر الفاسق الذي هو طلب الوضوح والظهور اعم من تبين الرواية وتبين حال

٢١٥

الراوي ، وإحراز وثاقته نوع من التبين ، فيكون العمل بالموثق عملا بالمبين الواضح ، ويؤكده بناء العقلاء هذا بناء على إطلاق الفاسق على غير الامامي العامل بوظائف ما تدين به ، وإلا كما عن الشيخ البهائي في زبدة الأصول حيث التزم بإطلاق العادل عليه فالأمر في غاية الوضوح.

واما الحسن فان كان المدح المذكور للراوي موجبا للاطمينان والوثوق بكونه متحرزا عن الكذب ، فحكمه حكم الموثق طابق النعل بالنعل وإلا فلا تدل الآية الشريفة لاب مفهومها ، ولا بمنطوقها على حجيته.

التنبيه الثالث

وقد أورد على حجية خبر الواحد بايرادين :

أحدهما : انه لو كان حجة ، كان خبر السيد بالاجماع على عدم حجية خبر الواحد حجة ، فيلزم عدم حجية غيره.

وفيه أولا : انه قد عرفت اختصاص حجية الخبر الواحد بالاخبار عن حس ، ولا تشمل الأخبار عن الحدس كما في نقل الإجماع.

وثانيا : انه معارض بخبر الشيخ المدعي للاجماع (١) على حجية الخبر الواحد.

وثالثا : انه لا يمكن شمول الدليل لخبر السيد لأنه يلزم ان لا يكون حجة

__________________

(١) كما في العدّة ج ١ ص ١٢٦.

٢١٦

لكونه خبرا ، فيلزم من حجية خبر السيد عدم حجيته ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وبهذا البيان يظهر اندفاع ما قيل في تقريب الاشكال انه من حجية المفهوم ، في الآية الشريفة ، ودلالتها على حجية الخبر الواحد بما انه يلزم عدمها ، فتكون محالا : إذ لازم حجية الخبر الواحد حجية خبر السيد ، ولازمه عدم حجية الخبر الواحد ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، فحجية الخبر الواحد محال.

وجه الاندفاع ان المحال لا يترتب على حجية الخبر الواحد ، بل إنما يترتب على شمول الدليل لخبر السيد (ره) وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها ، فيقتصر في رفع اليد عن الدليل بمقدار يترتب عليه المحال ، وهو شمول دليل الحجية واطلاقه لخبر السيد ، وهو محال لا اصل حجية الخبر.

وأورد على هذا الوجه (١) بان اخبار السيد بعدم حجية الخبر الواحد لا يشمل نفسه ، إذ خبر السيد حاك والمحكي به عدم الحجية ، والمحكي يكون في مرتبة سابقة على الحاكى ، فلو شمل المحكى لخبر السيد لزم تأخره عنه تأخر الحكم عن موضوعه ، فيلزم تأخر ما هو متقدم وهو محال.

وفيه : ان المحكى بخبر السيد عدم الحجية إنشاء وهو غير متوقف على وجود الموضوع خارجا فضلا عن تأخره عنه ، وهو المتقدم عليه ، وما يترتب على خبره ، ويكون متاخرا عنه هو عدم الحجية الفعلية.

واجيب عن هذا الاشكال بوجه آخر وهو انه كما لا يشمل عدم الحجية

__________________

(١) كما حكاه آية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ١٦٧.

٢١٧

المحكى لخبر السيد له من جهة لزوم تأخر ما هو متقدم كذلك لا يشمله الحجية لانهما نقيضان والنقيضان في مرتبة واحدة ، فإذا كان عدم الحجية في مرتبة سابقة على خبر السيد ، تكون الحجية أيضاً كذلك لتساويهما رتبة.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم من ان المتقدم عدم الحجية الانشائية ، والمتأخر عدم الحجية الفعلية فكذلك في الحجية.

ما تقدم في مبحث الضد من انه في التقدم والتاخر الزمانى ، يصح ان يقال ان المتأخر ، عن احد المتقارنين زمانا متاخر عن الآخر أيضاً ، وهذا بخلاف التقدم والتاخر الرتبى إذ تأخر شيء رتبة عن احد المتساويين في الرتبة من جهة كونه معلولا له مثلا ، لا يلزم تأخر الآخر عنه بعد فرض عدم وجود مناط التاخر فيه ، وتمام الكلام في محله.

ورابعا : انه من شمول ادلة الحجية لخبر السيد ، يلزم انحصار المطلق في فرد واحد ، وهو قبيح ، بل المقام أسوأ حالا من ذلك فان خبر السيد ليس عن ثبوت شيء في الواقع ، بل إنما هو عن عدم حجية الخبر ، ففي الحقيقة يلزم بيان عدم الحجية بلسان الحجية وهو كما ترى.

ودعوى انه لا يلزم ذلك فان الأخبار التي تكون قبل خبر السيد أيضاً مشمولة لادلة الحجية.

مندفعة بالاجماع على عدم الفرق بين ما هو قبل خبر السيد وما يكون بعده ، مع ان السيد يخبر عن عدم الحجية من الأول فلا يمكن التفكيك.

وبهذا يظهر ان دعوى إمكان التفكيك ظاهرا ، وان لم يكن واقعا.

٢١٨

مندفعة بان السيد يخبر عن الحكم الواقعي لا الظاهري.

فالمتحصّل ان الاظهر عدم شمول الأدلة لخبر السيد خاصة.

شمول ادلة الحجية للأخبار مع الواسطة

الإيراد الثاني : الذي أورد على اصل حجية الخبر الواحد ، ما يكون مختصا بالاخبار الحاكية مع الواسطة ، كالاحاديث التي بايدينا.

وتقريبه : إنما يكون من وجوه :

الأول : ان ادلة حجية الخبر منصرفة إلى الأخبار الحاكية عن قول المعصوم (ع) بلا واسطة.

واجيب عنه بجوابين :

احدهما ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) ، وتبعه المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان كل شخص من الوسائط إنما ينقل خبرا بلا واسطة مثلا إذا قال الكليني حدثني علي بن ابراهيم ، قال حدثني أبي ، قال حدثني حماد بن عيسى ، قال سمعت العسكري (ع) يقول ، فهناك اخبار عديدة حسب تعدد الوسائط وكل منهم ينقل خبرا عن من يسمع منه بلا واسطة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٢٢.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٠٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٨٥.

٢١٩

وفيه : ان المستشكل إنما يدعى ان الأدلة منصرفة عن الأخبار مع الواسطة عن الإمام. وبعبارة أخرى : يدعى انصرافها إلى الخبر الحاكي عن قول الإمام بلا واسطة ، ولا يدعى انصرافها إلى الأخبار بلا واسطة في مطلق النبأ.

ثانيهما : ان كل واحد من الوسائط بما انه مجاز عن شيخه ، فخبره بمنزلة خبره إلى ان ينتهى إلى الشخص الذي ينقل عن الإمام فيكون خبر كل منهم داخلا في الخبر المروى بلا واسطة عن الإمام.

وفيه : ان الاجازة إنما تفيد لنقل الخبر مع إلغاء الواسطة ، ولا توجب كونه خبرا بلا واسطة.

وبعبارة أخرى : كون الخبر بلا واسطة اما ان يكون حقيقة ، أو يكون تعبدا ، وشيء منهما لا يكون متحققا ، اما الأول فواضح ، واما الثاني : فلانه لا دليل على ان الاجازة موجبة لذلك ، فالحق في الجواب منع الانصراف.

التقريب الثاني ان موضوع كل حكم متقدم رتبة على حكمه ، ولذا قالوا ان نسبته إليه نسبة العلة إلى المعلول ، وعليه فإذا صار الحكم علة لثبوت فرد من أفراد ذلك الموضوع ، لا يعقل شمول ذلك الحكم له ، وإلا لزم تقدم ما هو متاخر ، ففي المقام الخبر المحرز وجدانا هو خبر الكليني في المثال ، واما خبر على بن ابراهيم فليس بوجداني وإنما يثبت بنفس الحكم بوجوب التصديق فلا يعقل شمول هذا الحكم له.

٢٢٠