زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

واما الثاني : فبالنسبة إلى المولى الحقيقي لا يحتمل الخطأ والغفلة حتى يحتاج إلى الإثبات ، واما في الموالى العرفية فاصالة عدم الخطأ تجرى لبناء العقلاء عليها.

واما الثالث : فحجية الظهورات أي كاشفيتها عن المراد الجدى ، إنما يكون ببناء العقلاء.

توضيح ذلك : ان في كل كلام صادر من متكلم اصلين مترتبين.

أحدهما : أصالة الظهور وبها يعين ان الظاهر هو المراد الاستعمالى عند الشك واحتمال ارادة تفهيم غيره.

ثانيهما : أصالة صدور الظاهر بداعي الجد : إذ بناء أهل المحاورات والعقلاء على حمل الكلام على انه إنما صدر بداع الجد لابداع آخر ، وان مطابق الظهور مراد جدى وبناء على هذين الاصلين العقلاء يحكمون ، بان مراد المتكلم مطابق لما هو ظاهر كلامه ، والشارع إلا قدس لم يخط عن هذه الطريقية المألوفة.

واستدل لعدم حجية الظهورات (١) بان الأدلة الناهية عن العمل بالظن تشمل بعمومها للظواهر ، وهي تكفى في الردع عن بناء العقلاء.

وفيه : ان الظواهر ان كانت حجة تخصص تلك الأدلة بدليل حجيتها ، وإلا فظهور هذه الأدلة كغيره من الظهورات ليس بحجة فلا وجه للتمسك به.

__________________

(١) ذكر هذا الوجه غير واحد من الاعلام كالميرزا النائيني وأجاب عنه ، راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ١١٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢٠١ ـ ٢٠٢. (أليست الآيات الناهية عن العمل بالظن ..).

١٦١

ثم انه وقع الخلاف في موارد :

المورد الأول : هل تختص حجية الظهورات بما إذا ظن بالوفاق؟.

أم يعم ما إذا لم يظن به ، بل وان ظن بالخلاف؟.

وجوه : اقواها الاخير : والدليل عليه هو الدليل على حجية الظهور وهو بناء العقلاء : والشاهد عليه صحة مؤاخذة العبد إذا خالف امر مولاه معتذرا بالظن بالخلاف وعدم قبول عذره.

ويشهد لعدم اعتبار الظن بالوفاق ، مضافا إلى ذلك روايات باب التعارض (١) ، إذ لا يعقل حصول الظن بالوفاق في المتعارضين ، بل اما ان يحصل الظن بالوفاق في أحدهما ، أولا يحصل في شيء منهما ، فان كان الظن بالوفاق معتبرا ، لزم عدم حجيتهما في الصورة الثانية ، وحجية خصوص ما حصل الظن بالوفاق فيه في الأولى وعلى كل تقدير لا تصل النوبة إلى التعارض ، فمن تلك النصوص يستكشف عدم اعتبار الظن بالوفاق.

واستدل لاعتبار الظن بالوفاق بما يشاهد من ان العقلاء لا يكتفون في الامور المهمة كما في الاعراض والانفس والاموال بمجرد الظهور ما لم يحصل الظن بالوفاق.

وفيه : ان هذا يتم في غير المؤاخذة والاحتجاج من الآثار التي يكون المطلوب فيها تحصيل الواقع ، ولا يتم فيهما كما يظهر لمن لاحظ ديدن العقلاء في

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٠٦ باب وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة وكيفية العمل بها.

١٦٢

المعاملة مع الظواهر بالنسبة إلى الموالى والعبيد العرفية ، وتراهم لا يقبلون عذر العبد في مخالفة امر مولاه ، بأنه ما حصل الظن مما عينه طريقا لامتثال تكاليفه ، أو حصل الظن بالخلاف فتدبر.

عدم اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه

المورد الثاني : هل تختص حجية الظهور بمن قصد افهامه؟

كما اختاره المحقق القمي (ره) (١) ، وعليه بنى انسداد باب العلم والعلمي ،

أم يعم غيره؟ وجهان :

وقد استدل للاول بوجوه :

الأول : ان أصالة الظهور بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان والسامع في مقام فهم المراد مع عدم نصب القرينة على خلاف الظاهر ، وعدم تعمد المتكلم في عدم اتيانه بالقرينة ، يتوقف على أصالة عدم غفلة المتكلم عن نصب القرينة ، وعدم غفلة السامع عن الالتفات إليها ، وهي الاصل في حجية الظهور.

وما لم يكن المخاطب مقصودا بالافهام ، لا تجرى في حقه ، أصالة عدم

__________________

(١) أشار إلى ذلك (ره) في غير مورد من القوانين أوضحها ما في ج ١ ص ٢٧٩ عند قوله : «نعم الظواهر في نفسها مع قطع النّظر عن احتمال المعارض لها ظهور في مدلولاتها وهو لا يكفي لنا ، نعم إنما هو يكفي لأصحاب الأئمة عليهم‌السلام والحاضرين مجلس الخطاب ومن قاربهم وشابههم».

١٦٣

الغفلة لاحتمال وجود القرائن الحالية أو المقالية ، اعتمد عليها المتكلم في مقام الافادة.

وفيه : ان الكلام الملقى إلى شخص ان كان متضمنا لبيان حكم شخصي متعلق به خاصة كان لما ذكر وجه ، واما إذا كان الكلام الملقى متضمنا لبيان حكم كلى متعلق بمن قصد افهامه ، وغيره ، فقيام المتكلم مقام بيان هذا الحكم يقتضي ايصال التكليف العمومي بشخص هذا الكلام ، فلا يصح الاعتماد على ما يختص بالمخاطب من القرينة ، أضف إليه ان احتمال وجود القرينة لا يعتنى به ، بعد فرض كون الراوى عادلا غير خائن ، لان الغائها خيانة.

الثاني : ان بناء الشارع إنما يكون على الاتكال على القرائن المنفصلة كما هو ظاهر لمن راجع ادلة الأحكام ، ولا دافع لهذا الاحتمال بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه.

وفيه : ان احتمال وجود القرينة المنفصلة ، وان كان مانعا عن التمسك باصالة الظهور ، إلا انه لا بد وان يفحص حتى يطمئن بعدمها لا انه يبنى على عدم حجية الظهور رأسا.

الثالث : ان الروايات حيث قطِّعت على الأبواب ومن المحتمل ان يكون قرينة مع القطعة التي قطّعوها من ذيل الرواية فلا تجرى أصالة عدم القرينة.

وفيه : ان المقطِّع ان كان عامياً كان لهذا الكلام مجال.

واما لو كان المقطِّع مثل الكليني (ره) الذي هو ثقة وعارف باسلوب الكلام فنقله لقطعة من الرواية دليل على عدم وجود قرينة صارفة لظهورها صدرا

١٦٤

وذيلا.

وبعبارة أخرى : كما نقول بحجية الخبر المنقول بالمعنى ، إذا كان الناقل غير عامى ، مع انه يحتمل وجود القرينة الصارفة ، كذلك نقول في الخبر المقطَّع.

مع انه لو سلم هذه الكبرى الكلية أي ان الظهورات حجة على المقصودين بالافهام ، دون غيرهم ، نقول في الروايات ، ان المخاطب بالخطاب الصادر عن المعصوم (ع) مقصود بالافهام فالخطاب حجة عليه ، وهو يروى الخبر لكل من سمعه أو رآه في الكتاب ، فالكل مقصودون بالافهام بالنسبة إليه فهو حجة على الجميع.

حجية ظواهر الكتاب

المورد الثالث : هل تختص حجية الظواهر ، بغير ظواهر الكتاب ، أم تعمها وجهان ، قد استدل للاول بوجوه ، وهي على قسمين :

الأول : ما استدل به على منع اصل الظهور.

الثاني : ما استدل به على عدم حجيته.

اما القسم الأول : فهي أمور :

١٦٥

احدها : ما دل (١) على اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، وهو النبي (ص) وأوصياؤه ، وفي بعضها الردع لابي حنيفة وقتادة ويحك ما ورثك الله من كتابه حرفا (٢) ، وهذا هو الموافق للاعتبار إذ القرآن مشتمل على معان غامضة ومطالب عالية ، ويشتمل على علم ما كان وما يكون ، نزل في مقام الاعجاز فلا يصل إلى معانيه فكر البشر غير الراسخين في العلم.

وفيه : ان تلك النصوص إنما تدل على ان للقرآن بطونا لا يصل إليها فكر البشر غير من خوطب به ، ففي كل مورد يحتمل ذلك ، لا بد من الرجوع إليهم لدفع هذا الاحتمال.

وبعبارة أخرى : المنهي عنه هو الاستقلال في الفتوى من دون المراجعة إليهم وعلو مطالبه ، وغموض معانيه ، لا يكون موجبا لكون بيانه مخلا بالمقصود ، فمع فرض ذلك كله فهو متناسب لاذواق أهل العصور ولو لا ذلك لما كان لاثبات اعجازه سبيل.

ثانيها : ان القرآن نزل على سبيل الرموز كما في فواتح السور.

وفيه انه خلاف كونه معجزة خالدة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٧ وفي الطبعة القديمة ج ١٨ باب ١٣ من ابواب صفات القاضى (باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة (ع)) ص ١٧٦.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٤٧ ح ٣٣١٧٧ ، وفيه بدل ويحك : ويلك / وكذلك في علل الشرائع ج ١ ص ٨٩ ح ٥.

١٦٦

ثالثها : العلم الإجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على ارادة خلاف الظاهر منه كثيرا من المخصصات والمقيدات وهو يمنع عن جريان أصالة الظهور كما يمنع عن جريان الأصول العملية.

وفيه : أولا : ان المعلوم بالإجمال معنون بعنوان خاص وهو الموجود في الكتب التي بايدينا فبعد الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ينحل العلم الإجمالي حقيقة ، أو انه إذا تفحص ولم يجد القرينة على ارادة خلاف الظاهر لهذا الظهور يخرج ذلك عن طرف العلم.

وثانيا : لو سلم عدم تعنون المعلوم بالإجمال ، بما ذكر واحتمل وجود القرينة في غير تلك الكتب ، لو ظفرنا بعد الفحص بجملة من القرائن بمقدار المعلوم بالإجمال ، لا محالة ينحل العلم الإجمالي حكما ولا مانع من إجراء أصالة الظهور في غير تلك الموارد.

رابعها : وقوع التحريف واحتمال ان يكون فيما حرفوه قرينة صارفة لهذا الظهور.

وفيه : أولا : اثبتنا في محله بالادلة القطعية عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأجبنا عن الروايات الموهمة لذلك.

وثانيا : ان النصوص الآمرة بالرجوع إلى القرآن ، وعرض الأخبار إليه ناظرة إلى القرآن ، المدعى تحريفه ، لان تلك النصوص عمدتها صادرة عن الصادقين عليهما‌السلام ، والتحريف على فرض وقوعه إنما يكون في زمان الخلفاء ، فهذه الأخبار تدل على حجية ظهورات الكتاب الذي بايدينا ، فيستكشف منها ، انه لم يقع التحريف فيه أو على فرض وقوعه ، فإنما هو في الآيات الواردة في فضائل

١٦٧

أهل البيت لا آيات الأحكام ، أو انه على فرض وقوعها فيها ليس فيما حرفوه قرينة صارفة لظواهر تلك الآيات.

واما القسم الثاني : فهو أمران :

الأول : ما دل من النصوص الكثيرة (١) على النهي عن تفسير القرآن بالرأى ، بدعوى ان حمل الكلام على ظاهره تفسير بالرأى.

وفيه : أولا : ان حمل الكلام على ظاهره ليس من التفسير بالرأى.

وثانيا : انه ليس من التفسير لأنه عبارة عن الايضاح والبيان والكشف ، وحمل اللفظ على معناه الظاهر الذي ليس عليه قناع ليس منه.

وثالثا : انه لو سلم شمول تلك النصوص لحمل اللفظ على ظاهره ، فهي معارضة بالنصوص المتواترة الدالة على الرجوع إلى الكتاب ، وطرح ما خالفه ، واستشهاده (ع) بظاهره (٢) ، فلا بد من الجمع بينهما اما بحمل الأولى على الاستقلال في الاستفادة ، واما على تأويله بما يطابق القياس والاستحسانات.

الثاني : ما دل على النهي عن اتباع المتشابه (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٧ وفي الطبعة القديمة ج ١٨ باب ١٣ من ابواب صفات القاضى (باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة (ع)) ص ١٧٦.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١١٣ ح ٣٣٣٥٤ / وفي حديث دعائم الإسلام ج ٢ ص ٢٨٣ ح ١٠٦٤ ارجع (ع) إلى ظاهر القرآن في حديث ملاعنة المسلم امرأته الذمية ..

(٣) كما في وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١١٥ ح ٣٣٣٥٥.

١٦٨

بدعوى : ان المتشابه مقابل للصريح وهو ما يحتمل فيه وجهان أو وجوه ، فيشمل الظاهر.

وفيه ان المتشابه هو ما تساوى طرفاه فلا يحتمل صدقه على الظاهر.

مع انه لو سلم شموله للظاهر ، لا يجوز الاستدلال بهذه الآية الناهية عن اتباع المتشابه على عدم حجية ظواهر الكتاب ، وإلا يلزم من وجوده عدمه ، إذ لفظ المتشابه من جملة الظواهر القرآنية ، فيكون داخلا تحت المتشابه ، فلا يجوز الاستدلال به وما يكون كذلك لا يصح فلا بد وان يقال انها مختصة بحمل اللفظ المجمل على احد معنييه.

فتحصل : ان الاظهر حجية ظواهر الكتاب ، ويشهد له : مضافا إلى ذلك كله : النصوص الآمرة بالرجوع إلى الكتاب التي تقدمت الإشارة إليها.

لو شك في المراد

ثم انه لو لم يحرز المراد :

فتارة يكون من جهة عدم احراز الظهور.

واخرى يكون من جهة احتمال عدم تطابق المراد الجدي للمراد الاستعمالي.

فهل هناك اصل عقلائي من قبيل أصالة الظهور ، أو أصالة عدم القرينة ، أو أصالة الحقيقة يعين المراد أم لا؟ أم هناك تفصيل بين الموارد؟.

١٦٩

وقبل الشروع في بيان هذه المسائل لا بد من تقديم مقدمات :

الأولى : ان الاحتياج إلى هذه الأصول إنما يكون لان يحتج بها على المولى إذا ادعى المولى ارادة خلاف الظاهر.

الثانية : انه لا بد وان تكون الحجة مناسبة لمورد المحاجة.

الثالثة : ان الظهور المنعقد للكلام حجة ما لم يثبت حجة أقوى على خلافه ولم تصل.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم ان عدم احراز مراد المولى ربما يكون لأجل عدم احراز الظهور ، وربما يكون منشؤه احتمال عدم كون الظاهر مرادا.

اما الأول فمنشؤه ، اما ان يكون عدم احراز الموضوع له ، واما ان يكون احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة.

واما ان يكون احتمال ترك نصبها عمدا لمصلحة أو غيرها.

واما ان يكون احتمال اتكاله على القرينة المنفصلة.

فإن كان الشك في المراد بعد انعقاد الظهور ، فالمرجع هو أصالة الظهور التي هي بنفسها اصل وجودي ثابت ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع في الفروض الثلاثة ، ولا يكون مجال لاجراء أصالة عدم القرينة.

اما في الاولين فللعلم بعدم نصبها مع ان ذلك الاصل لا يناسب مورد المحاجة لو ادعى المولى ارادة خلاف الظاهر.

واما في الثالث أي احتمال القرينة المنفصلة ، فلان الظهور المنعقد للكلام

١٧٠

حجة ما لم يثبت حجة أقوى على خلافها كما تقدم ، والحجة متقومة بالوصول ، فالقرينة غير الواصلة بوجودها الواقعي لا يترتب عليها الأثر فلا مجال لاجراء أصالة عدم القرينة ، فبمجرد عدم الوصول بعد الفحص يتبع أصالة الظهور من دون ان يجري أصالة عدم القرينة.

واما لو شك في المراد لأجل عدم احراز الظهور.

فان كان منشؤه عدم احراز الموضوع له لا مجال لاجراء أصالة الظهور.

ولا أصالة عدم القرينة كما لا يخفى ، بل يرجع إلى الأصول العملية.

وان كان منشأه احتمال قرينية الموجود ، فعلى القول بكون أصالة الحقيقة بنفسها أصلاً عقلائيا ، فتجرى هي ، ويحرز بها الظهور.

وعلى القول بعدم كونها كذلك كما اختاره الشيخ الأعظم (ره) (١) فلا مجال لاجرائها في المقام ولا سبيل إلى احراز الظهور ، والمراد.

وان كان منشؤه احتمال وجود القرينة وقد غفل عنها السامع ، فلا ريب في عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

إلا ان هنا بالخصوص نزاعا بين العلمين :

حيث ان المحقق الخراساني (٢) يدعى انه يبنى على أصالة الظهور ابتداء.

والشيخ (ره) ذهب إلى انه يبني على ان المراد هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه

__________________

(١) فرائد لاصول ج ١ ص ٥٤ (الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية ..).

(٢) كفاية الأصول ص ٢٨١ (فصل).

١٧١

لو لا القرينة لاصالة عدم القرينة (١).

والظاهر : لزوم إجراء أصالة عدم القرينة ، لأنه ما لم يجر هذا الاصل لا يكون الظهور محرزا كي يجري أصالة الظهور ، على انه قد عرفت لزوم مطابقة الدليل لمورد المحاجة ، فإذا ادعى المولى ، ارادة خلاف الظاهر مع نصب القرينة فالذي يفيد في مقام احتجاج العبد ، على المولى هو أصالة عدم القرينة لا أصالة الظهور ، وبعد ذلك ، ان لم يحتمل ارادة خلاف الظاهر ، وعلم انه على فرض عدم القرينة المراد مطابق للظهور ، لا مجال لاجراء أصالة الظهور ، لعدم الاحتياج إليها ، وإلا فلا بد من اجرائها أيضاً ، والشيخ حيث فرض العلم بان المراد مطابق للظهور على فرض القطع بعدم القرينة ، فما أفاده من إجراء أصالة عدم القرينة خاصة متين غايته.

ولا يرد عليه ما اورده المحقق الخراساني إذ الظاهر ان مورد كلام الشيخ هو خصوص هذا المورد كما يظهر لمن راجعه.

وان كان منشؤه احتمال وجود القرينة المتصلة ولم يصل إلى المكلف للتقطيع ، فعن المحقق القمي (ره) (٢) ، انه مع هذا الاحتمال لا تجرى أصالة عدم القرينة ومعه يكون الكلام مجملا ، ولكن قد تقدم ان هذه الكبرى الكلية في

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٥٤ كما مرّ.

(٢) نسبه اليه آية الله الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ١٢٩ ، ويمكن استظهار ذلك من قوانين الأصول ج ١ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥ عند قوله : «فنحن في الاخبار التي وصلت الينا في وجوه من الاختلال ... الخ».

١٧٢

نفسها تامة إلا انها غير منطبقة على الروايات المقطعة ، بعد كون المقطع لها من قبيل الكليني واشباهه.

حجية قول اللغوي

المبحث الثاني : في حجية قول اللغوى وعدمها ، وقد نسب إلى المشهور حجيته ، واستدل لها بوجوه :

الأول : الإجماع على العمل بقول اللغوى ، إذ العلماء خلفا عن سلف يراجعون كتب اللغة ويعملون بها.

وفيه : أولا : ان تحصيل الإجماع في هذه المسألة التي لم يتعرض لها الأكثر في غاية الاشكال.

وثانيا : انه لاعتمادهم على الوجوه الأخر ، ولا اقل من احتمال ذلك لا يكون اجماعا تعبديا.

الثاني : ان اللغوى من أهل خبرة هذا المقام ، وقد بنى العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كل فن في ذلك الفن من دون اعتبار التعدد والعدالة.

وفيه : ان المخبر به ان كان امرا محسوسا يعتبر في قبول الخبر كون المخبر ثقة ، ومتعددا ، على المشهور ، وان كان من الامور الحدسية فان كان ذلك في باب الترافع ، والتنازع يعتبر فيه التعدد والعدالة ، وإلا فان كان المخبر به من أهل

١٧٣

الخبرة لا يعتبر فيه ذلك ، نعم يعتبر كون خبره مفيدا لمرتبة من الوثوق والاطمينان ، لتسكن معه النفس وإلا ففي حجيته اشكال ، والرجوع إلى أهل اللغة لتعيين موارد الاستعمال ، وان صح إلا انه من المحسوسات فيعتبر في قبول خبره ما يعتبر في قبول خبر غيره بلا خصوصية فيه ، والرجوع إليهم لتعيين المعنى وتمييزه عن المعنى المجازى ، لا يصح لعدم كونهم من أهل خبرة ذلك.

الثالث : انه على فرض عدم حجيته يلزم انسداد باب العلم في خصوص اللغات إذ غالب معاني الالفاظ مجهولة لغير أهل اللسان اما ، أصلاً ، أو سعة وضيقا ، ووجه ذلك بعضهم بأنه يلزم من إجراء البراءة في تلك الموارد المخالفة القطعية فيلزم التنزل إلى حجية الظن الحاصل من قول اللغوى.

وفيه : أولا ان مقدمات الانسداد لا تنحصر فيما ذكر بل يتوقف الانسداد الموجب للتنزل إلى العمل بالظن ، على ان يكون الاحتياط غير واجب ، أو غير جائز ، ولا يكون الاحتياط مع انسداد باب العلم باللغات غير جائز أو غير واجب.

وثانيا : انه لا يلزم من هذا الانسداد ، انسداد باب العلم بالاحكام ، إذ قل لفظ لا يكون معناه ، مبينا ، فهل بسبب عدم معلومية معاني جملة قليلة من الالفاظ يلزم انسداد باب العلم.

وثالثا : انه لو سلم تلازم انسداد باب العلم باللغات مع انسداد باب العلم بالاحكام ، كان اللازم هو التنزل إلى كل ما يفيد الظن بالحكم كان ذلك قول اللغوى أو غيره كما لا يخفى.

الرابع : ان ادلة حجية خبر الواحد تدل على حجية قول اللغوى.

١٧٤

وفيه : ان اللغوى ان اخبر عن موارد الاستعمالات فغاية ما يثبت من تلك الأدلة ، بعد اجتماع الشرائط هو ثبوت الاستعمال ، وهو اعم من الحقيقة ، وان اخبر عن كون لفظ موضوعا لمعنى خاص ، فالمخبر عنه امر حدسى ، ولا دليل على حجية خبر الواحد في الامور الحدسية.

الخامس : انه يرجع إلى اللغة ويعين بها مورد الاستعمال فيرجع إلى أصالة عدم القرينة ويحرز بها ان المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.

وفيه : مضافا إلى عدم تمامية ذلك ، فيما ذكر للاستعمال موارد متعددة ان أصالة عدم القرينة حجة فيما أحرز المعنى وشك في المراد ، لا فيما إذا أحرز المراد ، وشك في المعنى ، كما في المقام.

فتحصل ان الاظهر عدم حجية قول اللغوى ما لم يحصل منه الاطمينان.

مدرك حجية الإجماع

المبحث الثالث : في حجية الإجماع المنقول ، وحيث انه لا دليل على حجيته سوى توهم اندراجه في الخبر الواحد فيعمه ادلة حجيته كان ينبغى تأخير البحث عنها عن حجية خبر الواحد ، لكن الشيخ الأعظم قدم البحث عنها وتبعه سائر المحققين ونحن أيضاً نقتفى اثره.

وقبل الدخول في البحث عنها لا بد من التعرض لمدرك حجية الإجماع المحصل.

١٧٥

وملخص القول فيه ، انه لا ريب في ان مدرك حجية الإجماع ليس هو الإجماع ولا بد وان يكون غيره كما هو واضح ، وليس هو الكتاب كما لا يخفى ، ولا السنة لعدم ورود نص بذلك ، ولا العقل لعدم تصور حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي يكون مخفيا علينا ، فعلى هذا الإجماع بما هو اجماع ليس بحجه وإنما ينحصر وجه حجيته باستكشاف رأى المعصوم والقطع به فلا فائدة في اطالة الكلام في بيان المراد من لفظ الإجماع ، فالصفح عنه اولى ، بل لا بد من البحث في مستند القطع ، وقد ذكروا فيه وجوها.

منها : الملازمة العقلية ، وتقريبها من وجهين :

الأول : قاعدة اللطف وقد اعتمد عليها شيخ الطائفة (ع) (١) وتبعه جماعة وتقريبها ، ان الواجب على الإمام الذي هو الحجة على الانام تبليغ الأحكام الشرعية الموجبة لتكميل النفوس ، وتوصل العباد إلى مناهج الصلاح ، وهذه هي وظيفته المحولة إليه من قبل الله سبحانه الذي يجب عليه تكميل نفوس البشر ، وارشادهم إلى مناهج الصلاح ، بانزال الكتب وبعث الرسل.

وعلى ذلك فإذا اتفقت الامة على حكم فان كان موافقا لرأيه (ع) فهو المطلوب ، وإلا فيجب عليه القاء الخلاف بينهم فمن عدم الخلاف يستكشف موافقة رأيه لما اجمع الاصحاب عليه.

وفيه : ان الواجب على الإمام (ع) إنما هو تبليغ الأحكام الشرعية على

__________________

(١) راجع العدّة لشيخ الطائفة ج ٢ ص ٦٤٢ ، عد قوله : «فإن عدمنا الطريقين معاً ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول .. الخ».

١٧٦

النحو المتعارف لا ايصاله إلى العباد ولو بنحو غير متعارف ، وهم (ع) قد بينوا الأحكام جميعها وإنما لم يصل الينا مثلا بواسطة اخفاء الظالمين وخوف الاصحاب المعاصرين لهم عن بيانها تقية ، فلا يجب عليه (ع) القاء الخلاف من طريق غير متعارف ، والا لزم بيان الحكم على كل فرد فرد ، لا على المجموع من حيث المجموع إذ قاعدة اللطف تقتضي ، بيان الأحكام على كل فرد والالتزام بالاستكشاف من رأي كل فرد كما ترى ، مع انه يلزم حجية قول فقيه واحد لو انحصر الفقيه فيه في عصر.

الثاني : القطع بالحكم الحاصل من تراكم الظنون كما يحصل القطع من الخبر المتواتر.

وفيه : ان ذلك يتم في الأخبار عن المحسوسات ، كما في الخبر المتواتر ، فإن التواطؤ على الكذب بعيد غايته وكذلك احتمال الخطأ في الكل ، واما في الأخبار عن الحدسيات التي لا بد فيها من اعمال النظر ، فاحتمال الخطأ إذا كان متمشيا في واحد يكون متمشيا في الكل ، والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى.

ومنها : الملازمة العادية ، لقضاء العادة باستكشاف رأي الرئيس عن آراء المرءوسين.

وفيه : ان ذلك يتم فيما إذا كان اتفاق المرءوسين في حال الحضور وامكان الوصول إلى شخصه ، فان اتفاقهم في هذه الصورة ، يكشف عن رأيه لا محالة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، بل كان الاتفاق اتفاقيا ، ولم يمكن الوصول إلى شخص الرئيس عادة ، فان في مثل ذلك لا يكشف عن رأيه قطعا ، ومن الضروري ان اتفاق العلماء من قبيل الثاني.

١٧٧

ومنها : دخول الإمام في المجمعين :

اما بدخوله في جماعة افتوا بفتوى معين مع عدم معرفته بشخصه.

واما بالسماع منه (ع) ولو بالواسطة لقرب عصرهم بعصر الحضور ثم ينضم إليه فتوى بقية العلماء ، وينقل الجميع بعنوان الإجماع.

واما بالتشرف بحضوره وسماع الحكم منه ونقل الإجماع عليه لئلا يتوجه الناس إلى التشرف.

اما الوجه الأول : فيرد عليه انه لو كان محتملا في زمان الحضور ، لما كان يحتمل في عصر الغيبة.

واما الوجه الثاني : فيرد عليه مضافا إلى عدم تحققه في الخارج ، ان النقل كذلك يشبه بالاكل من القفاء إذ لو نقل رأيه (ره) كان اولى.

واما الوجه الثالث : فقد امرنا بتكذيب من ادعى الحضور عملا فلا يعتنى به.

ومنها : الملازمة الاتفاقية ، ولا يمكن انكارها رأسا.

وتفصيل القول فيه ان الاتفاق ان كان في مورد وجود ، اصل ، أو قاعدة ، أو إطلاق ، أو خبر ، فهو في نفسه لا يكشف عن رأى المعصوم ، ولا عن وجود دليل معتبر غير ذلك في البين ، ولو لم يكن في البين ذلك ، فلا محالة يكشف الاتفاق بل افتاء شخص واحد عن وجود دليل معتبر عندهم : إذ عدالتهم مانعة عن الافتاء بغير دليل فحينئذ :

تارة يحتمل اعتمادهم على ، اصل ، أو قاعدة ، ولم يذكروها في كتبهم ففي

١٧٨

مثل ذلك لا يستكشف رأى المعصوم ، واخرى لا يحتمل ذلك فيختلف حسب اختلاف الاشخاص فرب شخص يحصل له القطع برأى المعصوم (ع) من افتاء جماعة معدودين.

وآخر لا يحصل له القطع ، إلا من اتفاق الكل.

وثالث ، لا يحصل له القطع أصلاً من جهة احتماله اعتمادهم على خبر لو وصل إليه ، لما كان يرى ظهوره في هذا الحكم ، فهذا يختلف باختلاف الموارد والاشخاص.

حجية الاجماع المنقول

إذا تبين مدرك حجية الإجماع المحصل ، فيقع الكلام في ما انعقد البحث له ، وهو حجية المنقول من الإجماع.

وملخص القول فيها ، انه حيث عرفت ان لا دليل لها سوى توهم شمول ادلة حجية خبر الواحد له ، فالمتعين هو البناء على حجيته في بعض الموارد.

توضيح ذلك ان المخبر عنه ربما يكون امرا حسيا وربما يكون حدسيا ، والثاني قد يكون منشؤه تام السببية في نظر المنقول إليه بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب ، لقطع بذلك الأمر الحدسي ، وقد لا يكون كذلك.

والمدعى حجية الخبر في الموردين الأولين ، دون الاخير كما ذهب إليه المحقق

١٧٩

الخراساني (١) : والوجه في ذلك :

ان ادلة حجية الخبر الواحد إنما تدل على حجية الأخبار عن حس ، لان عمدة ادلة حجية خبر الواحد هي ، آية النبأ ، وبناء العقلاء وإلا فبقية الأدلة اما لا تدل عليها ، أولا إطلاق لها ولها قدر متيقن ، وهما مختصان بالاخبار عن حس.

اما الآية فبقرينة التفصيل بين العادل والفاسق ، والتعليل بقيام احتمال الندم مع عدم التبين عن خبر الفاسق ، تدل على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب ، ولا تدل على تصويبه في حدسه ، لان احتمال الخطأ في الحدس مشترك بين العادل والفاسق فلا يصح الفرق بينهما في ذلك ، فالآية متكلفة لالغاء احتمال تعمد الكذب.

فحينئذ ان كان المخبر عنه حسيا ، وكان المخبر موثوقا به ، وظابطا أي لم يكن آفة في حاسته يكون خبره لا محالة كاشفا نوعيا عن الواقع ، وهذه الكاشفية هي المقتضية لبناء العقلاء على أصالة عدم الخطأ واتباع الخبر.

واما إذا كان المخبر عنه حسيا ولم يكن المخبر له الضبط ، أو كان المخبر عنه حدسيا فبما ان الخبر لا كاشفية نوعية له عن الواقع فلا بناء من العقلاء على أصالة عدم الخطأ له فلا يكون الخبر حجة فيهما.

ولذلك ترى ان الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم يعتبرون في الراوى ، والشاهد الضبط ، وليس ذلك لأجل دليل خاص مخرج لخبر غير الضابط عن تحت ادلة حجية الخبر الواحد بل إنما يكون لأجل عدم المقتضى لها لاحتمال

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٨٩ ـ ٢٩٠ بتصرف.

١٨٠