زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

يكون الحكم الواقعي محركا نحو الفعل أو الترك ، ولا يلزم العقل بموافقته في ظرف فعلية الحكم الظاهري لا محذور فيه.

وبعبارة أخرى : ان طلب الضدين غير صحيح ، من جهة عدم قدرة العبد على الامتثال ، فإذا فرضنا ان وصول الحكم الواقعي مستلزم لارتفاع ، موضوع الحكم الظاهري ، وفي فرض وصول الحكم الظاهري ، لا يكون الحكم الواقعي واصلا وهما لا يصلان معا في عرض واحد ، فلا يلزم التدافع ، ولا محذور من هذه الناحية.

واما محذور اجتماع الضدين.

فالجواب عنه ان الحكمين بما هما لا تضاد بينهما ولذا يمكن جعلهما من المولى غير الحكيم ، بل التضاد بينهما إنما يكون.

من ناحية المبدأ أي ، المصلحة ، والمفسدة ، والشوق ، والكراهة : إذ الوجوب ناشئ عن المصلحة الملزمة غير المزاحمة والحرمة ناشئة عن المفسدة الملزمة غير المزاحمة ، والاستحباب عن المصلحة غير الملزمة ، والكراهة عن المفسدة غير الملزمة ، والاباحة عن المصلحة المزاحمة بالمفسدة المتساويتين ، أو عن عدم شيء منهما.

فاجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة يستلزم وجود المصلحة غير المزاحمة ، والمفسدة غير المزاحمة في مورد واحد ، وهو ممتنع.

أو من ناحية المنتهى ، وهو امتثال التكليف. مثلا : الوجوب يستلزم اتيان الفعل ، والحرمة تستلزم تركه فمن تعلقهما بشيء واحد معا يلزم ان يفعل

١٤١

العبد فعلا ويتركه وهو محال.

وعليه فالتضاد بين الحكمين إنما يكون تضادا بالعرض ، وإلا فالتنافي إنما يكون بين المبدءين والمنتهيين.

وعلى ذلك فلا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري اما من ناحية المنتهى : فلما مر آنفا في الجواب عن محذور طلب الضدين ، واما من ناحية المبدأ فلان الأحكام الواقعية ناشئة عن المصالح والمفاسد في المتعلقات.

واما الحكم الظاهري فهو إنما يكون ناشئا عن المصلحة في الجعل بمعنى المصالح النوعية مثلا ، ايجاب الاحتياط ناش عن التحفظ على الواقع ، والبراءة عن التسهيل على المكلفين وعليه فلا تضاد بين الحكمين فتدبر فان هذا هو القول الفصل في المقام.

ولا يخفى ان هذا يصلح جوابا ثانيا عن محذور اجتماع المثلين.

ما قيل في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

ثم انه قد اجيب عن محذور اجتماع الضدين باجوبة اخر غير ما ذكرناه.

الأول : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) وحاصله ، انه لا تضاد بين

__________________

(١) نسبه اليه غير واحد من الاعلام منهم المحقق النائيني في فوائد الاصول ج ٣ ص ١٠٠ / وصاحب منتهى الاصول ج ٢ ص ٦٧ / والسيد الخوئى (قدِّس سره) كما في الهداية في الأصول ج ٣ ص ٣٧٩ / والنسبة اليه في اماكن مختلفة والظاهر ان السبب في ذلك انه تارة فرق بين

١٤٢

الحكمين لعدم اتحاد الموضوع : إذ موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بعنوانه الأولى ، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بما انه مشكوك الحكم ومع اختلاف الموضوع وتعدده كيف يحكم بالتضاد.

وفيه : أولا : انه لو تم لاختص بالاصول ، ولا يعم الأمارات على القول بجعل الحكم الظاهري ، إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك. وثانيا : ان مقتضى إطلاق دليل الحكم الواقعي بالإطلاق اللحاظى ، أو بنتيجة الإطلاق ثبوته في حال الشك في الحكم ، وإلا لزم التصويب فيلزم المحذور المذكور.

الثاني : ما في الكفاية (١) وحاصله ان التعبد بدليل غير علمي إنما هو بجعل الحجية له والحجية المجعولة لا تكون مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا اصاب وصحة الاعتذار به ، إذا اخطأ كما هو شأن الحجية غير المجعولة فلا يلزم اجتماع الضدين في صورة المخالفة.

ثم انه (قدس‌سره) أجاب بجواب آخر (٢) على فرض تسليم ان معنى الحجية أو لازمها جعل أحكام تكليفية ، وحاصله ان الحكم الظاهري ليس بنحو يضاد مع الحكم الواقعي ، فان الواقعي يكون ناشئا عن المصلحة أو المفسدة في المتعلق الموجبة لانقداح الإرادة أو الكراهية فيما يمكن انقداحهما ، والحكم الظاهري

__________________

الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ، واخرى جعل تغاير الموضوع للفرق بين الأصول العملية والأمارات كما في فرائد الأصول ج ١ ص ٣٠٩ من المقصد الثالث.

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٧.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٧٧ بتصرف.

١٤٣

يكون ناشئا عن المصلحة في نفس الجعل ، لا عن ما في المتعلق من دون ارادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فلا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل ولا اجتماع ارادة وكراهة ولا مضادة بين الانشائين كذلك فيما إذا اختلفا.

وقد اشكل عليه الأمر في بعض الأصول العملية كاصالة الإباحة الشرعية ووجه الاشكال أمران :

الأول : ان أصالة الاباحة لا يمكن جريانها مع كون الواقع هو الحرمة لان الترخيص في الفعل لا يجتمع مع المنع منه ، ولو كان عن مصلحة في نفسه : إذ في الحكم الالزامي يمكن ان يقال انه لا يكون فعليا لعدم تعلق الإرادة فلا منافاة كما ذكرناه. واما الترخيص فليس له مرتبتان لتكون المرتبة الثانية وهي الفعلية متوقفة على الإرادة ، لعدم انقداح الإرادة على كل حال بل فعليته إنما تكون بنفس جعله فينافى الحكم الواقعي.

الثاني : ان الحكم الالزامي يمكن ان يكون طريقيا موجبا لتنجز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة ، بخلاف الإذن والترخيص المجعول على المشكوك فيه فانه لا يعقل ان يكون طريقيا ، لاخذ الشك في موضوعه ، فلا محالة يكون نفسيا فينا في الحكم الواقعي.

ثم انه أجاب عن هذا المحذور بجواب آخر وحاصله : انه لا يكون الحكم الواقعي فعليا كي يلزم اجتماع الضدين ، أو المثلين ، فان التضاد إنما يكون بين الحكمين الفعليين ولا يكون انشائيا محضا حتى يرد عليه ان الحكم الإنشائي لا اثر له حتى يتنجز بالعلم ، بل يكون وسطا بينهما ، ويكون انشائيا من جهة انه لا ارادة ولا كراهة على طبقه وفعليا من جهة انه يتنجز بالعلم كسائر الأحكام

١٤٤

الفعلية. وعدم فعليته ليس من جهة دخل العلم في الفعلية حتى يقال ان ما ذكره في ذيل كلامه في جواب ما اورده على نفسه بان الحكم قبل اداء الأمارة الموافقة انشائي وبه يصير فعليا.

بقوله لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم انشائي لا حقيقة ولا تعبدا ، إلا حكم انشائي تعبدا ، لا حكم انشائي ادت إليه الأمارة ، اما حقيقة فواضح ، واما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا لا الواقع الذي ادت إليه الأمارة ، (١) انتهى.

وحاصله ان الالتزام بدخل العلم في الفعلية لا يجدي لفعلية الحكم بقيام الأمارة الموافقة ، إذ الأمارة ليست بعلم وجدانا ، ففعلية الحكم على هذا الفرض تتوقف على صيرورة الأمارة علما ـ وهي تتوقف على شمول دليل الحجية لها فتصير علما وشمول دليل الحجية لها إنما يكون مع فرض تنزيل المؤدى منزلة الواقع ولا دليل على تنزيله سوى دليل حجية الأمارة وشموله له متوقف على ان يكون الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالتعبد ، والاول مفقود بالفرض والثاني يتوقف على شمول دليل الحجية له ويثبت الواقع به ليصير علما وهذا دور واضح ، فدليل الحجية لا يتكفل إلا لكون المؤدى هو الواقع لا الواقع الذي علم به وجدانا أو تعبدا.

بل من جهة ان الإذن والترخيص ، مانع عن الفعلية ، والعلم يوجب رفع الإذن ، فالعلم يوجب الفعلية لا لدخله فيه حتى يرد المحذور المذكور بل لكونه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٩.

١٤٥

موجبا لارتفاع الإذن فمع قيام الأمارة حيث يرتفع الإذن يصير الحكم فعليا ولا تتوقف الفعلية على تنزيل الأمارة منزلة العلم هذا ملخص كلامه مع توضيح منا.

وفي كلامه مواضع للنظر :

الأول : ما أفاده من ان المجعول في الأمارات هو التنجيز والتعذير.

فانه يرد عليه ما ذكرته عند الوجه الأول من وجهى الجمع المنصور فراجع.

الثاني : ما ذكره من الفرق بين الإباحة المجعولة في مورد اصالتها ، وبين الأحكام المجعولة في مورد الأمارات.

فانه غير تام : إذ الحكم المجعول ان كان فعليا لفعلية موضوعه كان مضادا للحكم الواقعي الفعلي كان عن مصلحة في نفسه أم في متعلقة ، وكان المتعلق ، متعلقا للارادة والحب ، أم لم يكن ، كان الحكم طريقيا ام نفسيا ، وان لم يكن فعليا لم يكن مضادا معه كان في مورد الأمارات ، أم في مورد أصالة الإباحة.

وبعبارة أخرى : ان الوجوب هو الترخيص في الفعل مع الالزام وقد التزم بعدم مضادته مع الحكم الواقعي ان كان ناشئا عن مصلحة في نفسه فكذلك الإباحة التي هي الترخيص المجرد فكيف يلتزم بمضادته معه ان كان ناشئا عن مصلحة في الجعل.

الثالث : ان ما ذكره (ره) (١) من الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٣٥٩ (المقام الأول : في دوران الامر بين المتباينين).

١٤٦

بالمعنى المتقدم.

يرد عليه ان فعلية الحكم وعدمها اجنبيتان عن المولى بالمرة بل تدوران مدار تحقق الموضوع بجميع قيوده وعدمه ، فمع التحقق لا يعقل عدم فعلية الحكم ، كما انه مع عدم تحققه لا يعقل فعليته.

وعليه : فان كان المأخوذ في موضوع الحكم الواقعي ، عدم قيام الحجة على الخلاف ، وعدم الترخيص في مخالفته فعند قيامها لا يكون الحكم ثابتا لا الفعلي منه ولا الإنشائي ، اما الأول فواضح ، واما الثاني فلانه إنما يثبت لمن يكون الحكم بالنسبة إليه فعليا ، فيلزم التصويب ، وان لم يكن المأخوذ فيه ذلك فلا محالة عند قيامها أو الترخيص في مخالفته يلزم اجتماع الحكمين الفعليين فيلزم اجتماع الضدين.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان الكلام يقع في موارد ثلاثة : الأول : في الأمارات.

الثاني : في الأصول التنزيلية.

الثالث : في الأصول غير التنزيلية.

اما الأول : فقد أجاب عن المحاذير بما ذكرناه من الوجه الأول للجمع فراجع.

واما الثاني : فقد أجاب عنها بان المجعول في الأصول التنزيلية إنما هي الجهة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٧٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٢٨.

١٤٧

الثالثة للقطع وهي كونه مقتضيا للجرى العملي على طبق ما تعلق به وكون الشخص غير متحير في مقام العمل كما يأتي تفصيله في مبحث الاستصحاب وعليه فلا حكم مجعول حتى يلزم المحاذير المذكورة.

واما في الأصول غير التنزيلية فمحصل جوابه (١) ، ان التكاليف الواقعية بوجوداتها النفس الامرية لا تصلح للمحركية والداعوية بل وصولها محرك نحو الفعل أو الترك وهذه المرتبة من الحكم مرتبة التنجيز والتعذير ، وهما من الأحكام العقلية المتأخرة ، عن مرتبة ثبوت الحكم الواقعي ، وهذه المرتبة موكولة إلى حكم العقل.

وعليه : فالملاك الواقعي ، تارة يكون بمرتبة من الاهمية لا يرضى الشارع بفواته حتى في فرض عدم وصول الحكم ، فلا بد من جعل وجوب الاحتياط فيكون هو وجوبا طريقيا موجبا لوصول الحكم على فرض وجوده بطريقه ، ناشئا عن مصلحة الحكم الواقعي ، واخرى لا يكون بهذه المرتبة من الاهمية فيرخص في الفعل أو الترك ، ويكون هذا الحكم نظير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وعلى ذلك : ففي المورد الأول بما ان علة جعل وجوب الاحتياط ، هي المصلحة الواقعية ففي فرض عدم الحكم واقعا لا يكون وجوب الاحتياط ثابتا ، بل إنما هو صورة تخيل كونها حكما فلا يلزم اجتماع الضدين.

وفي المورد الثاني بما ان ثبوت الترخيص والاذن إنما هو في مرتبة متاخرة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٧٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٣٥ بتصرف.

١٤٨

عن الحكم الواقعي ، لا لان موضوعه الشك بما انه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي ، حتى يقال ان انحفاظ الحكم الواقعي عنده مستلزم لاجتماع الضدين.

بل باعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع ، وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ومعه كيف يعقل ان يضاد الحكم الواقعي.

وبعبارة أخرى : الرخصة إنما تكون في عرض المنع المستفاد من ايجاب الاحتياط ، وهو إنما يكون في طول الواقع ، ومتفرعا عليه فكذلك ما هو في عرضه يكون في طول الواقع ، وإلا يلزم كون ما في طول الشيء في عرضه.

وما ذكره في الأمارات وفي الأصول التنزيلية متي.

واما ما أفاده في الأصول غير التنزيلية ، ففي كلا موردى كلامه نظر :

اما في المورد الأول : فلان ايجاب الاحتياط في صورة الموافقة للواقع لا يصح ، وصدوره من الحكيم محال : إذ حينئذ يكون حكمه حكم الواقع غير الواصل ، فلا يعقل صيرورته موجبا لتنجز الواقع.

وبعبارة أخرى : صيرورته موجبا للتنجز فرع وصوله ، ومع احتمال المخالفة وعدم المصادفة ، لا يكون ذلك واصلا ، فلا يكون منجزا وموجبا للتحفظ على الغرض ، مع انه خلاف ظاهر الأدلة ، فان ظاهرها الوجوب على كل تقدير واستيفاء ما هو ملاكه مقتض لذلك أيضاً.

واما في المورد الثاني : فلان الحكم الواقعي ان كان ثابتا في المرتبة المتأخرة

١٤٩

المفروضة لزم اجتماع الضدين ، والا لزم التصويب ، مع ان ترتب احد الحكمين على الآخر والحكم بثبوته على فرض ثبوت الآخر ، إنما يعقل على فرض عدم التضاد ، وإلا فلازمه جواز تحقق السواد على فرض وجود البياض.

وبالجملة : فرض احد الضدين في طول الآخر لا يخرجه عن الضدية ، ولا يوجب جواز اجتماعهما.

ما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجية

الجهة الثالثة : فيما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجية ، ليكون هو المرجع على تقدير عدم الدليل على الحجية وعلى عدمها ، والمراد به ليس خصوص الاصل العملي ، بل المراد منه القاعدة الاولية المستفادة من حكم العقل ، أو الأدلة السمعية.

وقد طفحت كلماتهم بان الاصل عدم الحجية عند الشك فيها إذ الشك فيها مساوق للقطع بعدمها ، ومرادهم بذلك ان الشك في انشاء الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية بمعنى عدم ترتب آثار الحجية.

وكيف كان فقد افاد الشيخ الأعظم (ره) (١) في وجه ذلك ان الحجية لها اثران :

أحدهما : صحة الالتزام بما ادى إليه من الأحكام.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٤٩.

١٥٠

ثانيهما : صحة نسبته إليه تعالى :

وهذان الاثران لا يترتبان مع الشك في الحجية لما دل من ، الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل على حرمة الالتزام والاستناد في صورة الشك ، لانهما تشريع عملي وقولي ، دلّت الأدلة الاربعة (١) على حرمته ، فالشك في الحجية ملازم للقطع بعدم ترتب آثار الحجية الفعلية ، ومنه يستكشف عدمها.

وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) (٢) بما حاصله ان اسناد مؤدى الأمارة إلى الله تعالى والاستناد إليها في مقام العمل ليسا من آثار الحجية ، بل بينهما ، وبين الحجية عموم من وجه ، إذ قد يكون الشيء حجة ، ولا يصح اسناد مؤداه إلى

__________________

(١) * اما الكتاب فمنها قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) وقوله (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

* وأما السُنّة فعدّة روايات راجع الكافي ج ١ ص ٤٢ باب النهي عن القول بغير علم : ومنها قوله (ع) (ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم) وفي آخر عن زرارة قال سألت أبا جعفر (ع) ما حق الله على العباد فقال : (أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون) راجع الوسائل ج ٢٧ ص ٢٣ ح ٣٣١٠٨ باب عدم جواز القضاء والافتاء بغير علم .. ص ٢٠.

* واما الاجماع فللقطع بعدم وجود قائل يجوز العمل بالشك لا سيما في الشرعيات وعلى فرض قيل بجوازه كما لو انسد باب العلم والعلمي مع عدم كفاية الظنون فلا يصح الاسناد الي الشارع الاقدس لانه افتراء ، وهذا مما لا يشك فيه.

* وأما العقل فإنه حاكم بقبح الظلم والاسناد بغير حجة ظلم وافتراء بلا ريب.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٨٠.

١٥١

الشارع كالظن على الحكومة ، ويمكن ان يدل دليل على صحة الالتزام والنسبة إليه تعالى مع الشك في التعبد وعدم الحجية ، وان الاثرين المذكورين هما للعلم بالمؤدى.

ولذلك جرى (قدِّس سره) في تقرير الاصل على خلاف ما قرره الشيخ.

وحاصله ان آثار الحجية اربعة : التنجيز ، التعذير ، كون موافقته انقيادا ، كون مخالفته تجريا ، وهذه الآثار إنما هي للحجية الفعلية ، وهي مترتبة على العلم بالحجية الانشائية ، ضرورة انه بدون الاحراز ، لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته ، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته انقيادا ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتب شيء من الآثار عليه.

ثم ان الشيخ (قدِّس سره) (١) بعد تأسيس الاصل تمسك لاثبات حرمة العمل بالظن ، بالعمومات ، والآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، وافاد ان مقتضى هذه العمومات ، حرمة العمل بالظن إلا ما خرج بالدليل ، فادلة حجية الأمارات تخصص هذه العمومات ، فالشك في حجية شيء يكون شكا في التخصيص والمرجع فيه عموم العام.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بما سيمر عليك مستوفى.

وربما يستدل لعدم الحجية باستصحاب عدمها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١٥٢

وتنقيح القول بالبحث في موارد :

الأول : في انه هل هناك ملازمة بين الحجية وجواز الاستناد إليه تعالى حتى يكون الدليل المثبت لاحدهما مثبتا للآخر كما أفاده الشيخ أم لا؟ كما اختاره المحقق الخراساني (ره) (١).

الثاني : في انه هل يصح التمسك بما دل على حرمة العمل بغير العلم على عدم الحجية أم لا؟

الثالث : في ان الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم الحجية واقعا ، أم لا؟.

الرابع : في صحة ردع الشارع عن العمل بما لم يعلم حجيته.

الخامس : في انه ، هل يجري استصحاب عدم الحجية وببركته يبنى على عدم الحجية ، أم لا يجري.

اما المورد الأول : فقد تقدم تقريب ما أفاده الشيخ الأعظم ، وما اورده عليه المحقق الخراساني.

ولكن يرد على صاحب الكفاية ، ان ايراده يتم على مبناه في جعل الحجية ، وهو ان المجعول ، التنجيز ، والتعذير فان ذلك لا يلازم ثبوت المؤدى ، وكونه حكما شرعيا ، لا حقيقة ، ولا تعبدا حتى يستند إلى الشارع ، ولذلك لا يجوز الاستناد إليه في مورد ايجاب الاحتياط مع جعل المنجزية في ذلك المورد.

__________________

(١) راجع المصدرين السابقين.

١٥٣

واما إذا قلنا بان المجعول في باب الحجج والأمارات ، جعل الطريقية ، وجعل ما ليس بعلم علما كما هو الحق ، فلا ينفك ذلك عن جواز الاستناد ، فانه من آثار العلم جواز الاستناد ، فيترتب على الأمارة ، فمن دليل عدم جواز الاستناد يستكشف عدم الحجية ، وحيث ان مبنى الشيخ في الأمارات ، جعل الطريقية ، فهذا الاشكال لا يرد عليه ، وقد تقدم الكلام في مبنى المحقق الخراساني في جعل الحجية ، وعرفت عدم تماميته.

واما ما افاده من ان الظن على تقدير الحكومة حجة ، ولا يصح اسناد المظنون إلى الشارع ، فيرده ان نتيجة مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة ليست حجية الظن بل نتيجتها التبعيض في الاحتياط.

ولكن يرد على الشيخ (ره) ان مقتضى الأدلة السمعية ، عدم جواز اسناد ما لم يعلم ، ومع قيام الأمارة على شيء كوجوب السورة في الصلاة ، واحتمال حجيتها ، لا يحرز ان وجوب السورة غير معلوم ، بل يحتمل ان يكون معلوما ، بالعلم التعبدى ، فالتمسك بالعمومات تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام ، الذي لا شك لأحد في عدم جوازه فتدبر.

واما المورد الثاني : فقد استدل الشيخ (١) بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم كقوله تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(٢) ، ونحوه وذكر ان مقتضى هذه العمومات حرمة

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ١ ص ٤٩ (المقام الثاني).

(٢) الآية ٣٦ من سورة الإسراء.

١٥٤

العمل بغير العلم إلا ما خرج بالدليل ، ونسبة ادلة حجية امارة خاصة إلى تلك العمومات ، نسبة المخصص إلى العام ، فالشك في حجية امارة خاصة شك في التخصيص والمرجع فيه عموم العام.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بان مفاد دليل حجية الأمارة كونها علما تعبدا فنسبته إلى العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ويكون نافيا لموضوع العام ، فعند الشك في الحجية لا محالة يشك في صدق موضوع العام ، ومع الشك فيه يكون الشبهة شبهة مصداقية للعام ، وضرورى انه لا يجوز التمسك بالدليل إلا مع احراز صدق موضوعه.

وأورد عليه الأستاذ الاعظم (ره) (٢) بان الحجية الواقعية مما لا يترتب عليه اثر ما لم يصل إلى المكلف فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى المكلف ، عمل بغير علم ، وان كان حجة في الواقع.

ولكن يرد عليه ان الحجية الواقعية وان لم تصل إلى المكلف ، توجب صيرورة الأمارة علما ، فاحتمالها يوجب الشك في كون المؤدى معلوما تعبدا ، فايراد المحقق النائيني على الشيخ تام.

واما المورد الثالث : فقد يقال ان الحجية حكم واقعي نظير سائر الأحكام الشرعية مشتركة بين العالم والجاهل ، ولا تكون مختصة بالعالم ، لعين ما ذكر من لزوم الدور ، وغيره من الاختصاص بالعالمين.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٨٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٤٧ (المقام الثاني) بتصرف.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ١١٥ (المقام الثاني من الجهة الثالثة).

١٥٥

وأورد عليه بأنه لا محيص عن الالتزام باخذ الوصول في مقام جعلها ، إذ ليست هي كسائر الأحكام الشرعية تترتب عليها الآثار حتى في صورة الجهل ، بل لا تترتب عليها آثارها إلا في فرض العلم والوصول.

توضيح ذلك ان الأمارة ، اما ان تؤدى إلى الترخيص مع كون الحكم الواقعي لزوميا كالحرمة ، واما ان ينعكس الأمر ، واما ان يتوافقان في الحكم اللزومى ، وعلى كل تقدير لا اثر لوجود الحجية الواقعية :

إذ في الفرض الأول يكون الواقع منجزا لأجل احتمال وجوده وعدم الفحص والمفروض ان الأمارة لم تصل إليه لتكون معذرة.

واما في الفرض الثاني : فلا يستحق العقاب على مخالفة الواقع ، وإنما يستحقه للتجري لاحتمال التكليف ووجود الطريق إليه.

واما في الفرض الثالث : فمخالفة الواقع توجب استحقاق العقاب كانت الأمارة واصلة أم لم تكن : إذ مجرد احتمال التكليف منجز لكون الشبهة قبل الفحص ، نعم لو كانت الأمارة واصلة ترتب هذا الأثر عليها ، فجعل الحجة للجاهل لغو ، فلا محالة تختص بالعالم.

واما محذور الدور أو الخلف فيندفع بان انشائها كانشاء سائر الأحكام يكون مهملا من هذه الجهة ، فبنتيجة التقييد تختص بالعالم.

ومن ذلك كله يظهر ان الشك في الحجية يوجب العلم بعدمها ، لا بمعنى انعدام الشك ، بل بمعنى ان الشك بمرتبة منها يوجب العلم بعدم مرتبة أخرى منها ، فان احتمل حجية طريق خاص مع العلم بأنه على فرض ثبوتها وانشائها

١٥٦

تكون مختصة بالعالمين ، يقطع بعدم فعليتها بالاضافة إلى الشاك نفسه فالشك متعلق بمرتبة منها وهي الإنشاء مهملا ، والمعلوم عدمها غير تلك المرتبة فيجتمعان ، لا ان العلم يوجب انعدام الشك.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإيراد بان احتمال التكليف يكون منجزا قبل الفحص ، لأجل احتمال وجود الطريق إليه ، وإلا فمع العلم بعدمه على فرض كون التكليف ثابتا واقعا ، لا ريب في عدم التنجيز ، فالاثر إنما يترتب على الحجة غير الواصلة ، والطريق غير الواصل.

فدعوى عدم ترتب الأثر على وجودها الواقعي كما ترى ، فالحجية كسائر الأحكام تكون مشتركة بين العالمين بها والجاهلين والشك فيها لا يوجب القطع بعدمها.

نعم الآثار المرغوبة من الحجية وهي المعذرية والمنجزية وصحة الاستناد إليها في مقام العمل ، وصحة اسناد مؤداها إلى المولى ، لا تترتب على الحجية بوجودها الواقعي ، بل على احرازها صغرى وكبرى ، لكونها من الآثار العقلية المترتبة على الحجية الواصلة فلو شك في الحجية يبنى على عدمها ظاهرا وبحسب الآثار.

واما المورد الرابع : فلا ينبغى التوقف في صحة ردع الشارع عن العمل بما يشك في حجيته كالقياس ، وان كان العقل مستقلا بعدم الجواز مع العلم بالحجية أو الشك فيها في فرض بقاء العلم والشك : إذ موضوع حكم العقل الشك في الحجية وبالتعبد بالمنع يقطع بعدم الحجية فيخرج عن موضوع حكم العقل ، فهو لا يصلح للمنع عن التعبد المولوي الشرعي.

١٥٧

واما المورد الخامس : فقد يقال (١) ان حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم فعند الشك يتمسك باستصحاب عدم الحجية.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٢) بأنه لا يترتب على هذا الاصل اثر إذ يكفي في حرمة العمل بالظن عدم العلم بورود التعبد من غير حاجة إلى احراز عدم ورود التعبد به ليحتاج في ذلك إلى الاصل ثم اثبات الحرمة ، والحاصل ان أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الأحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث ، واما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفى فيه الشك ، ولا يحتاج إلى احراز عدمه بحكم الاصل.

وأورد عليه المحقق الخراساني بايرادين :

أحدهما : (٣) ان الحجية من الأحكام الشرعية وأمر رفعها ووضعها بيد الشارع وما كان كذلك يجري فيه وفي عدمه الاصل كان هناك اثر شرعي مترتب عليه أم لم يكن.

وفيه : ان المستصحب إذا كان حكما شرعيا أو عدمه أو موضوعا ذى حكم شرعي ، وان كان في جريان الاستصحاب لا يحتاج إلى اثر شرعي ، إلا انه لا بد وان يترتب عليه اثر عملي لان الاستصحاب من الأصول العملية فلا يعقل

__________________

(١) كما حكاه المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٣ ص ١٢٦ (تتمة).

(٢) فرائد الأصول ص ٥٠.

(٣) راجع درر الفوائد للآخوند نهاية ص ٨٠ عند قوله «قلت : الحجية وعدمها .. الخ» طبعة وزارة الارشاد الاسلامية ١٤١٠ طهران.

١٥٨

جريانه من دون ان يقتضي الجرى والبناء العملي وان شئت فقل ، انه كما يكون جعل الحكم الفرعي الذي لا اثر عملي له لغوا لا يصدر من الحكيم ، كذلك استصحاب الحكم أو عدمه وابقائه مع عدم ترتب الأثر العملي عليه يكون لغواً فلا يجري.

ثانيهما (١) : انه إذا كان الأثر مترتبا على واقع الشيء ، وعلى الشك فيه كليهما ، يجري الاستصحاب ويثبت به الواقع ويوجب انعدام الشك الذي جعل موضوعا للقاعدة المضروبة لحال الشك ويكون الاستصحاب حاكما عليها ، كما في استصحاب الطهارة ، وقاعدة الطهارة ، والمقام من هذا القبيل.

وأورد عليه المحقق النائيني (٢) ، بان الأثر إذا كان مترتبا على الواقع ، وعلى الشك ، فبمجرد الشك يترتب الأثر لتحقق موضوعة فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لأنه لا تصل النوبة إلى اثبات الواقع ليجرى فيه الاستصحاب فانه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه فاى فائدة لجريان الاستصحاب.

وفيه : ان العقل وان استقل بعدم ترتيب آثار الحجية بمجرد الشك فيها ، إلا انه في طول الحكم الشرعي فبمجرد الشك يجري الاستصحاب ويقطع بعدم الحجية ، وبه يرتفع موضوع الحكم العقلي ، ويترتب حكم عقلي آخر وهو عدم

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند ص ٨١.

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٠ حيث أحال الأمر على خاتمة الاستصحاب ، فانظر الجزء الرابع منه ص ١٢٩ (الامر الثالث).

١٥٩

ترتيب آثار الحجية مع احراز عدمها.

وان شئت فقل ان المترتب على الشك عدم الحجية الفعلية ، وما يثبته الاصل عدم الحجية الانشائية ، فاحدهما غير الآخر ، فما يحصل بالوجدان ، غير ما يحصل بالتعبد ، فالاظهر جريان استصحاب عدم الحجية.

حجية الظواهر

إذا عرفت ما ذكرناه ، فيقع الكلام في الأمارات المعتبرة ، أو قيل باعتبارها في طي مباحث :

المبحث الأول : في حجية الظواهر ، وهي من اهم المسائل الأصولية ، وعليها تدور رحى الاستنباط ، بل هي ، وحجية خبر الواحد اساس القول بانفتاح باب العلمي ، ومع انكار احداهما ، لا بد من البناء على الانسداد.

وكيف كان فالقول بحجية ظواهر الأدلة اللفظية الشرعية كالسنة يتوقف :

١ ـ على اثبات الظهور.

٢ ـ وعلى ثبوت عدم غفلة المتكلم.

٣ ـ وعلى الدليل عليها في مقام الإثبات.

اما الأول : فمن حيث مواد الالفاظ لا بد من الرجوع إلى اللغة ، ومن حيث الهيئة إلى سائر العلوم ، وما لم يذكر في علم يرجع إلى علم الأصول ، كظهور الأمر في الوجوب وما شاكل ، وعلى أي تقدير لا يبحث عنه في المقام.

١٦٠