زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

تقديم التمام على القصر واختار السيد تقديم القصر على التمام (١) ، قال (قدِّس سره) ان منشأ ذلك الاختلاف فيما يظهر من الأدلة هل هو التمام أو القصر ، بعد اتفاقهما على الكبرى الكلية ، وهي وجوب تقديم المظنون على المحتمل ، فالشيخ يرى انه وجوب التمام فاختار تقديمه على القصر عند الاحتياط ، واستظهر السيد منها وجوب القصر فاختار تقديمه على التمام.

وكيف كان فقد استدل له بوجهين :

أحدهما ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) ، وهو ان ذلك مبنى على تأخر مرتبة الامتثال الإجمالي عن الامتثال التفصيلي فانه على هذا لو أتى ، أولا بالمحتمل فحيث انه يحتمل سقوط الأمر ، فلا مناص له عن إتيان المظنون بداعي احتمال الأمر ، وهذا بخلاف ما لو أتى به قبل الإتيان بالمحتمل.

وفيه : مضافا إلى ضعف المبنى كما مر ، انه لا يتم البناء أيضاً : إذ الإتيان بالمظنون إنما يكون بداعي الأمر الجزمي التعبدي الثابت بالحجة المعتبرة قدم أو أخر ، فانه لو أتى بالمحتمل أو لا يكون مقتضى الأدلة الخاصة بقاء الأمر ، فلا فرق بين التقديم والتأخير.

ثانيهما : ما ذكره الشيخ الأعظم (قدِّس سره) (٣) وحاصله : انه لو أتى بما قامت الحجة المعتبرة عليه ، أولا فيأتي به مع قصد الوجه ، وهذا بخلاف ما لو قدم

__________________

(١) حاشية نجاة العباد ص ١٧٦.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٦.

١٢١

المحتمل ، فانه لاحتمال سقوط الأمر لا مجال لقصد الوجه.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم من عدم اعتبار قصد الوجه انه لا فرق بين التقديم والتأخير كما عرفت في جواب المحقق النائيني (ره).

واما القسم الثاني : فقد اختار الشيخ الأعظم (١) تأخره عن الامتثال الإجمالي وتعجب من المحقق القمي (ره) حيث انه بنى على حجية مطلق الظن من باب دليل الانسداد ، ومع ذلك ذهب إلى تقديم الامتثال الظني على الامتثال الإجمالي (٢).

وملخص القول في هذا القسم انه لو كانت نتيجة المقدمات هي حجية الظن عليه المتوقفة على بطلان الاحتياط للإجماع أو لغيره ، فحكمه حكم الظن الخاص ، ولا فرق بينهما إلا في الكاشف عن الحجية والدليل عليها ، وان كانت نتيجتها هي الحكومة التي حقيقتها ، تضييق دائرة الاحتياط ، ومن مقدماتها عدم وجوب الاحتياط ، لاوجه لتقديم الامتثال الظني على الاحتياط كما لا يخفى.

والمحقق القمي (ره) حيث يكون قائلا بالكشف ، ومصر عليه لا بالحكومة فعلى القول بتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، يتم ما ذكره ، وإيراد الشيخ الأعظم (ره) عليه في غير محله.

وبما ذكرناه يظهر الحال في الظن غير المعتبر ، وانه لاوجه لتقديمه على الامتثال الإجمالي كما هو واضح.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٥.

(٢) راجع القوانين ج ١ ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

١٢٢

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث القطع.

والحمد لله أولا وآخرا

* * *

١٢٣

المقصد السابع

من مقاصد علم الأصول

في

الأمارات

١٢٤

المقصد السابع

في الأمارات المعتبرة شرعا

وبعبارة أخرى : في بيان ما يكون من الطرق الناقصة معتبرا شرعا أو قيل باعتباره ، وان شئت فعبر بالظن.

وكيف كان فقبل الدخول في المباحث لا بد من التعرض لجهات :

الجهة الأولى : لا شبهة في ان الظن ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمه ، بل ثبوتها له ، ولكل طريق ناقص يحتاج إلى الجعل الشرعي ، إذ القطع بالحكم كما مر وصول للحكم ومخالفة التكليف الواصل ظلم على المولى وخروج عن رسم العبودية وذي الرقية وقبح الظلم واستحقاق اللوم من العقلاء والعقاب من الشارع عليه من الأحكام العقلية العملية الضرورية.

واما الظن بالحكم وكذا الطريق الناقص إليه بما انه ليس وصولا له فالحكم على محجوبيته ومجهوليته فمخالفته لا ينطبق عليها عنوان الظلم والتعدي بل مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (أي بلا وصول) المقتضية لعدم منجزيته للحكم إلا بجعل الشارع.

غاية الأمر ان الكاشف عن الجعل ، قد يكون دليلا لفظيا ، وقد يكون لبيا ، وقد يكون مقدمات الانسداد على الكشف.

١٢٥

واما ما أفاده المحقق الخراساني (١) من انه ربما تقتضي الأمارة غير المعتبرة الحجية عقلا عند ثبوت مقدمات وطرو حالات وذلك بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة.

فيرده ان مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة إنما توجب حكم العقل بتضييق دائرة الاحتياط ، وجواز الاكتفاء بالامتثال بالعمل وفق المظنونات تركا أو فعلا ، فهو في الحقيقة تبعيض في الاحتياط ، لا ان الأمارة غير العلمية تصير حجة ، وإلا فلا مجال ان يحكم العقل بشيء لعدم كونه مشرعا بل شانه الدرك خاصة.

ثم ان الظن كما لا يكون حجة لثبوت الحكم كذلك لا يكفي في سقوط التكليف.

وفي الكفاية (٢) ، وان كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف ، والاكتفاء بالظن بالفراغ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل انتهى.

والظاهر ان مراده بذلك البعض المحقق الخوانساري (٣) حيث انه في مبحث الاستصحاب ، قال إذا كان أمر أو نهي لفعل إلى غاية معينة فعند الشك في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج عن العهدة وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال انتهى.

__________________

(١) كفاية الأصول ٢٧٥.

(٢) كفاية الأصول ٢٧٥.

(٣) مشارق الشموس ج ١ ص ٧٦ ، الناشر مؤسسة أهل البيت (ع).

١٢٦

وربما يستظهر من بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك.

وكيف كان فيرد على ما ذكره في وجه القول بالاكتفاء بالظن بالفراغ ، من عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، ان معنى وجوب دفع الضرر المحتمل انه ان صادف الواقع ترتب الضرر الذي هو العقاب في امثال المقام ، فلا معنى لعدم الوجوب بهذا المعنى.

وبعبارة أخرى : ان هذا الحكم ليس شيئا زائدا على موضوعه حتى ينكره أحد ، مع ان لازم هذا الوجه عدم وجوب تحصيل الظن بالامتثال ، وكفاية الامتثال الاحتمالي ولا أظن ان يلتزم به أحد ، فالأظهر عدم اقتضاء غير القطع للحجية ثبوتا ، ولا سقوطا.

إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية

الجهة الثانية : في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية والظن ، وليعلم انه ليس المراد بالإمكان المتنازع فيه في المقام هو :

الاحتمال كما هو المراد منه في قولهم (كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان) : لعدم كون الاحتمال محل النزاع لكونه أمرا وجدانيا : ولعدم كون الإمكان بهذا المعنى موردا للأثر فلا يناسب مع البحث الأصولي.

ولا الإمكان الذاتي وهو ما كان بالنظر إلى ذاته لا اقتضاء بالاضافة إلى الوجود والعدم ، أي ما ليس بذاته ضروري الوجود كالباري تعالى ، ولا ضروري

١٢٧

العدم كشريكه : إذ لم يتوهم أحد كون حجية الظن بالنظر إلى ذاته ضروري العدم.

بل المراد به الإمكان الوقوعي أي ما لا يلزم من فرض وقوعه أولا وقوعه محال.

وقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) الإمكان وعلله ببناء العقلاء على ذلك ما لم يجدوا ما يوجب الاستحالة.

وأورد عليه المحقق الخراساني بإيرادات : (٢)

الأول : منع كون سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه.

الثاني : عدم الدليل على حجية هذه السيرة.

الثالث : عدم الحاجة إلى إثبات إمكانه لعدم ترتب اثر عملي عليه.

ولكن هذه الإيرادات إنما تتم إذا كان مراد الشيخ الأعظم ما فهمه المحقق الخراساني من كلامه من ان بناء العقلاء على الإمكان عند الشك فيه وفي الاستحالة ، وليس مراده ذلك ، لأنه قبل ذلك صرح بخلاف ذلك.

قال : (ان العقل لا يمكن له إدراك جميع المحسنات والمقبحات حتى

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٤٠ قوله : «فالأولى ان يقرر هكذا إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان».

(٢) كفاية الأصول ص ٢٧٦.

١٢٨

يحكم بالامكان والامتناع) (١) إذ مع عدم الاحاطة لا طريق للعقلاء إلى الامكان ومعه لا معنى لبناء العقلاء عليه.

بل مراده بتوضيح منَّا انه لو ورد من المولى ، دليل ظاهر في حكم يحتمل العبد ، عدم تمكنه من امتثاله واستحالته عليه ، بناء العقلاء على الأخذ بدليل الوقوع ، والبناء على الإمكان حتى يثبت الاستحالة.

وبعبارة أخرى : ان بناء العقلاء عملا يكون على ذلك عند الشك في الإمكان والاستحالة ، مع ورود دليل ظاهر في الحكم ، فلو شككنا في إمكان التعبد بالظن وورد دليل دال على حجية ظن خاص كخبر الواحد يتبع ذلك الدليل.

وهذا متين جدا. فان شئت فاختبر ذلك من حال العبيد بالاضافة إلى الموالى العرفية ، فإذا قال المولى بعبده امش إلى السوق واشتر اللحم ، واحتمل العبد عدم قدرته على امتثال ذلك ، فانه ليس للعبد ان يعتذر عن ترك التعرض للامتثال ، باحتمال عدم القدرة بل العقلاء يذمونه ، فيعلم من ذلك بنائهم على اتباع ظهور كلام المولى ما لم يثبت الاستحالة.

ثم ان للمحقق النائيني (ره) (٢) في المقام كلاما ، وهو ان المراد بالإمكان في

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٤٠ ، في معرض رده على ما استدل به المشهور ما نصه : «وفي هذا التقرير نظر إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمه بانتفائها وهو غير حاصل فيما نحن فيه».

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٦٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٠٩ / وفي الفوائد ج ٣ ص ٨٨.

١٢٩

المقام ، ليس هو الإمكان التكويني ، بل المراد به الإمكان التشريعي ، المقابل للامتناع في عالم التشريع ، إذ المحاذير المذكورة كلها راجعة إلى عالم التشريع ، وإلا فلم يتوهم أحد ترتب محذور تكويني على التعبد بالظن ، وعليه فلا ربط لذلك بالعقلاء كي يقال ان بنائهم على الإمكان.

والحق : ينبغي ان يعد هذا الكلام من الغرائب ، إذ الإمكان والامتناع ليسا أمرين اعتبارين كي يختلف الحال باعتبار شخص دون شخص بل هما أمران واقعيان ، بمعنى ان الخارج ظرف لهما لا لوجودهما ، وإنما الاختلاف يكون من ناحية المتعلق ، وقد يكون المتعلق أمرا تكوينيا وقد يكون تشريعيا ، فالإمكان والامتناع في جميع الموارد بمعنى واحد ، فكما ان بناء العقلاء على الإمكان في التكوينيات يكون بنائهم عليه في التشريعيات.

مع انه لو سلم كون الإمكان التشريعي غير الإمكان التكويني ، لا أرى محذورا في القول بان بناء العقلاء على ترتيب آثار الإمكان في مقام العمل ، وعدم طرح الدليل الدال على التعبد به بمجرد احتمال ترتب محذور عليه في عالم التشريع كما يقال بان بنائهم عليه في الإمكان التكويني ، وكون الأمر في التشريعيات بيد غيرهم لا يصلح للمنع عن ذلك كيف ، وهل يكون الأمر في التكوينيات بيدهم ومربوطا بهم كي يقال انه لا ربط للتشريعيات بهم.

ما توهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير

وكيف كان فمن اختار ، استحالة التعبد بالظن وبغير العلم ، أو بطلانه وان لم يكن محالا ، توهم لزوم محاذير من التعبد به.

١٣٠

وقبل بيان تلك المحاذير ونقدها ، لا بد وان يعلم ان الصور المعقولة في موارد التعبد بالظن ست :

إحداها : عدم وجود الحكم في الواقع.

ثانيتها : وجود الحكم الواحد سنخا في الواقع والظاهر معا مع كون متعلقيهما ضدين.

ثالثتها : وجود الحكمين مع وحدة المتعلق ، وكون الواقع هو الحرمة ، والظاهر هو الوجوب.

رابعتها : عكس ذلك ، أي كون الواقع هو الوجوب والظاهر هو الحرمة.

خامستها : وجود الحكمين ووحدة المتعلق ، مع كون الحكم الواقعي لزوميا ، وجوبا كان ، أم حرمة والحكم الظاهري هو الترخيص.

سادستها : عكس ذلك أي كون الواقع ترخيصيا ، والظاهر لزوميا.

واما المحاذير التي توهم لزومها في هذه الصور ، فثلاثة :

الأول : نقض الغرض ، وهو يختص بالصورة الثالثة ، والرابعة ، والخامسة وتقريبه ، انه إذا تعلقت الإرادة الجدية بإيجاد عمل ، أو تركه ، وتصدى المولى لذلك ، بالأمر أو النهي يكون الأمر بالعمل بالأمارة غير العلمية المؤدية إلى خلاف الواقع ، بأحد الأنحاء المشار إليها نقضا منه لغرضه وهو من المستحيل حتى عند المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين.

والجواب عن ذلك : ان المولى إذا رأى في فعل مصلحة وغرضا مترتبا عليه ، وكان ذلك الفعل فعل الغير ، وكان الأثر مترتبا عليه في صورة إتيانه باختياره

١٣١

يحصل له غرض آخر ، وهو جعل المحرك والداعي نحو الفعل فيأمر به لذلك ، فالغرض من الأمر ، هو جعل المحرك والداعي نحو الفعل ، وهذا الغرض ربما يكون جعل المحرك للعبد نحو الفعل لو اتفق العلم به ، وربما يكون جعل الداعي والمحرك على كل تقدير أي حتى في صورة الشك والجهل.

وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اختلاف المصالح الواقعية المترتبة على أفعال العبيد في الأهمية.

إذ المصلحة قد تكون بمرتبة من الأهمية تقتضي تصدى المولى لحصولها على جميع التقادير ، وقد لا تكون بهذه الأهمية ، بل بحيث لو علم العبد بأمر المولى يتحرك نحوه.

ومن الاختلاف في وجود المصلحة الجابرة ، أو المزاحمة للفائتة.

إذ ربما تكون في ظرف الجهل لعدم الإتيان بالفعل مصلحة جابرة لما فات أو مزاحمة له ، وقد لا تكون ، ففي صورة عدم أهمية المصلحة ، وصورة الجبر أو التزاحم لا مانع من جعل حكم ظاهري على خلاف الواقع كما لا منع عن سكوته ، وعدم جعل وجوب الاحتياط ، ولا يلزم من ذلك نقض الغرض ، وفي صورة الأهمية وعدم الجبر يلزم من جعله نقض الغرض.

وحيث انه لا طريق لنا إلى استكشاف كون الغرض من أي قسم من الأقسام فلا بد من متابعة الدليل فمن ورود الدليل على جعل حكم على خلاف الواقع يستكشف كونها من قبيل أحد الأولين دون الأخير فلا يلزم محذور نقض الغرض.

١٣٢

المحذور الثاني : المحذور الملاكي ، وهو لزوم الإلقاء في المفسدة فيما إذا كان الحكم الواقعي ، هو الحرمة ـ وأدت الأمارة إلى الوجوب أو الترخيص ، وتفويت المصلحة فيما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب ، وأدت الأمارة إلى عدمه أو الحرمة ، ويعبر عن ذلك ـ بتحليل الحرام ـ ولزوم الإلزام بشيء من دون ان يكون فيه مصلحة إلزامية فيما إذا كان الحكم الواقعي غير إلزامي ، وأدت الأمارة إلى حكم الزامي ، ويعبر عنه بتحريم الحلال.

والجواب عن ذلك ان لهذا المحذور طرفين :

الطرف الأول : تحريم الحلال أي الإلزام بما هو مرخص فيه واقعا.

والجواب عنه واضح ، إذ الإلزام بأمور مباحة فيما إذا كان هناك ملاكات ثابتة في موارد مشتبهة ، ولا يمكن للمولى التحفظ عليها إلا بالإلزام بعدة أمور فيها ما لا ملاك فيه ، وما فيه ذلك ، لا محذور فيه ، بل لا مناص إلا عن ذلك ، ألا ترى انه لو علم المولى العرفي ، ان في من يدخل عليه في اليوم المعين شخصا يهم بقتله وأمر عبيده ان لا يأذنوا لأحد الدخول عليه ، في ذلك اليوم تحفظا على عدم دخول ذلك الشخص ، لا يرى العقلاء في ذلك محذورا بل يلزمونه بذلك.

وبالجملة : الإلزام بأمر مباح تحفظا على غرض مهم لا محذور فيه حتى بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات : إذ التحفظ على ذلك الغرض المهم مصلحة ثابتة في جميع الموارد حتى في ذلك المورد الذي هو مباح واقعا.

الطرف الثاني ، تحليل الحرام ، أي الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.

١٣٣

والجواب عنه إنما هو بأحد وجهين :

الأول : ان المصلحة أو المفسدة الواقعية ليست بمرتبة من الأهمية كي يلزم تحصيلها حتى في حال الجهل وعدم العلم به.

الثاني : انه في فرض انسداد باب العلم حيث ان الأمر يدور بين ان يهمل المولى عبيده فلا يصلوا إلى الواقع أصلاً فيلزم تفويت جميع المصالح والإلقاء في جميع المفاسد ، وبين ان يتعبدهم بالعمل بالأمارات غير العلمية فيصلوا إلى الواقع في جملة من الموارد ويستوفون عدة من المصالح ويتحرزوا عن جملة من المفاسد ، فيتعين التعبد بالعمل بها.

واما في فرض انفتاح باب العلم ، فان كانت الأمارات غير العلمية اكثر إصابة إلى الواقع من القطع أو الاطمينان الحاصل للمكلف فهذه الصورة ملحقة بالصورة الأولى ، وان كان القطع أو الاطمينان اكثر إصابة من الأمارات ، فالتعبد بالأمارات يمكن ان يكون لأجل ان الزم المكلفين بتحصيل العلم عسر على النوع ومناف لسهولة الشريعة فمصلحة التسهيل على النوع تقتضي التعبد بالأمارات وتزاحم الملاكات الواقعية فمن التعبد بها يستكشف ان الشارع إلا قدس قدم المصلحة النوعية العامة على المصالح الشخصية ولا قبح في ذلك.

وقد أجاب الشيخ الأعظم (ره) (١) عن هذه الشبهة بجواب آخر وتبعه غيره

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ١ ص ٤٣ ـ ٤٥.

١٣٤

منهم المحقق النائيني (ره) (١) ، والأستاذ الأعظم (قدِّس سره) (٢) ، وهو الالتزام بالمصلحة السلوكية.

بمعنى : ان قيام الحجة يكون سببا لحدوث مصلحة في نفس السلوك بلا تأثير على المصلحة الواقعية أو استلزامه تبدل الموضوع ، فما يفوت من المصلحة الواقعية بواسطة العمل على طبق الأمارة عند المخالفة يكون متداركا بمصلحة السلوك ، مثلا إذا قامت الأمارة على وجوب الجمعة وكان الظهر واجبة في الواقع فان لم ينكشف الخلاف ، يكون المتدارك مصلحة الظهر بتمامها ، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون المتدارك مصلحة الوقت ، وان انكشف بعد مضى وقت الفضيلة يكون المتدارك مصلحة فضيلة الوقت.

وهذه السببية هي السببية التي ذهب إليها بعض العدلية في مقابل السببية على مسلك الأشعري (٣) الملتزم بأنه لا حكم في الواقع مع قطع النظر عن قيام الطريق بل يكون قيامه سببا لحدوث مصلحة في المؤدى مستتبعة لثبوت الحكم على طبقها.

والسببية على مسلك المعتزلي (٤) : الملتزم بان قيام الحجة من قبيل طرو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٦٨ ـ ٦٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٣) وهو أبو الحسن الأشعري القائل بالجبر ، وعدم إناطة الأحكام بالمصالح والمفاسد ، وغير ذلك!! وهو صاحب المذهب المعروف بالاشاعرة.

(٤) المعتزلة : مذهب معروف ، ذهب اتباعه إلى القول بالتفويض مقابل الاشاعرة ، والمشهور أن مؤسس المعتزلة هو واصل بن عطاء الغزال فإنه كان في أول أمره يحضر مجلس الحسن

١٣٥

العناوين الثانوية كالضرر موجب لحدوث مصلحة في المؤدى ، أقوى من مصلحة الواقع ، فان المصلحة على هذا المسلك إنما تكون في السلوك لا في المتعلق.

ويتوجه عليه أنه : لا ريب في ان ما فيه المصلحة ليس هو العنوان مع قطع النظر عن تحققه ، بل هو المتحقق في الخارج وهو الذي يكون ذا مصلحة فحينئذ ما له تحقق خارجي فيما إذا أدّت الأمارة إلى وجوب ما هو حرام واقعا ، مثلا امور ثلاثة :

الأول : أمر المولى باتباع الأمارة.

الثاني : الالتزام بأنه واجب.

الثالث : العمل الخارجي.

فان كان المراد من المصلحة السلوكية ثبوت المصلحة في الأمر.

ففيه أنها غير استيفائية للمكلف حتى تدعو إلى البعث وتوجب تلافي الفائت ، مضافا إلى ان الفعل إذا لم يكن ذا مصلحة كيف يتعلق به التكليف.

وان كان المراد ثبوتها في الالتزام.

__________________

البصري فاختلفا في الفاسق ، فقال واصل وتبعه عمرو بن عبيد : إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين ، فاعتزلا مجلس البصري ، ثم عظم أمرهما. واما القول بالسببية فإنه المشهور عنهم كما نسبه اليهم غير واحد من الاعلام منهم المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٤ ص ٧٥٨. وآية الله السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ١١٠.

١٣٦

فمضافا إلى انه لاوجه حينئذ للأمر بالعمل لعدم المصلحة فيه لا يجب الالتزام كما حققناه في محله.

وان كان المراد ثبوتها في العمل ، ولو بان يكون ما فيه المصلحة عنوان آخر غير ذات الفعل منطبق عليه ، أو الفعل المستند إلى الأمارة ، يرجع ذلك إلى التصويب والسببية على زعم المعتزلي ، إذ لا محالة يقع بين ملاك الحكم الواقعي وهذه المصلحة الكسر والانكسار ، فتصوير المصلحة السلوكية بنحو لا يرجع إلى التصويب غير ممكن.

فان قلت : انه يمكن ان يتدارك الشارع المصلحة الفائتة بإعطاء مقدار من المصلحة.

قلت : ان ذلك يتم في الثواب لا في المصلحة الداعية إلى الأمر.

الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

المحذور الثالث : المحذور الخطابي ، وهو اجتماع المثلين ، فيما إذا أصابت الأمارة ـ واجتماع الضدين ، فيما إذا أخطأت وأدت إلى غير ذلك الحكم مع وحدة المتعلق ، وطلب الضدين فيما إذا أخطأت ، وأدت إلى وجوب ضد الواجب ، ولزوم التصويب ان التزمنا بعدم ثبوت الحكم الواقعي.

وملخص القول في دفعه إنما هو بوجهين :

أحدهما : مختص بالطرق والأمارات.

ثانيهما : يعم موارد ، الأصول ، والأمارات على القول بجعل الأحكام

١٣٧

الظاهرية في مواردها.

أما الأول : فهو انه في باب الطرق ليس المجعول إلا الطريقية والوسطية وتتميم الكشف ، وعليه فمخالفة الطريق كمخالفة القطع له لا توجب التضاد وغيره مما أشير إليه.

توضيح ذلك ان المجعول في باب الأمارات والطرق ليس هو الحكم التكليفي كي تكون الحجية منتزعة عنه لما ذكرناه مفصلا في أوائل مبحث الاستصحاب من ان الأحكام الوضعية مستقلة في الجعل ولا تكون منتزعة عن حكم تكليفي ، مضافا إلى ان الحجية ليست من الأحكام التأسيسية بل هي من الأحكام الامضائية والشارع أمضى ما عليه بناء العقلاء ، ومن الواضح ان العقلاء لم يبنوا على جعل حكم تكليفي في موارد الأمارات ـ مع ـ ان الحكم التكليفي ينعدم بالعصيان وليست الحجية كذلك.

كما ان المجعول فيها ، ليس هو التنجيز والتعذير ، فان حسن العقاب على مخالفة التكليف وقبحه إنما يكونان مترتبين على البيان وعدم البيان ومن لوازمهما غير القابلة للانفكاك.

وبعبارة أخرى : هما من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، فما دام لم يتصرف في الموضوع بإعطاء صفة الطريقية للإمارة لا معنى لجعل التنجيز والتعذير.

وبالجملة في مورد الأمارات غير العلمية بما ان موضوع حسن العقاب ، وهو البيان والوصول غير موجود فما لم يتصرف الشارع فيها بجعل ما يكون موجبا لتحقق المقتضى للعقاب ليس للشارع جعل التنجيز والتعذير لأنه

١٣٨

تخصيص في الحكم العقلي.

بل المجعول فيها الطريقية ، أي ما للقطع بالانجعال وهو الطريقية والكاشفية التامة وتصير الأمارة بذلك فردا اعتباريا للقطع ، والبيان ، والوصول.

ودعوى ان اعتبار شيء يتصور على قسمين :

الأول : ما يصير مصداقا حقيقيا للطبيعة بعد الاعتبار كالملكية.

الثاني : ما لا يصير كذلك ، والطريقية الاعتبارية من قبيل الثاني.

إذ الأمارة بعد اعتبار كونها علما لا تصير من مصاديق العلم حقيقة ، وفي مثل هذا القسم لا بد وان يكون الجعل والاعتبار بلحاظ آثاره بخلاف القسم الأول فانه بعد صيرورته من مصاديق الطبيعة حقيقة بترتب عليه حكمها قهرا بلا احتياج إلى لحاظ الشارع وجعله فاعتبار الطريقية لا بد وان يكون بلحاظ الأثر ، وهو المعاملة مع المؤدى معاملة الواقع ، فحينئذ لك ان تقول ان جعل المؤدى والمعاملة معه معاملة الواقع حيث انه مقدم على جعل الطريقية إذ جعلها إنما يكون بلحاظ جعل المؤدى ، فلا محالة يكون أولى بالمجعولية منها ، كما عن بعض الأساطين (١).

مندفعة : بان اعتبار شيء في جميع الموارد من دون لحاظ الأثر لغو لا يصدر من الحكيم ، بل في جميع الموارد الاعتبار يكون بلحاظ الأثر ، ومن تلك الموارد اعتبار الطريقية ، والاثر الذي بلحاظه نزل غير العلم من الآثار من قبيل صحة

__________________

(١) قد يكون المقصود السيد الحكيم كما هو الظاهر من حقائق الأصول ج ٢ ص ١٨٣.

١٣٩

العقاب على المخالفة ، فليس ذلك الأثر جعل المؤدى وتنزيله منزلة الواقع كي يصح ما ذكر ، وتمام الكلام في محله.

فعلى هذا لا حكم مجعول في باب الأمارات والطرق كي لا يجتمع مع الحكم الواقعي.

واما الوجه الثاني : فمحذور اجتماع المثلين.

يدفع بان موضوعي الحكمين ان كانا طوليين غير المجتمعين في مورد واحد ، فاين اجتماع المثلين.

واما ان قلنا بان الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ولكن الواقع محفوظ في مرتبة الحكم الظاهري فيلتزم بالتأكد.

وبهذا البيان اندفع ايراد بعض الاعاظم (١) على المحقق النائيني (ره) (٢) الملتزم بالتأكد في الجواب عن شبهة اجتماع المثلين ، بان الواقع والظاهر في مرتبتين فكيف يمكن الالتزام بالتأكد.

وجه الاندفاع انه على فرض الطولية لا يلزم اجتماع المثلين حتى يلتزم بالتأكد ، والالتزام بالتأكد إنما هو على فرض اجتماعهما في مورد واحد ، الذي هو فرض الاشكال.

ومحذور طلب الضدين يندفع بان طلب الضدين بهذا النحو أي بنحو لا

__________________

(١) الظاهر انه آية الله الخوئي (قدِّس سره) في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٦٦.

(٢) حيث التزم بالتأكد ، راجع فرائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٤.

١٤٠