زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

والمحقق الخراساني (ره) (١) يدعي ان المناسب في المقام هو البحث عن كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية هل يكون بنحو العلية أو الاقتضاء ، ثم بعد الفراغ عن كونه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كليهما ، أو أحدهما ، يبحث في باب الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.

والظاهر : ان الحق مع المحقق الخراساني إذ المناسب للبحث في المقام ، هو البحث عن كل ما هو من شئون العلم ، وفي باب الاشتغال البحث عن كل ما يكون من شئون الجهل كما هو واضح ، وحيث انه في العلم الإجمالي كلتا الجهتين موجودتان ولا بد وان يبحث عن كلتيهما ، ففي المقام يبحث عن كون العلم المخلوط بالجهل مقتض للتنجز ، أم علة تامة له ، وفي باب الاشتغال يبحث عن ان الشك المقرون بالعلم ، هل يصلح بواسطة جريان الأصول ان يمنع عن التنجيز ، أم لا؟

ثم انه قد يتوهم التنافي بين ما ذكره المحقق الخراساني في المقام من ان العلم الإجمالي مقتض للتنجيز ، وبين ما يصرح به في مبحث الاشتغال من كونه علة تامة له.

ولكنه ناشئ من عدم التدبر في كلماته ، ولتوضيح ما أفاده في الموردين والجمع بين كلاميه ، لا بد من تقديم مقدمة :

وهي انه من جملة كلماته ، ان التكليف قد يكون فعليا من جهة ، وقد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٣.

١٠١

يكون فعليا من جميع الجهات ، ومراده من ذلك على ما يظهر من ما ذكره في بعض مباحث الكفاية ، والتعليقة ، وهو المنقول من مجلس بحثه ، ان الغرض من التكليف قد يكون بحد يوجب قيام المولى مقام البعث ، وإيصاله إلى المكلف ولو بنصب طريق أو إيجاب الاحتياط ، وفي مثل ذلك لا يجوز الترخيص في مخالفته ، وقد لا يكون بهذا الحد ، بل بحيث إذا وصل من باب الاتفاق لتنجز ، وكان سببا لتحصيل الغرض من المكلف ، وفي مثله يجوز الترخيص في خلافه وسد باب وصوله ، فان كان التكليف على النحو الأول فهو فعلى من جميع الجهات ، وان كان على النحو الثاني فهو الفعلي من جهة ، هذا في مقام الثبوت.

واما في مقام الإثبات فان دل دليل خاص على كونه فعليا من جميع الجهات ، كما في الأبواب الثلاثة ، الدماء ، والأعراض ، والأموال عند المشهور فهو ، وإلا فمقتضى إطلاق أدلة الأصول ، الشامل لأطراف العلم الإجمالي كون الغرض من قبيل الثاني وكون الحكم فعليا من جهة.

إذا عرفت هذه المقدمة يظهر اندفاع التوهم المذكور فانه في مبحث الاشتغال يصرح بأنه علة تامة إذا تعلق بالتكليف الفعلي من جميع الجهات ، واما كلامه في المقام ، فهو فرع عدم إحراز ذلك ، فمن جريان الأصول يستكشف كون التكليف فعليا من جهة.

هل العلم الإجمالي منجز للتكليف ، أم لا؟

وكيف كان فالبحث في كل من الموردين ، أي البحث في حرمة المخالفة القطعية ، ووجوب الموافقة القطعية في المقام يقع في موردين :

١٠٢

الأول : في ان العلم الإجمالي هل يكون منجزا للتكليف في الجملة أم لا؟

وبعبارة أخرى : هل العقل يرى العلم الإجمالي بيانا كالعلم التفصيلي كي لا يجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان أم لا؟

الثاني : في ان تأثير العلم الإجمالي في التنجز ، هل هو بنحو الاقتضاء ، أو العلية ، بمعنى انه هل يمكن للشارع إلا قدس ان يرخص في المخالفة القطعية أو الاحتمالية ، أم لا؟

فالكلام يقع في مباحث أربعة :

المبحث الأول : في تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية وعدمه ، وقد يقال انه يعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة ان يكون المكلف عالما بالمخالفة حين العمل لعدم تحقق العصيان إلا مع العلم بها ، ولا يكفي في حكم العقل بالقبح احتمال التكليف حين الارتكاب ، ولا حصول العلم بالمخالفة بعد ارتكاب الجميع ، ولذا في الشبهات البدوية مع احتمال التكليف يجوز الارتكاب تمسكا بأصالة البراءة ، ولا مانع من تحصيل العلم بحرمة ما فعله بالسؤال أو بغير ذلك.

وعلى الجملة العقل إنما يستقل بقبح الإقدام على العمل إذا علم حينه انه مخالفة للمولى ، واما الإتيان بأمور يعلم بعد ارتكابها انه خالف المولى فيها ، ويكون حين العمل شاكا في ذلك ، فلا يستقل العقل بقبح الإقدام عليها.

وفيه : ان الشك في التكليف ان كان توأما مع عدم وصوله من حيث الصغرى ، كما في الشبهات الموضوعية ، أو الكبرى كما في الشبهات الحكمية ،

١٠٣

يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبها يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وذلك كما في الشبهات البدوية ، فيجوز الارتكاب ، ومع ذلك لا يبقى مورد لحكم العقل بقبح المخالفة.

واما ان كان احتمال وجود التكليف في كل مورد مقرونا بالعلم الإجمالي بوجود الحكم في أحد الطرفين ، فلا محالة لا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل يكون موردا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

وان شئت قلت ، انه لا يعتبر في حكم العقل بقبح مخالفة التكليف ، سوى وصول التكليف من حيث الصغرى والكبرى ، ولا يعتبر فيه تمييز المتعلق عن غيره ، ولذلك ترى انه لم يشك أحد في حكم العقل بقبح النظر دفعة إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما ، مع ان متعلق التكليف غير مميز ، فإذا وصل التكليف بالعلم الإجمالي استقل العقل بقبح مخالفته ، وان شئت فاختبر ذلك بمراجعة العقلاء فانك تراهم لا يفرقون ، في قبح قتل ابن المولى بين ما لو عرفه بشخصه ، وبين ما لو تردد بين شخصين ، وهذا هو الفارق بين المقام والشبهات البدوية.

وحاصله انه في المقام يكون مخالفة التكليف من ناحية العبد. وفي الشبهات البدوية يكون من ناحية المولى فتدبر.

المبحث الثاني : ان العلم الإجمالي بالقياس إلى حرمة المخالفة القطعية هل يكون بنحو العلية أو الاقتضاء.

١٠٤

فقد اختار المحقق الخراساني (ره) (١) انه بنحو الاقتضاء ، بدعوى ان الحكم الواقعي حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ففي كل طرف ليس إلا احتمال وجود التكليف ، فمرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، وموضوع الأصول متحقق ، فيجوز للشارع الإذن بمخالفته ، ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالا ، إنما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، يرتفع بما يرتفع به هذا المحذور في الشبهات غير المحصورة ، بل في الشبهات البدوية لاستلزام جعل الحكم الظاهري ، فيها احتمال الجمع بين الضدين ، وبديهي ان احتمال الجمع يبن الضدين كالقطع به محال ، والمحال مقطوع العدم ، دائما ، فما به التقصي عن المحذور في تلك الموارد كان به التقصي في المقام.

وعلى الجملة المقتضى للإذن موجود ، وهو الشك في كل مورد والمانع مفقود لما يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي.

ويرد عليه أمران :

الأول : انه في الشبهات البدوية ، إنما يلتزم بجواز الإذن وجعل الحكم الظاهري : نظرا إلى ان الحكم الواقعي ، حيث لا يكون واصلا فلا يلزم العقل بلزوم اتباعه ، وحرمة مخالفته ، ومثل هذا الحكم لا يكون مضادا مع الحكم الظاهري ، واما في المقام فالمفروض وصول الحكم الواقعي ، وحكم العقل بوجوب اتباعه ، وحرمة مخالفته ، وهذا لا يلائم مع الحكم الظاهري.

واما في الشبهات غير المحصورة فيجيء في محله إنشاء الله تعالى ان القدر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٢ (الأمر السابع).

١٠٥

المتيقن من موردها ، ما إذا لم يكن العلم الإجمالي منجزا إما لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء ، أو لغير ذلك من موانع التكليف.

واما ما أفاده في وجه الجمع من عدم كون الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات مع عدم العلم به تفصيلا ، وعليه التزم في المقام بإمكان جعل الترخيص في كل من الأطراف فيجيء في محله انه غير معقول لابتنائه على دخالة العلم في فعلية الحكم مع عدم أخذه في مقام الجعل.

الثاني : ان المحذور ليس منحصرا في المناقضة كي يتم ما ذكره (ره) بل في المقام محذور آخر ، وهو لزوم الترخيص في المعصية والاذن في الظلم.

توضيح ذلك يتوقف على بيان أمور :

الأول : انه قد تقدم في مبحث التجرِّي ، من ان ملاك استحقاق العقاب ، هو الظلم على المولى ، وعرفت أيضاً انه إنما يتحقق فيما لو وصل تكليف المولى.

الثاني : ان الحاكم ، بذلك هو العقل ، لا الشرع.

الثالث : ان محل الكلام هو ما لو تعلق العلم بالتكليف الفعلي وإلا فالعلم التفصيلي لا يوجب تنجزه فضلا عن العلم الإجمالي.

الرابع : ان العناوين القبيحة ذاتا لا من باب انطباق عنوان آخر عليه كالظلم ، لا يمكن ان يطرأ عليه ما يرفع قبحه.

الخامس : انه لا فرق في حكم العقل بان مخالفة التكليف ظلم بين كونه واصلا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمات تعرف ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة

١٠٦

المخالفة القطعية ، إنما يكون بنحو العلية ، ولا يعقل ثبوتا الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم للإذن في الظلم ، مضافا إلى ان الترخيص في كلا الطرفين مستلزم لنقض الغرض من التكليف ، إذ الغرض من الأمر جعل الداعي ومن النهي جعل الزاجر ، والترخيصان مناقضان لذلك.

فتحصل ، ان الأظهر كونه بنحو العلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.

المبحث الثالث : في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، هل يكون له اقتضاء لوجوبها ، أم لا؟

لا ريب في اقتضائه له ، لفرض وصول الحكم ، فانه يحكم بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الواصل. وان شئت قلت : ان مقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل لزوم الموافقة القطعية ، لاحتمال وجود التكليف الواصل في كل طرف فلا يجري قبح العقاب بلا بيان.

المبحث الرابع : في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، هل هو بنحو العلية كما عن المحقق الخراساني (١) إذا كان الحكم فعليا من جميع الجهات ، أم هو بنحو الاقتضاء كما عن الشيخ الأعظم (٢) والمحقق النائيني (٣) وغيرهما.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٣.

(٢) كما هو ظاهر كلامه في فرائد الأصول ج ١ ص ٣٥.

(٣) وقد أشار إلى ذلك في غير محل من كتبه (قدِّس سره) منها : ما في فوائد الأصول ج ٣ ص ٨٠ وص ٢٣١ وأيضا ج ٤ ص ٣٦ وغيرها.

١٠٧

وقد استدل للأول بوجهين :

الأول : ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، وهو ان احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما محال فبما انه يحتمل وجود التكليف الفعلي في كل طرف فلا يصح الترخيص فيه.

وفيه : انه يرد هذا الوجه ما يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي ، وثبت في محله عدم التنافي بينهما ، ولذا ذكرنا في وجه عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية انه مستلزم للترخيص في المعصية.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (٢) وحاصله انه لا شبهة في ان العلم الإجمالي يوجب تنجز الحكم الواقعي بما له من الوجود الخارجي لا بوصف انه معلوم.

وبعبارة أخرى : ما يتنجز إنما هو الحكم بنفسه لا صورته الذهنية ، وحيث انه يحتمل انطباقه على كل طرف ففي كل من الأطراف يحتمل ثبوت التكليف المنجز وعليه فيكون موردا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا قبح العقاب بلا بيان.

وفيه ، أولا : النقض بموارد رخص الشارع في المخالفة الاحتمالية ، كما في مورد اشتباه القبلة ، إذ مقتضى العلم الإجمالي هو الصلاة إلى الجوانب بحد يقطع بالصلاة إلى القبلة ولكن الشارع المقدس رخص في ترك الموافقة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٣.

(٢) وهو ظاهر كلامه في نهاية الافكار ج ٣ ص ٤٧٩ (ونتيجة ذلك كله ...)

١٠٨

القطعية ، اما بالاكتفاء إلى الصلاة إلى أربع جوانب ، أو الاكتفاء بالصلاة إلى جانب واحد كما هو المختار تبعا لجمع من الاساطين ، وفي موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، فان الشارع لم يرفع اليد عن التكليف الواقعي ، ولذا لو انكشف الخلاف يجب الاعادة ، ولكن في مقام امتثاله اكتفى بما يكون امتثالا احتماليا بل في جميع موارد الأمارات على الطريقية الأمر كذلك.

وثانيا : الحل ، وحاصله ان احتمال التكليف قد عرفت انه مع قطع النظر عن المؤمن يكون مساوقا لاحتمال العقاب ، وليس معنى احتمال ثبوت التكليف المنجز إلا ذلك ، فكما انه في سائر الموارد لا يكون هذا الاحتمال مانعا عن جريان الأصل كذلك في المقام.

وبعبارة أخرى : انه مع عدم احتمال العقاب لا تجرى الأصول العقلية والنقلية للزوم اللغوية ، فمورد جريانها إنما هو فيما احتمل العقاب.

فتحصل : ان الأظهر انه بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية يكون مقتضيا لا علة تامة فيمكن ان يرخص الشارع في تركها.

جواز الامتثال الإجمالي

واما المقام الثاني : وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي بان يوافقه إجمالا ، فلا ينبغي الإشكال في جواز الامتثال الإجمالي مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي ، وإلا لانسد باب الاحتياط ، مع انه في فرض عدم التمكن منه ، إما ان يسقط التكليف ، أو يكون مكلفا بما لا يطاق ، أو يجوز الامتثال الإجمالي ، والأول

١٠٩

خلاف الفرض ، إذ الفرض العلم بالتكليف والثاني محال ، فيتعين الثالث.

واما مع التمكن منه ، فالكلام يقع تارة في التوصليات ، وباب العقود والإيقاعات ، وأخرى في التعبديات.

أما في التوصليات فلا إشكال في كفايته إذ المقصود فيها تحقق المأمور به في الخارج كيفما اتفق ، لان به يحصل الغرض ، ويسقط الأمر بتبعه ، فلو احتاط ، وأتى بجميع المحتملات يحصل له العلم بتحقق المأمور به في الخارج ، ويلحق بالتوصليات الوضعيات كالطهارة والنجاسة ، فلو غسل المتنجس بمائعين طاهرين يعلم إجمالا ، بان أحدهما ماء والآخر مضاف ، طهر بلا إشكال.

وكذلك العقود والإيقاعات فلو أتى بإنشاءات متعددة يعلم إجمالا بصحة أحدها يكفي في تحقق المنشأ وان لم يتميز عنده السبب المؤثر.

ولكن استشكل جمع من الفقهاء منهم الشيخ الأعظم الأنصاري ، في الاحتياط في العقود والإيقاعات ، إما مطلقا كما عن جماعة هو منهم ، أو في خصوص ما إذا كان التردد من ناحية الشروط المقوِّمة ، كالزوجية بالنسبة إلى الطلاق كما عن جماعة آخرين (١) ، واستندوا في ذلك إلى انه مستلزم للإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاء : إذ الترديد ينافي الجزم ، ولذا لا يصح التعليق في الإنشاء ، وعلى ذلك بنى الشهيد (ره) في محكي القواعد (٢) ، الجزم ببطلان عقد

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ج ٢ ص ٧٨ ، وهناك أيضا حكى استشكال الشيخ الأعظم ونقل الحكاية عن الشهيد الأول في القواعد.

(٢) راجع القواعد والفوائد للشهيد الأول ج ٢ ص ٢٣٨. (الناشر مكتبة المفيد ، قم المقدسة).

١١٠

النكاح ، فيما لو زوجه امرأة يشك في أنها محرمة عليه فظهر حلّها ، وكذلك لو خالع امرأة أو طلقها وهو شاك في زوجيتها فانه باطل وان تبين كونها زوجة ، وكذا لو ولى نائب الإمام قاضيا لا يعلم أهليته وان ظهر كونه أهلا فانه لا يصير قاضيا.

ولكن الإشكال المذكور لا يرجع إلى محصل.

وذلك لأنه في باب العقود والإيقاعات أمور :

أحدها الاعتبار النفساني من قبل المنشئ نفسه.

الثاني السبب الذي يكون مظهرا لذلك الاعتبار النفساني.

الثالث إمضاء الشارع لذلك ، والجزم إنما يعتبر في الأمر الأول ، فلو كان المعتبر مرددا في اعتباره ، ومعلقا إياه على أمر مشكوك فيه كما لو قال وهبتك هذا المال ان كنت ابن زيد مثلا ، أو ان جاء زيد ، مع التردد فيه ، لم يصح لأنه مردد في اعتباره ولا يدرى تحققه لفرض تعليقه على أمر مشكوك الحصول ، وهذا هو الترديد المنافي لقصد الإنشاء جزما ، إجماعا ، واما موارد الاحتياط في العقود والإيقاعات فلا ترديد في الإنشاء بمعنى الاعتبار النفساني ، من قبل المنشئ ، بل هو جازم به ، غاية الأمر انه تردد في ان السبب الممضى هو هذا أو ذاك.

وعلى الجملة فالجزم المعتبر إنما هو بمعنى عدم التردد في الاعتبار النفساني المبرز باللفظ ، وهو متحقق في موارد الاحتياط في العقود والإيقاعات التي هي محل الكلام ، مثلا من ينشأ النكاح بجميع محتملاته جازم في ذلك الاعتبار

١١١

النفساني ، والتردد إنما هو في ان السبب الممضى هذا أو ذاك ، وهو لا ينافى الجزم المعتبر في الإنشاء هذا فيما إذا لم يكن التردد من ناحية قابلية المحل للاعتبار الشرعي ، واما في ذلك المورد كما لو شك في كون امرأة محرمة عليه فزوجها فظهر حلها ، فلو اعتبر زوجيتها مع الشك في ان الشارع أمضاها أم لا؟ فحيث لا تريد في اعتباره وهو جازم به ، فلا مانع من صحته إذ التردد في الحكم الشرعي لا ينافى الجزم المعتبر في الإنشاء ، بل العلم بعدم إمضاء الشارع لا ينافى الإنشاء لأنه اعتبار من قبل نفس المنشئ ولا ربط له بالإمضاء الشرعي ولذا لو زوج امرأة معتقدا أنها محرمة عليه لا يصح تزويجها ، ثم انكشف حليتها يحكم بصحة النكاح المذكور.

واما في التعبديات فمع عدم تنجز الواقع كما في الشبهة البدوية الحكمية بعد الفحص ، والشبهة الموضوعية مطلقا ، فلا إشكال ولا كلام في الاحتياط فيها.

واما مع تنجز الواقع كما في موارد العلم الإجمالي والشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص ، فربما يستلزم الاحتياط التكرار ، وقد لا يستلزمه ، وعلى التقديرين فقد يكون المعلوم بالإجمال أو المشكوك فيه استقلاليا كما في مورد دوران الأمر بين القصر والإتمام ، وقد يكون ضمنيا كما في مورد دوران الأمر بين الجهر والاخفات في القراءة كما في ظهر يوم الجمعة ، وعلى التقادير تارة يتمكن من الامتثال العلمي ، وأخرى يتمكن من الامتثال الظني ، وما لم يستلزم التكرار قد يكون اصل الطلب معلوما في الجملة ، وإنما الشك في الوجوب والاستحباب ، وقد لا يكون معلوما لاحتمال الإباحة فها هنا مسائل.

١١٢

المسألة الأولى : فيما إذا كان الاحتياط مستلزما للتكرار وكان المعلوم بالإجمال استقلاليا وكان متمكنا من الامتثال العلمي ، وفيها قولان ، وفي الرسائل (١) لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة انتهى.

وقد استدل لعدم الجواز بوجوه :

الأول : انه يوجب الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، لأمور :

١ ـ الإجماع المحكي على ذلك.

وفيه ، مضافا إلى عدم ثبوته ، وإلى عدم ثبوت إجماع الفقهاء بما هم فقهاء : انه يحتمل بل يعلم استناد المجمعين إلى الوجه العقلي الذي سيمر عليك وما فيه.

٢ ـ ان حسن الأفعال وقبحها إنما يكونان مترتبين على العناوين القصدية فلو قصد العنوان الحسن يتصف الفعل به ، وإلا فلا مثلا ضرب اليتيم إذا قصد به التأديب يكون حسنا ، وإلا فلا ، فما دام لم يقصد العنوان الخاص الذي به يصير الفعل حسنا لما اتصف به ، وحيث ان المكلف لا يكون محيطا بالمصالح والعناوين التي بها يصير الفعل العبادي حسنا فلا بد من الإشارة الإجمالية إليه بالإتيان به بالعنوان الذي أوجبه الشارع ، لكونه عنوانا إجماليا للعنوان الذي يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالحسن ، فيعتبر قصد الوجه ، لكونه قصدا للعنوان الحسن الذي لا يعنون الفعل الخارجي به إلا إذا قصده.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٥.

١١٣

وفيه ، أولا : أن من يأتي بعملين يعلم بوجوب أحدهما إنما يقصد الإتيان بكل منهما باحتمال الأمر الخاص ، فعلى فرض كونه هو المأمور به ، فهو قاصد للأمر المتعلق به ، وهو عنوان إجمالي للعنوان الحسن الذي يصير الفعل حسنا فالاحتياط غير مخل بذلك.

وثانيا : انه يكفي في الإشارة إلى ذلك العنوان قصد القربة لان الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به.

٣ ـ انه يحتمل دخل قصد الوجه في العبادة ولا يمكن نفى اعتباره بإطلاق دليل العبادة لأنه من القيود التي على فرض دخلها لا يمكن أخذها في المأمور به شرعا ، ولا يمكن نفيه بالأصل بل المتعين هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وأصالة الاحتياط ، ولا مورد للبراءة.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي ، من ان هذه القيود التي لا يمكن أخذها في المتعلق لو احتمل دخلها في حصول الغرض ، يصح التمسك بالإطلاق لنفى اعتبارها.

وأيضا يصح التمسك بالأصل لنفيه فراجع ما ذكرناه.

انه على فرض عدم تمامية ما ذكرناه من صحة التمسك بالإطلاق ، والأصل في خصوص مثل قصد الوجه ، يصح التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات عدم دخله : إذ القيد ان كان مما يغفل عنه العامة فعدم بيان المولى دخله ، ولو بالأخبار بدخله في الغرض ، دليل العدم سيما إذا كان مما تعم البلوى به وتكثر الحاجة إليه ، فان عدم البيان حينئذ على فرض دخله في الغرض إخلال بالغرض ، والحكيم لا يخل به فيستكشف من عدم البيان عدم دخله فيما يحصل

١١٤

به الغرض ، وهذا هو حقيقة الإطلاق المقامي.

فالأظهر عدم اعتبار قصد الوجه.

الثاني : ان الاحتياط يستلزم الإخلال بالتمييز ومراعاته لازمة.

واستندوا في لزوم مراعاتها بالوجوه الثلاثة المتقدمة في قصد الوجه ، وقد عرفت نقدها ، فالأظهر عدم اعتباره أيضاً.

الثالث : ان التكرار لعب بأمر المولى وعبث فلا يصدق عليه الامتثال.

وأجاب عنه في الكفاية (١) بأمرين.

أحدهما : انه ربما يكون لداع عقلائي.

وفيه : ان الاشتمال على الغرض العقلائي لا يجدي في دفع المحذور لو سلم سراية اللعب إلى نفس الامتثال فان المعتبر في العبادة قصد القربة واللعب ، لا يوجب القرب فلا يصح التقرب به.

ثانيهما : ما محصله ان اللعب والعبث لو كان ، فإنما هو في كيفية إحراز الامتثال وتحصيل اليقين به واما الإتيان بما هو مصداق للواجب فهو شيء واحد لا لعب فيه ولا عبث وضم ما يكون لعبا وعبثا باتيان المأمور به لا يوجب عدم تحقق الامتثال.

الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) ، وحاصله ان الإطاعة في نظر العقل

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٤ ، بتصرف.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٧٣.

١١٥

الذي هو الحاكم في هذا الباب لا يتحقق إلا بإتيان العمل ، والانبعاث عن شخص أمر المولى ، وبعثه لا عن احتماله ، وهذا المعنى غير متحقق في الامتثال الإجمالي ، فان الداعي له نحو العمل في كل طرف هو احتمال الأمر ـ نعم ـ مع عدم التمكن منه يكون الامتثال الاحتمالي إطاعة ، فالامتثال الإجمالي إنما يكون في طول الامتثال التفصيلي.

ثم على فرض عدم استقلال العقل بذلك ، لا ريب في عدم استقلاله بعدمه ، فتصل النوبة إلى الأصل ، وهو الاشتغال ، وان قلنا بالبراءة فيما إذا احتمل اعتبار مثل قصد الوجه : إذ الشك هنا في كيفية الإطاعة الموكولة إلى حكم العقل لا فيما يمكن اعتباره شرعا.

وفيه : ان حقيقة الإطاعة في نظر العقل ليست إلا إتيان المأمور به بجميع قيوده ، مضافا إلى المولى وليس وراء ذلك للعقل حكم ، وهو لا يحكم باعتبار شيء زائد فيه ، ولا ريب في ان الإضافة إليه تتحقق بالإتيان بداعي احتمال الأمر ، فلو كان معتبرا فيه الإتيان به عن البعث الجزمي ، لكان ذلك باعتبار من الشارع وحيث انه لا دليل عليه ، فالأصل يقتضي عدم اعتباره.

مع ان إتيان الفعل باحتمال الأمر إنما ينطبق عليه عنوان الانقياد الذي هو من العناوين الحسنة بالطبع ، فما لم يمنع عنه مانع يكون متصفا بالحسن ، ولذا اختار هو (قدِّس سره) (١) ان الامتثال الإجمالي من وجوه الطاعة وإنما منع في صورة

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ (إزاحة شبهة) وقد أشار إلى ذلك في بحث العلم الإجمالي إلا أن تفصيله هنا أوضح لذا اعتمدناه.

١١٦

التمكن من الامتثال التفصيلي ، والمانع المتصور ليس إلا إمكان الامتثال التفصيلي ، وهو لا يوجب تعنون الامتثال الإجمالي بالعنوان القبيح.

مضافا إلى أنّا لا نتصور اعتبار شيء في الطاعة بحكم العقل ، وان لم يعتبره الشارع ، إذ لو كان دخيلا في الغرض كان كقصد الوجه والقربة مما على الشارع بيانه ، وان لم يكن دخيلا فيه لا معنى لاعتباره.

فتحصل ان الاحتياط وان استلزم تكرار العمل يكون حسنا ولا موجب للمنع عنه مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي.

وبه يظهر الحال في سائر الموارد.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ، عدم جواز الاحتياط لو استلزم تكرار العمل. يقع الكلام في المسائل الآخر.

المسألة الثانية : ما إذا كان الاحتياط مستلزما لتكرار جزء العمل مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي.

وغاية ما يمكن ان يقال أو قيل في وجه عدم جوازه أمران.

أحدهما : انه يحتمل دخل قصد وجه الجزء ، والمرجع في مثل ذلك هو قاعدة الاشتغال ، وقد مر تقريبه والجواب عنه.

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (١) من انه يعتبر الانبعاث عن البعث لا عن احتماله في صدق الطاعة وقد مر الجواب عنه.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ (إزاحة شبهة).

١١٧

واما ما أفاده قدس في وجه عدم جريان هذا الوجه في المقام من انه يكفي في صدق الطاعة الانبعاث عن البعث الشخصي المتعلق بمجموع العمل ، ولا يتوقف على ان يكون المحرك نحو كل جزء من العمل الأمر الضمني المتعلق به.

فيرد عليه ان الأمر بالمجموع عين الأمر بالاجزاء فعند الإتيان بكل جزء لا محالة يكون المحرك الأمر الضمني المتعلق به فإذا لم يكن متلعقه معلوما وأراد التكرار لا محالة يأتي بكل واحد بداعي احتمال الأمر.

واما سائر الوجوه من دعوى ، اخلال الاحتياط بقصد الوجه. والتمييز ، وكون الاحتياط لعبا وعبثا ، فلا تجري في المقام.

أما الأول : فلان دليل اعتباره لم يكن إلا الإجماع غير الثابت في المقام إذ المشهور عدم اعتباره هنا.

وما ذكره المتكلمون من ان حسن الأفعال إنما يكون ، بالعناوين القصدية وحيث أنها في العبادات غير معلومة ، فلا بد من الإشارة الإجمالية إليها بالإتيان بها بقصد الوجه.

غير جار في الأجزاء إذ قصد وجوب مجموع العمل يكفي في قصد ذلك العنوان الحسن ، ولا حاجة إلى قصد وجه الجزء ، والجزء بما هو لا يكون معنونا بعنوان حسن مستقل كي يلزم قصده.

وبما ذكرناه ظهر وجه عدم جريان الوجه الثاني.

واما الثالث : فلان الاحتياط غير المستلزم لتكرار العمل لا يعد لعبا ولا

١١٨

مجال لتوهم عده كذلك.

المسألة الثالثة : ما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار ، فان كان التكليف استقلاليا وكان اصل الطلب معلوما ، كما إذا شك في ان غسل الجنابة واجب نفسي أو مستحب كذلك ، فالظاهر انه لا إشكال في الاحتياط بإتيان المحتمل بداعي الأمر المعلوم وجوده ، ولا يكون هناك ما يوجب المنع عن الاحتياط سوى ما نشير إليه وستعرف ما فيه.

وقد استدل للمنع بوجوه :

١ ـ الإجماع.

٢ ـ كونه مخلا بقصد الوجه والتمييز.

٣ ـ ان الانبعاث عن البعث المحتمل إنما ينطبق عليه عنوان الإطاعة إذا لم يتمكن من الجزم بالأمر.

وقد مر الكلام في الجميع ، ويضاف إليه انه لو سلم اعتبار قصد العنوان الخاص الذي يصير الفعل حسنا به لا ينحصر ذلك بقصد الوجه خصوصا بقصد خصوصية الوجوب ، أو الاستحباب ، بل يمكن الإشارة إليه بقصد الأمر المحرز على الفرض.

هذا كله في فرض التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي.

واما إذا لم يتمكن منه ودار الأمر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظني.

فتارة يكون الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص.

١١٩

وأخرى يكون مما ثبت الاكتفاء به بدليل الانسداد.

وثالثة مما لم يثبت اعتباره.

أما القسم الأول : فهو ملحق بالعلم التفصيلي بناء على ما هو الحق من ان المجعول في الأمارة المعتبرة هو الطريقية والكاشفية ، وان الحجة المعتبرة ، علم بالتعبد ، فعلى القول بعدم جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي لا بد من البناء على عدم جوازه مع التمكن من الامتثال الظنى وعلى القول بجوازه يجوز في المقام أيضاً.

نعم فرق بين العلم الوجداني والظن المعتبر ، وهو انه مع العلم الوجداني لا مجال للاحتياط ، لعدم احتمال الخلاف ، وله مجال مع الظن المعتبر ، فانه لا ينافى مع الاحتمال الوجداني الذي هو الموضوع للاحتياط.

وعلى هذا وقع الكلام بين الأعلام في جواز تقديم المحتمل على المظنون في صورة الاحتياط وعدمه ، واختار المحقق النائيني (ره) (١) الثاني ، ونسبه إلى الشيخ الأعظم (٢) ، والسيد الشيرازي (ره) (٣) ، حيث انه في مسألة دوران الأمر بين القصر والتمام ، لمن سافر إلى أربعة فراسخ ، ولم يرد الرجوع في يومه ، اختار الشيخ

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٧١ ـ ٧٢ (المبحث السابع) / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٤٩. / وقد حكى الأقوال في المسألة آية الله الخوئي (قدِّس سره) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٨٥.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٦.

(٣) انظر تقريرات المجدد الشيرازي ج ٣ ص ٣٤٦ ـ ٣٤٩.

١٢٠