زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

اما على الأول : فلانه وان سلم كون المرجع في دوران الامر بين التعيين والتخيير في سائر الموارد ، هي قاعدة الاشتغال ، لا نسلم كونها المرجع في خصوص المقام ، إذ في سائر الموارد ، تعلق التكليف بالمعين ، اما تعيينا ، أو تخييرا ، معلوم ، وتعلقه بالعدل الآخر مشكوك فيه ، واما في المقام فتعلق التكليف ، ولو تخييرا ، ومنضما إلى شيء آخر ، بالمأمور به الاضطراري ، معلوم ، وتعلقه بالمأمور به الاختياري ، في صورة عدم الاتيان بالبدل أيضا معلوم ، وانما الشك يكون في تعلقه بالفعل الاختياري ، في ظرف الاتيان بالمأمور به الاضطراري ، ولا ريب في انه مورد لاصالة البراءة.

واما على الثاني : فلما مر من ان الشك في القدرة ان كان سببا للشك في سعة الجعل ، وضيقه ، يكون مورد القاعدة ، البراءة ، لا الاشتغال.

فتحصل مما ذكرناه ان الاصول العملية أيضا تقتضي عدم وجوب الاعادة.

جواز البدار وعدمه

الموضع الثالث : في جواز البدار.

وملخص القول فيه انه في مقام الثبوت ان كانت المصلحة المترتبة على العمل الاضطراري ، باحد الانحاء الخمسة المتقدمة في أي جزء من الوقت اتى به يجوز البدار حتى مع العلم بارتفاع العذر في اثناء الوقت.

وان كان ترتبها مقيدا بما إذا اتى به في آخر الوقت ، لما جاز البدار ، وان

٤١

علم ببقاء العذر آخر إلى الوقت ، وان كان المترتب عليه احدى المصلحتين المترتبتين على العمل الاختياري ، أو اصل المصلحة التي تكون هي بنفسها وبمرتبتها اللزومية مترتبة على العمل الاختياري مع كون الباقي مما لا يمكن استيفاؤه ، وكان عدم مسبوقيته بالعمل الاضطراري من قبيل شرائط حصول المصلحة ، لما جاز البدار الا مع العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت وعدم اعتبار الاتيان به في آخر الوقت في حصول تلك المصلحة.

وان كان الباقي مما يمكن استيفاؤه جاز البدار مطلقا ان كان الملاك المترتب عليه مترتبا عليه ، وان اتى به في اول الوقت ، غاية الامر يجب الاعادة حينئذ بعد ارتفاع العذر هذا كله في مقام الثبوت والواقع.

واما في مقام الاثبات والدليل ، فمقتضى اطلاق الدليل جواز البدار مع العلم بعدم التمكن في جميع الوقت ، واما مع العلم بزوال العذر فلا بد من ملاحظة الدليل في كل مورد ليرى انه هل يشمل عدم التمكن في بعض الوقت فيجوز البدار ، أو لا يشمل فلا يجوز.

ولو كان الدليل مطلقا غير مقيد بشيء من ذلك فالظاهر ان مقتضى الإطلاق اعتبار الاستيعاب : وذلك لان المأمور به كالصلاة ، هي الطبيعة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى ، وظاهر ما تضمن ان العجز عن الاتيان بالمأمور به الاختياري شرط للامر الاضطراري ، هو العجز عن الطبيعة بلا دخل للخصوصيات الخارجة عن حريم المأمور به في ذلك ، ومعلوم ان العجز عن الطبيعة انما هو بالعجز عن جميع افرادها بخلاف القدرة عليها الصادقة على القدرة على فرد منها ، وعليه فمع التمكن من بعض الأفراد المأمور

٤٢

بها الاختياري ولو الطولى منها لا يصدق عدم القدرة والعجز فلا يكون الشرط محققا فالظاهر من الدليل المطلق اعتبار العذر المستوعب.

واستظهر المحقق العراقي (ره) (١) في خصوص دليل التيمم من الآية الكريمة ، ان الشرط هو العذر ، ولو في جزء من الوقت بتقريب ان المشروط في الآية هو التيمم عند إرادة الصلاة لان المراد من قوله تعالى" إذا قمتم إلى الصلاة" إذا اردتم الصلاة فلو اراد الصلاة في اول الوقت ولم يتمكن من الماء يجوز له التيمم بنص الآية الشريفة.

ويرد عليه ما افاده السيد المرتضى (ره) (٢) من ، ان ذلك يتوقف على ان يكون له إرادة الصلاة في اول الوقت. ونحن نخالفه ، ونقول بانه ليس له ذلك ، ومن المعلوم ان المراد بارادة الصلاة إرادة الصلاة الجائزة لا مطلقها.

ومع عدم الدليل على جواز البدار مقتضى الأصل العملي هو الجواز في صورة العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت ، وفي غير ذلك لو علم بالارتفاع ، لا يجوز البدار : إذا الامر في الواجب الموسع يتعلق بالطبيعة الجامعة بين الأفراد الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، وفي مثل ذلك انما يحكم العقل بالتخيير بين الأفراد الطولية كما يحكم بالتخيير بين الأفراد العرضية ، ولا ريب في انه انما يحكم به

__________________

(١) نهاية الافكار ج ١ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩ / وفي مقالات الأصول ج ١ ص ٢٧٠ (المقام الثاني).

(٢) راجع الذريعة ج ١ ص ١١١ فقد يظهر ذلك بعد ذكر الآية حيث قال : يعني إذا عزمتم عليها .. الخ ولكن محل استدلاله هناك عدم تكرار الوضوء لكل صلاة. أو ما يظهر من كلامه ص ١٥٤ ولعله هو المقصود.

٤٣

إذا احرز ان الأفراد متساوية في الوفاء بالغرض المترتب على تلك الطبيعة ، واما إذا كان بعضها وافيا به دون بعض ، أو احتمل ذلك ، فلا يحكم العقل بالتخيير ، وعليه ففي المقام لا يحكم العقل بالتخيير بل يرى وجوب الصبر والانتظار إلى آخر الوقت.

ولو شك في بقاء العذر وارتفاعه ، يجري استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت بناءً على جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية ، ويحكم بجواز البدار ظاهرا.

واورد على هذا الأصل في المقام بأن المستصحب ان كان هو حالة المكلف من الاضطرار والعجز فهو بالنسبة إلى ما هو موضوع الحكم وهو عدم مقدورية الأفراد الاختيارية من المثبت غير الحجة ، وان كان هو عدم مقدورية الأفراد ، فالمتيقن غير المشكوك فيه ، فإن المتيقن هي الحصص الخاصة ، والمشكوك فيها غيرها فلا يجري.

وفيه أولاً : ان ظاهر الادلة كون الشرط عجز المكلف فالشرط هو حالة المكلف.

وثانياً : انه لو سلم كون الشرط هو عدم مقدورية المأمور به الاختياري ، فمن الواضح ان الخصوصيات خارجة عن تحت التكليف فالشرط عدم القدرة على صرف وجود الطبيعة ، ومن المعلوم ان المتيقن على هذا عين المشكوك فيه.

وثالثا : انه يمكن ان يقال ان جميع الأفراد الطولية ، غير مقدورة في اول الوقت ، ولو من جهة عدم مجيء وقت جملة منها ، ويشك في انه بعد مجيء الوقت هل يتبدل ذلك إلى القدرة ام لا؟ فيجري الاستصحاب.

٤٤

ولا يرد على ذلك ان لازمه جواز البدار واقعا وان علم بارتفاع العذر لانه يصدق في اول الوقت عدم القدرة على جميع الأفراد.

فانه يندفع بأن الظاهر من الدليل ان المسوغ هو العذر المستوعب المستمر من اول الوقت إلى آخرة.

اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري

واما المسألة الثالثة : وهي اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى عن التعبد بالامر الواقعي إعادة أو قضاءً وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم أو علمي.

فقد اختلفت كلمات الاصحاب فيها على اقوال (١) :

منها : الاجزاء مطلقا.

ومنها : عدمه مطلقا.

ومنها : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجدانى ، وما إذا انكشف بعلم تعبّدي فيجزي على الثاني دون الأول.

ومنها التفصيل في الإمارات بين القول بالسببية ، والقول بالطريقية بالاجزاء على الأول مطلقا أو بعض اقسام السببية ، وعدم الاجزاء على الثاني.

__________________

(١) سيأتي تخريج الاقوال عند التعرض لها فانتظر.

٤٥

ومنها : التفصيل بين الامارات والاصول ، فيجزى في المورد الأول : ولا يجزى في الثاني.

ومنها : ما اختاره المحقق الخراساني الذي سيمر عليك.

ومنها : غير ذلك من التفاصيل ـ وستمر عليك ـ.

وقبل الشروع في البحث لا بأس بنقل ما افاده المحقق الخراساني وبه يظهر موارد البحث.

محصل ما افاده ، ان مؤدى الامارة ، أو الأصل.

قد يكون حكما شرعيا جعل موضوعا لحكم آخر أو قيدا لموضوع حكم آخر ، كالطهارة المجعولة قيدا للماء والتراب ، وشرطا لجواز الدخول في الصلاة ، وكحلية لحم حيوان خاص ، كالارنب ، المجعولة قيداً لجواز الصلاة في الوبر المتخذ منه ، وما شاكل.

وقد يكون حكما شرعيا غير مجعول موضوعا لحكم آخر ، أو قيداً لموضوع حكم ، كوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة.

فالكلام في موردين :

اما المورد الأول : فاما ان يكون الحكم الظاهرى ثابتا باصل عملي ، كاصالة الطهارة والحلية ، والاستصحاب (بناءً على ما يشير إليه في التنبيه الخامس من الاستصحاب ، من اختيار كون المجعول فيه الحكم المماثل).

واما ان يكون ثابتا بامارة شرعية ، كخبر الواحد ، والبينة ، وما شاكل.

٤٦

فإن كان ثابتا بالاصل ، فحيث ان المأخوذ في موضوعه الشك ، ويجعل الحكم على الشك بلا نظر إلى الواقع اصلا ، ولذا لا يتصف بالصدق والكذب ، بل يتبدل الشك إلى العلم ، بتبدل الموضوع والحكم ، ولا يتصور فيه انكشاف الخلاف ، فلا محالة يكون دليله حاكما على ما دلَّ على الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط ، وانه اعم من الطهارة الواقعية مثلا : فانكشاف الواقع لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل فلا مناص عن البناء على الاجزاء.

واما ان كان ثابتا بالامارة التي تكون ناظرة إلى الواقع وكاشفة عنه من دون جعل شيء آخر وحكم في موردها. فلا بد من البناء على عدم الاجزاء على الطريقية.

إذ المجعول في مورد الامارة ليس حكما ظاهريا ، بل اما ان يكون هو الطريقية ، أو التنجيز والتعذير ، فبانكشاف الخلاف ينكشف عدم واجدية العمل لما هو شرطه ، لا واقعا ، ولا ظاهرا ، فلا محالة يبني على عدم الاجزاء.

نعم على القول بالسببية مقتضى اطلاق دليل الحجية هو الاجزاء ، ومع الشك في الطريقية والسببية ، فبالنسبة إلى الاعادة في الوقت يبني على عدم الاجزاء لقاعدة الاشتغال ، وبالنسبة إلى القضاء حيث انه يكون بأمر جديد ، ويشك فيه ، فاصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب والاجزاء.

واما المورد الثاني : كما إذا قام الدليل ، أو الأصل ، على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، فانكشف بعد ادائها ، وجوب صلاة الظهر ، فالوجه عدم الاجزاء مطلقا : إذ غاية ما هناك وجوب صلاة الجمعة لمصلحة فيها ، وهذا لا

٤٧

ينافي وجوب صلاة الظهر أيضا ، لما فيها من المصلحة الواقعية ، الا ان يقوم دليل خاص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

وسيمر عليك ما يرد على ما افاده المحقق الخراساني (ره) في المقام.

وتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في الامارات.

الثاني : في الاصول.

والكلام في المقام الأول : في موردين :

الأول : بناءً على الطريقية.

الثاني : بناءً على السببية.

اما المورد الأول : فمقتضى القاعدة هو عدم الاجزاء إذ بانكشاف الخلاف ينكشف عدم امتثال الامر الواقعي فالاجزاء يحتاج إلى دليل.

وقد استدل للاجزاء بوجوه يختص بعضها بما إذا كان الانكشاف بحجة شرعية ، ويعم بعضها ما لو كان الانكشاف بالقطع واليقين.

احدها : ان الاجتهاد الأول كالاجتهاد الثاني فلا وجه لرفع اليد عن الأول بالثاني وإعادة الاعمال الواقعة على طبق الاجتهاد الأول (١).

__________________

(١) حكاه في اجود التقريرات عن بعض القائلين ج ١ ص ٢٢١. (من الفصل الثالث .. ومنه ظهر) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩١.

٤٨

ويرد عليه ، انه بعد انكشاف فساد الاجتهاد الأول وعدم حجية مدرك الحكم الأول ، بالاجتهاد الثاني ، لا سبيل إلى دعوى ان الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأول.

ثانيها : ان الحكم الشرعي يتبدل بتبدل الرأى ، كالملكية المتبدلة بالبيع والشراء ، فالمكلف في زمان الاجتهاد الأول كان حكمه على طبقه ، وفي زمان الاجتهاد الثاني يتبدل حكمه ، ولا يكون مكلفا الا بما تعلق به الاجتهاد الثاني (١).

وفيه : ان ذلك لو تم فإنما هو على القول بالسببية ، واما على القول بالطريقية التي حقيقتها جعل صفة المحرزية ، والطريقية ، والمرآتية ، للامارة بلا تصرف في الواقع ، ولاجعل حكم في الظاهر ، فلا يتم : إذ بالاجتهاد الثاني ينكشف عدم موافقة اجتهاد الأول للواقع.

ثالثها : ان تبدل الاجتهاد ، وقيام حجة على خلاف الحجة السابقة انما هو نظير النسخ فانه بوصول الثانية ينقضي زمان حجية الأولى ، فهي إلى زمان حجية الثانية ، حجة واقعية.

والايراد عليه ، بأن الحجية انما تكون نظير سائر الاحكام الشرعية ، لها مرتبتان ، واقعية ، وظاهرية ، وعليه فبوصول الثانية ينكشف انها كانت حجة من الأول ولم تكن الأولى كذلك ، لا انها كانت حجة واقعية إلى زمان وصول الثانية.

__________________

(١) لم يعلم متبن لهذا الرأي من الاصحاب ، نعم ذكره الاعلام في كتبهم وناقشوه بوجوه متعددة ، وما أفاده المصنف (مد ظله) هو أجود رد.

٤٩

غير صحيح ، فإن الحجية انما هي من قبيل الاحراز الوجداني ومتقومة بالوصول.

لا معنى لوجودها واقعا مع عدم وصولها : فإن حقيقة الحجية جعل صفة المحرزية للشيء ، ولا يتحقق ذلك في الخارج الا بوصول هذا الجعل وموضوعه إلى المكلف ، وعليه فليس لها مرتبتان.

ولكن يرد عليه ان وجوب الاعادة أو القضاء ، وبعبارة أخرى عدم الاجزاء ، من آثار الحكم الواقعي على خلاف ما وصل إليه ، لا من آثار حجية الحجة الثانية.

وعلى الجملة التبدل في الحجية لو سلم ، لا ينفع في المقام ، بل النافع هو التبدل في الحكم الواقعي ، وهو باطل لكونه مستلزما للتصويب الذي لا نقول به.

واما التبدل في الحجية ـ أي في الاحراز ـ فهو غير مفيد.

رابعها : ما عن الفصول من ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين (١).

واورد عليه المحقق النائيني (قدِّس سره) : بانه لم يظهر معنى معقول لهذا الاستدلال فإن مؤدى الاجتهاد بعد فرض كونه حكما كليا غير مختص بزمان خاص ان اراد انه لا يتحمل اجتهادين من شخص واحد في زمان واحد ، فهو مسلم لكنه اجنبي عن المقام.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٤٠٩ (فصل اذا رجع المجتهد عن الفتوى).

٥٠

وان اراد انه لا يتحمل اجتهادين في زمانين فهو بديهي البطلان (١).

أقول ان هذا الوجه ذكره في الفصول في مبحث تبدل الرأى من مباحث الاجتهاد والتقليد ، بعد اختياره القول بعدم الاجزاء مطلقا في هذه المسألة.

ومحصل ما افاده (٢) : ان الواقعة التي اوقعها على طبق الاجتهاد الأول :

تارة تنقضي بانقضاء الزمان ولا يمر عليها الزمان مرتين كالصلاة بلا سورة ، أو الواقعة في شعر الارنب ، أو الواقعة فيما بنى على طهارته ، أو العقد بالفارسي وما شاكل.

واخرى لا تنقضي بانقضاء الزمان ويمر الزمان عليها مرتين كالحيوان الذي بنى على حليَّته فذكاه وفرض بقاؤه إلى زمان الاجتهاد الثاني ، وفي القسم الأول : حيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد ، وهي على الفرض وقعت صحيحة فلا تنقلب فاسدة بتجدد الرأي ، وهذا هو مراده من العبارة المزبورة ، فلا يرد عليه ما افاده (ره) من انه لم يظهر معنى معقول لهذا الاستدلال.

ولكن يرد عليه انه في القسم الأول : أيضا كان يتخيل انها وقعت صحيحة ، وبحسب الاجتهاد الثاني ظهر انها كانت فاسدة.

هذا كله على القول بالطريقية.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٥ (الثالث ما عن صاحب الفصول). وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) صاحب الفصول المصدر السابق (ص ٤٠٩) ، بتصرف

٥١

واما على القول بالسببية : فقد يقال كما عن المحقق الخراساني في الامارات الجارية في متعلقات الاحكام ، أي الاحكام التي جعلت موضوعا لاحكام اخر أو قيدا للموضوع ، كطهارة الماء المجعولة موضوعا لجواز الصلاة أو الوضوء ، أو التيمم ، وعن غيره في الامارات الجارية في الاحكام مطلقا.

بانه وان كان يحتمل ثبوتا كون العمل الفاقد معه في هذه الحالة كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض فيجزى ، وان لا يكون وافيا بتمامه فلا يجزى مع امكان استيفاء الباقي ووجوبه ، الا ان قضية اطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجزاء بموافقته أيضا.

وفيه ان السببية تتصور على اقسام :

الأول : السببية على مسلك الاشعريين وهي ان قيام الامارة سبب لحدوث المصلحة والحكم وانه مع قطع النظر عن ذلك لا يكون حكم ولا ملاك.

الثاني : السببية على مسلك المعتزلة وهي : ان قيام الأمارة والحجة من قبيل طرو العناوين الثانوية. يكون موجبا لحدوث مصلحة في المؤدى اقوى من مصلحة الواقع.

الثالث : السببية على مسلك بعض العدلية وهي ان قيام الامارة موجب لتدارك المقدار الفائت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة.

وعلى الاولين لا تتصور الصور الاربعة المذكورة ، ولا عدم الاجزاء.

اما على الأول : فلفرض انه لا حكم في الواقع ولا ملاك فلا يلزم فوته ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

٥٢

واما على الثاني : فلانه لا تتم السببية حينئذ الا بناءً على كون المصلحة في المؤدى غالبة على مصلحة الواقع. وموجبة لتبدل الحكم.

ثم انه لو سلم تصوير الصور الاربعة على هذين المسلكين ، فما ذكر من التمسك باطلاق دليل الحجية للاجزاء لا يتم ، لما ذكرناه في المأمور به بالامر الاضطراري وجها ، لان اطلاق الدليل لا يصلح لرفع وجوب الاعادة أو القضاء ، فراجع.

واما على الثالث : فلا وجه للاجزاء إذ المفروض ان المتدارك هو المقدار الفائت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة. مثلا لو ادّت الامارة إلى وجوب صلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع هي صلاة الظهر ، فإن انكشف الخلاف بعد مضي وقت الفضيلة يكون الفائت بسبب سلوك الامارة فضل الوقت ، وهو المتدارك ، واما مصلحة الصلاة ، فهي يمكن استيفاؤها وغير متداركة فيجب ذلك إذ تفويتها ليس مستندا إلى سلوك الامارة ، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون الفائت بسبب سلوك الامارة مصلحة الوقت ، فهي تتدارك ، وان لم ينكشف الخلاف اصلا ، كان المتدارك بالمصلحة السلوكية مصلحة اصل الصلاة.

والمحقق الخراساني بعد اختياره القول بالاجزاء بناءً على السببية في الامارات الجارية في متعلقات الاحكام مستندا إلى الوجه المتقدم.

ذهب إلى عدم الاجزاء في الامارات الجارية في نفس الاحكام حتى على السببية بدعوى : ان الامارة إذا قامت على وجوب شيء كصلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع شيئا آخر وهي صلاة الظهر ، فغاية الامر ان تصير صلاة

٥٣

الجمعة أيضا ، ذات مصلحة لذلك ، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة ، الا ان يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد (١).

وفيه : ان محل الكلام هو ما إذا كان لسان الامارة ومؤداها تعين ما هو الوظيفة الواقعية وفي المثال ما دل على وجوب صلاة الجمعة انما يدل على ان الواجب من الصلاتين الظهر والجمعة ، في يوم الجمعة هي صلاة الجمعة لا الظهر ، فيكون لسان الامارة الجارية في الاحكام كلسانها في المتعلقات فعلى القول بالاجزاء على السببية لاوجه للتفصيل بينهما.

وبعبارة أخرى إذا كان لسان الامارة تعيين الواجب فلا محالة تدل بالدلالة الالتزامية على انه لا يجب صلاة الظهر في يوم الجمعة ويستلزم ذلك كون مصلحة صلاة الجمعة في يومها مصلحة بدلية مسانخة لمصلحة صلاة الظهر ، لا مصلحة مستقلة أخرى غير تلك المصلحة كي لا ينافي استيفاؤها لاستيفاء تلك المصلحة.

نعم : ما ذكره (ره) يتم فيما لو قامت الامارة على وجوب شيء خاص بلا نظر لها إلى بيان الواجب الواقعي ، وتعينه في مؤديها ، لكنه خارج عن مفروض البحث.

ويضاف إلى ذلك ، المناقشة في المثال ، فإن صلاتي الجمعة ، والظهر ، عمل واحد ، وانما الاختلاف بينهما في الكيفية ، نظير القصر والاتمام ، لا سنخان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٧ (المقام الثاني في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري)

٥٤

متغايران ، فالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة دون الظهر ، من قبيل الامارة الجارية في المتعلقات.

بقي في المقام شيء لا بد من التنبيه عليه ، وهو انه بعد ما مرّ من ان مقتضى القول بالسببية هو الاجزاء ، والقول بالطريقة عدم الاجزاء ، لو احرز احد المسلكين فلا كلام.

ومع عدم احرازه ، هل يحكم بالاجزاء ، أو بعدمه ، ام يفصل بين الاعادة والقضاء ، فيحكم بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة ، والاجزاء بالنسبة إلى القضاء وجوه.

قد استدل المحقق الخراساني للقول بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة ، بأن انكشف الخلاف في الوقت ، باستصحاب عدم الاتيان بالمسقط للتكليف (١).

ويرده انه لا اثر لهذا ، ولا هو موضوع لاثر شرعي لعدم كون سقوط التكليف من آثار عدم الاتيان بالمسقط شرعا.

فالصحيح ان يستدل له : باستصحاب بقاء التكليف الواقعي إذ الشك انما هو في سقوطه لحصول غرضه من جهة كون المأتي به ذا مصلحة بدلية ، وعدمه ، فيجرى استصحاب عدم السقوط ، وبما ان المستصحب بنفسه اثر شرعي لا يعتبر في جريانه ترتب اثر شرعي آخر عليه ، بل يكفي ترتب اثر عقلي ، وهو لزوم الاتيان بالمتعلق.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٧.

٥٥

فإن قيل انه يعارضه استصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت. ولا أثر لبقاء التكليف غير الفعلي.

قلنا ان عدم فعليه الواقع اما لعدم فعلية موضوعه ، أو لعدم وصوله ، أو لسقوطه.

والاول انكشف خلافه. والثانى انقلب إلى نقيضه وهو الوصول. والثالث مشكوك فيه فيجرى فيه الاستصحاب ، هذا كله فيما هو مفاد الاصول اللفظية.

ما تقتضيه الاصول العملية

واما الاصول العملية ، فالكلام فيها في مقامين :

الأول : في الاصول غير التنزيلية ، كقاعدة الطهارة ، واصالة الاباحة.

الثاني : في الاصول التنزيلية كالاستصحاب.

اما الأول : فقد اختار المحقق الخراساني في الكفاية انها تقتضي الاجزاء. قال : فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانه اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل (١) انتهى.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٦ (المقام الثاني).

٥٦

واورد عليه بايرادات عمدتها للمحقق النائيني (ره) (١) :

١ ـ ان هذا لا يستقيم على مسلكه من تفسير الحكومة بأن تكون بمثل كلمة اعني وأردت واشباه ذلك ، ومن الواضح عدم تحقق الحكومة بهذا المعنى في المقام.

وفيه : انه (قدِّس سره) يصرح في تعليقته على الرسائل (٢) بأن الحكومة هي ما إذا كان احد الدليلين مسوقا بنحو يصلح للنظر إلى كمية موضوع الآخر.

وهذا ينطبق على المقام فإن دليل المحكوم متكفل لاثبات ان الطهارة مثلا شرط للصلاة ، ودليل الحاكم يدل على ان المشكوك طهارته طاهر فهو يصلح للنظر إلى التوسعة في موضوع المحكوم.

٢ ـ ان الحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة الظاهرية مجعولة أولاً ثم يأتي دليل على ان ما هو الشرط في الصلاة اعم من الطهارة الظاهرية والواقعية فيكون هذا الدليل موسعا لما دل على اعتبار الطهارة في الصلاة.

ومن الواضح ان المتكفل لاثبات الحكم الظاهري ليس إلا نفس دليل قاعدة الطهارة فكيف يمكن ان يكون هو المتكفل لبيان كون الشرط اعم من الواقعية والظاهرية منها.

__________________

(١) فوائد الأصول" للنائيني" ج ١ ص ٢٤٩ (الجهة الثالثة).

(٢) راجع فوائد الأصول" للآخوند" ص ١٠٢ حيث قال : وقد عُرف أن مجرد دلالة أحد الدليلين على انتفاء الآخر في الجملة لا يوجب الحكومة ما لم يكن له نظر اليه بما هو دليل عليه.

٥٧

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى ان جعل الطهارة مثلا جعل لها بالمطابقة ، ولاحكامها بالالتزام ، ومن جملة احكامها شرطيتها للصلاة ، فيلزم من ضم دليل الحكم الظاهري المتكفل باثبات ان مشكوك الطهارة طاهر ، إلى دليل المحكوم المتكفل باثبات ان الطهارة شرط في صحة الصلاة ، ان الشيء المشكوك طهارته بعض افراد الشرط.

وبالجملة : عموم الشرط للطهارة الظاهرية من لوازم جعل الطهارة ظاهرا فلا محذور من هذه الجهة.

٣ ـ ان الحكومة المدعاة في المقام ليست الا من باب جعل الحكم الظاهرى وتنزيل المكلف منزلة المحرز للواقع في ترتيب آثاره ، وهذا مشترك فيه بين جميع الاحكام الظاهرية سواء ثبتت بالامارة ام بالاصل بل الامارة اولى بذلك من الأصل فإن المجعول في الامارات نفس صفة الاحراز.

وفيه : ان الحكومة المدعاة في المقام ليست لما ذكر بل لان المجعول في الحاكم بنفسه حكم شرعي جعل شرطا وهذا المعنى مفقود في الامارات.

٤ ـ ان الحكومة لو سلمت فإنما هي حكومة ظاهرية لا واقعية وعليه فلازم ذلك ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف لا التوسعة في الواقع في ظرف الشك.

وفيه : ان المحقق الخراساني (ره) لا يدّعي حكومة دليل قاعدة الطهارة على دليل الطاهر الواقعي ولا على ما دل على اشتراط الطهارة الواقعية في الصلاة.

بل يدعي حكومته على دليل اشتراط الطهارة غير المقيدة بالواقعية في

٥٨

الصلاة ، وفي مثل ذلك لا يكون مرتبة الحاكم متاخرة عن مرتبة المحكوم.

وان شئت قلت انه بالحكومة يستكشف ان المأخوذ شرطا للصلاة اعم من الواقعية والظاهرية. ولا محذور في اخذ الشرط شيئين طوليِّين ولا في اخذ الطهارة الظاهرية شرطا واقعا كما لا يخفى.

٥ ـ انه لو التزمنا بالحكومة لزم الالتزام بها في سائر احكام الطهارة ، فلو غسل ثوبه بالمشكوك طهارته مع البناء على طهارته لقاعدة الطهارة لا بد من البناء على طهارته واقعا ولو بعد انكشاف الخلاف ونجاسة الماء واقعا ، وكذا لو توضأ بماء مشكوك الطهارة لا بد من البناء على تحقق الطهارة الحدثية ولو بعد انكشاف نجاسة الماء. وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

وفيه : انه يمكن الالتزام في تلك الموارد ، بأن النجاسة مانعة عن تحقق الطهارة الحدثية وطهارة ما غسل بالنجس فما دام لم ينكشف الخلاف لا تكون النجاسة واصلة وكان في الظاهر محكوما بعدم النجاسة ، فبعد وصوله يظهر انه كانت النجاسة مانعة عن تحقق الطهارة.

والصحيح في الجواب عن الحكومة ان يقال : انه لو سلم دلالة الروايات على جعل الطهارة مع انه محل الكلام كما سيأتي في اخبار الطهارة والحليّة المستدل بها لحجية الاستصحاب : ان الطهارة من الخبث بنفسها ليست امرا وجوديا بل هي امر عدمي ، وهو خلو المحل عن القذارات كما سيمر عليك في مبحث الاستصحاب في ذيل تلك الاخبار ، وعليه فلا معنى لجعلها الا جعل آثارها فمفاد الاخبار ترتيب آثار الطهارة على المشكوك طهارته ، مع انه على فرض النجاسة الواقعية وعدم ارتفاعها بجعل الطهارة وتنافي الطهارة والنجاسة

٥٩

لا محالة يكون المجعول ترتيب الآثار ، فلا شك في عدم الحكومة حينئذ كما لا يخفى.

واما الثاني : أي الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب ، ففي الكفاية (١) افاد ان حكمه بناءً على ما هو الحق من جعل الحكم المماثل الذي اختاره في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب حكم قاعدة الطهارة.

ولكن حيث ان المختار عندنا في المجعول في باب الاستصحاب هو كون المجعول الجري العملي على طبق اليقين السابق كما سيأتي توضيحه في محله فلا موهم للاجزاء.

وربما يتوهم دلالة صحيح زرارة (٢) المتضمن لتعليل عدم وجوب اعادة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤ التنبيه السابع حسب الظاهر لا الخامس.

(٢) ورد الحديث في الوسائل مقطع اما نص الحديث فقد اورده في تهذيب الأحكام ج : ١ ص : ٤٢١ ح ٨ ـ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ : قُلْتُ أَصَابَ ثَوْبِي دَمُ رُعَافٍ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَعَلَّمْتُ أَثَرَهُ. إلى أَنْ أُصِيبَ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَأَصَبْتُ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَنَسِيتُ أَنَّ بِثَوْبِي شَيْئاً وَصَلَّيْتُ. ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : تُعِيدُ الصَّلَاةَ وَتَغْسِلُهُ قُلْتُ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَوْضِعَهُ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ فَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّيْتُ وَجَدْتُهُ قَالَ تَغْسِلُهُ وَتُعِيدُ قُلْتُ فإن ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَتَيَقَّنْ ذَلِكَ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئاً ثُمَّ صَلَّيْتُ فَرَأَيْتُ فِيهِ قَالَ تَغْسِلُهُ ولا تُعِيدُ الصَّلَاةَ قُلْتُ لِمَ ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً قُلْتُ فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَأَغْسِلُهُ قَالَ تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ قُلْتُ فَهَلْ عَلَيَّ إِنْ شَكَكْتُ فِي أَنَّهُ أَصَابَهُ

٦٠