زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

جميع الاوصاف ، كما لا ينافى حمل موجودة ، أو معدومة عليها بالحمل الشائع ، كذلك لا ينافى عروض وصف المطلوبية لها ، فلا منافاة بين كون الصلاة في حد ذاتها لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبلحاظ تعلق الطلب بها مطلوبة.

وحق القول في الجواب عن ذلك وعن اصل الايراد ان متعلق الغرض وما فيه المصلحة بما انه هو الوجود ، لا الطبيعة من حيث هي ، فليست هي متعلقة الامر والشوق ، وحيث ان الامر والشوق لا يتعلقان ، بما هو الموجود من جميع الجهات كمالا يخفى فلا يتعلقان به ، فلا محالة يتعلقان بالطبيعة الملحوظة بما انها خارجية بمعنى انها تلاحظ فانية في الخارج ومرآةً وآلة له ، بحيث لا يلتفت إلى مغايرتها للخارج ، ولا يرى في هذا اللحاظ سوى الموجود الخارجي الذي هو منشأ انتزاعها.

وان شئت قلت ان الشوق كالعلم لا يتشخص الا بمتعلقه ، ولكن طبيعة الشوق من الطبائع التي لا تتعلق الا بما له جهة فقدان وجهة وجدان ، إذ لو كان موجودا من كل جهة كان طلبه تحصيلا للحاصل ، ولو كان مفقودا من كل جهة لم يكن طرف يتقوم به ، فلو كان متعلقه موجودا من حيث حضوره للنفس ، ومفقودا من حيث الوجود الخارجي ، يرتفع جميع المحاذير ، فإن العقل لقوته يلاحظ الموجود الخارجي فيشتاق إليه ، فالموجود بالفرض والتقدير ، مقوم للشوق ، لا بما هو هو ، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود الخارجي ، والشوق يوجب خروجه من حد الفرض إلى الفعلية والتحقق ، وهذا هو المراد من تعلق الشوق ، والامر ، بوجود الطبيعة ، فلا يرد عليه شيء مما ذكر.

وحيث ان النزاع على الوجهين الاولين ، لا يترتب عليه ثمرة فالصفح عنه

٣٨١

اولى.

واما على الوجه الاخير : فإن كان مدعى تعلق الطلب بالافراد ، يدعى تعلق طلب مستقل بالخصوصيات غير ما تعلق بصرف وجود الطبيعة ، فهو بديهي البطلان ، وان كان يدعى تعلق طلب قهري ناش عن تعلقه بما فيه المصلحة.

فالقول : بتعلقه بالافراد يبتنى على احد المسلكين :

١ ـ القول بوجوب مقدمة الواجب ، وكون الخصوصيات الفردية من مقدمات وجود الطبيعة ، فانه حينئذ يصح تعلق الطلب القهري المقدمي بالافراد.

٢ ـ اتحاد المتلازمين في الوجود ، في الحكم ، فإن الطبيعة لا يمكن ان يوجد الا في ضمن الأفراد فالامر بالطبيعة امر بها على هذا.

وحيث عرفت في مبحث الضد ، ان الخصوصيات ليست من مقدمات وجود الطبيعة المطلوبة بل من ملازمات وجوده ، وايضا عرفت انه لا ملزم لاتحاد المتلازمين في الحكم ، بل يمكن ان يكون احدهما محكوما بحكم ، ولا يكون الآخر محكوما به ، كما في استدبار الجدي ، واستقبال القبلة في العراق مثلا ، فالامر بصرف وجود الطبيعة ، لا يستلزم الامر بالافراد ، ولا بالحصص المقارنة لها ، فمتعلق الامر هو الطبيعة على ما هو ظاهر الدليل ، دون الأفراد.

وهذا النزاع يترتب عليه ثمرة في مبحث اجتماع الامر والنهى ، كما سيمر عليك.

٣٨٢

الفصل الثامن

هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب

إذا نسخ الوجوب ففيه أقوال : احدها : انه يثبت الجواز بالمعنى الأعم. ثانيها : انه يثبت الاستحباب. ثالثها : انه لا يثبت شيء منهما.

والكلام تارة فيما تقتضيه الادلة الاجتهادية.

واخرى في مقتضى الأصول العملية :

اما الأول : فالاظهر انه لا دليل على شيء من القولين الاولين ، لان ما يتوهم دلالته لا يخلو من ان يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ وشيء منهما لا يدل عليه ، أي لا يدل على الجواز ، ولا على الاستحباب ، اما دليل الناسخ فلانه انما يكون متضمنا لرفع الوجوب ، وعدم الوجوب يلائم مع كل واحد من الاحكام الاربعة الأخر ، ولازم اعم للجواز ودليل اللازم الأعم لا يثبت الملزوم الأخص ، واما دليل المنسوخ فانه دل على ثبوت الوجوب وقد نسخ ولم يدل على شيء آخر.

وقد استدل للأول بانه يثبت بدليل المنسوخ امران :

احدهما : جنس الوجوب وهو الجواز. والآخر فصله وهو المنع من الترك.

والقدر المتيقن مما يرفعه دليل الناسخ هو الفصل وبقاء الجنس متفصلا بفصل آخر حيث يكون ممكنا في تبدل الصور في الموجودات الجوهرية ، وفى

٣٨٣

مقام الاثبات دلالة دليل المنسوخ على بقائه تامة ، والمتيقن من دليل الناسخ رفع غيره كما عرفت ، فلا مناص عن الالتزام به.

وفيه أولاً : انه لو تم هذا الوجه لزم الحكم ببقاء الرجحان الجامع بين الوجوب والاستحباب ، إذ هو الجنس القريب ، والجواز جنس بعيد فتأمل فانه يرده ما سيأتي :

وثانياً : ان ما ذكر من بقاء الجنس والمادة المشتركة بعد انعدام صورة الشيء كالكلب الذي يصير ملحا ، يتم في الجواهر التي لها اجزاء خارجية ، ولا يتم في الاعراض التي ليس لها الا اجزاء تحليلية عقلية ، فضلا عن مثل الاحكام التي هي بسائط من جميع الجهات ، وليس لها اجزاء خارجية ولا عقلية كما لا يخفى.

واستدل للقول الثاني وهو ثبوت الاستحباب :

بانه حيث يكون للوجوب مراتب عديدة ، وهي : الجواز ، والرجحان ، والالزام ، ورفعه كما يمكن ان يكون برفع الجواز ، يمكن ان يكون برفع الرجحان مع بقاء الجواز ، ورفع الإلزام مع بقاء الرجحان وفي مقام الاثبات لا دليل على رفع مرتبة خاصة منها فلا بدَّ من الأخذ بالمتيقن ، وهو رفع الإلزام خاصة ، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ ويحكم باستحباب الفعل.

وان شئت قلت ان المقام نظير ما إذا ورد امر بشيء ورد دليل آخر صريح في عدم الوجوب ، فكما انه في ذلك المورد بناء الفقهاء على حمل الظاهر على النص ، والجمع بينهما بالحمل على الاستحباب ، فكذلك في المقام إذ لا فرق بينهما الا ان في ذلك المورد دليل نفى الوجوب ينفيه من الأول ، وفى المقام ينفيه بعد مضى زمان ومجرد ذلك لا يوجب الفرق في هذا الجمع العرفي كما لا

٣٨٤

يخفى ، وعلى ذلك فيتعين البناء على الاستحباب.

وفيه : ان الفرق بين البابين واضح حيث انه في ذلك الباب انما يجمع بين الدليلين إذا لم يتعرض دليل نفى الوجوب أي الصريح في جواز الترك لحال الطلب ، ولا ينفيه ، بل انما يرخص في ترك المطلوب ، ولذلك يبنى على الاستحباب الذي لا حقيقة له سوى ذلك ، أي ينتزع من الامر بشيء مع الترخيص في تركه.

واما في المقام فالمفروض ان دليل الناسخ متعرض لحال دليل المنسوخ ، ويدل على ارتفاع ما تضمنه ذلك الدليل وهو الطلب ، فلا وجه لقياس احد البابين بالآخر.

واما القول بأن المتيقن منه رفع خصوص الإلزام.

فالجواب عنه ما تقدم في الجواب عن القول الأول ، مضافا إلى ان خصوصية الإلزام ليست مدلولة للامر كي يمكن القول بأن المتيقن من رفع الوجوب رفع تلك الخصوصية وبقاء الجامع كما حققناه في مبحث الانشاء والاخبار.

واما الثاني : وهو ما تقتضيه الأصول العملية.

فقد يقال ان الثابت بدليل المنسوخ الوجوب ، والرجحان لان الواجب راجح ، والمتيقن ارتفاعه هو الوجوب واما الرجحان فيشك في ارتفاعه فيستصحب بقائه.

وفيه : ان هذا الاستصحاب يكون من قبيل استصحاب الكلي القسم الثالث من أقسامه وهو ما لو شك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد مقارنا

٣٨٥

لزوال ما حدث يقينا ، وقد حقق في محله عدم جريانه.

ودعوى : ان الوجوب والاستحباب مرتبتان من الوجود الواحد متفاوتتان بالشدة والضعف ، كالبياض الشديد والضعيف وفى مثل ذلك يجري استصحاب الكلي.

مندفعة بأن ذلك يتم فيما إذا لم يكن المتفاوتان بالرتبة متباينين بنظر العرف ، والوجوب والاستحباب كذلك فلا يجري الاستصحاب في شيء منهما ، فيتعين الرجوع إلى اصالة البراءة وهي تقتضي الجواز.

* * *

٣٨٦

الفصل التاسع

الواجب التخييري

قد اختلف العلماء فيما إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء إلى عدة آراء ومذاهب :

الأول : ان الواجب هو واقع احدهما أو احد الأشياء على وجه الإبهام والترديد الذي لا تعين له في الواقع وهو الذي اختاره المحقق النائيني (ره) (١).

المذهب الثاني : ان الواجب هو الجامع الحقيقي بين الفعلين أو الأفعال ، ويكون التخيير قد صدر من الشارع بنحو الإرشاد إلى افراد الواجب التعييني الذي تعلق به غرضه وخفيت على المكلفين أفراده ، فيكون إنشاء التكليف به بصورة التخيير بين امور متباينة كي يستفاد منه حدود الواجب إجمالا اختاره المحقق الخراساني (ره) (٢) فيما إذا كان الغرض واحدا.

المذهب الثالث : كون جميع الإبدال واجبا والالتزام بأن للوجوب سنخا آخر غير التعييني يتعلق بما زاد عن الفعل الواحد ويكون امتثاله باتيان بعض الابدال أو جميعها وعصيانه بترك الجميع وهو الوجوب التخييري ، والظاهر ان

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٢٣٥ (الوجه الرابع من تقسيمات الواجب).

(٢) كفاية الاصول ص ١٤٠ ـ ١٤١ (فصل : اذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الاشياء).

٣٨٧

المحقق الخراساني اختار ذلك (١) فيما علم كون الغرض متعددا لا يكاد يحصل الغرض مع حصول الغرض في الآخر باتيانه.

وبعبارة أخرى : كون الاغراض متزاحمة لا يمكن جمعها في الوجود الخارجي ولاجله تقع المزاحمة بين الامور.

المذهب الرابع : كون كل واحد من الفعلين واجبا بالوجوب التعييني ولكن المتعلق في كل منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، ويتصور ذلك فيما كان الغرضان متزاحمين كما في الوجه السابق ، أو ان المولى ارفاقا وتسهيلا على المكلفين لم يوجب الجمع بين الغرضين.

المذهب الخامس : ان يكون الواجب هو الواحد من الفعلين أو الافعال معينا وهو الذي يعلم الله تعالى ان العبد يختاره.

المذهب السادس : كون الواجب هو الواحد المعين عند الله ويكون اتيان الآخر من باب اسقاط المباح للواجب.

المذهب السابع : ان الواجب هو الجامع الانتزاعي وهو مفهوم احدهما أو احدها الصادق على كل منهما أو من الافعال.

وقد استدل المحقق الخراساني (٢) لما ذهب إليه فيما كان الغرض واحدا ، بوضوح ان الواحد لا يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن جامع بينهما

__________________

(١) راجع كفاية الاصول ص ١٤١.

(٢) نفس المصدر.

٣٨٨

لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان ان الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين فيكون التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن متعلق التكليف لا بد وان يكون مما يفهمه العرف كي يمتثله فالجامع الملاكي المستكشف تحققه بالبرهان لا يكفي في جواز تعلق التكليف به.

ولكن يمكن الجواب عنه بأن ذلك يتم إذا لم ينبه الشارع على مصاديقه ، وتعلق الامر في ظاهر الدليل بافراد ذلك الجامع انما هو ليستفاد منه حدود ذلك الواجب اجمالا ، ولذا التزم بأن التخيير وان كان بحسب ظاهر الدليل شرعيا الا انه بحسب اللب والواقع عقلي.

وعلى الجملة إذا تم البرهان المذكور كان اللازم هو تعلق الإرادة بنفس النوع الجامع بين تلك الأفراد لانه المشتمل على الملاك وكانت الخصوصيات خارجة عن مركز الإرادة ولكن حيث ان العرف لا يفهم ذلك الجامع امر المولى بالافراد إرشادا إلى كونها أفرادا للنوع الذي تعلق به الإرادة.

والمهم في الايراد على المحقق الخراساني انه لا طريق لنا إلى استكشاف كون الملاك واحدا وظاهر الدليل خلافه لتعلق الامر على الفرض بالخصوصيات.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٤ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٧ (واما الوجه الثاني).

٣٨٩

أضف إلى ذلك عدم تمامية البرهان المذكور في الواحد النوعي ألا ترى انه ربما يحصل الحرارة من الحركة وآخر تحصل من النار ، والأول من قسم العرض ، والثاني من الجواهر ، ولا يعقل تصور الجامع بين الجوهر والعرض ، وتمام الكلام في محله.

واما المذهب الثالث : فهو بظاهره بين الفساد ، إذ حقيقة الوجوب لا تجتمع مع جواز الترك ولو جوازا في الجملة وإلى بدل ، الا ان يرفع اليد عن الوجوب في تلك الحالة فلا يكون وجوب كل من الأفراد مطلقا ، بل يكون مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، فلا بد من إصلاحه بأن المراد انه بعد تزاحم الملاكين في الامر بأحد الشيئين ، أو عدم وجوب الجمع بينهما تقع المزاحمة بين الامرين فيكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر.

فيرجع هذا القول إلى القول الرابع.

ويرد عليه حينئذ ان ذلك مناف لظاهر أدلة الواجب التخييري حيث ان الظاهر منها كون الواجب واحدا لا متعددا.

مع ان الغرضين الغير الممكن استيفائهما ان كانا بحيث لا يمكن استيفائهما حتى مع تقارن الفعلين ، فلازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى بهما معا ، إذ الغرضان لا يستوفيان على الفرض واحد هما دون الآخر لا يستوفى والا لزم الترجيح بلا مرجح ، فلا محالة لا يستوفى شيء منهما ، فلا يسقط التكليف ، وان كانا بحيث يمكن استيفائهما معا مع التقارن ، فلازمه كون كل منهما واجبا تعيينيا ولزوم ايجادهما معا إذا كان الجمع بينهما ممكنا للمكلف كما هو واضح.

أضف إليه ان فرض وجود غرضين كذلك لعله ملحق بأنياب الاغوال.

٣٩٠

هذا كله مضافا إلى ان مثل المحقق الخراساني ليس له الالتزام بهذا القول ، لانه ممن يرى استحالة الترتب.

وصحة التكليفين المشروط كل منهما بعدم الاتيان بالآخر تبتنى على امكان الترتب فانه من قبيل الترتب من الطرفين الذي مر امكانه عندنا.

ثم انه لو فرضنا وجود غرضين كذلك لكان المتعين هو الالتزام بكون كل من الفعلين متعلقا لتكليف مشروط بعدم الاتيان بالآخر بناءً على امكان الترتب لتبعية الحكم للملاك والغرض.

ودعوى ان الملاكين على الفرض يتزاحمان في الملاكية ومعلوم ان الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح ان يكون داعيا إلى التكليف ، فلا مناص من كون احد الملاكين على البدل ملاكا فعليا وقابلا للدعوة فتكون النتيجة خطابا واحدا باحد الشيئين لا خطابين مشروطين.

مندفعة بانه في المقام لا تزاحم بين الملاكين في الملاكية لعدم المانع من الجعلين سوى عدم امكان استيفائهما في الخارج.

واما المذهب الخامس : فيرد عليه مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الادلة الدالة على الوجوب التخييري ، ومنافاته للاشتراك في التكليف ، انه في فرض عدم الاتيان بشيء من الفعلين ان لم يكن التكليف متحققا فلا عصيان ولا عقاب ، والالتزام بوجود تكليف الزامي لا عقاب على مخالفته ولا تحقق له في فرض عصيانه كما ترى ، وان كان متحققا فيسأل انه متعلق بأي شيء فلا مناص من الالتزام باحد المسالك الأخر.

٣٩١

واما المسلك السادس : ففساده غني عن البيان.

فيدور الامر بين القول الأول ، وهو كون الواجب واقع احدهما ، أو أحد الأشياء على وجه الإبهام والترديد ، والأخير ، وهو كون الواجب هو الجامع الانتزاعي.

اما الأول : فقد افاد المحقق النائيني (ره) (١) في توجيهه انه حيث يكون ظاهر العطف بكلمة أو كون الغرض المترتب على كل من الفعلين أو الافعال المأخوذة في متعلق التكليف في التخييري امرا واحدا مترتبا على واحد من الفعلين أو الافعال على البدل ، فلا بد وان يتعلق طلب المولى بأحدها على البدل أيضا لعدم الترجيح وليس هنا ما يتوهم كونه مانعا عن تعلق الطلب بشيئين أو الأشياء كذلك لا ثبوتا ولا إثباتا ، الا امتناع تعلق الإرادة بالمبهم ، والمردد ، وهو لا يصلح مانعا :

فإن عدم تعلق الإرادة التكوينية غير المنفكة عن المراد الموجود بها ، لا يعقل تعلقها بالمردد ، لأنها علة لإيجاد المراد ، ولا يعقل تعلقها الا بالشخص ، لمساوقة الوجود للتشخص والتعين ، الا ان ذلك من لوازم تكوينية الإرادة ، لا الإرادة نفسها ، ومعلوم ان كل قيد اعتبر في الإرادة التكوينية بما انها إرادة ، لا بد وان يكون قيدا للتشريعية أيضا.

واما ما يعتبر فيها بما انها تكوينية فلا يعتبر في التشريعية ، وكذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٦ (والذي يترجح في النظر ..).

٣٩٢

العكس ، مثلا تنقسم الإرادة التشريعية إلى تعبدية ، وتوصلية باعتبار سقوطها باتيان المتعلق وان لم يقصد به التقرب ، وعدمه الا مع الاتيان بقصد التقرب ، وهذا من خواص الإرادة التشريعية التي تتعلق بفعل الغير ، ولا يعم الإرادة التكوينية بالضرورة ، وكذلك يمكن تعلق الإرادة التشريعية بالكلي الملغى عنه الخصوصيات الفردية ، والصنفية ، بل هي كذلك دائما ، وهذا بخلاف الإرادة التكوينية ، فإنها لأجل كونها علة لإيجاد المراد لا تتعلق الا بالشخص ، وعليه فالظاهر ان امتناع تعلق الإرادة التكوينية بالمردد وما له بدل من لوازمها خاصة ، ولا يعم الإرادة التشريعية.

ويرد على ما افاده امور :

١ ـ ان الإرادة تكوينية كانت أو تشريعية لا يعقل تعلقها بالامر المتشخص بالوجود ، فإن من مبادئ الإرادة تصور الفعل المراد ، وشخص الفعل الخارجي لا يعقل تصوره قبل تشخصه ، بل النفس تأخذ صور الأشياء من الخارج ثم توجد في الخارج على منوالها ، وتلك الصورة وان كانت من جهة كثرة القيود المأخوذة فيها لا مصداق فعلي لها ، سوى الشخص الموجود الخارجي ، الا انها ليست بشخصية ، بل كلية.

وعلى الجملة ان النفس انما ترغب في الشيء وتريده وتشتاق إليه حيث لا يكون موجودا في الخارج ، فإذا وجد امتنع تعلق الإرادة به ، فإذا ثبت ان متعلق الإرادة لا بد وان يكون غير موجود ، فيلزم كونه أمرا كليا ، وان انحصر مصداقه في الخارج في واحد.

٢ ـ ان الإرادة لا تتعلق بفعل من الافعال الا بلحاظ اشتماله على

٣٩٣

المصلحة ، فلا محالة يكون موضوع تلك المصلحة شيئا متعينا في نفسه قابلا لان يتشخص في الخارج بوجوده ، ومفهوم احدهما المردد ، لا ذات له ولا وجود ، ولا تحقق ، وكل ما وجد لا محالة يكون معينا ، فيمتنع ان يكون موضوعا لتلك المصلحة.

٣ ـ ان الإرادة التشريعية انما تكون محركة نحو الفعل ، وموجبة للارادة التكوينية ، وللعضلات ، فإذا فرض المحقق النائيني وسلم ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بالمردد ، فلا يعقل تعلق الإرادة التشريعية به ، وهل هو الا التكليف بغير المقدور.

فالاظهر هو القول الاخير ، وهو كون المتعلق الكلي الانتزاعي وهو عنوان احدهما ، ولا مانع من تعلق التكليف بالامور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف ، ومن المعلوم ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل فرد من افراد الواجب التخييري

وان شئت توضيح ذلك ، فهو يظهر ببيان مقدمتين :

الأولى : انه يمكن تعلق صفة حقيقية كالعلم باحد الامرين أو الامور ، ويكون هذا العنوان معلوما ، مثلا إذا علمنا اجمالا بنجاسة احد الشيئين ، واحتملنا نجاسة الآخر ، وكانا في الواقع نجسين ، فحيث ان نسبة العلم الاجمالي إلى كل منهما على حد سواء فلا يكون المعلوم بالاجمال احدهما المعين ، وليست النجاستين الواقعيتين متعلقتين للعلم على الفرض ولا يكون المعلوم النجاسة الكلية الجامعة لفرض العلم بإحدى الخصوصيتين فلا محالة يكون المتعلق احدى النجاستين على نحو الاهمال والتردد ، فإذا امكن تعلق الصفات الحقيقية

٣٩٤

بعنوان احدهما ، فتعلق الامور الاعتبارية به لا يحتاج إلى بيان.

الثانية : ان التكليف لا بد وان يتعلق بما فيه المصلحة ، بالتقريب المتقدم في تعلق الامر بالافراد لا بالطبيعة.

فعلى هذا في المقام بما ان كلا من الفعلين يفي بالغرض الباعث إلى الامر وجعل الوجوب ، فلا محالة يلاحظ المولى عنوان احد الفعلين ويأمر به فانيا في الخارج ولا ادّعي ان الواجب هو احدهما المردد الذي لا ذات له ولا وجود ، بل عنوان احدهما الذي هو كلى انتزاعي قابل للانطباق على كل واحد من الوجودين المنطبق على اول الوجودين.

فعلى هذا الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، اعتباري محض إذ لو كان متعلق التكليف هو الجامع الحقيقي يسمى ذلك بالتخيير العقلي ولو كان هو الجامع الانتزاعي يسمى بالتخيير الشرعي.

وبما ذكرنا ظهر انه لا تقاس الإرادة التشريعية بالارادة التكوينية إذ في الثانية الإرادة علة للوجود الخارجي وهو معين ولا يعقل ان يكون هو عنوان احدهما ، وفى الأولى الإرادة تكون علة للبعث الذي يمكن تعلقه بعنوان احدهما.

فتحصل مما ذكرناه ان في الواجب التخييري الواجب انما هو عنوان احدهما أو احدها فانيا في الخارج القابل للانطباق على كل واحد من الفعلين أو الافعال ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة.

٣٩٥

التخيير بين الأقل والأكثر

بقي الكلام في انه ، هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر ، ام لا؟ وجهان :

محل الإشكال هو ما إذا كان نفس الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر وكان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كما لو امر تخييرا بين التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث ، أو امر تخييرا بين المشي فرسخا ، أو فرسخين ، أو رسم خط تدريجا مخيرا بين القصير والطويل.

واما إذا لم يكن الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر ، بل كان متعلقه كذلك كما إذا امر تخييرا بالإتيان بعصا طولها عشرة اذرع أو بعصا طولها خمسة اذرع ، أو امر بإكرام عشرة دفعة أو خمسة كذلك ، أو لم يكن للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل كما إذا امر بالمسح بالكف أو بإصبع واحد ، فلا اشكال أصلا بل الموردين من قبيل دوران الامر بين المتباينين.

وكيف كان فقد افاد المحقق الخراساني (ره) (١) انه يمكن تصوير ذلك فيما إذا كان الأقل بحده محصلا للغرض الذي يحصله الاتيان بالأكثر.

وبعبارة أخرى : يكون هناك غرض واحد وذلك الغرض يحصله الأكثر ، والأقل بشرط عدم الانضمام لا الأقل مطلقا بل حصة خاصة منه ولا يفرق في ذلك بين ان يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر كتسبيحة واحدة في

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٢.

٣٩٦

ضمن ثلاث تسبيحات وان لا يكون له وجود مستقل كالخط القصير في ضمن الخط الطويل.

وبكلمة أخرى ان التخيير انما يكون بين الأقل بشرط لا ، والأقل بشرط شيء ، أي بين الأقل بحده والأكثر كذلك ، ووافقه المحقق النائيني (ره) (١).

وفيه أولاً : ان التقييد بشرط لا ، لا يدفع المحذور الذي اورد على التخيير بينهما ، وهو ان الأقل يوجد دائما قبل الأكثر فيسقط الواجب فلا يتصف الزائد بالواجب ابدا : إذ المحذور انما يرتفع إذا كان التباين خارجيا لا عقليا والتقييد به يوجب التباين العقلي لا الخارجي ، ـ وبعبارة أخرى ـ بعد الاتيان بالاقل وتحققه ان كان الاتيان بالزائد واجبا كان الاكثر واجبا تعينيا ، والا خرج عن كونه واجبا ، ولا محصل للقول بانه ان أتى به يتصف بالوجوب واما قبله فلا وجوب فتدبر ، نعم ، لو قيد الأقل بقيد آخر ، صح التخيير كما في القصر والإتمام لكنه خارج عن التخيير بين الأقل والأكثر بالبداهة.

وثانياً : ان الالتزام بتقييد الأقل بذلك لا ريب في كونه خلاف ظاهر الادلة ، ورجوعه ، إلى التخيير بين المتباينين لان الأقل بشرط لا يباين الأقل بشرط شيء والتصرف فيما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر بذلك ، وحمله على خلاف ظاهره ، ليس بأولى من رفع اليد عن ظهور الامر بالأكثر وحمله على الاستحباب بل الثاني اولى كما لا يخفى.

ثم انه قد انقدح مما قدمناه انه لا يمكن حل الإشكال بلحاظ فردية الاكثر

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٦ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٩ (تتميم).

٣٩٧

كالأقل للطبيعة التي يترتب الغرض على صرف وجودها ، لانه ان قيل الأقل الذي يتحقق قبل الاكثر (وان كان الاكثر بعد تحققه فردا واحدا لانه إذا لم يتخلل العدم بين نحو وجود الطبيعة يكون الشخص الموجود باقيا على تشخصه لا انه تتبدل تشخصاته) بشرط لا من انضمام الزائد إليه فهو يرجع إلى الوجه المتقدم ، وان اخذ لا بشرط من الانضمام ، كان الغرض مترتبا عليه كذلك ، فهو بتحققه يحصل الغرض فيسقط الوجوب فلا امر بالزائد فهذا الوجه الذي أساسه لحاظ فردية الاكثر للطبيعة كالاقل لا يفيد ما لم يقيد الاقل بعدم انضمامه إلى ما يتقوم به الاكثر ، ومعه يرجع إلى الوجه الأول ، الذي أساسه لحاظ ترتب الغرض على الاقل بشرط لا وعلى الاكثر.

فالاظهر عدم معقولية التخيير بين الاقل والأكثر ولا يساعد الدليل على ذلك في مثل أذكار الركوع والسجود ، والتسبيحة في الاخيرتين التي توهم انه في تلك الموارد يكون التخيير بين الاقل والاكثر ، بل الظاهر منها ان الاقل واجب والزائد مطلوب استحبابا.

* * *

٣٩٨

الفصل العاشر

في الواجب الكفائي

وللاصحاب في بيان حقيقته مسالك : الأول : كون الاختلاف بين الكفائي والعيني من ناحية الوجوب وهو الظاهر من الكفاية.

قال المحقق الخراساني (ره) (١) والتحقيق انه سنخ من الوجوب وله تعلق بكل واحد بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا وان سقط عنهم لو أتى به بعضهم وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحد صادر عن الكل أو البعض انتهى.

ويرد عليه انه ليس للوجوب حقائق مختلفة بل سنخ الكفائي هو سنخ العيني.

الثاني : كون الاختلاف بينهما من ناحية المكلف وهو الذي اختاره جمع من المحققين. منهم المحقق النائيني (ره) (٢) ومحصله : انه كما ان الغرض من المأمور به :

تارة يترتب على صرف وجود الطبيعة.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٣ (فصل في الوجوب الكفائي).

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٧ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٠ (المبحث السادس في الواجب الكفائي).

٣٩٩

واخرى على مطلق وجودها.

والأول منهما يستتبع حكما واحدا متعلقا بصرف وجود الطبيعة ويكفي في امتثاله الاتيان بفرد واحد.

وهذا بخلاف الثاني فإن المجعول في المورد الثاني أحكام عديدة حسب ما للطبيعة من الأفراد ، ولا يكتفى في مقام الامتثال بإيجاد فرد منها ، كذلك يختلف الغرض بالاضافة إلى المكلف :

إذ تارة يترتب على صدور الفعل من صرف وجود المكلف.

واخرى يترتب على صدوره من مطلق وجوده.

وعلى الثاني يكون الوجوب عينيا ، لا يسقط بفعل واحد منهم على الآخرين.

وعلى الأول يكون الوجوب متوجها إلى صرف وجود المكلف فبامتثال احد المكلفين يتحقق الفعل من صرف وجود الطبيعة ، فيسقط الغرض ، فلا يبقى مجال لامتثال الباقين.

ولكن يرد على ذلك ان تعلق التكليف بصرف وجود طبيعي الفعل والناقض للعدم ، المنطبق على اول الوجودات ، امر ممكن ، واما كون المكلف هو صرف وجوده فمما لا اتعقله ، إذ اول وجود المكلف هو سن المكلفين ، واول من قام بالفعل ، لا يكون منطبق عنوان صرف وجود المكلف ، إذ المكلف لا بدَّ وان يكون مفروض الثبوت قبل الفعل ، ولا يتعلق التكليف بتحصيله.

ودعوى كون المكلف هو الطبيعي الملحوظ بحيث لا يكون دخل لشيء من

٤٠٠