زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

المسألة الأولى : ما إذا كان منشأ التزاحم قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بين المتعلقين تضاد ولو اتفاقيا لاختلاف زمانهما.

وبعبارة أخرى : إذا وقعت المزاحمة بين واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا وكان المتأخر اهم وقدمناه.

فقد وقع الكلام بين القائلين بإمكان الترتب في انه ، هل يمكن الالتزام بالترتب وتعلق الامر بالمتقدم مترتبا على عصيان الامر المتعلق بالواجب المتأخر ، ام لا؟ اختار المحقق النائيني (ره) الثاني (١).

ومحصل ما افاده في وجه ذلك : ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتعلق بالمتأخر ، أو يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه وهو وجوب التحفظ لقدرته للواجب المتأخر المستكشف من حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم ولزوم تحصيله.

فإن كان الأول : فاما ان يكون الشرط هو عصيان الخطاب ، أو يكون هو عنوان التعقب بالعصيان ، أو العزم على العصيان :

والأول : أي كون الشرط هو عصيان الخطاب المتأخر ، يستلزم محذورين :

احدهما : الالتزام بالشرط المتأخر وقد مر انه غير معقول.

__________________

(١) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٨٠ / وقد أشار إلى ذلك أيضا في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٣ / وحكاه عنه المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٣ ص ٣٣٧ وفي غيره.

٣٦١

ثانيهما : انه لا يجدي في رفع المزاحمة فإن المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ، ولو كان اهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه وهو لزوم حفظ القدرة له ، ومعلوم انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها وخطاب احفظ قدرتك موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.

واما الثاني : وهو كون الشرط عنوان التعقب.

فيرد عليه : أولاً : ان ذلك يدور مدار قيام الدليل عليه ولم يقم من غير جهة اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية دليل على ذلك ، فيكون الالتزام بالترتب في المقام على خلاف القاعدة من غير دليل يقتضي ذلك.

وثانياً : ان ذلك لا يوجب رفع محذور طلب الجمع وصيرورة المهم مقدورا بواسطة هذا التقييد مع فرض الخطاب الفعلي بحفظ القدرة للواجب المتأخر المفروض كونه الاهم ومعجزا عن الواجب المتقدم.

واما الثالث : وهو كون الشرط العزم على العصيان فهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدين.

واما الرابع : وهو لحاظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب احفظ قدرتك.

فإن كان الشرط هو العزم والبناء على عصيان خطاب الحفظ ، لزم طلب الجمع بين الضدين.

٣٦٢

وان كان الشرط نفس العصيان المتحقق بصرف القدرة ، فيرد عليه ان عدم حفظ القدرة لا يكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة عليه وذلك الفعل الوجودي ، اما نفس الواجب المتقدم ، أو فعل آخر ، أو الجامع بينهما.

وان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق التكليف بالممتنع : فانه مع صرف قدرته في المتقدم بإتيانه يكون طلبه طلب الحاصل ، ومع صرفه في فعل آخر يتعذر عليه الواجب المتقدم ، وان كان الثالث يلزم كلا المحذورين.

ولا يقاس المقام بالصلاة والازالة فإن ترك الازالة ممكن بدون الصلاة وفعل آخر ـ واما عدم حفظ القدرة فلا يمكن بدون فعل ما فتدبر.

وفي كلماته (قدِّس سره) مواقع للنظر :

الأول : ما افاده من ان كون الشرط هو عصيان خطاب الاهم ، يلزم منه الالتزام بالشرط المتأخر ، وهو محال.

فانه يرد عليه : ما تقدم منا من امكانه غاية الامر وقوعه في الخارج ، يحتاج إلى دليل ، وهو في المقام موجود ، وهو عدم جواز رفع اليد عن اصل التكليف ، إذا امكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء ، وفى المقام يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.

الثاني : ما افاده من ان شرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل ، وهو مفقود في المقام ، وانما التزمنا به في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة ونحوها ، من جهة ان استمرار العصيان عبارة أخرى عن استمرار

٣٦٣

القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط عنوان التعقب لمكان اعتبار الوحدة في الأجزاء التدريجية.

فانه يرد عليه : انه على القول باستحالة الشرط المتأخر ، نفس الدليل الدال على الترتب ، وهو انه إذا امكن الترتب واشتراط احدهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر كان مقتضى الدليل الالتزام بذلك ولا موجب لرفع اليد عن اصل الخطاب ، يدل على شرطية عنوان التعقب في التدريجيات ، ضرورة انه إذا امكن طلب المهم مشروطا بتعقبه بترك الواجب المتأخر الاهم ، فلا موجب لرفع اليد عن اصل الخطاب وانما اللازم هو رفع اليد عن اطلاقه بمقدار يرتفع به التزاحم ، اعني به اطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال الواجب المتأخر في ظرفه.

وبعبارة أخرى : ان كون احد الخطابين مشروطا بترك امتثال الآخر لم يرد في لسان دليل من الادلة كي نقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره ، بل انما هو من ناحية حكم العقل بعدم امكان تعلق الخطاب بفعلين متضادين الا على هذا التقدير ، وعليه فإذا لم يمكن في مورد تقييد اطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الاهم من جهة استلزامه القول بالشرط المتأخر يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه ، أو بعنوان التعقب بعين هذا الملاك.

الثالث : ما افاده من ان شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدين.

فانه يرد عليه انه لو كان العزم بحدوثه خاصة شرطا لفعلية الامر بالمهم ، فلا محالة يلزم ذلك ، إذ بعد حدوثه يصير الامر بالمهم فعليا ومطلقا كالامر بالاهم ، لكنه غير صحيح ، بل كما يلتزم بأن الشرط في مورد كونه العصيان هو العصيان المستمر نلتزم ، بأن الشرط هو الاستمرار على العزم لا حدوث العزم

٣٦٤

آنا ما.

الرابع : ما افاده من ان عصيان وجوب حفظ القدرة اما ان يتحقق بصرف القدرة في المهم أو بصرفها في فعل آخر إلى آخر ما افاد.

فانه يرد عليه ان ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر ، ان كان عين صرفها في الواجب المتقدم المهم ، أو صرفها في شيء آخر كان لما افاده وجه ، ولكن الامر ليس كذلك لان التحفظ عبارة عن ابقاء القدرة على حالها ، وعدم اعمالها في شيء وهو ملازم هنا لترك المهم ، وعدم الاتيان به في الخارج ، ومعنى ترك التحفظ عدم ابقائها على حالها ، وهو ملازم في المقام لفعل المهم أو لفعل آخر ، لا انه عينه فيكون نظير الازالة والصلاة.

الخامس : ما افاده من انه لو كان الشرط هو عصيان خطاب الاهم أو عنوان التعقب أو العزم على العصيان لما كان يجدي في رفع المحذور لان وجوب حفظ القدرة له معجز عن الاتيان بالمهم ، فلا يكون معه قادرا عليه شرعا.

فانه يرد عليه : أولاً : النقض بوجوب الاهم إذا كان مقارنا مع المهم زمانا بعد فرض عدم سقوط الوجوب بعصيانه.

وثانياً : بالحل وهو ان نفس وجود الخطاب لا يكون مانعا إذ ليس المحذور الجمع بين الطلبين بل المحذور كله ، في طلب الجمع بين الضدين ، وهو انما يكون إذا كان في عرضه لا في طوله ، وعلى نحو الترتب لما مر مفصلا من عدم التنافي بين مقتضى الامرين كذلك.

أضف إلى ذلك كله ان وجوب حفظ القدرة ليس وجوبا شرعيا مولويا ،

٣٦٥

بل وجوبه عقلي ، وحيث انه واقع في سلسلة معلول الحكم فلا يكون مستتبعا لحكم شرعي ، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين وجوب المهم إذ لا شأن للوجوب العقلي سوى ادراكه حفظ القدرة للواجب الاهم فالمزاحمة انما هي بين وجوب المهم ووجوب الاهم وهي ترتفع بالالتزام بأحد الأمور المتقدمة.

فالمتحصل مما ذكرناه امكان الترتب هنا أيضا ، بالالتزام باشتراط وجوب السابق بعصيان خطاب المتأخر ، وعلى فرض عدم امكان الشرط المتأخر بتقييده بالعزم على عصيانه المستمر ، أو عنوان التعقب به فتدبر فانه حقيق به.

جريان الترتب في المقدمة المحرمة

المسألة الثانية : إذا وقعت المزاحمة بين المقدمة وذيها ، فهل يجري الترتب فيها ، ام لا؟ وملخص القول فيها ان المقدمة تارة تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق ، واخرى تكون مقارنة في الوجود لذيها كتوقف احد الضدين على ترك الآخر بناءً على كونه مقدمة له ، فالكلام في مقامين :

المقام الأول : فإذا فرضنا ان الواجب المتوقف على الحرام اهم منه وقدمناه فلا اشكال في سقوط حرمة المقدمة في فرض الاتيان بالواجب.

انما الكلام في انه على فرض العصيان هل تكون المقدمة حراما من باب الترتب ام لا؟

والمحذور المتوهم للترتب في خصوص المقام امران :

٣٦٦

احدهما : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة والوجوب والحرمة متضادان لا يمكن اجتماعهما.

ثانيهما : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في خصوص المقام حتى نرجعه إلى وصف التعقب.

ولكن يندفع الأول ، أولاً : بما تقدم مستوفى من اختصاص الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة.

وثانياً : ان الوجوب الغيري التبعي غير الناشئ عن ملاك مستقل لا يصلح لمعارضة الحكم النفسي الذي صححناه معلقا على عصيان الواجب النفسي الاهم ، وان شئت قلت ان وجوب المقدمة وجوب عقلي ، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين الحرمة إذ لا شأن للوجوب العقلي الا ادراكه انه لا بد للاتيان به تحفظا على الواجب النفسي الاهم فعلى فرض عصيانه وعدم الاتيان به لا محالة لا يصلح لمعارضة الحرمة النفسية.

ويندفع الثاني بما مر من امكان الشرط المتأخر أولاً ، وانه لا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب بعصيان الاهم في ظرفه ، أو العزم على عصيانه ثانيا : إذ لا موجب لرفع اليد عن اطلاق دليل الحرمة بالاضافة إلى حال التعقب أو العزم عليه وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها ، فاللازم هو رفع اليد عن اطلاق الدليل بمقدار يقتضيه الضرورة وهو في غير تلك الحالة.

واما في المقدمة المقارنة فالكلام فيها قد تقدم في اول مبحث الضد مستوفى فلا نعيد.

٣٦٧

جريان الترتب في موارد اجتماع الامر والنهي

المسألة الثالثة : إذا وقعت المزاحمة بين الامر والنهى كما في موارد اجتماعهما بناءً على القول بالجواز وكون التركيب بينهما انضماميا ، ووقوع المزاحمة بينهما فهل يجري الترتب هناك ام لا؟ قولان :

ذهب المحقق النائيني (ره) (١) إلى الثاني نظرا إلى ان عصيان النهي في مورد الاجتماع كالنهي عن الغصب اما ان يكون باتيان فعل مضاد للصلاة المأمور بها مثلا كأن يشتغل بالاكل ، واما ان يكون بنفس الاتيان بالصلاة ، وعلى التقديرين ، لا يمكن جريان الامر الترتبي ، لان الأول مستلزم لطلب الجمع بين الضدين والثاني مستلزم لطلب الحاصل وان التزم بكون الشرط هو الأعم ، لزم كلا المحذورين ، وان التزم بأن الشرط هو العزم على الغصب لا نفسه ، لزم الامر بالضدين على الوجه المحال.

ولكن يرد عليه انه لا يلزم من الالتزام بكون الامر بالصلاة مشروطا بعصيان النهي عن الغصب على القول بكون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، المحذور الأول : إذ الشرط هو الكون في الأرض المغصوبة ، وهو غير الصلاة وغيرها من الأفعال الوجودية الأخر ، ولذا لو فرض خلو المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة ، ومع ذلك كان تصرفا في مال الغير وغصبا.

وان شئت قلت ان المكلف قادر على الصلاة عند كونه في الأرض

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ (واما القسم الرابع).

٣٦٨

المغصوبة وان فرض كونه في ضمن احد الأفعال المزبورة لفرض كونه قادرا على تركه والاشتغال بالصلاة.

نعم لو كان الكون في الأرض المغصوبة ، عين احد الأفعال المزبورة ، وكان التركيب اتحاديا تم ما أفيد ، الا انه خارج عن مورد التزاحم ، ويدخل في باب التعارض ، وتمام الكلام في مبحث اجتماع الامر والنهي.

عدم جريان الترتب في المتلازمين

المسألة الرابعة : إذا كان التزاحم ناشئا من ملازمة وجود الواجب ، لوجود الحرام اتفاقا ، كما إذا فرضنا حرمة استدبار الجدي المستلزمة ذلك لوقوع التزاحم بينها وبين وجوب استقبال القبلة بالنسبة إلى أهل العراق وما سامته من النقاط ، فلا ريب في كون ذلك من باب التزاحم ، فيرجع فيه إلى قواعد ومرجحات ذلك الباب ، فإن كان لاحدهما مرجح يقدم ، وإلا فيحكم بالتخيير.

وهل يمكن جريان الترتب في هذا المورد ، ام لا؟ الظاهر هو الثاني كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (١) إذ لا يعقل ان يكون حرمة استدبار الجدي مثلا مشروطا بعدم استقبال القبلة وعصيان الامر به ، لان ترك استدبار الجدي حينئذ قهري ، فالنهى عنه لغو محض وطلب للحاصل فلا يصدر من الحكيم ، وكذلك لا يعقل ان يكون وجوب استقبال القبلة مشروطا بعصيان النهي عن استدبار

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ (واما القسم الثالث).

٣٦٩

الجدي والإتيان بمتعلقه ، فإن استقبال القبلة حينئذ ضروري الوجود فلا يعقل الامر به من الحكيم.

فالمتحصل عدم امكان الترتب بين المتلازمين لا من جانب واحد ولا من جانبين.

وقد ظهر من مجموع ما ذكرناه جريان الترتب في الاقسام الاربعة من اقسام التزاحم بين الحكمين ، وعدم جريانه في خصوص القسم الاخير.

واما موارد التزاحم بين الملاكين ، فقد عرفت انه داخل في باب التعارض ولا معنى للنزاع في جريان الترتب فيها ، وعليك بالتأمل التام فيما حققناه.

* * *

٣٧٠

الفصل السادس

في امر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه

ذكر المحقق الخراساني (ره) في الكفاية (١) انه لا يجوز لان الشرط من اجزاء العلة فيستحيل ان يوجد الشيء بدونه ، الا ان يكون المراد من لفظ الامر ، الامر ببعض مراتبه وهو مرتبة الانشاء ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر وهو الفعلية ، فيكون النزاع في ان امر الآمر يجوز انشائه مع علمه بانتفاء شرط فعليته ، وعدم بلوغه تلك المرتبة فاذن لا اشكال في جوازه بل وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات : لان الامر الصوري إذا كان الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك حقيقة واقع في العرف والشرع.

واورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) (٢) بانه لا يجوز الامر بشيء مع العلم بانتفاء شرط الفعلية ، إذ الانشاء بداع البعث مع العلم بانتفاء شرط الفعلية غير معقول للغوية وبداع آخر لا يترقب منه البلوغ إلى مرتبة البعث الجدي ، فلا مورد لدعوى العلم بانتفاء شرطها ، ولا يدخل في العنوان ، وبلا داع محال.

وأفاد المحقق النائيني (ره) (٣) ان هذه المسألة باطلة من اصلها لا في القضية

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٧ (فصل : لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه).

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠ (عدم جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه).

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤ (الفصل السادس).

٣٧١

الحقيقية ولا في القضية الخارجية ، اما في الأولى فلان فعلية الحكم فيها منوطة بالموجود الخارجي ويستحيل تخلفها عنه وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجنبي عن ذلك ، واما في الثانية فلان الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم وهو تمام العلة له ، والوجود الخارجي وعدمه أجنبيان عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور.

وملخص القول في المقام انه حيث يكون لكل حكم مرتبتان ، مرتبة الجعل ، ومرتبة المجعول فيقع الكلام ، تارة في شرائط الجعل واخرى في شرائط المجعول.

اما الكلام في الأولى : فبما ان الجعل فعل اختياري للمولى وكل فعل اختياري مسبوق بالإرادة بما لها من المقدمات فانتفاء الجعل بانتفاء شرطه من الواضحات ، ولم ينقل النزاع فيه عن احد ، إذ بديهي ان جعل الحكم معلول للإرادة ومباديها ومشروط بها ، واستحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة ظاهرة.

فجعل المحقق الخراساني (١) ذلك محل الكلام غير سديد ، كما ان ما ذكره من الجواز إذا لم يكن الامر بداعي البعث والتحريك بل كان بداعي الامتحان ونحوه ، غير مربوط بما هو محل الكلام ، لان محل البحث في الجواز وعدمه هو الاوامر الحقيقية ، والا ففي الاوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث فلا اشكال ولا كلام في جوازه.

واما في الثانية : أي شرائط المجعول ففي خصوص القدرة من تلك الشرائط

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، بتصرف.

٣٧٢

على القول بدخلها في الفعلية لا في التنجز ، يكون المخالف هو الاشاعرة فانهم التزموا بجواز الامر بغير المقدور.

واما في غيرها فحيث عرفت في بحث الواجب المطلق والمشروط ان كل قيد اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل يستحيل فعلية الحكم بدون فعليته ووجوده في الخارج.

فإن اريد من الامر هو الحكم الفعلي ، فامتناعه واضح لانه يرجع إلى فعلية الحكم مع عدم فعلية موضوعه.

وان كان المراد منه هو الانشاء والجعل كما هو الظاهر ، فالظاهر هو التفصيل بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والالتزام بعدم الإمكان في الأولى والإمكان في الثانية.

اما عدم الإمكان في الأولى فلانه في القضايا الخارجية انما يجعل الحكم على الموضوع الموجود الخارجي ، فمع فرض العلم بانتفاء الموضوع ، لا يعقل الحكم عليه بنحو القضية الخارجية.

واما الإمكان في الثانية فلان القضية الحقيقية عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، وهذا لا ينافى عدم تحقق الموضوع خارجا إلى الأبد ، فانه حكم على تقدير وجود الموضوع.

نعم ، يعتبر في صحته ان يترتب على مثل هذا الجعل اثر ، والا يلزم اللغوية ، ويكفى في الخروج عن ذلك ما إذا فرضنا ان الجعل بنفسه يمنع عن تحقق الموضوع ، ويتصور ذلك في الاحكام المجعولة قصاصا ، ونحوها : مثلا إذا

٣٧٣

فرضنا ان جعل القصاص المترتب على القتل العمدي اوجب عدم تحقق القتل في الخارج ، أو وجوب الحد للزاني ، اوجب ، عدم تحقق الزنا في الخارج ، وما شاكل ذلك ومن المعلوم انه مضافا إلى انه لا مانع من مثل هذا الجعل تقتضيه المصلحة العامة.

نعم ، إذا فرضنا ان امتناع الشرط لم يكن مستندا إلى الجعل بل كان من ناحية أخرى ، كما إذا امر بشيء على تقدير الصعود إلى السماء يكون ذلك لغوا وصدوره من الحكيم محال ، وحيث ان محل الكلام هي القضايا الحقيقية ، فصح ان يقال انه يجوز امر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه ، والحكم بعدم الجواز نشأ من الخلط بين القضايا الخارجية والحقيقية.

وبذلك يندفع ايراد المحقق الاصفهاني (ره) (١) بأن الانشاء بداعي البعث مع العلم بانتفاء شرطه غير معقول للغوية : لما عرفت من عدم لزوم اللغوية لو كان انتفاء الشرط مستندا إلى الجعل وهو الذي اوجب عدم تحققه في الخارج.

كما انه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) (٢) إذ النزاع في المسألة ليس في دخل علم الآمر بوجود الموضوع ، أو بعدم وجوده في فعلية الحكم ليتم ما افاده ، بل النزاع في ان جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدر وجوده مع علم الجاعل بعدم تحقق الموضوع في الخارج هل يجوز ام لا؟

وقد عرفت ان هذا النزاع معقول ، نعم ، في بعض موارده يكون الجعل

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٣٧٤

لغوا.

وبعبارة أخرى : ان النزاع ليس في فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء موضوعه خارجا بل انما هو في جواز اصل جعل الحكم.

وقد يقال بترتب ثمرة على هذه المسألة ، وهي انه على القول بجواز الامر بشيء مع العلم بانتفاء شرطه ، تجب الكفارة على من افطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط وجوب الصوم له إلى الليل ، كما إذا افطر أولاً ثم سافر ، أو وجد مانع آخر من الصوم كالمرض أو نحوه ، فانه مأمور حينئذ بالصوم فيشمله ما دل على وجوب الكفارة على الصائم إذا افطر ولا تجب الكفارة بناءً على عدم جواز الامر مع انتفاء شرطه عليه حينئذ.

وفيه : ان المعنى المعقول لما هو محل الكلام غير مرتبط بما ذكر ، بل وجوب الكفارة في المثال وعدمه مبنيان على ان الموضوع له ، هل هو الإفطار في زمان يجب عليه الإمساك ولو لم يكن صوما ، فيجب الكفارة لو افطر ، ام يكون هو الإفطار في حال كونه صائما حقيقة فلا تجب.

والظاهر انه إلى ذلك نظر الأستاذ (١) حيث قال ان وجوب الكفارة مترتب على الإفطار العمدي في نهار شهر رمضان بلا عذر مسوغ له سواء طرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك ام لم يطرأ.

ولكن لم افهم مراده من قوله وذلك لاطلاق الروايات الدالة عليه ، فإن كان

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٤ ص ١٠ ـ ١١ (والثالث انه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً).

٣٧٥

نظره إلى روايات الكفارة فهي مختصة بالافطار حال كونه صائما ، وان كان إلى غيرها فلم يصل الينا رواية فضلا عن الروايات.

واما ما افاده المحقق النائيني (ره) (١) من ابتناء وجوب الكفارة في هذا الفرض على ان وجوب الصوم ، هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الآنات ، أو هو تكليف واحد مشروط بشرط متأخر وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب ، وعلى الثاني فهل لنا تكليف آخر بإمساك بعض اليوم في خصوص ما إذا ارتفع شرط الوجوب بالاختيار أو مطلقا ، ام لا؟ فهو ليس مبنى هذه المسألة بل هو مبنى وجوب الإمساك قبل طرو المانع وعدمه.

* * *

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٤ (واما الثمرة التي رتبوها عليها).

٣٧٦

الفصل السابع

هل الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد؟

وحيث ان هذا النزاع بظاهره لا معنى له إذ لا يتوهم احد تعلق الامر بالموجود الخارجي لانه مسقط للامر فلا يعقل تعلقه به ، ولا تعلق الامر بالطبيعة الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن حيثية انطباقها على الموجود الخارجي ، فلا بد لنا من تحرير محل النزاع في المقام أولاً ثم بيان ما هو الحق فيه ثانيا.

فاقول : ان محل النزاع يمكن ان يكون احد امور :

احدها : ان المتعلق هو وجود الطبيعي أو الفرد ، ويكون هذا النزاع مبتنيا على مسألة امكان وجود الطبيعي في الخارج ، وامتناعه.

فمن يقول بتعلق التكليف بالفرد ، انما يكون قائلا بامتناع وجود الطبيعي في الخارج ففرارا عن تعلق التكليف بغير المقدور ، يلتزم بتعلقه بالفرد.

ولا يكون لازم قوله دخول لوازم التشخص في المكلف به.

نعم لازم القول بتعلق التكليف بالفرد كون التخيير شرعيا دائما بخلاف تعلقه بالطبيعة فانه يستلزم كون التخيير عقليا.

٣٧٧

فما ينقله المحقق النائيني (ره) (١) عن بعض الاساطين من تفسير تعلق الامر بالافراد بانكار التخيير العقلي بين الأفراد الطولية والعرضية ، وان التخيير بينها يكون شرعيا دائما بخلاف تعلقه بالطبيعة فانه يكون عقليا يكون نظره إلى ذلك.

ولا يرد عليه ما اورده المحقق النائيني (ره) (٢) من استبعاد احتياج تعلق الطلب بشيء إلى تقدير كلمة أو بمقدار أفراده العرضية والطولية ، مع عدم تناهيها غالبا ، مضافا إلى ان وجود التخيير العقلي في الجملة مما تسالم عليه الجميع ظاهرا.

فانه يندفع بانه انما يدعى ان متعلق التكليف في الواقع هو الأفراد ، والا ففي ظاهر الدليل أخذت الطبيعة في المتعلق مشيرا إلى الأفراد فالتخيير العقلي بلحاظ ظاهر الدليل في قبال ما صرح به في لسان الدليل فتدبر.

ثانيها : ان المتعلق هو الوجود ، أو الماهية ويكون النزاع حينئذ مبنيا على مسألة فلسفية أخرى من ان الأصل في التحقق هو الوجود أو الماهية ، فمن جعله الوجود قال بتعلق التكليف به ، وهو المراد بتعلقه بالفرد ، ومن جعله الماهية قال بتعلق التكليف بالماهية والطبيعة.

والمحقق الاصفهاني (ره) (٣) يقول ان ظني ان المراد بتعلق الامر بالطبيعة أو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢١٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٥ (الفصل السابع).

(٢) نفس المصدر.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠ (الاوامر والنواهي متعلقة بالطبائع) بتصرف.

٣٧٨

الفرد يكون احد هذين الوجهين ، وايضا يقول (١) ولعل ذهاب المشهور إلى تعلق الامر بالطبيعة لذهاب المشهور من الحكماء والمتكلمين إلى اصالة الماهية وتعلق الجعل بها.

ثالثها : ان متعلق الطلب هل هو صرف وجود الطبيعة العاري عن جميع الأمور التي لا تنفك عن الوجود خارجا كالأعراض الملازمة مع الوجود الجوهري التي يطلق عليها المشخصات بضرب من المسامحة والعناية ، والا فالتشخص انما يكون بالوجود ، ولذا قالوا الشيء ما لم يوجد لم يتشخص ، ام يكون المتعلق تلك المشخصات أيضا ، ولا يكون الامر واقفا على نفس الوجود السعي.

وبعبارة أخرى : يكون النزاع في ان الامر بالشيء ، هل يكون أمرا بما لا ينفك في الوجود عنه ، ام لا؟

وقد اختار المحققان الخراساني (٢) والنائيني (٣) ان محل النزاع ذلك.

وقد اورد على كون المتعلق هو الوجود ، سواء أكان هو وجود الطبيعة أو الفرد ، بأن الوجود الخارجي مسقط للامر وعلة لعدمه ، فلا يعقل ان يكون معروضا له ، فإن المعروض مقتض لعارضه ، لا انه علة لعدمه.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٣.

(٢) كفاية الاصول ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٣) اضافة إلى ما ذكره في الفصل السابع (راجع الحاشية السابقة) فقد تعرض لذلك في مقدمة المبحث السادس : في الوجوب الكفائي ج ١ ص ١٨٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٠.

٣٧٩

مع انه يلزم طلب الحاصل.

أضف إليه ان كثيرا ما يكون الطلب والتكليف موجودا ، ولا يوجد ذلك الشيء في الخارج فكيف يكون متعلقا به.

وبعبارة أخرى : يلزم بقاء العارض بلا معروض ، بل الامر والتكليف يكون موجودا قبل وجود متعلقه ، وهو معلول له فكيف يكون معروضه.

وأجاب عنه المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، بأن معنى تعلقه بالوجود ، ان الطالب يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة وافاضته.

ويرد عليه ان المحقق في محله ، ان الايجاد والوجود متحدان ذاتا ، والتغاير بينهما اعتباري ، فإذا امتنع تعلقه بالوجود امتنع تعلقه بالايجاد.

وأجاب عنه بعض المحققين (٢) بأن المراد ان الطلب يتعلق بالطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها.

واورد عليه في الكفاية بأن الطبيعة بما هي هي ليست الا هي لا يعقل ان يتعلق بها الطلب لتوجد أو تترك ، وانه لا بد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود ، أو العدم معها.

ولكن يرد على ما في الكفاية ان كون الطبيعة من حيث هي خالية عن

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٩ (دفع وهم).

(٢) لم يعلم القائل به ولكن صاحب الكفاية اورده وأجاب عليه ص ١٣٩.

٣٨٠