زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

الحكمين بنحو القضية الحقيقية.

اما من ناحية المبدأ حيث ان المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة أو الغالبة عليها والمفسدة كذلك متضادتان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، وكذلك الإرادة والكراهة بالنسبة إلى متعلق واحد.

واما من ناحية المنتهى لعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين ولزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم كما إذا وجب القيام دائما والقعود كذلك.

أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال المشرق ، وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن الجمع بين الحكمين ثبوتا.

واما إذا لم يكن بينهما التنافي لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ولم يلزم من جعلهما ، اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة في متعلق واحد ولا يلزم التكليف بما لا يطاق ، كوجوب صلاة الفريضة ، ووجوب ازالة النجاسة عن المسجد ، فلا يكون هناك مانع من جعلهما معا.

وبعبارة أخرى : إذا لم يكن بين الحكمين تناف في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملاءمة وانما نشأ التنافي في مقام فعلية كليهما وتحقق موضوعهما خارجا اتفاقا فهو باب التزاحم ، فالملاك للدخول في باب التزاحم هو ان يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقيا وكان منشأه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال اتفاقا بعد ما كان قادرا على الاتيان بكل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ولم يقدر على الجمع بينهما

٣٤١

صدفة.

فالمتحصل ، ان المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين الحكمين جعل الشارع كلا الحكمين في عرض واحد ، ولازمه اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له ، وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال اتفاقا ، فإذا تحقق هذان الامران تحققت المزاحمة بينهما ، وإذا انتفى احد الامرين لا مزاحمة أصلا.

ثم ان للمحقق النائيني (ره) (١) كلا ما في المقام وهو ان التزاحم قد ينشأ من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف ، ومثل له بما إذا صار المكلف واجدا للنصاب الخامس من الإبل الذي يجب فيه خمس شياه ثم بعد انقضاء ستة اشهر مثلا ملك ناقة أخرى ، فحصل النصاب السادس ، الذي يجب فيه بنت مخاض. فإن المكلف وان كان قادرا على دفع خمس شياه بعد انقضاء ستة اشهر من ملكه للنصاب الخامس ، وعلى دفع بنت مخاض بعد مضي حول النصاب السادس ، الا ان قيام الدليل على ان المال الواحد لا يزكَّى في عام واحد مرتين ، اوجب التزاحم بين الحكمين.

ولكن يرد عليه ان قيام الدليل المذكور ، يوجب العلم بتقييد ، ما دل على وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ، ومضى عليه الحول ، أو ما دلَّ على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٨٥ (الخامس : موارد التلازم الاتفاقي) وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٥٣.

٣٤٢

الحول فيقع التعارض بين اطلاقي الدليلين ولا ربط لذلك بباب التزاحم ، وكأنه تخيل اختصاص باب التعارض بتعارض الدليلين رأسا ولا يشمل تعارض اطلاقيهما.

أقسام التزاحم

الجهة الثانية : في بيان أقسام التزاحم ، فقد ذكر المحقق النائيني (ره) (١) أقساما خمسة للتزاحم ، وذكر ان منشأ التزاحم أمور خمسة :

الأول : تضاد المتعلقين بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الصلاة ، والازالة.

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين ، مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى ، والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في احداهما فقط ، والفرق بين هذا القسم ، وسابقه ، هو ان عدم القدرة في هذا القسم ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفى سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف عاجزا لو لا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٢١ (المقام الثاني) في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة.

٣٤٣

القبلة وحرم استدبار الجدي مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : ما إذا كان الحرام مقدمة للواجب فيما إذا لم يكن التوقف دائميا ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه.

الخامس : موارد اجتماع الامر والنهى ، فيما إذا كان هناك ماهيتان اتحدتا في الخارج نحو اتحاد كالصلاة والغصب بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها.

ولا يهمنا البحث في انه ما ذا يكون اثر هذا التقسيم وانه لا يترتب عليه أية ثمرة ، ويكون نظير تقسيم ان التزاحم ، قد يكون بين وجوبين ، وقد يكون بين تحريمين وقد يكون بين وجوب وتحريم وهكذا.

وايضا لا يهمنا البحث في رجوع بعض هذه الأقسام إلى بعض ، مثلا مورد جواز اجتماع الامر والنهى ، الذي هو المورد الخامس للتزاحم ، يرجع إلى الثالث.

بيان ما تقتضيه القاعدة في هذا الباب ومرجحاته

الجهة الثالثة : في بيان ما تقتضيه القاعدة في باب التزاحم ، ومرجحات هذا الباب.

فالكلام في موردين :

المورد الأول : فيما تقتضيه القاعدة ، وقد مرَّ مفصلا أنها تقتضي التخيير ، إذ المانع عن فعلية الحكمين المتزاحمين انما هو عدم القدرة على امتثالهما وعليه ،

٣٤٤

فبما ان المكلف قادر على إتيان كل منهما عند ترك الآخر يتعين عليه بحكم العقل البناء على وجوب كل منهما مقيدا بعدم إتيان الآخر ، وان شئت فقل ، ان التزاحم ليس بين اصل الخطابين ، بل التزاحم بين اطلاق كل منهما بالنسبة إلى صورة الاتيان بمتعلق الآخر ، مع اطلاق الآخر كذلك ، وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها فيتعين حينئذ تقييد كل من الاطلاقين ، فتكون النتيجة هو التخيير وعليه فإذا أتى بأحدهما سقط التكليفان ، احدهما بالامتثال ، والآخر بارتفاع موضوعه وقد مر اعتراف الشيخ الأعظم بذلك أيضا فراجع ما قدمناه.

المورد الثاني : في مرجحات باب التزاحم ، وقد ذكر المحقق النائيني لهذا الباب مرجحات (١).

ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل

المرجح الأول : كون احد الواجبين مما ليس له بدل والآخر مما له بدل ، وأفاد أن هذا يتحقق في احد موردين :

احدهما : ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في عرضه ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له كما في مزاحمة وجوب الازالة الذي هو فوري مع وجوب الصلاة في سعة وقتها ، أو زاحم احد افراد الواجب

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٢١ ـ ٣٢٢ (في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور).

٣٤٥

التخييري الشرعي لواجب تعييني ، كما إذا كان لشخص عشرة دنانير ، ودار أمرها بين ان يصرفها في مئونة من تجب عليه مئونته ، وبين ان يصرفها في كفارة شهر رمضان ، حيث ان لكفارة شهر رمضان بدلا وهو صوم شهرين متتابعين ، فانه لا اشكال في تقدم ما لا بدل له على ما له البدل.

بل قد مر ان هذا في الحقيقة خارج عن التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي إذ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن ان يزاحم ما له اقتضاء ، لان دليل الواجب التخييري أو الموسع لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص الفرد المزاحم ، بخلاف دليل الواجب المضيق أو المعين.

المورد الثاني : لهذا المرجح ، ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في طوله دون الآخر كما لو زاحم وجوب الوضوء مع وجوب انجاء النفس المحترمة من الهلاكة ، ومثل لذلك بمثالين :

احدهما ما إذا وقع التزاحم بين الامر بالوضوء والامر بتطهير البدن أو اللباس للصلاة فبما ان الوضوء له بدل وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة امره مع امر التطهير فيقدم رفع الخبث ويكتفى بالصلاة مع الطهارة الترابية.

ثانيهما : ما إذا دار الامر بين ادراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وادراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية.

ثم اورد على نفسه : بأن ادراك ركعة واحدة في الوقت بدل عن تمام الصلاة فيه فيكون الدوران بين واجبين لكل منهما بدل.

وأجاب عنه بأن بدلية ادراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت انما

٣٤٦

هي على تقدير العجز عن ادراك تمام الصلاة فيه وقد فرضنا قدرة المكلف على ادراك تمامها فيه فلا موجب لسقوط التكليف باتيان تمام الصلاة في وقتها فيجب الاتيان بتمام الصلاة في وقتها مع الطهارة الترابية.

اقول : ما ذكره في المورد الثاني من الكبرى الكلية.

تام إذ كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة ، لانه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وحيث ان التفصيل قاطع للشركة فلازمه تقييد ذلك الواجب بالتمكن والقدرة ، سواء صرح في لسان الدليل بذلك كآية التيمم أو لم يقع التصريح به في لسان الدليل ، فتكون كما صرح به.

واما المثالان اللذان ذكرهما فلا تكون هذه الكبرى منطبقة عليهما لوجهين :

الأول : ما حققناه في كتابنا فقه الصادق في الجزء الرابع (١) ، من ان موارد دوران الامر بين الواجبين الضمنيين من موارد التعارض ، لا التزاحم ، فإن التنافي حينئذ بين الجعلين لا الفعليين فراجع ما حققناه.

الثاني : انه في المثالين لكل من الواجبين بدل ، اما في الأول فلان الصلاة مع اللباس النجس أو عاريا بدل عن الصلاة مع الطهارة الخبثية.

واما في الثاني فلما اورده (قدِّس سره) على نفسه.

__________________

(١) راجع فقه الصادق ج ٤ ص ١١٩ (الاضطرار إلى ترك بعض الاجزاء والشرائط).

٣٤٧

وجوابه عنه غير تام ، إذ التيمم أيضا يكون بدلا عن الوضوء في صورة العجز عن الطهارة المائية.

وبعبارة أخرى : انه ان لوحظ كل من الواجبين في نفسه وبالاضافة إلى الصلاة التامة الأجزاء والشرائط ، فهو عاجز عنه ، فلا يصح ان يقال انه متمكن من الصلاة أربع ركعات في الوقت مع الطهارة الترابية فلا يكون عاجزا ، إذ يصح ان يعكس حينئذ فيقال انه متمكن من الصلاة في الوقت بادراك ركعة منها فيه مع الطهارة المائية فلا ينتقل الفرض إلى التيمم.

تقديم المشروط بالقدرة العقلية

المرجح الثاني : ما إذا كانت القدرة في احد الواجبين شرطا شرعيا ، وفى الآخر شرطا عقليا.

والمراد بكون القدرة شرطا شرعيا هي ما أخذت في لسان الدليل كما في الحج والوضوء ، فيقدم ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا على ما يكون مشروطا بالقدرة شرعا.

وقد افاد المحقق النائيني (ره) (١) في وجه ذلك ، ان غير المشروط بها يصلح لان

__________________

(١) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٢٢ (الأمر الثاني).

٣٤٨

يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، ولا عكس ، حيث ان وجوبه لا يكون مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية والمفروض انها حاصلة فالمقتضي لوجوبه موجود وهو اطلاق الدليل والمانع مفقود ، فلا بد من البناء على وجود المقتضي بالفتح ، ومعه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة شرعا عن تحت سلطانه وقدرته شرعا للزوم صرف قدرته في ذلك ، والممنوع شرعا كالممنوع عقلا ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب لانتفاء شرطه وهو القدرة.

والحاصل ان ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا بنفسه معجز مولوي ، فيكون رافعا لموضوع ما يكون مشروطا بالقدرة شرعا ولا عكس.

وهو لم يستند في وجه التقديم إلى ان ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلا تام ، فلا مانع من ايجابه وهو يمنع عن ثبوت الملاك للواجب الآخر ، بل ذكر ذلك من آثار الوجه الذي قدمناه.

فلا يرد عليه ما اورده الأستاذ (١) ، من انه لا طريق لنا إلى كشف الملاك ، مع ان تقديم احد المتزاحمين على الآخر ، بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون آخر فلا بد من ذكر وجه يعم حتى مذهب الاشعري المنكر لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وقد اورد على نفسه (٢) بانه ربما يختلج بالبال انه لا طريق لنا إلى كشف عدم

__________________

(١) كما في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠ ـ ٣١ وقد أشار إلى ذلك في غير مورد من المحاضرات أيضا.

(٢) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٢٣ (الأمر الثاني).

٣٤٩

تقييد المتعلق بالقدرة شرعا ، وانه لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفيه وذكر في وجه ذلك امورا ، وقد قدمناها مع نقدها عند التعرض لطريق كشف الملاك في أوائل مبحث الضد فراجع.

الترجيح بالمتقدم زمانا

ثم انه في موارد هذه المرجحات ، لا يلاحظ الاهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني.

واما لو فرض تساوى المتزاحمين في هذه المرجحات ، بأن كان كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا أو مشروطا بالقدرة شرعا ، وكان الواجبان مضيقين ، وتعينيين ، فتصل النوبة إلى الترجيح بالسبق واللحوق ، والاهمية والمهمية.

وتفصيل القول في ذلك انه إذا تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات المتقدمة ، فاما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا ، أو يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا.

اما في المورد الأول وهو ما كانت القدرة في كل منهما شرطا شرعيا ، فيقدم فيه ما كان بحسب الزمان متقدما ، اما بأن كان زمان امتثاله متقدما ، كما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب صوم يوم الخميس ووجوب صوم يوم الجمعة ، بأن نذر صوم اليومين ولم يقدر الا على اتيان احدهما ، أو كان زمان امتثالهما متحدا ولكن تقدم زمان خطاب احدهما ، كما لو وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ، فيما لو نذر في شهر رمضان المبيت ليلة عرفة في مشهد الحسين (ع) ، وبعد ذلك عرض له الاستطاعة.

٣٥٠

(وفي المثال كلام سيأتي) وفي مثل ذلك لا يلاحظ اهمية المتأخر ، بل يكون السابق متقدما مطلقا.

والوجه في التقديم واضح ، فإن زمان فعلية وجوب السابق يكون قادرا عليه عقلا وشرعا لعدم فعلية الآخر ليكون مانعا ومعجزا شرعيا وهو حينئذ يكون معجزا بالنسبة إلى متعلق الآخر ومانعا عن فعلية موضوعه ، ومع عدمها لا يعقل فعلية الحكم ، ولا يلاحظ الاهمية فإن لحاظ ذلك يستدعي ثبوت ملاكين وتحقق الموضوعين ، ومع فرض عدم القدرة الا على احدهما لا يكون هناك الا ملاك واحد ولا يصير من الموضوعين فعليا الا واحد فلا معنى للرجوع إلى الاهمية.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) ذكر ان هذا المرجح انما يكون مرجحا فيما إذا لم يكن هناك جهة أخرى توجب تقديم احد الواجبين ولو كان متأخرا عنه زمانا ، ومثل لذلك بالمثال المتقدم إذ النذر وان كان سابقا زمانا على اشهر الحج ولكن من جهة اشتراط وجوب الوفاء بالنذر ، بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضا ، والوفاء بالنذر في المثال يستلزم ترك الواجب في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، فلا يشمله أدلة وجوب الوفاء به ، فإذاً ينحل النذر بذلك ، ويصير وجوب الحج فعليا رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.

واورد عليه بإيرادات :

١ ـ ان هذه المسألة غير مربوطة بما هو محل الكلام وهو كون كل من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا ، لعدم كون دليل وجوب الوفاء بالنذر مشروطا

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٦ ـ ٣٧.

٣٥١

بها.

وفيه : ان وجوب الوفاء تابع لما التزم به المكلف على نفسه وما التزم به المكلف على نفسه هو المقدور فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام ، فالخطاب يرد على الفعل الذي أخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا.

٢ ـ عدم اخذ القدرة في دليل وجوب الحج ، لان موضوعه وان كان هو الاستطاعة ، الا انها فسرت الاستطاعة في الأخبار بالزاد والراحلة ، فلا يكون اعتبارها فيه شرعيا.

وفيه أولاً : انه في جملة من الأخبار اخذ عدم مزاحمة تكليف آخر معه من قيود الاستطاعة ، لاحظ :

صحيح الحلبي عن الإمام الصادق (ع) إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام (١).

فإن المستفاد منه ان كل عذر رافع للفرض ، وبديهي ان الوفاء بالنذر عذر شرعي فيكون رافعا له.

وثانياً ، ان النصوص المفسرة للاستطاعة في مقام بيان اعتبار قيود فيها ، ولا

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ١٨ باب كيفية لزوم فرض الحج من الزمان ح ٦ / الوسائل ج ١١ باب ٦ من ابواب وجوب الحج وشرائطه ح ١٤١٥٢.

٣٥٢

نظر لها إلى عدم اعتبار نفس الاستطاعة بما لها من المفهوم.

٣ ـ ان دليل وجوب الوفاء بالنذر يصلح رافعا لملاك الحج وموضوعه ، ومانعا عن وجوبه : لان ملاك النذر تام لا مانع منه سوى وجوب الحج فيشمل دليله الفرض وبه تنتفي الاستطاعة ، وبتبعه يرتفع الوجوب.

وفيه : ان مانعية وجوب الوفاء بالنذر عن وجوب الحج دورية : فإن فعلية وجوب الوفاء ، متوقفة على عدم التكليف بالحج ، وإلا يلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب الوفاء لزم الدور.

٤ ـ ما استدل به لتقديم النذر في المثال على ما أفتى به المشهور ، وهو ان النذر حين انعقاده لم يكن مانع عنه فينعقد فيجب الاتيان بالمنذور ، وهو يصلح مانعا عن تحقق الاستطاعة لان المانع الشرعي كالمانع العقلي فلا يجب الحج.

وفيه : انه بعد اعتبار عدم كون النذر محللا للحرام في وجوب الوفاء لا مجال لما أفيد فإن المعتبر عدم كونه محللا في ظرف العمل لا حين النذر.

فالمتحصل مما ذكرناه تمامية ما افاده المحقق النائيني (ره) فيقدم دليل وجوب الحج في المثال.

ويعضده ما افاده الأستاذ (١) قال : ان وجوب الوفاء بالنذر لو كان مانعا عن تحقق الاستطاعة وسقوط وجوب الحج عن المكلف للزم إمكان التخلص عن

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧ (والتحقيق أن تزاحم وجوب الوفاء بالنذر .. الخ)

٣٥٣

وجوب الحج بكل نذر يضاد متعلقه للاتيان بمناسك الحج في ظرفها مع ان ذلك يقطع ببطلانه انتهى.

حول المتزاحمين المشروط كل منهما بالقدرة

وإذا فرضنا ان الواجبين المتزاحمين ، المشروط كل منهما بالقدرة شرعا ، غير الممتاز احدهما عن الآخر بثبوت البدل له خاصة ، لم يسبق احدهما على الآخر زمانا ، واتحدا من حيث الزمان ، فهل يقدم الاهم كما اختاره الأستاذ (١) ، أم لا يكون هناك مورد للترجيح بالاهمية كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (٢) وجهان :

استدل للثاني : بأن الترجيح بالاهمية انما يكون فيما إذا كان كل من الواجبين ، واجدا للملاك التام فعلا كما سيمر عليك ، وفى مثل المقام بما ان كلا من التكليفين مشروط بالقدرة شرعا ، والمفروض انه لا قدرة للمكلف على امتثال كلا الخطابين ، فلا محالة يكون احد الخطابين واجدا للملاك دون الآخر ، والاهمية على تقدير وجود الملاك في طرف لا تكون كاشفة عن وجود الملاك في ذلك الطرف ، دون الطرف الآخر ، فلعل الملاك عند المزاحمة فيه ، لا في الطرف الذي لو فرض تحقق الملاك فيه لكان اهم من غيره.

وبعبارة أخرى : بما ان كلا من الخطابين مشروط بالقدرة شرعا ، ولها دخل فيه وفى ملاكه ، يمكن ان يكون كل منهما رافعا للملاك في الطرف الآخر ، من

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧ ـ ٣٨.

٣٥٤

دون فرق بين تساوى الملاكين ، وكون احدهما اهم من الآخر على فرض تحققه ، وكون اهمية الملاك على تقدير وجوده كاشفة عن وجوده وفعليته ، دون ملاك الطرف الآخر ، دون اثباته خرط القتاد.

واورد عليه الأستاذ (١) بأن شرط فعلية ملاك الواجب المفروض كونه اهم من غيره ، وهي القدرة عليه متحقق وجدانا إذ المفروض كونه مقدورا عقلا ، وعدم المنع من صرف القدرة فيه شرعا ، فلا وجه لتفويت المولى الملاك الاهم بعدم الامر به ، وهذا بخلاف الواجب الآخر ، فانه وان كان مقدورا عقلا ، الا ان الزام المولى بصرف القدرة في غيره ، يوجب عجز المكلف عن ايجاده وسالبا لملاكه.

ويرد عليه : ان مفروض الكلام باب التزاحم ، وهو عدم التنافي في مقام الجعل وكون التمانع في مقام الفعلية ، وايضا المفروض ان فعلية كل منهما توجب ارتفاع ملاك الآخر وعلى ذلك.

ففرض فعلية ما ملاكه على فرض وجوده اهم ، دون الآخر مع ان نسبة القدرة التي هي شرط في فعلية كل منهما على حد سواء.

غريب ، ولا ربط لهذا الباب بما افاده من انه لاوجه لعدم الامر بما ملاكه اهم فالتحقيق هو التخيير مطلقا.

ثم انه اختار المحقق النائيني (ره) (٢) كون التخيير شرعيا كشف عنه العقل ،

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٢ ـ ٤٣.

٣٥٥

فإن كلا من الواجبين إذا كان واجد الملاك الزامي في ظرف القدرة عليه كما هو المفروض ففي فرض التزاحم يكون احدهما لا بعينه ذا ملاك الزامي ، فلا بد للمولى من ايجابه ، ضرورة انه لا يجوز للحكيم ان يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه ، مع فرض وجدانه للملاك الإلزامي ، بمجرد عجز المكلف عن الاتيان بكلا الفعلين ، فلا محالة يوجب المولى احد الفعلين لا بعينه.

واورد عليه الأستاذ (١) ، بانه إذا كان المفروض قدرة المكلف على كل من الواجبين في نفسه وفى ظرف ترك الآخر ، وان الشارع لم يلزمه باحدهما المعين لانه بلا مرجح ، فلا بد ان يكون كل منهما واجدا للملاك في ظرف ترك الآخر ، ولازم ذلك تعلق الامر بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، فالتخيير يكون عقليا لا شرعيا.

وفيه : ان هذا الوجه يتم فيما إذا كانت القدرة شرطا عقليا.

واما على فرض كونها شرطا شرعيا ، فلا يتم إذ قوله كل منهما مقدور في ظرف ترك الآخر.

غير تام ، لانه وان كان مقدورا عقلا ، الا انه غير مقدور شرعا وهو واضح.

فالاظهر كون التخيير حينئذ شرعيا بالتقريب الذي افاده المحقق النائيني

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٢.

٣٥٦

الترجيح بالاهمية

واما المورد الثاني (١) : وهو ما كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا ، فقد يكون احدهما اهم ، وقد يحتمل اهميته ، وقد يكونان متساويين. فهاهنا فروض :

الأول : ما إذا كان احدهما اهم من الآخر ـ فلا كلام ولا اشكال في انه يقدم الاهم سواء كان الاهم مقارنا زمانا مع المهم ، أو سابقا عليه ، أو متأخرا عنه ، اما في الاولين فواضح : لان المهم بالنسبة إلى الاهم يكون من قبيل المستحب بالنسبة إلى الواجب ، فكما ان المستحب لا يصلح ان يزاحم مع الواجب كذلك المهم لا يصلح لان يزاحم الاهم ، وان شئت قلت ان العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان مستقل بتقديم الاهم.

وبعبارة أخرى : ان التكليفين المتزاحمين لا يمكن ثبوتهما معا ، ولا سقوطهما كذلك لكونه بلا موجب ، فيدور الامر بين سقوط المهم ، دون الاهم وبالعكس ، والثاني غير معقول لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، فيتعين الأول.

واما في الصورة الأخيرة : فلان الاهم وان كان متأخرا زمانا ، الا ان ملاكه تام في ظرفه على الفرض ، اما من جهة ان الواجب المعلق ممكن فيستكشف من الوجوب الفعلي تمامية الملاك أو من جهة الاستفادة من الخارج ، كما في حفظ النفس المحترمة وحفظ بيضة الإسلام ، وامثال ذلك على القول باستحالة

__________________

(١) وهذا المورد مقابل المورد الأول الذي كانت القدرة في كل منهما شرطا شرعيا ، ص ٣٥٠.

٣٥٧

الواجب المعلق كما عليه المحقق النائيني (ره) وعلى كل تقدير يجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلا يفوت.

إذ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه ، وعليه فحيث ان اتيان المهم فعلا يوجب تفويت ملاك الاهم في ظرفه فلا يجوز ، فيكون وجوب حفظ القدرة عليه في زمانه الذي يحكم به العقل معجِّزا للمكلف بالإضافة إلى امتثال المهم بالفعل.

وعلى الجملة العقل الحاكم بالتقديم لا يفرق بين الموردين ، فلو فرضنا انه دار الامر بين حفظ مال المؤمن في يوم الخميس ، أو حفظ نفسه في يوم الجمعة يكون الثاني مقدما.

الثاني : ما إذا كان احدهما محتمل الاهمية ، فيكون هو المقدم وقد مر في الامر الثالث الذي قدمناه على مسألة الترتب ما هو الوجه في ذلك ، فراجع.

الثالث : ما إذا لم يكن احدهما اهم ولا محتمل الاهمية فهل يكون السبق زمانا موجبا للترجيح أم لا؟ فلو فرضنا ان ظالما حكم بقتل إنسان في يوم الخميس وإنسان آخر ، في يوم الجمعة ويقبل شفاعة المكلف اما في يوم الخميس أو يوم الجمعة ، فهل يكون ذلك من المرجحات أم لا؟

فقد بنى المحقق النائيني (ره) (١) ذلك على القول بأن التخيير بين المتزاحمين المتساويين ، هل يكون عقليا ، أم يكون شرعيا؟ إذ على الأول حيث ان مبناه

__________________

(١) راجع فرائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٣٧ (المقدمة الأولى).

٣٥٨

القول بالترتب وتقييد اطلاق كل من الخطابين ، بعدم الاتيان بالآخر ، لا بد من البناء على الترجيح به ، لان التكليف بالمتقدم هو الذي يكون فعليا ، دون المتأخر ، لان سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً عليه ، لا يكون الا بامتثال الآخر ، وبما ان امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجا لتأخر متعلقه فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه ، فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل ، واما على القول بالتخيير الشرعي ومبناه سقوط الخطابين ، واستكشاف خطاب آخر من الملاكين.

فلا بدّ من البناء على عدم الترجيح به كما هو واضح ، وحيث انه يختار الأول ، فيرى ذلك من المرجحات.

اقول الظاهر عدم كون ذلك من المرجحات ، اما على القول بإمكان الشرط المتأخر فلانه لا مانع من تقييد اطلاق خطاب السابق بترك الآخر في ظرفه ، واما على ما اختاره من امتناعه فحيث انه يرى عدم الفرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي ، وتفويت الملاك الملزم في ظرفه فكما يحكم بقبح الأول ، يحكم بقبح الثاني ، فلا محالة لا بد له من البناء على التخيير بالتقريب المتقدم ، فلا يكون السبق زمانا من المرجحات ، فمع تساوى المتزاحمين من حيث الاهمية يحكم بالتخيير مطلقا.

اللهم الا ان يقال انه على فرض احتمال مرجحية السبق الزماني فحيث ان تقييد اطلاق خطاب المتأخر متيقن وتقييد السابق مشكوك فيه ، فالأصل يقتضي بقاء اطلاقه فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.

واما على فرض التساوي فالحكم هو التخيير.

٣٥٩

واما الكلام في كون التخيير شرعيا كما ذهب إليه المحقق صاحب الحاشية ، والمحقق الرشتي ، ام يكون عقليا كما ذهب إليه المحقق النائيني ، فقد تقدم في الامر الثالث من الأمور التي قدمناها على مسألة الترتب ، وقد عرفت ان الثاني أقوى نظرا إلى ان التنافي ليس بين الخطابين بل بين اطلاقيهما ، فلا بد من التقييد ولاوجه لرفع اليد عن اصل الخطاب لان الضرورات تتقدر بقدرها ولازم ذلك هو التخيير العقلي فراجع.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الترجيح بالسبق انما هو في صورة كون التكليفين مشروطين بالقدرة شرعا ، والترجيح بالاهمية فيما لو كانا مشروطين بها عقلا ، دون شرعا ، كما ان التخيير في الصورة الأولى شرعي ، وفى الصورة الثانية عقلي ، هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين المستقلين.

واما الكلام في التمانع بين التكليفين الضمنيين فموكول إلى محل آخر وقد تعرضنا له في كتاب فقه الصادق الجزء الرابع في مبحث القبلة (١).

الترتب في الواجبين الطوليين

الجهة الرابعة : في جريان الترتب في سائر أقسام التزاحم غير ما إذا كان التضاد بين الواجبين اتفاقيا ، وقد عرفت انها أربعة ، فالكلام في مسائل أربع :

__________________

(١) فقه الصادق ج ٤ ص ١١٩ (الاضطرار إلى ترك بعض الاجزاء والشرائط) ط ٣.

٣٦٠