زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

اما القول الأول : فقد استدل له : بأن عدم العدم وان كان مغايرا للوجود مفهوما الا انه عينه خارجا ، لان نقيض العدم هو الوجود ، وعدم العدم عنوان للوجود لا انه يلازمه ، فطلب ترك الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما انما يكون بحسب المفهوم.

وفيه : أولاً سيأتي ان النهي ليس طلبا للترك بل انما هو زجر عن المتعلق الناشئ عن المفسدة وعليه فعدم الاقتضاء بمعنى العينية واضح إذ البعث ، والزجر ، وكذا ، الكراهة ، والإرادة ، والمصلحة ، والمفسدة ، من المتباينات فكيف يمكن ان يكون احدهما عين الآخر :

وثانياً انه فرق بين ما هو محل الكلام ، وهو ان الامر بالشيء هل هو عين النهي عن ضده أم لا؟ وبين هذا الدليل ، وحاصله انه إذا ورد أمر بالفعل ونهى عن الترك فهما متحدان لا تغاير بينهما وهذا لا يلازم الأول كيف ربما يغفل الامر عن ترك تركه فضلا عن ان يأمر به.

ويمكن تصحيح قول من يدعى ان الامر بالشيء عين النهي عن ضده ، بأن يقال ان المراد بالعينية انه إذا رأى المولى في فعل مصلحة وصار ذلك سببا لشوقه إلى تحقق ذلك الفعل فله في الوصول إلى مقصودة طريقان وكل منهما عين الآخر في الوصول إلى الغرض ، احدهما : ان يأمر بالفعل ، ثانيهما : ان ينهى عن الترك كما ورد في المستحاضة أنها لا تدع الصلاة.

ثم ان المحقق الخراساني (ره) (١) وجه المدعى بوجه لطيف ، وحاصله ان الامر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٣.

٢٦١

بالشيء انما يكون طلبا واحدا وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا وتحريكا نحوه كذلك يصح ان ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز : لان التحريك نحو الشيء والتقريب إليه يلازم التحريك عن نقيضه والتبعيد عنه ، كما يظهر من التحريك والتقريب الخارجيين فإن التحريك والتقريب إلى محل يكون تحريكا عن محل آخر وتبعيدا عنه. فيكون الامر بالشيء ردعا عن نقيضه.

أضف إلى ذلك انه لو سلم ان حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك كما هو المنسوب إلى المشهور ، فلا يرجع هذا البحث إلى البحث عن أمر معقول ذي اثر وذلك لان معنى اقتضائه للنهي عن الضد ، اقتضائه لطلب ترك الترك الذي هو الوجود والفعل ، لما حقق في محله ، من ان الوجود والعدم نقيضان لا واسطة بينهما ، والعناوين الأخر ، كعدم العدم من العناوين الانتزاعية من احدهما ، وعليه : فمآل هذا البحث إلى ان الامر بالشيء ، هل يقتضي طلب ذلك الشيء أم لا؟ وهذا لا يرجع إلى محصل لان ثبوت الشيء لنفسه ضروري.

واما الثاني : وهو ان الامر بالشيء متضمن للنهي عن ضده.

فقد استدل له بما اشتهر من ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك.

ولكن قد تقدم في مبحث الأوامر انه لا اصل له وان الوجوب بسيط غير مركب.

وحاصله ان الوجوب اما ان يكون هو الشوق الأكيد أو يكون منتزعا عن اعتبار كون المادة على عهدة المكلف ، وعلى الأول فهو من الأعراض وهي بسائط ، وعلى الثاني يكون هو من سنخ الوجود وبساطته اظهر من ان تذكر.

٢٦٢

واما ما اشتهر من ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فالظاهر كما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) انهم في مقام تحديد تلك المرتبة البسيطة من الطلب وتعينها ، فالمنع من الترك ليس من اجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى انه لو التفت إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة وكان يبغضه البتة.

واما القول الثالث : وهو دلالة الامر على النهي عن ضده بالالتزام ، بمعنى ثبوت الملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن ضده فدعواه وان كانت معقولة ، وقد اختاره المحقق النائيني (ره) (٢).

ولكنها غير صحيحة : وذلك لان النهي يكون ناشئا عن المفسدة ، والامر عن المصلحة فالأمر بالشيء يكشف عن المصلحة فيه ، وهذا لا يلازم ثبوت المفسدة في تركه كي يكون ذلك مقتضيا للنهي عنه ، بل لا يكون الترك الا ترك ما فيه المصلحة ، وان أردت ان تطمئن نفسك فراجع الأوامر العرفية حيث ترى بالوجدان ان الامر بالشيء لا يلازم المفسدة في تركه ، فالالتزام باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، بإرجاع كل أمر إلى حكمين ، احدهما متعلق بالفعل ، والآخر بتركه ويكون الترك مخالفة لحكمين وموجبا لاستحقاق عقابين مما لا يمكننا المساعدة عليه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٣ (الأمر الثالث).

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٧ قوله : وأما دعوى الدلالة عليه بالالتزام ... فليست ببعيدة.

٢٦٣

وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاد المحقق النائيني (ره) (١) وما فيه : من ان دعوى الدلالة عليه بالالتزام بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص بأن يكون تصور الوجوب كافيا في تصور المنع من الترك فليست ببعيدة ، وعلى تقدير التنزل عنها فالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم ، مما لا إشكال فيها ولا كلام.

ويمكن توجيه دعوى الملازمة بأن يقال ان المراد من النهي عدم الترخيص وعليه فحيث ان الإلزام بالفعل يضاد الترخيص في الترك ، فالأمر بالفعل يلازم عدم الترخيص في الترك لكنه لا يناسب ان ينعقد له بحث في الأصول.

فالمتحصل ان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا.

ثمرة البحث في الاقتضاء وعدمه

المشهور بين الأصحاب انه تظهر الثمرة في موردين :

الأول : ما إذا وقعت المزاحمة ، بين واجب موسع كالصلاة ، وبين واجب مضيق كالإزالة ، وصلاة الآيات عند الزلزلة وما شاكل.

الثاني : ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين احدهما أهم من الآخر كما في الدوران بين الإتيان باليومية في آخر الوقت ، وصلاة الآيات ، مثلا ، لانه على القول باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، يقع الواجب الموسع أو

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٦٤

المهم فاسدا ، إذا كان عبادة بناءً على ما سيأتي من ان النهي عن العبادة يوجب الفساد ، وعلى القول بعدم الاقتضاء يقع صحيحا إذ المقتضي للفساد هو النهي ولا نهي على الفرض.

وقد أورد على هذه الثمرة بإيرادين متقابلين :

الأول : ما عن الشيخ البهائي (قدِّس سره) (١) من بطلان العبادة مطلقا حتى على القول بعدم اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده : مستندا إلى ان الفساد لا يحتاج إلى النهي بل يكفي فيه عدم الامر ، ولا شبهة في ان الامر بالشيء يقتضي عدم الامر بضده لاستحالة تعلق الامر بالضدين معا فلو كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فلا محالة تقع فاسدة.

ثانيهما : ما عن جماعة منهم المحقق النائيني (ره) (٢) وهو صحة العبادة على القولين ، بناءً على ما هو الحق عندهم من كفاية الملاك والمحبوبية الذاتية في صحة العبادة ، وان لم يؤمر بها لأجل المزاحمة.

اما على القول بعدم الاقتضاء ، فواضح لوجود المقتضي للصحة وعدم المانع.

واما بناءً على القول بالاقتضاء ، فلان العبادة حينئذ وان كانت منهيا عنها

__________________

(١) كما هو الظاهر في كتابه الرسالة الاثنا عشرية ص ٥٥ الناشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ١٤٠٩ ه‍. ق. قم.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢ عند قوله : «وأورد عليه بأنه اما ان يعتبر في صحة العبادة ... الخ».

٢٦٥

الا ان هذا النهي غيري نشأ من مقدمية تركها أو ملازمته للمأمور به ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقة ليكون موجبا لاضمحلال ما فيه من الملاك الصالح للتقرب بما اشتمل عليه.

وعليه فالعبادة باقية على ما كانت عليه من الملاك والمصلحة والمحبوبية الذاتية الصالحة للتقرب بها ، والنهى المتعلق بها بما انه غيري لم ينشأ عن المفسدة وعن المبغوضية للمولى ، ولذلك قالوا انه لا يوجب البعد عن الله تعالى ولا العقاب على مخالفته فلا يكون صالحا للمانعية.

فالمقتضي للصحة موجود ، والمانع مفقود ، فلا بد من البناء عليها.

ثم ان المحقق الثاني (١) أورد على إنكار الثمرة في الصورة الأولى ، وهي مزاحمة الموسع بالمضيق بما أوضحه جماعة من المحققين (٢) منهم المحقق النائيني (٣) وحاصله يبتني على أمور :

(١) ان الامر بالعبادة انما يكون متعلقا بالطبيعة الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات ، دون الأفراد ، وبعبارة أخرى : ان التكليف انما تعلق بصرف وجود الطبيعة دون خصوصيات أفرادها كي يرجع التخيير بينها إلى التخيير الشرعي ، ومقتضى إطلاق الامر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أي فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من الأفراد العرضية

__________________

(١) كما مر تخريجه عن جامع المقاصد ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) كالميرزا الرشتي في بدائع الأفكار ص ٣٨٩.

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٢ ، وأورد المحقق الثاني.

٢٦٦

والطولية.

ولكن هذا انما يكون إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق ، وإلا كما إذا كان بعض أفرادها منهيا عنه فلا محالة يقيد إطلاق الامر المتعلق بتلك الطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.

٢ ـ انه يكفي القدرة على بعض الأفراد في صحة تعلق التكليف بصرف وجود الطبيعة لان المأمور به حينئذ مقدور إذ القدرة على فرد قدرة على الطبيعة ولا دخل لعدم القدرة على فرد آخر منها في ذلك.

وبعبارة أخرى : انه لا يعتبر في صحة تعلق التكليف بالطبيعة إذا كان المطلوب هو صرف الوجود القدرة على جميع أفرادها بل لا يوجد طبيعة تكون مقدورة كذلك ، وعليه فعدم القدرة على فرد منها لا يوجب تقييدا في المتعلق.

٣ ـ ان ملاك الامتثال انما هو انطباق المأمور به على المأتي به ، لاكون الفرد بشخصه مأمورا به.

٤ ـ ان الواجب الموسع بما ان له أفرادا غير مزاحمة ، وصرف وجود الطبيعة منه مقدور للمكلف وغير مزاحم بالواجب المضيق ، فالأمر بالمضيق لا يوجب سقوط الامر بالموسع ، إذ غير المقدور حينئذ هو الفرد وهو غير مأمور به ، والمأمور به هو الطبيعة ، وهو غير مزاحم بالمضيق ، فلا يكون التكليف بالموسع متقيدا بشيء.

وعلى هذا ، فعلى القول بعدم كفاية الملاك ، إذا كان الامر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده كان الفرد المزاحم من الواجب الموسع منهيا عنه فيقيد به

٢٦٧

إطلاق الامر به ، لامتناع ان يكون الحرام مصداقا للواجب ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسدا لعدم الامر حينئذ.

واما على القول بعدم الاقتضاء ، فالأمر بالمضيق لا يوجب تقييدا في الموسع لان غايته عدم القدرة شرعا على الفرد المزاحم وهو كعدم القدرة عقلا ، والفرض ان الفرد غير مأمور به ، فملاك الامتثال ، وهو انطباق المأمور به على المأتي به فيه موجود كسائر الأفراد ، فإنها ليست مأمورا بها وانما يكتفي بها في مقام الامتثال لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها ، وهذا الملاك بعينه موجود في الفرد المزاحم فلا مناص من البناء على القول بالإجزاء والصحة.

وبعبارة أخرى : ان ما هو غير مقدور شرعا لا يكون مأمورا به ، وما هو مأمور به وهو الطبيعة مقدور ، وعليه فيصح الإتيان بالفرد المزاحم إذ الانطباق قهري والاجزاء عقلي.

واورد على هذا التفصيل المحقق النائيني (ره) (١) بما حاصله ان ما أفاده يتم على القول بأن اعتبار القدرة في المتعلق انما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز : إذ يمكن ان يقال ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه.

فإذا كان المكلف قادرا على الموسع للقدرة على غير الفرد المزاحم ، فلا يكون التكليف به قبيحا. وبما ان انطباقه على الفرد المزاحم قهري يكون اجزائه عقليا.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٤ بتصرف.

٢٦٨

واما إذا بنينا على ان اعتبار القدرة انما هو باقتضاء نفس التكليف ذلك ، لا لحكم العقل بقبح تكليف العاجز ، ضرورة ان الاستناد إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي ، فلا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بذلك.

توضيح ذلك : ان المختار عنده (قدِّس سره) ان منشأ اعتبار القدرة انما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فإن الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو الفعل ليحرك عضلاته نحوه بالإرادة ، وترجيح أحد طرفي الممكن ، وهذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلقة مقدورا لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع شرعا أو عقلا.

فالبعث لا يكون الا نحو المقدور ، فيخرج الأفراد غير المقدورة عن حيز الطلب.

وعليه فإذا كان التكليف مقتضيا لاعتبار القدرة ، فلا محالة يكون المأمور به ، هو الحصة الخاصة من الطبيعة ، وهي الحصة المقدورة.

واما الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقة فالفرد المزاحم بما انه غير مقدور شرعا وهو كغير المقدور عقلا خارج عن حيز الامر ، فلا يكون المأمور به منطبقا على المأتي به فلا يكون مجزيا.

حول اعتبار القدرة في المتعلق

وتفصيل القول في المقام بالبحث في جهات :

الأولى : في انه ، هل يعتبر القدرة في متعلق التكليف ، أم لا؟ وما هو الوجه

٢٦٩

في ذلك.

أقول : تارة يكون جميع الأفراد للطبيعة المطلوب صرف وجودها غير مقدورة ، وأخرى يكون بعض الأفراد كذلك ، وعلى الثاني : قد يكون تمام الأفراد العرضية في زمان خاص غير مقدورة ، وقد يكون بعض تلك الأفراد العرضية كذلك ، وعلى كل تقدير ، قد يكون عدم القدرة عقليا وقد يكون شرعيا.

وقد استدل لاعتبار القدرة في متعلق التكليف بوجوه ، جملة منها واضحة الدفع ، من قبيل : انصراف المادة ، أو الهيئة ، إلى الحصة المقدورة ، واعتبار الحسن الفاعلي في العبادة زائدا على الحسن الفعلي. وقد تعرضنا لها في مبحث التعبدي والتواصلي ، والمهم منها أربعة اوجه :

احدها : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) وقد ذكرناه آنفا فيما أفاده ردا على المحقق الثاني.

ويتوجه عليه ان حقيقة الامر كما مر في أول مبحث الأوامر عبارة عن ، إظهار شوق الآمر إلى فعل المأمور ، أو إبراز اعتبار كون المادة على عهدته ، وشيء منهما لا ينافى مع كونه غير مقدور ، واما البعث والطلب وما شاكل فهي عناوين للأمر لا أنها مداليل له.

ثانيها : قبح تكليف العاجز الذي يستقل به العقل.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٧٠

ويتوجه عليه ان امتثال التكليف الذي هو موكول إلى العقل مشروط بالقدرة ، ومع العجز لا يحكم العقل بلزوم الامتثال.

وبعبارة أخرى : قد بينا في مبحث الأوامر بأن الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، وانما هما أمران انتزاعيان من حكم العقل بلزوم الامتثال لو أمر المولى بشيء ولم يرخص في تركه وعدمه لو أمر به ورخص في تركه.

وعليه فإذا كان الفعل المأمور به غير مقدور ، لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ، ولا يجوز العقاب على مخالفة أمر المولى ، وعلى ذلك فغاية ما يستقل به العقل اعتبار القدرة في التنجيز دون اصل الامر.

ثالثها : الآيات والروايات المتضمنة لعدم التكليف بغير المقدور.

ويتوجه عليه ان التكليف انما يطلق على الامر والنهى باعتبار ما يتبعهما من إلزام العقل بالفعل أو الترك وفى فرض عدم القدرة حيث لا حكم للعقل فلا يكون الامر تكليفا.

وبعبارة أخرى : ان شئت قلت انه لا يستفاد من الآيات والروايات أزيد مما يحكم به العقل من اعتبار القدرة في التنجيز فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.

رابعها : ان الامر فعل اختياري للمولى فإن لم يترتب عليه اثر عملي يكون لغوا ، وصدوره من الحكيم محال ، فالأمر بغير المقدور حيث يكون لغوا يكون محالا.

وهذا الوجه متين لكنه يختص بالقدرة العقلية ولا يجري في موارد عدم

٢٧١

القدرة الشرعية كما هو واضح ونزيده وضوحا :

انه لو كان التكليف الواقعي هو الوجوب وقامت الأمارة على حرمتها ، فلا ريب في عدم قدرة المكلف شرعا على امتثال التكليف الواقعي لكونه موظفا بالانزجار ، ومعه لا يقدر على الانبعاث ، وحينئذٍ ان التزم بسقوط التكليف الواقعي لزم التصويب المجمع على بطلانه ، وان التزم ببقائه لزم الالتزام بعدم اعتبار القدرة في التكليف.

ويمكن ان يقال انه لو سلم دلالة الآيات والروايات على اعتبار القدرة ، فإنما هي بالنسبة إلى القدرة العقلية دون الشرعية.

فإن قيل ، انه في ما هو محل البحث وهو تزاحم الواجبين لا يقدر عقلا على امتثال كلا الحكمين فلا بد من سقوط احدهما أو كليهما فإذا كان هناك مرجح لاحدهما يبقى ذلك فيتعين سقوط الآخر.

توجه عليه : انه لو كان هناك أمر واحد بهما كان ذلك أمرا بغير المقدور وحيث ان المفروض انهما أمران والمكلف قادر على امتثال كل منهما في نفسه لا يبقى لذلك مجال.

وأيضا ان مقتضى الوجه المختار ، والآيات والروايات (١) انه إذا كان بعض

__________________

(١) حيث أن الأوامر فيهما مطلقة ولم يؤخذ فيها قيد زائد عن القدرة العقلية المانعة من التكليف ، ويكفي في تعلق الأوامر بالطبيعة تحقق فرد من أفرادها ، وما ورد من تقييد بعض التكاليف أو رفعها فالظاهر أنها قيود للفعلية فلا تمنع من أصل التكليف ، ولا يكون المورد من التكليف بالمحال.

٢٧٢

أفراد الطبيعة المأمور بها مقدورا يكون التكليف صحيحا.

وبعبارة أخرى : انهما يدلان على اعتبار عدم عجز المكلف عن جميع الأفراد ولا يدلان على عدم صحة التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور.

وبما ذكرناه يظهر انه في المقام بما ان الضدين لم يتعلق بهما تكليف واحد ، بل كل منهما متعلق لتكليف مستقل ، والمفروض القدرة على امتثاله فلا مانع من ثبوت الامر بالضد ، وعليه فيأتي به بداعي الامر.

كما انه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره).

ويتوجه عليه مضافا إلى ذلك كله ، انه لو سلم اعتبار القدرة الشرعية في المتعلق ، لو فرضنا ان الأفراد العرضية كانت غير مقدورة كما في مزاحمة الواجب الموسع في أول الوقت ، والمضيق ، فعلى القول باستحالة الواجب المعلق ، وعدم صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، كما بنى عليه المحقق النائيني ، تكون الطبيعة بجميع أفرادها ، غير مقدورة ، اما الأفراد العرضية ، فللمزاحمة ، واما الأفراد المتأخرة الطولية ، فللتأخر ، وامتناع تعلق التكليف بالأمر المتأخر.

وبذلك يظهر ان ما سلمه المحقق النائيني من صحة العبادة المزاحمة على فرض كون مدرك اعتبار القدرة حكم العقل ، نظرا إلى انه لا يحكم العقل باعتبارها مع فرض القدرة على بعض أفراد الموسع ، غير تام على مسلكه.

واما على القول بإمكان الواجب المعلق كما هو الحق ، فيصح تعلق التكليف بصرف وجود الطبيعة من غير فرق بين المسلكين في اعتبار القدرة.

٢٧٣

اما على مسلك كون المدرك هو حكم العقل ، فواضح.

واما على مسلك المحقق النائيني ، فلانه وان سلم كون الغرض من التكليف إمكان صيرورته داعيا للمكلف في فعله ، يكون هذا الغرض متحققا في الفرض ، لان المفروض كون المتعلق هو صرف وجود الطبيعة ، لا الأفراد وهو انما يكون مقدورا بالقدرة على بعض الأفراد.

فتفصيل المحقق النائيني (ره) بين المسلكين في غير محله.

النهي الغيري يوجب الفساد

الجهة الثانية : في ان النهي الغيري عن العبادة ، هل يوجب الفساد ، أم لا؟ ذهب المحقق النائيني (ره) (١) إلى الثاني ، واختار المحقق الثاني (٢) وجماعة الأول (٣).

واستدل المحقق النائيني (ره) (٤) له بأن النهي الغيري لا ينشأ عن مفسدة في متعلقة ليكشف عن عدم تمامية ملاك الامر وبما انه قد عرفت في مبحث

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٥ قوله : «نعم إذا بنينا على كفاية ... الخ».

(٢) جامع المقاصد ج ١ ص ١٥٢ ـ ١٥٣ عند قوله : «ولو اشتبه بالمغصوب وجب اجتنابها».

(٣) وحكى المحقق في بدائع الأفكار عن المشهور ان النهي الغيري يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات ص ٣٦٩.

(٤) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٥ : «نعم اذا بنينا على كفاية الاشتمال ...».

٢٧٤

التعبدي والتواصلي كفاية قصد الملاك في صحة العبادة وعدم اشتراطها بقصد الامر تعرف ان الأقوى في محل الكلام صحة الفرد المزاحم ولو بنينا على كونه منهيا عنه بالنهي الغيري.

أقول سيأتي الكلام في الجهة الثالثة في انه : هل يصح إتيان العبادة بداعي المحبوبية والملاك ،؟ وانه هل هناك كاشف عن الملاك مع عدم الامر أم لا؟

وانما الكلام في هذه الجهة متمحض في انه بناءً على كفاية الملاك ووجود الكاشف عنه غير الامر ، هل النهي الغيري يصلح للمانعية أم لا؟ والأظهر هو صلاحيته لذلك ، وكونه مقتضيا للفساد : إذ النهي الغيري وان لم يكن ناشئا عن المفسدة والمبغوضية ، الا انه مانع عن التقرب بالملاك والمحبوبية إذ التقرب به انما يكون ، لأجل كونه موردا لاشتياق المولى والمولى يحب وجوده في الخارج ، ومع فرض نهي المولى وتسبيبه إلى إعدام الفعل لا محالة لا يمكن التقرب بذلك الملاك ، وبعبارة أخرى : الملاك الذي مع وجوده يسبب المولى إلى إعدامه لا يصلح للمقربية.

مضافا ، إلى ما تقدم من ان مخالفة التكليف الغيري أيضا توجب العقاب فراجع ما ذكرناه.

واما ما قيل من ان النهي الغيري وان لم يوجب الفساد الا انه لأجل إفضائه إلى ترك محبوب أهم لا يمكن التقرب به.

فغير سديد : إذ عدم استيفاء المصلحة المتحققة في فعل لا يصلح ان يكون مانعا عن التقرب بما في فعل آخر من المصلحة.

٢٧٥

الإتيان بالعبادة مع عدم الامر

الجهة الثالثة : في انه على القول بعدم الامر بالواجب الموسع المزاحم بالواجب المضيق أو المهم مع مزاحمته بالأهم ولو بنحو الترتب ، هل هناك طريق إلى الحكم بالصحة والاجزاء ، أم لا؟

ونخبة القول فيها ان القول بالصحة والاكتفاء به يتوقف على مقدمتين :

إحداهما : كون الفرد المزاحم الساقط أمره واجدا للملاك كسائر الأفراد.

ثانيتها : الاكتفاء بذلك في صحة العبادة.

اما المقدمة الثانية : فقد مر الكلام فيها ، في مبحث التعبدي والتواصلي ، وعرفت عدم كفاية قصد الملاك والمصلحة في صحة العبادة.

وفى المقام ذكر المحقق الخراساني (ره) (١) كلاما ، صار ذلك عويصة لمن تأخر عنه.

قال ، نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالأهم في بعض الوقت لا في تمامه ، يمكن ان يقال انه حيث كان الامر بها على حاله ، وان صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها عن تحتها ، أمكن ان يؤتى بما زوحم منها ، بداعي الملاك ، وان كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، الا انه لما كان وافيا بغرضها ، كالباقي تحتها ، كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٦.

٢٧٦

والإتيان به بداعي ذلك الامر إلى ان يقول هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع ، واما بناءً على تعلقها بالأفراد ، فكذلك ، وان كان جريانه عليه أخفى.

ويمكن توجيه ما أفاده بأحد أنحاء :

١ ـ انه على القول بتعلق الأوامر بالطبائع يكون نظره إلى ما وجهنا به كلام المحقق الثاني (١) ، وبه يظهر وجه قوله على القول بتعلق الأوامر بالأفراد جريانه أخفى ، ولكن ذلك لا يتم على القول بتعلقها بالأفراد.

٢ ـ ان يكون نظره إلى انه يمكن إتيانه بداعي إسقاط الامر بالفرد الآخر ، نظرا إلى انه واجد للملاك والغرض الموجب للأمر فبإتيانه يستوفى الملاك والغرض ، فيسقط الامر وإلا بقي بلا ملاك وسقوطه ذلك ليس بالعصيان فلا محالة يكون بالامتثال فيصح الإتيان بالفرد المزاحم امتثالا للأمر المتعلق بالفرد غير المزاحم.

٣ ـ ان يكون نظره الشريف إلى ان الامر انما يدعو إلى ما تعلق به ، بملاك انه محصل للغرض ، لا بما انه متعلق للأمر ، وهذا الملاك موجود في غير ما تعلق به الامر فيصح إتيانه بداعي الامر.

__________________

(١) راجع جامع المقاصد ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤ (المطلب الأول من المقصد الأول من كتاب الدين) وقد نقل كلامه ملخصا المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٢.

٢٧٧

طريق استكشاف الملاك

واما المقدمة الأولى : فقد استدل لها ولوجود الملاك في الفرد الساقط أمره بوجوه :

احدها : ما عن المحقق الخراساني (ره) (١) وهو دعوى القطع بأن الفرد المزاحم تام الملاك ، وانه وان كان خارجا عن الطبيعة المأمور بها لكنه يكون وافيا بالغرض كباقي الأفراد ، لفرض ان سقوط الامر ليس لعدم المقتضي ، بل انما هو لأجل عدم قدرة العبد على الامتثال ولوجود المانع.

وبعبارة أخرى : لا يكون خارجا عن تحت الطبيعة المأمور بها بالتخصيص كي يقال بأنه قاصر عن الوفاء بالغرض ، بل يكون من جهة عدم إمكان تعلق الامر به عقلا ، فالعقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بالغرض.

ولكن يرد عليه ان طريق استكشاف الملاك انما يكون بأحد طرق :

الأول : إحاطة العقل بالواقعيات وكشفه الملاك.

الثاني : إخبار الشارع ولو ببيان الملاك علة للحكم.

الثالث : كون الشيء بنفسه متعلق الامر بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الاحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد.

الرابع : ما إذ كان الفرد مصداقا للمأمور به بما هو مأمور به ، فانه يكشف

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٦ بتصرف.

٢٧٨

عن وفائه بغرض المأمور به وكونه واجدا للملاك.

واما إذا لم يكن شيء من ذلك كما في المقام كما هو واضح ، فلا كاشف عن وجود الملاك ، ودعوى القطع بوجود الملاك بعد احتمال ان لا يكون في فرض سقوط الامر ملاك له أصلا غير مسموعة ، وبالجملة ان الكاشف عن الملاك بعد عدم الإحاطة بالواقعيات وعدم التنصيص من الشارع هو الامر ومع سقوطه لا كاشف عنه.

ثانيها : ما عن جماعة منهم المحقق العراقي (ره) (١) وحاصله :

انه إذا كان للكلام دلالات متعددة وظهورات كذلك ، كما إذا كان له دلالة مطابقية ، ودلالة التزامية أو دلالة مطابقية ، ودلالة تضمنية كما في العام المجموعي كقولنا اكرم عشرة من العلماء ، فانه يدل على وجوب إكرام المجموع بالدلالة المطابقية وعلى إكرام كل واحد بالدلالة التضمنية ، وسقط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى احد مدلوليه وهو الدلالة المطابقية مثلا لم يستلزم ذلك سقوطها عنها بالاضافة إلى مدلوله الآخر : إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

وبعبارة أخرى : الدلالة الالتزامية ، أو التضمنية وان كانت تابعة للمطابقية في مقام الثبوت والإثبات الا أنها ليست تابعة لها في الحجية ، لان كل ظهور للكلام بنفسه متعلق للحجية بمقتضى أدلة حجية الظهورات وسقوط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى احد الظهورات من جهة قيام حجة أقوى على خلافه

__________________

(١) تعرض المحقق العراقي لعدم التلازم بين الدلالتين في الحجية في عدة موارد منها مقالات الأصول ج ٢ ص ١٩٥.

٢٧٩

لا يوجب رفع اليد عن الظهور الآخر الذي لا مانع من البناء على حجيته.

وان شئت قلت ان الكلام الذي له مدلولان : مطابقي ، والتزامي ، أو تضمني ، يكون منحلا إلى اخبارين ، ودليل الاعتبار يدل على حجية كل واحد مستقلا ، فسقوط احدهما عن الحجية لحجة أقوى لا يوجب سقوط الآخر.

والمقام من هذا القبيل إذ مقتضى اطلاق الامر المتعلق بالعبادة كونها مأمورا بها حتى في صورة المزاحمة ، ودلالته هذه تكون بالدلالة المطابقية ، وبالدلالة الالتزامية يدل على ثبوت الملاك والمصلحة في كل فرد في جميع حالاته حتى في هذه الحال ، وبالمزاحمة سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية ، بمعنى ان الإطلاق قيد بالقرينة العقلية ، الا ان ظهوره في كون الفعل ذا مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه.

وبعبارة أخرى : الدال على ثبوت الامر في كل فرد يدل على وجود الملاك فيه بالدلالة الالتزامية ، فإذا قيد ذلك في مدلوله المطابقي ، يدخل في الكبرى الكلية من انه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لا يسقط الدلالة الالتزامية ، إذ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا لا حجية.

وعلى هذا المبنى بنوا في التعادل والترجيح على ان الخبرين المتعارضين يسقطان في المؤدى على القاعدة الا انه ينفى الثالث بهما.

وفيه : أولاً النقض بموارد التخصيص فإن دليل العام يدل على ثبوت الحكم في كل فرد ، وبالدلالة الالتزامية يدل على ثبوت الملاك فيها ، فإذا ورد التخصيص يقيد اطلاقه بالنظر إلى الحكم فقط ولا مخصص له بالقياس إلى الملاك ، لانه لا يدل على عدم وجوده في ذلك الفرد إذ عدم الحكم كما يمكن ان

٢٨٠