زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

فإن هذا الايراد يتم لو كان المدعى تعلق إرادة مستقلة أصلية ، ولا يتم في القهرية التبعية الترشحية لو التفت إليها.

واورد عليه الأستاذ الأعظم (١) بايرادين :

الأول : ان تعلق الشوق بفعل الغير لا يستلزم تعقله بمقدماته بعد فرض كونه تحت اختيار الغير وان صدوره انما يكون باختياره.

وفيه : ان الشوق كما يتعلق بفعل الغير كذلك يتعلق بما لا يمكن مع عدمه وجود المشتاق إليه.

الثاني : ان التكليف ليس هو الشوق بل حقيقته اعتبار كون الفعل على ذمة الغير ، وهذا فعل من أفعال المولى ويحتاج في خروجه عن اللغوية إلى ترتب اثر عملي عليه ، وحيث ان صدور المقدمة خارجا لازم على المكلف وان لم يأمر به لتوقف الواجب النفسي عليه ، فالأمر بها لغو محض لا يصح صدوره من الحكيم.

وفيه : ان المدعى التبعية القهرية اذ المصلحة المترتبة على ذي المقدمة كما اوجبت جعل الوجوب له كذلك توجب جعل الوجوب قهرا لما هو واقع في سلسلة علل وجوده.

وبعبارة أخرى : كما ان الشوق يتعلق بها قهرا كذلك ما يتبعه وهو جعل

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

٢٢١

الوجوب واختياريته انما تكون من جهة كون علته وهو جعل الوجوب على ذي المقدمة تحت الاختيار والقدرة لا من جهة تعلق القدرة به مستقلا.

فالمتحصل تمامية هذا الوجه.

ومنها : اتفاق أرباب العقول كافة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل نظير الإجماع الذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم ، فإن اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالا عن حكم العقل ، وليس ذلك هو الإجماع المصطلح كي يورد عليه بعدم جواز التمسك بالإجماع في المسألة العقلية ، لعدم كونه كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

ولكن يرد عليه انه لا مثبت لوجود هذا الاتفاق.

ومنها : ما عن المحقق السبزواري (١) ، وحاصله انه يلزم من عدم وجوب المقدمة عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب ، بيان الملازمة انه إذا كلف الشارع بالحج ولم يوجب المسير إليه فترك العبد المسير إليه ولم يأت بالحج ، فاما ان يستحق هذا التارك العقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج ، في موسمها المعلوم ، لا سبيل إلى الأول لانه لم يصدر منه في ذلك الزمان الا ترك المشي غير الواجب عليه ، ولا إلى الثاني لان إتيان الحج في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه فكيف يستحق العقاب بما يمتنع الصدور منه.

ثم نقول إذا فرضنا ان العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل

__________________

(١) كما حكاه عنه غير واحد كالمجدد الشيرازي في تقريراته ج ١ ص ٤١٣ ، والشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار ص ٨٦ في رسالته المعمولة.

٢٢٢

فاما ان يستحق العقاب أولاً ، لاوجه للثاني لانه ترك الواجب مع كونه مقدورا له فيثبت الأول ، فاما ان يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو قبلها لاوجه للأول ، لان العقاب انما يكون على الفعل القبيح ، ولا للثاني لان السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة والمفروض عدم وجوبها.

وفيه : ان لنا اختيار كلا الشقين :

اما الأول : فقوله ان العقاب في زمان ترك المقدمة لاوجه له لعدم كونه واجبا.

يرد عليه : انه انما يستحق العقاب على ترك المقدمة لكونه سببا لترك الحج الواجب فإن تركه مستند إلى ترك المقدمة اختيارا.

واما الثاني : فقوله ان ترك الحج غير مقدور له فلا يمكن اتصافه بالقبح ولا استحقاق للعقاب عليه.

يرده ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وخطابا.

وبعبارة أخرى : ان الحج اوجبه الشارع وهو مقدور بواسطة القدرة على مقدماته فالعبد قد ترك الواجب المقدور عليه فيستحق العقاب بذلك وامتناعه في ظرفه انما هو بسوء اختيار العبد.

واما ما ذكره اخيرا من فرض العبد نائما حين الفعل ، فيرد عليه ، انه ان استند ترك الحج مثلا إلى النوم لا يستحق العقاب ولكن في الفرض انما يكون مستندا إلى ترك المقدمة في زمانها وهذا النوم المفروض وقوعه في زمان امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان وهذا واضح.

٢٢٣

ومنها : ما أفاده المحقق السبزواري (١) أيضا.

وحاصله انه ان لم تجب المقدمة فوجوب ذي المقدمة بالاضافة إليها وجودا وعدما اما ان يكون مطلقا أو يكون مشروطا بوجودها.

فإن كان مطلقا كان معناه وجوب ذي المقدمة في ظرف عدم الاتيان بالمقدمة وهو ممتنع لانه تكليف بما لا يطاق فيثبت كونه مشروطا باتيان المقدمة ولازمه عدم استحقاق العقاب بترك ذي المقدمة من ناحية ترك مقدمته لعدم الوجوب حينئذ لفقدان شرط الوجوب فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب.

وفيه : أولاً انه لو تم ما افيد لزم عدم وقوع الكذب في الأمور المستقبلة مثلا لو اخبر المخبر بانه يسافر غدا فعلى فرض عدم المسافرة لاوجه لتكذيبه إذ اخباره بالمسافرة اما ان يكون على تقدير ايجاد جميع المقدمات والمفروض عدم وجود واحدة أو اكثر منها فلا يكون كذبا إذ عدم تحقق الملزوم في فرض عدم تحقق اللازم ليس كذبا في القضية الشرطية.

وثانياً بالحل وهو ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود فمعنى اطلاق وجوب ذي المقدمة انه لا نظر له إلى المقدمات وجودا وعدما والمفروض كونه في الفرضين تحت قدرته واختياره فلا اشكال فيه.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) وهو وجود الاوامر الغيريَّة في الشرعيات والعرفيات فإن ذلك من اوضح البرهان على وجوب المقدمة ، لوضوح انه لا

__________________

(١) كما حكاه عنه أيضا في تقريرات المجدد الشيرازي ج ٢ ص ٤١٦.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٦ (في تأسيس الأصل في المسألة).

٢٢٤

يكاد يتعلق بمقدمة امر غيري الا إذ كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصح تعلقه بها أيضا لتحقق ملاكه. والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه.

وفيه : ان هذا يتم لو كانت تلك الاوامر مولوية ، وقد ثبت في محله ان الاوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط ظاهرة في الارشاد إلى شرطيتها وجزئيتها ، كظهور النواهي الواردة في الموانع والقواطع في الإرشاد إلى مانعيتها وقاطعيتها.

ومنها : ما ذكره البصري (١) ، وهو انه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها وحينئذٍ فإن بقى الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

وفيه : ان الملازمة ممنوعة. سواء اريد بالجواز الجواز الشرعي ، بالمعنى الأعم ، أو الاخص ، أم اريد به الجواز اعم من الشرعي والعقلي.

اما على الأول : فلانه يمكن ان لا تكون محكومة بحكم اصلا.

ودعوى ، انه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي متعلق بها.

مندفعة بأن هذا من حيث هو ، واما بلحاظ طرو المانع فربما تكون الواقعة غير محكومة بحكم ، كاستدبار الجدي حال الصلاة فانه لا يكون محكوما بحكم ترخيصي ، لمنافاته مع وجوب الاستقبال ، ولا محكوما بحكم الزامي لعدم المصلحة

__________________

(١) راجع المعتمد في أصول الفقه لأبو الحسن البصري الأشعري المتوفى سنة ٣٢٦ ه‍. ق ، ج ١ ص ٩٤. ونقله عنه في الكفاية ص ١٢٧.

٢٢٥

والمفسدة.

واما على الثاني : فلان عدم الوجوب شرعا لا يلازم الجواز عقلا ، بل العقل يحكم بلزوم الاتيان بها كما في اطراف العلم الاجمالي حيث ان الالزام الشرعي ليس بازيد من واحد الا ان العقلي منه متعدد.

وان اريد بالجواز عدم المنع الشرعي من الترك ، فالملازمة وان كانت ثابتة ولكن مع حكم العقل بلزوم الاتيان بها لا يترتب محذور على الامر بذي المقدمة كما لا يخفى.

فالمتحصل تمامية الوجه الأول فحسب وكفى به مدركا للقول بوجوب المقدمة.

التفصيل بين المقدمة السببية وغيرها

وربما يفصل بين السبب وغيره بوجوب الأول دون الثاني.

واستدل لوجوب الأول بأن الامر المتعلق بالمسبب متعلق به.

ويرد عليه : مع قطع النظر عن كون ذلك خارجا عن محل الكلام.

غير تام في نفسه. وتنقيح القول فيه ان في تعلق الامر المتعلق بالمسبب بالسبب ، اقوالا :

احدها : انه متعلق بالسبب مطلقا عقلا.

٢٢٦

ثانيها : انه متعلق به نفسه كذلك.

ثالثها : التفصيل : بين ما لو كانت الواسطة من قبيل الآلة مثل انكسار الخشبة المتحقق بإيصال الآلة قوة الإنسان إليها فالمتعلق هو المسبب ، وبين ما لو لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر ، كما في إلقاء النفس إلى السبع فيتلفها ، أو إلقاء شخص في النار فتحرقه ، فيرجع الامر إلى التعلق بالسبب.

وقد استدل للأول بوجهين :

احدهما : ان المعتبر في متعلق التكليف ان يكون فعلا صادرا عن المكلف ، والمسبب ليس كذلك فإن المسبب من فعل السبب والواسطة : لانفكاكه عن المكلف في بعض الاحيان ، كما إذا رمى سهما فمات فاصاب زيدا بعد موت الرامي ، فلو كان الفاعل هو المكلف الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامي : لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا فيكشف ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي ، بل هو السهم غاية الامر انه لم يكن فاعلا بالطبع وانما يكون فاعليته من جهة احداث الرامي القوة فيه.

وفيه : ان المسبب من أفعال المكلف بنظر العرف ، فانه عندهم ليس هناك وجودان وايجادان ، بل وجود واحد ، وهذا يكفي في تعلق التكليف.

مع انه لم يدل دليل على اعتبار كون المتعلق من أفعال المكلف بل الذي دل عليه الدليل هو كون المأمور به بيد المكلف وباختياره وان كان من قبل الواسطة.

وبعبارة أخرى يعتبر كون المكلف به مستندا إلى المكلف وان لم يكن فعله.

الثاني : عدم كون المسبب مقدورا إذ هو مع قطع النظر عن سببه لا يقدر

٢٢٧

عليه المكلف ومع وجوده يكون واجب الصدور فعلى أي تقدير غير مقدور.

ويرد عليه ان المسبب وان لم يكن مقدورا بالمباشرة الا انه مقدور بواسطة القدرة على سببه.

واستدل المحقق اليزدي (١) للثالث بأن متعلق الطلب لا بد وان يكون معنى مصدريا صادرا عن المكلف فلو لم يكن كذلك بأن لم يكن من معنى المصدر كما في الأعراض التي تكون بالنسبة إلى محالها كونها حالة فيها من دون ان تكون صادرة عن محالها كالموت والحياة والبياض والسواد ، أو كان ولم يكن صادرا من المأمور لم يمكن تعلق الأمر به.

اما الأول فواضح.

واما الثاني فلان الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه فإذا كان الطلب صورة متعلقا بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك ، وعليه فإذا تعلق بما ليس بينه وبين المكلف الا آلة توصل قوة الفاعل إلى القابل ، وما إذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا له بل هي من أفعال الواسطة ، ففي الأول التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل ، وفي الثاني يجب ارجاعه إلى السبب.

ويرده ان المعتبر في تعلق التكليف ، كونه من حركات المكلف ، ومستندا إليه ، ومن الواضح ان المسبب في الموردين من هذا القبيل.

__________________

(١) وهو العلامة المجدد آية الله الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر المهرجردي الحائري اليزدي المتوفى ١٣٥٥ في كتابه درر الفوائد ج ١ ص ٩٠.

٢٢٨

فالأظهر هو التعلق بالمسبب.

نعم يمكن ان يوجه تعلقه بالسبب ، بما قد مر من ان المقدمات السببية خارجة عن محل الكلام وهي واجبة بالوجوب النفسي لا الوجوب المقدمي إذ إرادة المسبب بعينها إرادة السبب وكذلك البعث نحوه بعينه بعث نحو سببه وكذلك التحرك نحو احدهما عين التحرك نحو الآخر بل بالنظر العرفي ليس هناك الا وجودا واحدا وحركة واحدة فعلى هذا لا معنى لجعل وجوبين.

الواجب الاصلي والتبعي

ثم انه ذكر المحقق صاحب الكفاية (١) في المقام انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي مع ان المناسب عليه كان درج هذا التقسيم في الأمر الثالث لانه من شئون تقسيم الواجب وكيف كان ففي الكفاية.

والظاهر ان يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت حيث يكون الشيء تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه كان طلبه نفسيا أو غيريا وأخرى متعلقا للإرادة تبعا لارادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته. انتهى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٢ (ومنها).

٢٢٩

ولكن الأصلي والتبعي بالمعنى الذي ذكره لهما لا تقابل بينهما.

توضيح ذلك ان الأصلي والتبعي تارة يطلقان بلحاظ مقام الإثبات والدلالة فالمراد ، بالأصلي هو ما كان مقصودا بالإفهام من الخطاب بحيث تكون دلالة الكلام عليه بالمطابقة ، وبالتبعي هو ما لم يكن كذلك بل كانت دلالة الكلام عليه بالتبعية والالتزام ، وهذا التقسيم لا يترتب عليه ثمرة.

وأخرى يطلقان بلحاظ مقام الثبوت ، والاطلاق بلحاظ هذا المقام قد يكون بلحاظ تعلق الالتفات إذ ربما يكون المحبوب ملتفتا إليه مستقلا ، وربما يكون ملتفتا إليه ارتكازا واجمالا بمعنى انه لو التفت إلى موجبها لاراده.

وبهذا المعنى يتصف كل من النفسي والغيري بالأصلي والتبعي ، ولا يختص التقسيم اليهما بالغيري ، مثلا. تارة يعلم المولى بأن ابنه أشرف على الغرق وملتفت إلى ذلك ويأمر عبده بإنقاذه. وأخرى لا يلتفت إليه ويكون وجوب الإنقاذ حينئذ بحكم العقل ، وهذا هو الوجوب النفسي التبعي أي لو التفت إلى موجبه لأوجبه.

وقد يطلقان بلحاظ تعلق الإرادة ، فانه ربما يكون تعلق الإرادة لانه محبوب وفيه مصلحة ، وربما يكون من جهة ترشحها من إرادة متعلقة بشيء آخر ، وبهذا المعنى يختص الأصلي بالواجبات النفسية وهي منحصرة فيه. ويختص التبعي بالغيريَّة.

وبعبارة أخرى يكون هذا التقسيم بعينه التقسيم السابق أي التقسيم إلى النفسية والغيريَّة ، إذ الواجب النفسي ما يكون متعلقا للارادة مستقلا ناشئة عن محبوبيته ، والغيري يكون متعلقا للارادة ، المترشحة من إرادة أخرى ، فوجوب

٢٣٠

الواجب النفسي أصلي ، ووجوب الغيري تبعي.

والمحقق الخراساني حيث جعل الأصلي بالمعنى الثاني ـ أي الملتفت إليه استقلالا ـ مقابلا وقسيما للتبعي بالمعنى الثالث أي المراد بالارادة المترشحة ، التزم بجريان القسمين في الواجبات الغيريَّة دون النفسية ، وبما ذكرناه عرفت عدم التقابل بينهما ، وان الواجب الغيري لا يعقل كونه ، اصليا بالمعنى الأخير.

وبالجملة ، هذا التقسيم باللحاظين الاولين لا يترتب عليه ثمرة ، وباللحاظ الاخير يرجع إلى التقسيم السابق.

قال في الكفاية (١) إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة فإذا شك في واجب انه أصلي أو تبعي فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت انه تبعي انتهى.

واورد عليه المحقق الأصفهاني (٢) بأن معنى عدم استقلالية الإرادة لو كان نشوها عن إرادة أخرى وترشحها منها فالأصلية موافقة للأصل إذ الترشح من إرادة أخرى أمر وجودي مسبوق بالعدم ، والاستقلال على هذا أمر عدمي ، وهو عدم نشوها عن إرادة أخرى.

وفيه ان الموضوع إذا قيد بأمر عدمي فإن كان ذلك هو عدم الاتصاف يجري الأصل فيه فإذا كان الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالأصل يترتب عليه الأثر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٣.

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٤١٠ (تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي).

٢٣١

كما هو الشأن في كل موضوع مركب من أمرين وجوديين الذي لا يكون الدخيل وصف اجتماعهما أو غير ذلك من العناوين.

واما إذا كان ذلك هو الاتصاف بعدم ذلك القيد فإن كان لهذا العدم النعتي حالة سابقة يجري الأصل فيه ، وإلا فلا فإن استصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصول المثبتة.

وحيث ان في المقام الوجوب الأصلي هو المقيد بعدم الترشح من الغير فالعدم المأخوذ فيه عدم نعتي فاستصحاب عدم الترشح بنحو العدم المحمولي لا يصلح لاثباته.

مقدمة الحرام

ثم انه مما ذكرناه في مقدمة الواجب يظهر الحال في مقدمة المستحب فإن الكلام فيهما واحد.

واما مقدمة الحرام فقد يقال ان ما ذكر في مقدمة الواجب بعينه يجري في مقدمة الحرام ، إذ ما يكون حراما لا محالة يكون تركه واجبا ، فترك المقدمة التي به يترك الحرام يكون مقدمة الواجب ، فعلى القول بوجوبها ، يجب ذلك الترك فيحرم فعلها إذ نقيض الواجب حرام.

نعم ، بين المقامين فرق ، وهو ان الفعل إذا وجب حيث انه يتوقف على جميع المقدمات فتجب الجميع ، واما إذا كان الترك واجبا ، فجميع التروك أي ترك المقدمات ليست مقدمة لترك ذي المقدمة ، بل هو يترك بترك مقدمة واحدة ، فهو

٢٣٢

الواجب دون الجميع فيجب احداها تخييرا ولكن هذا ليس بفارق في المقام.

ويرد عليه ان ترك الحرام ليس بواجب ، لعدم المصلحة في الترك ، والوجوب تابع لها ، بل انما نهى عن الفعل لوجود المفسدة فيه.

وحق القول في المقام ان يقال ، ان مقدمة الحرام على قسمين :

الأول ما إذا لم يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وارادته.

الثاني ما يتوسط بينهما الإرادة.

اما الأول : فهو على أقسام.

١ ـ ما إذا لم تكن بينهما رابطة ولكن من باب الاتفاق صار كذلك كمن يعلم من نفسه انه لو دخل في المكان الفلاني لاضطر إلى ارتكاب الحرام قهرا.

٢ ـ ما إذا كان بينهما ارتباط وكانت المقدمة سببا وعلة لذي المقدمة ولكل منهما وجود يختص به كما في اسقاء السم المترتب عليه إزهاق الروح بعد مدة من الزمان. وكطلوع الشمس الذي يكون علة لضوء النهار وامثال ذلك من المسببات التوليدية.

٣ ـ ما إذا كان بينهما ارتباط وكانا موجودين بوجود واحد وكان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين كما في العناوين التوليدية مثل الانحناء والتعظيم ، وبحسب النظر العرفي كما في الإلقاء في النار والإحراق.

وكذا الحال في الطهارات الثلاث وفري الأوداج والقتل وامثال ذلك.

٢٣٣

وقد حكم المحقق الخراساني (١) بحرمة المقدمة في جميع هذه الأقسام بالحرمة الترشحية الغيريَّة.

وحكم المحقق النائيني (ره) (٢) بحرمتها بالحرمة النفسية.

وأفاد في القسم الأول في غير المقام بأن المقدمة حينئذ من قبيل المقدمة المفوتة وتقدم منه ان العقل مستقل بقبحها وبضميمة قاعدة التلازم يستفاد حرمتها.

وأفاد في القسم الثاني ان المقدمة هي التي تعلق بها القدرة والإرادة أولاً وبالذات والمعلول انما يكون مقدورا بتبعها فتسري إليها الحرمة المتعلقة به.

وأفاد في القسم الثالث ان ما فيه المفسدة هو الفعل المعنون فلا محالة يكون هو المتعلق للحرمة غاية الامر لا بصورته الأولى بل بعنوانه الثانوي.

وبعبارة أخرى ان الصادر عن المكلف فعل واحد معنون بعنوانين طوليين أولي وثانوي فالحكم المتعلق بأحدهما متعلق بالآخر.

ما أفاده (قدِّس سره) في القسم الأخير متين جدا وان كان المثال الفقهي الذي ذكره ، وهو إجراء الماء على أجزاء البدن للوضوء المنصب على ارض مغصوبة بلا وساطة جريانه على ارض مباحة ليس من هذا القبيل : لان جريان الماء على

__________________

(١) كما هو الظاهر من كلامه (قدِّس سره) في كفاية الاصول ص ١٢٠ عند قوله : «ثم انه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى ... الخ».

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١١١ ـ ١١٢.

٢٣٤

أجزاء البدن خارجا مغاير وجودا لجريان الماء على الأرض المغصوبة.

واما ما أفاده في القسم الثاني فقد مر الكلام فيه في المقدمة السببية وعرفت ان المحرم هو المسبب والسبب لا حرمة نفسية له.

واما ما أفاده في القسم الأول فقد مر ما فيه في المقدمات المفوتة وبينا انه لا يستكشف الحكم من هذا الحكم العقلي.

نعم ، في القسم الثاني بناءً على ثبوت الملازمة يمكن ان يقال ان هذه المقدمة محكومة بحكم ترشحي مقدمي كما في مقدمة الواجب بعين الوجه الذي ذكرناه فيها.

ولعل مراد المحقق الخراساني هو هذا القسم دون القسمين الآخرين وعليه فما أفاده متين جدا (١).

والحمد لله أولاً وآخرا.

* * *

__________________

(١) إلى هنا تم الجزء الأول من الطبعة الأولى.

٢٣٥

الفصل الخامس

في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدمه

وقبل الدخول في البحث لا بد من تقديم مقدمات :

المقدمة الأولى هل هذه المسألة من المبادئ الاحكامية ، أو من المبادئ التصديقية ، أو من المسائل الأصولية ، أو الفقهية ، فيه وجوه :

١ ـ انها من المبادئ الاحكامية ، وهي المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الاحكام التكليفية أو الوضعية كتضاد الاحكام وملازمة بعضها لبعض ، ومسألة الضد من هذا القبيل فانه يبحث فيها عن ملازمة الامر بشيء للنهي عن ضده.

وفيه انه لا مانع من كون المسألة فيها جهتان يوجب كل منهما تعنونها بعنوان مستقل ، وهذه المسألة كذلك لما ستعرف من وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط.

٢ ـ انها من المبادئ التصديقية ، فإن موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ومنها حكم العقل ، والمراد به إذعان العقل بشيء ، فلا محالة تكون المسألة الأصولية هي ما يبحث عن لواحق حكم العقل ، واما ما يبحث فيه عن نفس حكم العقل فهو بحث عن ذات الموضوع ، لا عن عوارضه وحيث ان المبحوث عنه في هذه المسألة الملازمة العقلية بين وجوب شيء وحرمة ضده ، فهي من

٢٣٦

المبادئ التصديقية.

وفيه ما مر في أول الأصول (١) من ان موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة ، بل المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط كانت باحثة عن عوارض الأدلة الأربعة أم لم يكن ومسألة الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده من هذا القبيل.

٣ ـ انها من المسائل الفقهية لان المبحوث عنه في هذه المسألة حرمة ضد الواجب.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (٢) بأن علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة ، كالصلاة ، والصوم ، وما شاكل. والبحث عن حرمة كلى ضد الواجب الذي لا ينحصر صدقه بموضوع خاص لا يتكفله علم الفقه.

ويرده ان علم الفقه كما يكون متكفلا لبيان احوال الموضوعات الخاصة بعناوينها الاولية كذلك يكون متكفلا لبيان احوال العناوين العامة التي تنطبق على كثير من العناوين الخاصة لاحظ : النذر ، والشرط ، واطاعة الوالد وما شاكل.

والحق في الجواب ان البحث ليس ابتداءً في حرمة الضد ، بل البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده وعدم ثبوتها ، وبديهي ان البحث

__________________

(١) زبدة الأصول ج ١ ص ١٦ ، الطبعة الأولى وفي هذه الطبعة ص ٣٩.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢١٣ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣١٠ (وأما جعلها) في معرض الحديث عن مقدمة الواجب.

٢٣٧

عن ذلك ليس بحثا فقهيا.

والصحيح انها من المسائل الأصولية ، لوقوع نتيجتها واسطة في استنباط الحكم الشرعي بلا حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى : إذ يترتب على ثبوت الملازمة حرمة الضد وعلى عدم ثبوتها عدم حرمته.

ولو نوقش في ذلك وقيل ان حرمة الضد بما انها حرمة غيرية لا تصلح لان تكون ثمرة للمسألة الأصولية.

اجبنا عنه بانه على فرض القول بعدم ثبوت الملازمة يترتب على هذه المسألة صحة الضد العبادي ، وعلى ثبوتها عدم صحته ، كما سيمر عليك وهذا يكفي في كون المسألة أصولية.

المقدمة الثانية : الظاهر ان هذه المسألة من المسائل العقلية ، لا من مباحث الألفاظ : إذ الحاكم بالملازمة انما هو العقل ، غاية الامر ان هذا الحكم العقلي انما هو من الاحكام العقلية غير المستقلة ، وهي ما لا يستنبط منه الحكم إلا بعد ضم مقدمة شرعية إليه ، وليس من الاحكام العقلية المستقلة ، وهي التي يستنبط منها الاحكام بلا احتياج إلى ضم شيء آخر إليها : وذلك لانه لا يستنبط من حكم العقل بالملازمة حرمة شيء الا بعد ضم وجوب ضده إليه.

وتوهم انحصار الاحكام العقلية في القسم الثاني ، أوجب جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ وإلا فلا صلة لها بها.

المقدمة الثالثة : ان المراد بالضد هو مطلق المنافي ـ توضيح ذلك ـ ان المنافي تارة يكون وجوديا كالأضداد الخاصة ـ أو الجامع بينها ـ وأخرى يكون

٢٣٨

عدميا كالترك الذي هو المسمى عندهم بالضد العام ـ وقد يعبر عن الجامع بين الأضداد الخاصة بالضد العام ـ والضد الخاص ، تارة يكون واحداً فيكون الضدان مما لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، وأخرى يكون متعددا وهو الضدان اللذان لهما ثالث.

المقدمة الرابعة : ان المراد بالاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره ، بل الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو العينية والجزئية ليعم جميع الأقوال ، فانه من الأقوال القول بأن الامر بالشيء عين النهي عن ضده ، والقول بأن النهي عن الضد جزء من الامر بالشيء ، والقول باستلزام الامر بالشيء للنهي عن ضده.

إذا عرفت ذلك فتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في الضد الخاص.

الثاني : في الضد العام.

الاستدلال للاقتضاء من طريق الملازمة في الضد الخاص

اما الكلام في المقام الأول :

فقد استدل لاقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص بطريقين :

الطريق الأول من طريق الملازمة : بتقريب ان وجود كل شيء ملازم لترك ضده ، والمتلازمان متحدان حكما ، ولا يعقل اختلافهما في الحكم فإذا كان أحد الضدين مأمورا به وواجبا ، لا محالة يكون عدم الآخر مأمورا به وواجبا ، فإذا

٢٣٩

وجب عدمه كان وجوده منهيا عنه.

ويرد عليه ما تقدم في مبحث المقدمة ، من انه لا دليل على اتحاد المتلازمين في الحكم ، وانما اللازم عدم اختلافهما في الحكم ، والالتزام بخلو الواقعة عن الحكم وان كان أولاً وبالذات ، غير صحيح ، الا انه بواسطة العوارض لا محذور فيه ، كما إذا كان مانع عن الترخيص في فعل ، ولم يكن فيه مصلحة ولا مفسدة فمثل هذا الفعل لا يحكم عليه بشيء.

لا يقال : انه كما في الإرادة التكوينية إرادة أحد المتلازمين أو الملزوم أو اللازم مع الالتفات إلى الملازمة تلازم إرادة اللازم أو الملزوم أو الملازم. ولذا لو كان حراماً ، يكون فاعله معاقبا لصدوره باختياره وارادته.

يكون في الإرادة التشريعية أيضا كذلك لانهما توأمتان.

فانه يقال : قد مر غير مرة عدم ترتب جميع آثار الإرادة التكوينية على الإرادة التشريعية ، وفى التكوينية بما انهما متلازمتان وجودا ، يلازم إرادة احدهما إرادة الآخر ، بخلاف الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

مع ان عدم الضد لو كان واجبا لما كان وجوده حراما إذ ترك الواجب ليس حراما كما مر.

وقد يفصل بين الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وبين الضدين الذين لهما ثالث ، بالذهاب إلى الاقتضاء بالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم في الأول ، وعدم الاقتضاء في

٢٤٠