زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

على أجزاء الواجب ، وتكون كل مقدمة واجبة بوجوب ضمني غيري ، وعليه فحيث ان ترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات قهري ، وكل مقدمة واجبة بوجوب ضمني ، فإذا أتى بمجموع المقدمات تحقق الواجب في الخارج وكانت موصلة ، وان أتى ببعضها ولم يتوصل لما اتصف ما أتى به بالوجوب ولما كان مصداق الواجب إذ الواجب هو مجموع المقدمات ، فيكون كما إذا أتى ببعض أجزاء الواجب النفسي ولم يضم إليه سائر الاجزاء فانه لا يقع مصداقا للواجب فكل مقدمة انما تقع مصداقا للواجب إذا انضم إليها سائر المقدمات الملازم ذلك للإيصال وترتب ذي المقدمة ، ومع عدم الانضمام لا تقع مصداقا للواجب ، فالمقدمة الموصلة تكون واجبة أي ذات ما هي موصلة لا المقيدة بهذا القيد.

لا يقال ان ما من واجب إلا وله مقدمات غير اختيارية ولا اقل من بعض مبادى الاختيار ، فترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات الاختيارية المتعلقة للوجوب لا يكون دائميا.

فانه يقال : ان امثال تلك المقدمات تؤخذ مفروضة الوجود وفي ظرف وجود تلك المقدمات يكون الترتب دائميا.

وفيه : ان ذا المقدمة وان كان يترتب على مجموع المقدمات حتى الاختيار فيمكن ان يكون هو الغرض من ايجابها لترتبه عليها دائما.

إلا انه يرد عليه ان اختيار وجود ذي المقدمة متعلق للتكليف النفسي ، فانه وان تعلق بنفس ذي المقدمة الا انه لأجل ان التكليف انما يتوجه لأجل احداث الداعي للعبد ليختار الفعل ، وهو تحريك للعبد نحو الفعل باختياره فهو لا

٢٠١

يتعلق به التكليف الغيري.

وان شئت قلت ان الإرادة معلولة للتكليف النفسي ومتاخرة وواقعة في مرحلة امتثال الامر النفسي وهو المحرك نحوها فلا يعقل تعلق التكليف الغيري المترشح من الامر النفسي بها ، وعليه فبما ان ذا المقدمة لا يترتب على مجموع المقدمات غير الإرادة فليس هو الغرض من وجوبها.

الوجه الثاني : انه للمولى ان يأمر بشيء وينهى عن مقدمته التي لا تكون موصلة.

وليس له النهي عن خصوص الموصلة ، أو عن مطلق المقدمة ، وهذا آية الملازمة انما تكون بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته الموصلة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بوجهين :

الأول : انه ليس له النهي عن المقدمة غير الموصلة إذ يلزم منه ان لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا لعدم التمكن منه لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به.

وبالجملة يلزم ان يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال.

وفيه : ان جواز المقدمة ووجوبها لا يكونان مقيدين باتيان ذي المقدمة ، بل المقيد به هو الواجب والجائز ، والمقدمة الخاصة تجوز بل تجب من الأول.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٠.

٢٠٢

والاشكال انما نشأ من الخلط بين شرط الجواز والوجوب ، وشرط الواجب والجائز.

الثاني : انه لو نهى عن غير الموصلة فهي وان لم تتصف بالوجوب الا ان ذلك انما هو لأجل المانع عن الاتصاف بالوجوب ، وهو المنع عنها.

وفيه : ان امكان النهي وصحته آية عدم الملازمة ، والا لما صح.

الوجه الثالث : ما في الفصول (١) ، وهو ان وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور إلى ان قال وايضا حيث ان المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه وصريح الوجدان قاض بأن من يرد شيئا بمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ويلزم منه ان يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله انتهى.

واورد عليه في الكفاية (٢) بما يندفع بتوضيح ما في الفصول.

بأن يقال : ان مراده ان التكليف الغيري ليس ناشئا من الغرض المترتب على متعلقه وإلا انقلب نفسيا فلا مورد للنزاع في تعيين الغرض ، بل انما يكون التكليف الغيري ناشئا عن الغرض الأصلي المترتب على ذي المقدمة ، وهو كما أوجب محبوبية ذي المقدمة كذلك أوجب محبوبية المقدمة تبعا لان الحب إلى

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٨٦.

(٢) راجع إيراده على صاحب الفصول ص ١١٩ من الكفاية.

٢٠٣

الشيء يستلزم الحب التبعي إلى ما هو واقع في سلسلة مبادى وجوده ، وعليه فلا ينبغي التوقف في ان المحبوب بالتبع انما هو المقدمة التي تكون مقدمة فعلية وواقعة في سلسلة مبادى وجود المحبوب بالذات.

واما المقدمة بالقوة غير الواقعة في تلك السلسلة فلا تكون متعلقة للحب التبعي فإن من اشتاق إلى شيء انما يشتاق إلى مقدماته التوأمة والملازمة معه لا المفارقة عنه في الوجود وعليه فالواجب الغيري هو ذات المقدمة الموصلة لا بهذا القيد.

فتحصل مما ذكرناه اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

بيان ثمرة القول باختصاص الوجوب بالموصلة

بقي الكلام في بيان ثمرة هذا النزاع ، وقد ذكر الأصحاب ثمرات للنزاع في هذه المسألة وهي صنفان :

أحدهما ، ما يترتب على النزاع في ان الواجب خصوص المقدمة الموصلة ، أو مطلق المقدمة.

ثانيهما ما يترتب على النزاع في وجوب المقدمة وعدمه.

أما الصنف الأول : فهو ثمرتان :

٢٠٤

إحداهما ما أفاده الأستاذ (١) ، وهي انه لو توقف واجب على محرم وكان الواجب أهم ، كما لو توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة لا تتصف تلك المقدمة بالحرمة ، وان لم توصل ، بل كان التصرف في ملك الغير لغرض آخر من التفريح ، والتكسب وما شاكل ، ولا يكون سفره سفر معصية.

واما بناءً على اختصاص الوجوب بالموصلة لا يجوز التصرف في المثال في ملك الغير إلا في صورة الانجاء ، وإلا فهو حرام وسفره سفر معصية وان شئت فقل ان كل مقدمة من المقدمات إذا توقف عليها واجب أهم ، فبناء على وجوب مطلق المقدمة تتصف بالوجوب مطلقا ، واما بناءً على اختصاص الوجوب بالموصلة لا تتصف بالوجوب ما لم توصل بل تبقى على حكمها الأول.

ويرد عليه ان الوجوب المقدمي بما انه غير ناش عن المصلحة والغرض ، فلا يصلح للمعارضة مع الحرمة النفسية ، فلا محالة تقدم الحرمة عليه ، وعلى ذلك فلا مسقط للحرمة على المسلكين سوى وجوب ذي المقدمة ، وهو انما يوجب السقوط في ظرف الاتيان به دون عصيان أمره إذ الضرورات تقدر

__________________

(١) راجع محاضرات في الأصول ج ١ ص ٤٣١ ـ ١٣٢ (ثمرة النزاع في المسألة) وتعرض لذلك أيضا في الجزء ٣ في باب التزاحم والتعارض ص ٢٩١ واختار أن المسقط لحرمة المقدمة ليس هو امتثال ذي المقدمة بالفعل بل توقف ذي المقدمة على هذه المقدمة ، بمعنى أنه بدونها لا يمكنه امتثال المامور به.

٢٠٥

بقدرها ، فهذه ليست ثمرة لهذا المبحث.

ثانيتهما : ما أفاده جماعة منهم صاحب الفصول (١) ، وهو انه إذا كان ترك عبادة مقدمة لواجب أهم كالصلاة التي يكون تركها مقدمة لإزالة النجاسة عن المسجد مثلا ، فعلى القول باختصاص الوجوب بالموصلة تصح صلاته لو صلى ولم يزل النجاسة ، واما على القول بوجوب المقدمة مطلقا ، فتكون فاسدة ، وذلك لان ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر ، فترك الصلاة مقدمة للإزالة ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة ، يجب تركها أزال أم لم يزل ، فيحرم فعلها الذي هو نقيض الترك ، والتحريم في العبادة مقتض للفساد ، واما على القول بالموصلة ، فحيث ان الواجب من ترك الصلاة هو الترك الموصل ، وإيجاب ذلك لا يستلزم تحريم الفعل ، لعدم كونه نقيضه ، بل نقيضه عدم الترك الخاص ، وهو قد يقارن الفعل ، وقد لا يقارنه ، وحرمة الشيء لا تستلزم حرمة ما قارنه.

واورد عليهم في التقريرات (٢) بأن فعل الضد وان لم يكن نقيضا للترك الخاص لان نقيضه رفعه وهو اعم من الفعل والترك الآخر المجرد إلا انه لازم لما هو من أفراد النقيض ، وهذا يكفي في إثبات الحرمة وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما على القول بمطلق المقدمة : لان الفعل ليس نقيضا للترك لأنه وجودي

__________________

(١) راجع الفصول الغروية ص ٩٥ (الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أولاً) وكان قد تعرض لذلك ص ٨٧ (تظهر ثمرة النزاع في مواضع).

(٢) مطارح الانظار ص ٧٨ بتصرف.

٢٠٦

ونقيض الترك انما هو رفعه ورفع الترك يلازم الفعل مصداقا وليس عينه فكما ان هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك تكفى في المقام ، غاية الامر ان ما هو النقيض في مطلق الترك انما ينحصر مصداقه في الفعل ، واما النقيض للترك الخاص فله فرد ان وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بالفرق بين الموردين بأن الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، وحرمة الشيء لا تسري إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه احيانا ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا انه ملازم لما يعانده وينافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا فإذا كان الترك واجبا لا محالة يكون الفعل منهيا عنه.

ويرد عليه أولاً ، ان المركب من أمرين ليس له نقيض واحد بل له نقيضان ، أي لكل منهما نقيض ، فيكون نقيض المركب مجموع النقيضين ، واما المركب من حيث هو فلا نقيض له ، وعليه فبناء على اختصاص الوجوب بالموصلة الواجب هو الترك المقيد بالإيصال ، فيكون نقيضه الفعل مع عدم الإيصال ، أي نقيض الترك هو الفعل ، ونقيض الإيصال عدمه وليس له نقيض واحد.

فإذا كان نقيض الواجب حراما يكون الفعل مع عدم الإيصال ، محكوما بالحرمة فلا محالة تنحل الحرمة كالوجوب فيكون الفعل أيضا محكوما بالحرمة غاية الامر حرمة ضمنية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢١.

٢٠٧

وان شئت قلت ان الوجوب المتعلق بالمقدمة الموصلة على مسلكه ينحل إلى وجوبين أحدهما متعلق بالترك والثاني متعلق بالخصوصية ونقيض الترك الواجب بالوجوب المقدمي الضمني هو الفعل فيكون حراما بالحرمة الضمنية فعلى فرض كون هذه ثمرة لوجوب المقدمة لا فرق بين القول بالموصلة والقول بوجوب مطلق المقدمة فإيراد الشيخ الأعظم في محله.

وثانياً : ان هذه الثمرة من اصلها غير تامة : وذلك لان ترك أحد الضدين ليس مقدمة لفعل الآخر ـ كما سيأتي في مبحث الضد ـ مع انه على فرض كونه مقدمة له. الفعل لا يكون حراما ، إذ نقيض الواجب ليس بحرام. مضافا إلى ان النهي الغيري المقدمي غير الناشئ عن المفسدة في الفعل لا يوجب الفساد كما سيأتي.

ثمرة القول بوجوب المقدمة

الصنف الثاني : ما ذكر ثمرة للنزاع في وجوب المقدمة وعدمه.

وهي أمور.

منها : انه إذا توقف واجب على مقدمة محرمة ، وكان الوجوب أهم ، فانه على القول بوجوب مطلق المقدمة تسقط الحرمة مطلقا ، وان لم يأت بذي المقدمة. وعلى القول بعدم الوجوب لا مسقط للحرمة سوى مزاحمتها مع وجوب ما هو أهم منها ، وهي انما تقتضي سقوط الحرمة في صورة الاتيان بالواجب لا مطلقا ، إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

٢٠٨

وفيه : ما تقدم من ان الوجوب الغيري المقدمي بما انه غير ناش عن المصلحة والغرض فلا يصلح لمعارضة الحرمة النفسية فلا محالة تقدم الحرمة وعليه فلا مسقط للحرمة على القولين سوى مزاحمتها مع وجوب ذي المقدمة فهذه الثمرة لا تكون ثمرة.

ومنها ان نفس وجوب المقدمة في نفسه انما يكون ثمرة للبحث عن ثبوت الملازمة وعدمه : إذ على الأول يحكم بالوجوب وعلى الثاني بالعدم.

واورد عليه بأنه حيث لا يترتب على وجوب المقدمة اثر من الثواب على امتثاله وحصول القرب به ، والعقاب على مخالفته وحصول البعد بها واما لابدَّية الاتيان بما تعلق به عقلا فهي لا تدور مدار القول بوجوبها شرعا.

فمثل هذا الحكم ليس شان الفقيه بيانه والإفتاء به فلا يصح جعله ثمرة لهذا البحث.

وفيه : أولاً : قد تقدم ان موافقة التكليف الغيري ، توجب استحقاق الثواب ، كما ان مخالفته توجب استحقاق العقوبة.

وثانياً : انه إذا ثبت وجوب المقدمة كالوضوء ، بضم الصغرى إلى نتيجة هذه المسألة ، فإشكال عدم ترتب اثر عملي عليه واضح الدفع : لان تطبيق كبريات أخر مستفادة من أدلتها كحصول البرء والإصرار على المعصية وغير ذلك مما سيأتي عليه يوجب ترتب اثر عملي عليه كما لا يخفى.

ومنها : انه على القول بوجوب المقدمة يلزم التوسعة فيما يوجب العبادية.

واورد عليه بأن قصد الأمر الغيري لا يوجب اتصاف الفعل بالعبادية ، وقد

٢٠٩

تقدم الكلام في ذلك وعرفت انه يوجب القرب أيضا.

ولكن مثل هذه الثمرة لا توجب كون البحث المزبور أصوليا : إذ المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي ، ومسألتنا هذه ليست كذلك فإن المترتب عليها انما هو ما ثبت من طريق آخر على إتيان المقدمة بقصد امرها فلا تصير المسألة بذلك أصولية ، إلا ان ذلك يكفي ثمرة عملية لوجوب المقدمة ويخرج بذلك عن كونه حكما لغوا ليس شأن الفقيه بيانه.

ومنها : انه من المسلم عند الأصحاب ، ان الامر المعاملي يوجب الضمان ، فلو امر بما له مقدمة فعلى القول بوجوب المقدمة يكون الامر ضامنا بالنسبة إليها أيضا ، وعلى القول بعدمه لا يكون ضامنا لها.

واورد عليه بأن الوجوب بنفسه لا يوجب الضمان ، والوجه في الضمان في الامر المعاملي ما ذكر في محله من رجوعه إلى معاملة خاصة وهو جعل العمل في مقابل مال خاص وان الظاهر من الامر ذلك ، وحينئذٍ في المقام بنينا على وجوب المقدمة أو على عدمه لا يفرق من هذه الجهة ، ووجوب المقدمة المترشح من وجوب آخر على القول به لا يوجب الضمان.

وفيه : ان الامر بنفسه ظاهر في كونه معامليا أي أمرا بالعمل لا مجانا ، فلو كان الامر بذي المقدمة مستلزما للأمر بالمقدمة ، فهو أيضا يوجب الضمان ، فلو أتى بالمقدمات ولم يأت بذي المقدمة ضمن.

اللهم إلا ان يقال ان الامر بذي المقدمة يوجب الضمان على المقدمات حتى بناءً على عدم استلزام الامر بذي المقدمة للأمر بالمقدمة ، فتأمل فإن المسألة

٢١٠

تحتاج إلى تأمل أزيد من ذلك.

وعلى كل حال يجري فيه ما ذكرناه في سابقه من عدم كون هذه الثمرة موجبة لكون البحث عن وجوب المقدمة أصوليا.

ولكنها تكفي أثرا عمليا موجبا لخروج وجوب المقدمة عن اللغوية.

ومنها : برء النذر بالإتيان بالمقدمة لو نذر الاتيان بواجب على القول بوجوب المقدمة.

والحق ان هذه الثمرة كسابقتها وان لم توجب بنفسها كون المسألة أصولية إذ ثمرة المسألة الأصولية لا بد وان يكون حكما فرعيا كليا مثل نفس وجوب الوفاء بالنذر ، واما تطبيق هذا الحكم على مصاديقه فليس نتيجة المسألة الأصولية.

ولكن تكفى ثمرة عملية يخرج وجوب المقدمة بذلك عما قيل من عدم كون بيانه وظيفة الفقيه لعدم ترتب الأثر عليه.

واما ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من ان البرء وعدمه انما يتبعان قصد الناذر.

ففيه : انه لو نذر الاتيان بمطلق ما تعلق به الوجوب الشرعي. كان حصول الوفاء بإتيان المقدمة مبتنيا على القول بوجوب المقدمة.

ومنها : انه يحصل الإصرار على الحرام الموجب لحصول الفسق بترك واجب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٣.

٢١١

له مقدمات إذا قلنا بوجوبها.

واورد عليه المحقق الخراساني (ره) (١) بأن العصيان انما يحصل بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب فلا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا.

وفيه : ان سائر المقدمات وان سقط أمرها لكنه ليس للعصيان بل لسقوط أمر ذي المقدمة إلا أن سقوط أمر ذي المقدمة انما يكون بالعصيان ، فإذا كان الإصرار يحصل بترك واجبين تحقق بترك واجب له مقامات ، على القول بوجوب المقدمة ، وعلى القول بعدمه لا يحصل ، وبه يظهر الحال لو كان الإصرار يحصل بترك واجبات أربعة فانه على القول بوجوب المقدمة يحصل بترك واجبين نفسيين لهما مقدمات ولا يحصل به على القول بعدمه.

مع انه إذا فرضنا عدم ترتب المقدمات بعضها على بعض ، وكان الجميع في عرض واحد فإن بتركها يترك الجميع دفعة واحدة لا طولا ـ وعليه ـ فيحصل الإصرار في ذلك المورد.

واورد على هذه الثمرة المحقق النائيني (ره) (٢) والأستاذ الأعظم بأن المعصية انما تدور مدار الأمر النفسي فليس مخالفة الأمر الغيري بما هو معصية حتى يحصل الإصرار على المعصية بمخالفته.

وفيه : ما تقدم في محله من ان الإطاعة والعصيان ، انما يدوران مدار الامر نفسيا كان أم غيريا. إذ الامر الغيري أيضا يوجب موافقته القرب والثواب ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٤.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٤٥ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٥٦.

٢١٢

ومخالفته البعد والعقاب.

ولكن يرد على هذه الثمرة ما أوردناه على سوابقها.

مضافا إلى ما حقق في محله من ان المعصية مطلقا توجب الفسق وعليه ، فلا يبقى مورد لهذه الثمرة إذ بترك المقدمة يترك الواجب النفسي فيوجب الفسق على كل تقدير.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة على فعل المقدمة على القول بوجوبها لعدم جواز اخذ الأجرة على فعل الواجب.

وفيه : مضافا إلى ما مر ، ما حقق في محله من ان اخذ الأجرة على الواجبات بما أنها واجبة لا مانع عنه ان لم يكن الواجب مما ألقى الشارع ماليته.

ومنها : اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة المحرمة إذا قيل بالملازمة فيما إذا كانت المقدمة محرمة فيبتنى على جواز اجتماع الامر النهي وعدمه بخلاف ما لو قيل بعدمها.

واورد المحقق الخراساني (ره) (١) على ذلك بأمور :

الأول : ان عنوان المقدمة من الجهات التعليلية فالواجب هو ما بالحمل الشائع مقدمة ، وحيث انه الحرام فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادات والمعاملات.

وفيه : ان الواجب على الملازمة ليس ذات المقدمة الخارجية بل هو العنوان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٤.

٢١٣

الكلي المنطبق عليها ، وقد اجتمع العنوانان في المقدمة الخاصة فيكون من باب الاجتماع.

الثاني : انه إذا كانت المقدمة المحرمة غير منحصرة لما تعلق بها الوجوب بل هو متعلق بغيرها ، وان كانت منحصرة ، فإما لا وجوب لعدم وجوب ذي المقدمة لمزاحمته مع حرمة المقدمة ، واما لا حرمة لها لذلك فلا يلزم الاجتماع أصلا.

وفيه : انه في صورة عدم الانحصار ، لاوجه لاختصاص الوجوب بغير المحرم من المقدمات بعد كون تلك المقدمات وافية بتمام ما يفي به غيرها غاية الامر على تقدير القول بالامتناع وتقديم جانب النهي يسقط وجوبها لذلك.

الثالث : انه لو كانت المقدمة ، توصلية صح التوصل بها ولو لم نقل بجواز الاجتماع. ولو كانت تعبدية لما جاز التوصل بها على القول بالامتناع قيل بوجوب المقدمة ، أم لا ، وجاز التوصل بها على القول بالجواز على المسلكين.

بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المقام

الثاني : في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة ، ليرجع إليه مع عدم الدليل على شيء من الأقوال ، والكلام فيه في موردين :

١ ـ في بيان الأصل في المسألة الأصولية.

٢ ـ فيما يقتضيه الأصل في المسألة الفقهية.

٢١٤

أما الأول : فقد يقال (١) إن الملازمة بين وجوب المقدمة ، ووجوب ذيها على فرض ثبوتها مسبوقة بالعدم لأنها من الحوادث فيستصحب عدمها.

واورد عليه المحقق العراقي (٢) بانه ليس لها حالة سابقة بل هي اما ثابتة أزلا أو معدومة أزلا فليست مورد الاستصحاب لا وجودا ، ولا عدما.

وفيه : ان الملازمة بما انها في التقرر تابعة لتحقق طرفيها فهي مسبوقة بالعدم ، غاية الامر بمفاد ليس التامة ، فلا مانع من استصحاب عدمها من هذه الجهة.

ولكن لا يجري الاستصحاب من جهة أخرى وهي انه لا يترتب الأثر على ذلك ، لعدم كون وجوب المقدمة أثرا للملازمة كما لا يخفى.

واما المورد الثاني : فمقتضى الاستصحاب عدم وجوب المقدمة : لمعلومية عدم وجوبها حال عدم وجوب ذيها.

وقد استدل لعدم جريانه بوجوه.

الأول : انه يعتبر في جريان الاستصحاب ان يكون التعبد الشرعي بالمستصحب وأثره ممكنا عقلا في نفسه. وحيث انه على تقدير ثبوت الملازمة بين الوجوبين لا يعقل التعبد بعدم وجوب المقدمة فالشك فيها يوجب الشك في إمكان التعبد بعدم وجوبها ، وقد عرفت انه مع عدم إحراز إمكان التعبد لا

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ص ١٢٥ (في تأسيس الأصل في المسألة).

(٢) نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٥٠ (تأسيس الأصل في المسألة).

٢١٥

يجري الاستصحاب.

وأجاب المحقق الخراساني (ره) (١) عن ذلك بأن الملازمة على فرض ثبوتها فإنما هي بين الوجوبين الواقعيين ، وأصالة عدم وجوب المقدمة فعلا مع وجوب ذيها كذلك لا تنافى تلك ـ نعم ـ لو كانت الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الفعليين صح التمسك بذلك في إثبات بطلانها.

ويرد على ذلك على ما هو ظاهره بدوا ما أورده المحقق العراقي (ره) من ان من يدعى الملازمة انما يدعيها بين الفعليين أيضا.

ولكن الظاهر بعد التأمل انه اراد ما حاصله : ان الملازمة على فرض ثبوتها انما هي بين الوجوبين الواقعيين لابين الوجوبين الواصلين بهذا القيد. ففي مرحلة الوصول يمكن ان يصل وجوب ذي المقدمة ولا يصل وجوب المقدمة. فيحكم في الظاهر بعدم وجوبها غير المنافي لوجوبها واقعا ، وعلى هذا فهو متين جدا.

وبه يظهر عدم تمامية ما ذكره بعضهم من انه إذا جرى الأصل وثبت عدم وجوبها يستكشف منه عدم ثبوت الملازمة بين الملازمة بين الوجوبين. فانه بالاستصحاب لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت.

ويمكن ان يجاب عن هذا الوجه بجواب آخر ، وهو انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز إمكان التعبد بل يعتبر عدم إحراز استحالته : إذ

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٦ بتصرف.

٢١٦

الاستصحاب كسائر الأحكام الشرعية يلزم اتباعه ما لم يحرز الامتناع.

وبالجملة سيأتي في محله ان ظهورات كلمات المولى تكون متبعة ما لم تثبت الاستحالة ومجرد احتمالها لا يكون مانعا.

الثاني : ان وجوب المقدمة على تقدير الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة ولا اثر مجعول مترتباً عليه فلا يجري الأصل إذ يعتبر في جريانه كون المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا لما هو مجعول شرعي.

وأجاب المحقق الخراساني عن ذلك بأن وجوب المقدمة وان كان غير مجعول بالذات لا بالجعل البسيط ، ولا بالجعل التأليفي الا انه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدمة وهو كاف في جريان الأصل.

وتنقيح القول في ذلك : ان لوازم الماهية على قسمين :

الأول : ما إذا كان ذلك الشيء منتزعا عن الماهية بلحاظ نفسها مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي ، كالإمكان بالقياس إلى الإنسان.

الثاني : ما يكون لازما للماهية سواء كانت موجودة في الذهن ، أو في العين كالزوجية بالقياس إلى الأربعة ومعلوم ان إرادة المقدمة بالنسبة إلى إرادة ذي المقدمة ليست من القسمين ، بل هي على تقدير الملازمة تابعة للوجود الخارجي لارادة ذي المقدمة فهو من لوازم الوجود الخارجي.

وحيث انه لوجوب المقدمة وجود غير ما لوجوب ذي المقدمة من الوجود فلبرهان وحدة الإيجاد والوجود يكون لكل منهما إيجاد مغاير للآخر فهو بنفسه مجعول شرعي فلا مانع من إجراء الأصل فيه.

٢١٧

الثالث : انه لو كان المستصحب حكما شرعيا يعتبر في جريان الأصل فيه ترتب ثمرة عملية عليه ، وحيث ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه اثر عملي للأبدية الإتيان بها على كل تقدير وعدم ترتب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته فلا يجري فيه الأصل.

وفيه : ما عرفت من ترتب عدة ثمرات على وجوب المقدمة غير لابدية الإتيان بها وعليه فيجري الأصل فيه ويترتب عليه تلك الآثار.

فتحصل ان الأظهر جريان أصالة عدم وجوب المقدمة فعلى فرض عدم الدليل على الوجوب يبني على عدم الوجوب.

دليل القول بوجوب المقدمة

الثالث : فيما استدلوا به لوجوب المقدمة وقد ذكروا وجوها.

منها : ما أفاده الشيخ الأعظم (١) وتبعه المحققان الخراساني (٢) والنائيني (٣) وحاصله ان من راجع وجدانه وانصف من نفسه يقطع بأن الملازمة بين الطلب المتعلق بالشيء والمتعلق بمقدماته ثابتة ، لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها ،

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ٨٣.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٦.

(٣) راجع أجود التقريرات حيث ذكر أن الوجدان أقوى شاهد على الملازمة ج ١ ص ١٣٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٤ ، ثم في ج ١ ص ٢٣٢ اعتبر ان الوجدان حاكم بالملازمة مع قصد ذيها وترتبه عليها وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٧ (الثاني).

٢١٨

كيف والبداهة قاضية بعدمه لجواز غفلة الطالب عن المقدمية ، إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتى لا يتصور في حقه ذلك ، بل المقصود ان الطالب لشيء إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه يجد من نفسه حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها كما قد يتفق هذا النحو من الطلب أيضا فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو إلى كونه ابنه فإن الطلب الفعلي في مثله غير متحقق لابتنائه على الالتفات لكن المعلوم من حاله انه لو التفت إلى ذلك لاراد من عبده الإنقاذ ، وهذه الحالة وان لم تكن طلبا فعليا إلا انها تشترك معه في الآثار ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور انه لو لم ينقذ ابن المولى عد عاصيا ويستحق العقاب.

واوضحه المحقق النائيني (ره) (١) بما محصله.

انه كما ان من اشتاق إلى فعل نفسه لا محالة ينبعث منه الشوق إلى مقدماته كذلك لو اشتاق إلى ما هو فعل الغير ، فكما انه لو أراد شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات ، لا محالة يريد تلك المقدمات وتتولد من تلك الإرادة إرادة المقدمات قهرا كذلك إرادة الامر ، ولا مورد للإيراد عليه بانه لا موجب لارادة المقدمات بعد حكم العقل بانه لا بد من إتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها ، فانه ليس الكلام في الحاجة وعدم الحاجة بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الامر قهرا بحيث لا يمكن ان لا يريدها فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدمها.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٢١٩

نعم لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة ، لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها وكان الأقوى حينئذ عدم وجوبها إلا انه ليس الكلام فيه بل في الوجوب القهري الترشحي وهذا النحو من الوجوب بما لا بد منه.

وبما ذكرناه في توضيح ما أفاده المحقق النائيني يظهر اندفاع ما أورده عليه بعض الأعاظم (١) وهو انه لم يقم برهان على عدم الفرق بين الارادتين في جميع اللوازم والآثار ، بل الدليل على خلافه. فإن استلزام تعلق الإرادة التكوينية بشيء لتعلق إرادة أخرى بمقدمته ، انما هو لأجل ان فعل المريد نفسه لا يتحقق إلا بعد الإتيان بالمقدمة فلا مناص عن إرادتها.

واما الإرادة التشريعية ، فحيث انها متعلقة بفعل الغير ، فلا تستلزم تعلق إرادة أخرى بمقدماته.

وبعبارة أخرى ان الاستلزام في الإرادة التكوينية انما هو لأجل توقف فعله على المقدمة المتوقفة على ارادتها ، وهذا المناط ليس في الإرادة التشريعية ، بل المتعلق لها انما هو فعل الغير وتحت اختياره فلا موجب لتعلق إرادة أخرى بمقدماته.

وان شئت قلت ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بذي المقدمة الا بعد إيجاد المقدمة المتوقف على ارادتها ، فارادة ذي المقدمة متوقفة على إرادة المقدمة خارجا ، وهذا بخلاف الإرادة التشريعية كما لا يخفى.

__________________

(١) الظاهر أنه المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ١ ص ٤٧٢.

٢٢٠