زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

النفسي ، وهو ان موافقة امر المولى والاتيان بما تعلق به انما يكون تعظيما له ويكون هذا الفعل اظهارا لعظمة المولى ، فيكون مستحقا للثواب ، يحكم بأن الاتيان بالمأمور به بالامر الغيري يوجب استحقاق الثواب.

واما ما ذكر في وجه ذلك من ان الثواب على فعل المقدمة انما هو لكونه شروعا في اطاعة الامر النفسي.

فغير سديد : لعدم كونه شروعا في الاطاعة بل في مقدماتها.

كما ان ما ذكره المحقق الخراساني في وجه عدم الاستحقاق من ان موافقة الامر الغيري لا توجب قربا إلى المولى والمثوبة انما تكون من تبعات القرب.

غير تام : لما مر من انا لا نتصور معنى للقرب والبعد سوى اطاعة الله تعالى ، وعصيانه ، وعلى فرض كونهما بمعنى آخر لا يوجبان ، الثواب ، والعقاب.

بيان اشكال الطهارات الثلاث والجواب عنه

وبما حققناه اندفع احد الاشكالين الذين اوردا في الطهارات الثلاث ، وهو انه لا ريب في ترتب الثواب عليها مع ان الامر المتعلق بها غيرى.

واما الاشكال الثاني.

وهو انه لا ريب في ان الطهارات الثلاث عبادة مع ان الامر المتعلق بها غيرى وهو لا يوجب العبادية ، وقد ذكروا في تقريب هذا الاشكال وجهين احدهما : ان الامر الغيري غير ناش عن المصلحة في المتعلق وعن المحبوبية الذاتية وانما نشأ عن توقف محبوب عليه فهو لا يعقل ان يكون عباديا إذ لا

١٨١

مثوبة على موافقته من حيث هي ولا يوجب القرب إليه تعالى وليس له موافقة بالاستقلال وبعبارة أخرى ـ بما انه غير مقرب ولا شأن له بالاستقلال فهو لا يصلح ان يكون موجبا للعبادية.

والجواب عن ذلك ان العبادة ليست الا اتيان الفعل الصالح لان يضاف إلى المولى مضافا إليه ، ولا دخل للمصلحة في ذلك ، فإذا كان فعل متعلقا لامر الشارع صح الاتيان به مضافا إليه.

بل ستعرف تحقق العبادة بالاتيان بالمقدمة للتوصل إلى ذي المقدمة حتى بناءً على عدم تعلق التكليف الغيري بها.

الوجه الثاني : انه لا اشكال في ان الطهارات الثلاث اخذت عبادة مقدمة للصلاة مثلا فالامر الغيري متوقف على عباديتها. وحيث ان العبادية تحتاج إلى وجود الامر. فاما ان يكون تعلق الامر الغيري بها فيلزم الدور. أو يكون الموجب هو الامر النفسي المتعلق بها فهو فاسد. لانه يصح الاتيان بقصد امرها الغيري وان لم يلتفت إلى رجحانها الذاتي.

واجابوا عن ذلك باجوبة :

الجواب الأول ، ما افاده المحقق الخراساني (١) وحاصله ، ان عباديتها انما تكون للامر النفسي المتعلق بها وانما يكتفى بقصد امرها الغيري من جهة ان الامر لا يدعو الا إلى متعلقه ، والمفروض ان المتعلق مستحب في نفسه ، فقصد الامر

__________________

(١) كفاية الأصول ١١١ بتصرف.

١٨٢

الغيري في الحقيقة قصد لذلك الامر النفسي.

واورد عليه بايرادات :

الأول : ان ذلك لا يتم في التيمم لعدم كونه مستحبا نفسيا.

وفيه : ما حققناه في الجزء الثاني من فقه الصادق (١) ، من انه مستحب نفسي أيضا كالغسل والوضوء.

الثاني : ان الامر النفسي الاستحبابى يزول وينعدم عند عروض الوجوب الغيري.

وفيه : انه بناءً على ما هو الحق من ان الفارق بين الندب والوجوب ، وليس الا ان الأول رخص في ترك ما تعتلق به ، والثانى لم يرخص فيه ، لا معنى لانعدام الامر الاستحبابى ، بل لو عرض الوجوب يتبدل الترخيص في الترك بعدم الترخيص فيه ، فلا تنافى بين كونها محكومة بحكم واحد ذي ملاكين احدهما يقتضي المنع من الترك والآخر لا يقتضيه ، وبما : ان المقرب هو ذات الطلب لا بقيد انه مما رخص في تركه ، فيصح الاتيان بها حال كونها مقدمة لغاية واجبة إذا قصد التقرب بالامر الاستحبابى النفسي.

مع ان دعوى (٢) بقاء الاستحباب النفسي حتى بناءً على كون الفارق بين

__________________

(١) فقه الصادق ج ١ ص ٢١٢ وج ٣ ص ٢٣ وج ١٨ ص ٤١٦ من الطبعة الثانية.

(٢) الظاهر أن هذا مبنى المحقق النائيني في المسألة في أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٠ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦١.

١٨٣

الوجوب والندب اختلاف الطلب شدة وضعفا ، بحده ومرتبته بالفعل قوية : إذ الوجوب الغيري لم يتعلق بذات ما تعلق به الامر الاستحبابى حتى يندك احدهما في الآخر ، بل تعلق به بداعي الامر الاستحبابى فالموضوع متعدد فلا مانع من الالتزام بانهما موجودان بالفعل.

مضافا إلى انه لو سلم اندكاك الامر الاستحبابى فبما ان المعدوم ليس هو ذات الطلب بل حده ومرتبته ، والمقرب هو ذات الطلب لا حيثية ضعفه فيصح الاتيان بها بداعي ذات الطلب الموجود في تلك المرتبة الاستحبابية وان كانت تلك المرتبة متبدلة إلى مرتبة أقوى منها.

هذا كله مضافا إلى انه على فرض تسليم عدم بقاء الأمر الاستحبابي لا بذاته ولا يقيده ومرتبته فبما أن ملاكه موجود فيصح الإتيان به بداعي ملاكه فتدبر فانه دقيق.

الثالث : انه على هذا لا بد وان يقصد الأمر النفسي كي تقع عبادة ولا يكتفي بقصد أمرها الغيري مع انه لا كلام في انه يكتفي به في مقام الامتثال.

وأجاب هو (قدِّس سره) (١) بما أشرنا إليه في ضمن تقريب كلامه.

وحاصله ، أن الاكتفاء به إنما هو لأجل انه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث انه لا يدعو إلا إلى ما هي المقدمة.

وفيه : أن قصد الأمر ليس من الأمور الواقعية الملائم تحققها ، مع عدم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١١.

١٨٤

الالتفات ، بل قوامه إنما يكون بالالتفات فمن يكون غافلا عن تعلق الأمر النفسي بالوضوء ، أو معتقدا عدمه ، كيف يمكن أن يقال : إن قصد امر الغيري قصد لذلك الامر.

والحق في الجواب عن اصل الايراد ان يقال ، انه لا يعتبر في اتصاف الفعل بالعبادية سوى صلاحية الفعل للإضافة إلى المولى ، وإضافته إليه.

ولو بأن يؤتى به بقصد المحبوبية ، ففي المقام الطهارات الثلاث لفرض تعلق الامر النفسي بها ، صالحة للإضافة إلى المولى ، فلو أتى بها مضافة إلى المولى ولو بأن قصد أمرها الغيري وقعت عبادة.

ودعوى ، ان الجهة التي تفيد القرب أي الامر النفسي ، لم تقصد ، وما قصد وهو الامر الغيري لا يصلح لان يكون مقربا.

مندفعة ، بأن هذا الايراد إنما يكون مبتنيا على التقريب الأول لهذا الإشكال وقد عرفت الجواب عنه فراجع.

فتحصل ان جواب ، المحقق الخراساني عن إشكال الطهارات الثلاث متين لا يرد عليه شيء مما أورد عليه.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو أن الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة كالصلاة ، كما ان له تعلقا بأجزائها كذلك له تعلق بالشرائط المأخوذة فيها ، فلها أيضا حصة من الامر النفسي وهو الموجب لعباديتها

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٥ (والتحقيق بيان ذلك) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٥.

١٨٥

فالموجب للعبادية في الاجزاء والشرائط على نحو واحد.

ويرد عليه ما تقدم منا في أول مبحث مقدمة الواجب في تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية ، من ان الامر المتعلق بذي المقدمة ، لا تعلق له بالشرائط أنفسها أصلا.

الجواب الثالث : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان اعتبار التقرب فيها إنما يكون لأجل ان العناوين المنطبقة عليها التي بها صارت مقدمة للصلاة مثلا مجهولة وحيث انها تكون قصدية لا تتحقق في الخارج من دون تعلق القصد بها فلا مناص عن قصد امرها للاشارة إلى تلك العناوين المجهولة إذ الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه فقصد الامر الغيري انما يكون لكونه طريقا إلى قصد عنوان المأمور به لا لكونه معتبرا فيها.

وفيه : ان لازم هذا الوجه صحة الطهارات الثلاث ، لو قصد الامر الغيري وصفا لا غاية ، أو غاية لا بنحو تمام الداعي بل بنحو جزء الداعي ، أو قصد عنوان المقدمية مع كون الداعي غير قربى.

الجواب الرابع : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (٢) أيضا وتقريبه بنحو يسلم عن جميع ما أورد عليه من ما في الكفاية وغيرها ، ان عبادية الطهارات الثلاث ليست من ناحية الامر النفسي المتعلق بها ، ولا من ناحية الامر الغيري ،

__________________

(١) كما يظهر من مطارح الأنظار ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) راجع مطارح الأنظار ص ٧١ (الأمر الثاني) عند قوله : والكلام إنما هو في قصد التعبد بالمقدمة من حيث أنها مقدمة ... الخ.

١٨٦

بل انما تكون لأجل ان الغرض من الواجبات المتوقفة عليها ، لا يحصل إلا بإتيانها عبادة ومضافة إلى المولى بمعنى ان المقدمة ليست طبيعي الوضوء مثلا بل الوضوء الذي أتى به مضافا إلى المولى ، وحيث انه يمكن ان يضاف إلى المولى مع قطع النظر عن الامر النفسي والغيري ، بأن يؤتى به بداعي التوصل إلى ذي المقدمة ، وليس كالأفعال التي لا تصح إضافتها إلى المولى مع قطع النظر عن الامر ، فعبادية الطهارات لا تتوقف على تعلق الامر الغيري بها حتى يرد المحذور المتقدم ، بل الامر الغيري متعلق بالطهارات التي يؤتى بها عبادة ، ولكن حيث ان الامر الغيري متعلق بذواتها أيضا ، فيصح ان يؤتى بها بداعي ذلك الامر وبه يتحقق الجزء الآخر فتدبر.

فتحصل من مجموع ما ذكرناه ان عبادية الطهارات الثلاث لا تتوقف على الامر الغيري بل متوقفة على أحد أمرين : إما تعلق الامر النفسي بها كما هو كذلك ، وإما توقف ما يتوقف عليها على إتيانها عبادة.

واما اتصافها خارجا بالعبادية فإنما يكون بأحد أمور : إما قصد الامر النفسي المتعلق بها ، أو قصد التوصل بها إلى ذي المقدمة ، أو قصد أمرها الغيري على القول به.

بقى في المقام شيء وهو انه لو أتى بواحدة من الطهارات الثلاث بداعي التوصل بها إلى غاية خاصة كما لو توضأ لصلاة جعفر ، وبعد ما توضأ بدا له عن الإتيان بها ، فهل يصح وضوءه مطلقا ، أم لا يصح كذلك ، أم يفصل بين القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا يصح ، وبين القول بوجوب المقدمة مطلقا فيصح ، وجوه وأقوال.

١٨٧

وقد استدل المحقق النائيني (ره) (١) للقول الأخير : بأنه على القول بالمقدمة الموصلة عدم الإيصال الخارجي يكشف عن عدم تعلق الامر الغيري به وكان وجود الامر تخيلا من المكلف ، إما بناءً على عدم اعتبار الإيصال في وجوب المقدمة ، فيصح لوجود الامر.

ويرد عليه مضافا إلى انه خلاف مبناه فانه (ره) بنى على ان المصحح للعبادية ليس هو الامر الغيري بل الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة ، إذ عليه لا يتم هذا التفصيل لأنه لا فرق بين المسلكين بالنسبة إلى ذلك الامر كما لا يخفى.

انه قد عرفت : عدم انحصار المصحح للعبادية بالأمر الغيري ، وبناء على القول بالمقدمة الموصلة ، وان لم يكن تكليف غيري في الفرض متعلق بما أتى به ، إلا انه لأجل حصول القرب به خارجا لو أتى به لا بداعي ذلك الامر الغيري ، بل لأجل محبوبيته النفسية أو التوصل به إلى ذي المقدمة ، ولو مع عدم الامر به كما عرفت ، يصح الوضوء في الفرض على المسلكين : حتى وان لم يقصد شيئا منهما ، لكنه قد مر انه لا يعتبر في العبادة سوى ، صلاحية الفعل للتقرب الموجودة في المقام ، واضافته إلى المولى ولو من جهة غير منطبقة على ذلك الفعل.

مع ان قصد التوصل هو المصحح للعبادية المفروض تحققه في المقام ، وعدم الإيصال لا يكشف عن عدم صحة قصد التوصل ، ولا يوجب انقلاب الشيء

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٣ (يمضي في المقام شيء).

١٨٨

عما وقع عليه ، وان كان كاشفاً عن عدم الأمر الغيري ، وعدم الامر الغيري لا يلازم عدم صحة قصد التوصل ، كما ان عدم الإيصال لا يلازمه فتدبر فانه دقيق. فالأظهر هي الصحة مطلقا.

إذا عرفت هذه الجهات فتنقيح القول في هذا الفصل بالبحث في أمور.

الأقوال في وجوب المقدمة

الأول : لا شبهة ولا كلام في تبعية وجوب المقدمة ، لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط بناءً على ثبوت الملازمة بين الوجوبين فلو كان وجوب ذي المقدمة مطلقا لا بد وان يكون وجوب المقدمة أيضا كذلك ولو كان مشروطا كان وجوبها كذلك.

انما الكلام في انه إذا كانت الملازمة ثابتة ، فهل الواجب مطلق المقدمة ، أم يكون خصوص حصة خاصة منها. وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية على أقوال.

أحدها : ما نسب إلى صاحب المعالم (ره) (١) وهو اعتبار العزم والإرادة إتيان على ذيها.

__________________

(١) معالم الدين ص ٧١ قوله : «فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها.

١٨٩

ثانيها : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الواجب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب (١).

ثالثها : ما اختاره صاحب الفصول (ره) وهو ان الواجب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها (٢).

أما القول الأول فهو بظاهره بيِّن الفساد : إذ ان كان وجوب ذي المقدمة أيضا مشروطا بإرادة الإتيان به لزم طلب الحاصل ، مع انه يلزم الخروج عن كونه واجبا ، وصيرورته جائزا إذ لو لم يرد الإتيان به لما كان عليه شيء لعدم كونه واجبا ، وان لم يكن مشروطا بها ، لزم ان لا يكون وجوب المقدمة تابعا لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط.

واضف إلى ذلك ان وجوب المقدمة إذا كان مشروطا بارادة الاتيان بذي المقدمة لزم اشتراطه بارادة الاتيان بها أيضا ، إذ إرادة الاتيان بذي المقدمة لا تنفك عن إرادة الاتيان بالمقدمة ، فيلزم المحذور المتقدم.

ولعمري ان هذا من الوضوح بمكان لا ينبغي إطالة الكلام فيه ، واظن ان صاحب المعالم لم يرد ما هو ظاهر كلامه ، بل مراده كون إرادة ذي المقدمة من قيود الواجب لا الوجوب ، فيرجع إلى القول الثاني.

__________________

(١) وقد نسب هذه الأقوال لاصحابها المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٢ ص ٤٠٤ وسيأتي تخريجها عند التعرض لأقوال أصحابها إن شاء الله.

(٢) الفصول الغروية ص ١١٤.

١٩٠

اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل

واما القول الثاني : وهو اعتبار قصد التوصل إلى الواجب ، فهو وان نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) ولكن عبارات مقرر بحثه في المقام مشوشة (١). فإن ظاهر بعضها اعتبار قصد التوصل في تحقق امتثال الوجوب المقدمي. وظاهر بعضها الآخر اعتباره قيدا في خصوص المقدمة المحرمة المنحصرة. وظاهر بعضها الآخر اعتباره قيدا في متعلق الوجوب المقدمي مطلقا. فلا بد من البحث في جميع هذه المحتملات.

فإن كان نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى اعتبار قصد التوصل ، بالمقدمة في حصول الامتثال والتقرب بها ، فيرد عليه : ما تقدم في الطهارات الثلاث من ان عباديتها انما تكون بقصد التوصل إلى ذي المقدمة ، أو بقصد امرها النفسي ، أو بقصد امرها الغيري.

فما اعترف به المحقق الخراساني (ره) عند رده للتقريرات من انه على تقدير عدم الاستحباب النفسي يعتبر قصد التوصل.

ضعيف : لابتنائه على عدم قابلية الامر الغيري للمقربية وقد عرفت ما فيه.

وان كان نظره (قدِّس سره) إلى اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب

__________________

(١) كما وصفها المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٤ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٤٠ ، وللإطلاع على قوله راجع مطارح الأنظار ص ٧٢.

١٩١

المقدمي ، فقد استدل له : بأن المقدمة انما تجب بما أنها مقدمة ، وعنوان المقدمية ، من العناوين القصدية ، نظير التأديب ، والتعظيم ، فيلزم قصدها في انطباق الواجب عليها.

واورد عليه المحققان الخراساني (١) ، والنائيني (٢) بما حاصله ، ان المقدمية من الجهات التعليلية والفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة لا من الجهات التقييدية والعناوين التوليدية المنطبقة عليها حتى يلزم قصدها.

وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (ره) (٣) انتصارا للشيخ الأعظم ـ بما حاصله ـ يتوقف على بيان مقدمتين :

الأولى : ان الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها ، مثلا العقل ، لا يحسن ضرب اليتيم ، لغاية التأديب بل يحسن تأديبه.

وبعبارة أخرى الحيثيات التعليلية فيها راجعة إلى الحيثيات التقييدية.

الثانية : أنه يعتبر في اتصاف الفعل بالوجوب صدوره عن قصد وعمد ، وإلا فالفعل غير الاختياري ، لا يكون مصداقا للواجب.

إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فاعلم ان العقل لا يحكم بوجوب فعل لأجل مقدميته بل تكون المقدمية عنوانا للواجب ، ويكون المطلوب المقدمة من حيث

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٤ بتصرف.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٩.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٩٠ (والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها).

١٩٢

أنها مقدمة ، فإذا أتى بها من حيث مقدميتها كان ممتثلا للأمر الغيري ، وإلا فلا وان كان مسقطا للغرض ووقع مقدمة لعدم قصد عنوان المقدمية الذي عنوان للمطلوب على الفرض.

ويتوجه عليه ان هذا المطلب وان كان دقيقا ومتينا في الأحكام العقلية كان الحكم العقلي من الأحكام العقلية النظرية التي يعبر عنها بما لا بد وان يعلم ، أم كان من الأحكام العقلية العملية التي يكون مبدأ المبادئ فيها حسن العدل وقبح الظلم ، إلا ان ذلك غير مربوط بالمقام فانه في المقام وجوب المقدمة انما يكون بحكم الشارع ، غاية الامر ان هذا الوجوب الشرعي مستكشف من ضم حكم شرعي إلى الحكم العقلي النظر كإدراكه استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين فإذا كان واجبا بالوجوب الشرعي فلا يكون عنوان المقدمية مأخوذا في المتعلق إذ الملازمة انما تدعى بين وجوب ذي المقدمة ، ووجوب ما هو مقدمة بالجمل الشائع ، والمقدمية تكون واسطة لثبوت الوجوب على الذات.

فتحصل ان الأظهر ، عدم اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب الغيري.

وان كان نظره إلى دخل قصد التوصل في خصوص المقدمة المحرمة فقد وجه ذلك بوجهين.

الأول : ان المقدمة المحرمة إذا توقف عليها واجب أهم ، فغاية ما يقتضيه التوقف في مقام المزاحمة ارتفاع الحرمة عنها إذا أتى بها بقصد التوصل ، ومع عدم قصده لا مقتضى لارتفاع حرمتها.

الثاني : ان ملاك وجوب المقدمة ، هو التوقف والمقدمية ، ولازم ذلك هو

١٩٣

ترشح الامر الغيري إلى طبيعي ما يتوقف عليه الواجب ، ويكون المكلف مخيرا في تطبيق الطبيعي ، ولكن ذلك في صورة تساوى الأفراد بنظر العقل وإذا لم تكن متساوية فالعقل يحكم بلزوم تطبيق الطبيعي المزبور على خصوص الأفراد غير المشتملة على المنقصة ـ وعليه ـ فحيث ان المقدمة المحرمة التي يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة. إذا قصد بها ذلك تحقق مزية في نفس المقدمة ، وبها يضعف ملاك مبغوضيتها فالعقل مستقل بتعين اختيارها وتطبيق الطبيعي عليها.

وفيهما نظر :

أما الأول : فلان المزاحمة انما تكون بين وجوب ما يتوقف عليها ، وحرمة المقدمة ، ولفرض أهمية الواجب تسقط حرمة المقدمة من غير دخل لقصد التوصل فيه وعدمه.

نعم المزاحمة انما تقتضي سقوط حرمة المقدمة الموصلة لا مطلقها ، وستعرف ان الأقوى اختصاص الوجوب الغيري أيضا بها فانتظر لذلك مزيد توضيح.

واما الثاني : فيرد عليه مضافا إلى ما تقدم من ان المزاحمة انما هي بين حرمة المقدمة ووجوب ما يتوقف عليها.

ان قصد التوصل لا يكون موجبا لكون المقدمة ذات فردين كي يترتب عليه لزوم تطبيق الطبيعي على الفرد الراجح بل هو وعدمه حالتان للواحد الشخصي وغير دخيلين في مقدميته فلا وجه لاعتباره.

مع ان رجحان قصد التوصل ليس بحد اللزوم ، وإلا لزم الامر به في كل

١٩٤

مقدمة وان لم تكن محرمة ، فلا يستقل العقل إلا برجحان تطبيق الطبيعي عليه لا لزومه.

فتحصل ان اعتبار قصد التوصل في المقدمة مما لا يمكن الالتزام به.

المقدمة الموصلة

واما القول الثالث : وهو قول صاحب الفصول (ره) (١) ، من ان الواجب من المقدمة الحصة الموصلة أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها فقبل تنقيح القول فيه ، ينبغي ان يعلم :

ان محل الكلام ليس كون الإيصال شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخر ، أو المقارن ، وذلك لان الثاني لازمه طلب الحاصل : إذ لازمه عدم اتصافها بالوجوب إلا بعد الاتيان بها وحصول الوصول إلى ذي المقدمة ، واما الأول فلان لازمه تعليق الوجوب ، على الإرادة فانه في ظرف عدم الاتيان بها بما انه يستلزم عدم الإيصال فلا تكون واجبة فيكون الوجوب مقيدا بصورة الاتيان.

وبعبارة أخرى : لازم ذلك عدم تصوير المخالفة لمثل هذا التكليف فانه لا مخالفة إلا في صورة عدم الاتيان بمتعلقه ، والمفروض في المقام انه في صورة عدم الاتيان لا وجوب لعدم حصول الشرط فلا مخالفة. ومعلوم ان جعل مثل هذا

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٩١ قوله : «إن المقدمة الواجبة هي ما يتوقف على فعلها فعل الواجب لا يتوقف فعله على فعلها بنية الوجوب».

١٩٥

الحكم لغو وغير صحيح. إذ التكليف انما يتوجه لإحداث الداعي للعبد. ولا يحدث الداعي إذا لم يكن في ترك المتعلق مخالفة المولى.

وبذلك يظهر بطلان القول بكون الإيصال قيد للوجوب على نحو لا يجب تحصيله كما لا يخفى.

فمحل الكلام هو كون الإيصال من قيود الواجب بنفسه ، أو لكونه مشيرا إلى الحصة الخاصة مع كونه لازم التحصيل.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه ، قد استدل للقول : بعدم اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.

الأول : ما في الكفاية (١) ـ وحاصله ـ ان الغرض المترتب على المقدمة الداعي إلى ايجابها هو التمكن من وجود ذي المقدمة ، وهذا كما يترتب على المقدمة الموصلة كذلك يترتب على غير الموصلة فلا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص القسم الأول.

وتوهم ان الغرض هو ترتب ذي المقدمة ، فاسد : إذ هو ربما لا يترتب على مجموع المقدمات فضلا عن واحدة منها ، والغرض من الشيء ما يترتب عليه ويكون أثره ولا ينفك عنه.

وفيه : ان الغرض من المقدمة الداعي إلى ايجابها ، ليس هو التمكن من ذي المقدمة ، فانه اثر التمكن من إتيان المقدمة لا الاتيان بها ، ولذلك يتعلق

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٥ ـ ١١٦ بتصرف.

١٩٦

الوجوب به ، ومنه يترشح الوجوب إلى المقدمة ، فليس الغرض من إيجاب المقدمة التمكن من إتيان ذي المقدمة.

فإن قلت : ان الغرض منه الإمكان القياسي أي حفظ وجود ذي المقدمة من ناحية هذه المقدمة ، وسد باب عدمه من هذه الجهة ، وهذا اثر مشترك بين الموصلة وغيرها.

قلت : ان ذلك خلاف الوجدان ، فانه أقوى شاهد على ان الباعث إلى إيجاب المقدمة انما هو ترتب ذي المقدمة عليها ، وهو الموجب لمحبوبيتها التبعية لا حفظ وجود ذي المقدمة من ناحيتها ، فانه بنفسه لا يكون محبوبا للمولى فكيف يصير سببا لمحبوبية ما يترتب عليه.

الثاني : ما في الكفاية أيضا (١) ، وحاصله : انه بعد الاتيان بالمقدمة يسقط الامر بها ، وسقوطه إما ان يكون بالعصيان أو بارتفاع موضوع التكليف ، أو بالموافقة ، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

وفيه : انه بناءً على القول بخصوص الموصلة نختار انه يسقط امرها مراعى بالإتيان بذي المقدمة كما هو الحال في كل امر نفسي أو غيري ضمني.

مثلا : الامر بالتكبيرة لا يسقط بمجرد الاتيان بها رأسا ، ولا يكون الاتيان عصيانا له ، ولا من باب ارتفاع الموضوع ، بل يكون سقوطه مراعى بإتيان سائر الاجزاء.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٧.

١٩٧

الثالث : ما يظهر من كلمات المحقق الخراساني (١) في رد صاحب الفصول ، وهو ان القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يستلزم الدور.

وتقريبه انما يكون بطريقين.

أحدهما ان الإيصال امر انتزاعي ينتزع من وجود ذي المقدمة ، فإذا كان دخيلا في المقدمة ، لزم ان يكون ذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، إذ على فرض عدم تحققه ، لا تتحقق المقدمة ، وحيث ان المقدمة مقدمة له فيلزم الدور.

الثاني : ان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذي المقدمة ، ولازم القول باختصاص الوجوب بالموصلة ترشح الوجوب عن المقدمة إلى ذي المقدمة لفرض توقف قيدها وهو الإيصال عليه وهذا دور واضح.

ويرد على كلا التقريبين ، ان عنوان الموصلية انما ينتزع من المقدمة عند بلوغها مرتبة يمتنع انفكاكها عن ذي المقدمة ، فهو ملازم لترتب ذي المقدمة لا انه ينتزع منه.

وان شئت قلت ان هذا الوجه لا يصلح لدفع القول بالموصلة ، بمعنى ان الواجب هو المقدمة الموصلة لا بقيد الإيصال بل ذات ما تكون موصلة ويشير بهذا إلى تلك الحصة الخاصة.

مع انه يرد على التقريب الأول ان اعتبار الإيصال لا يستلزم كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة ، إذ الإيصال قيد زائد معتبر في المقدمة لا دخيل في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٨ بتصرف.

١٩٨

المقدمة. وان شئت قلت ان فعلية المقدمة ملازمة لوجود ذي المقدمة لا متوقفه عليه.

ويرد على التقريب الثاني : ان اخذ قيد الإيصال في المتعلق لا يستلزم ترشح الوجوب النفسي لذي المقدمة من وجوب المقدمة كي يلزم الدور ، بل اللازم هو ترشح وجوب غيري آخر من وجوب المقدمة إلى ذي المقدمة ، ولا محذور في ذلك ، سوى توهم لزوم اجتماع المثلين وهو يندفع بالالتزام بالتأكد.

الرابع : ان لازم هذا القول ان لا تحصل الطهارة من الطهارات الثلاث إلا بعد إتيان ذي المقدمة كالصلاة لأنها لا تحصل إلا بعد امتثال الامر الغيري ، والمفروض انه لا يحصل إلا بعد إتيان الصلاة فيلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة ، بل يلزم عدم تحقق الطهارة بعد الصلاة أيضا إذ هي بدون الطهارة كعدمها.

وفيه : انه لا تلازم بين عدم سقوط التكليف الغيري رأسا وعدم حصول الطهارة فإنها انما تحصل. من الغسلتين والمسحتين مثلا مع قصد القربة ، وان لم يسقط التكليف الغيري رأسا.

وهناك وجوه أخر : ذكروها لعدم اختصاص الوجوب بالموصلة ولأجل وضوح دفعها أغمضت عن ذكرها.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) بعد اختياره عدم إمكان تخصيص الوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٤١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٥٠ في معرض رده على الشيخ الأعظم.

١٩٩

بخصوص الموصلة لبعض الوجوه المتقدمة ، قال ان الإطلاق أيضا محال لان الإطلاق والتقييد انما يتقابلان تقابل العدم والملكة ثبوتا وإثباتا فامتناع التقييد ، يستلزم امتناع الإطلاق. فلا مناص عن الإهمال.

وفيه : ما تقدم في مبحث التعبدي والتواصلي من ان امتناع التقييد إذا كان لأجل امتناع تخصيص الحكم بخصوص مورد خاص كتخصيص الولاية بالعالم الفاسق ، يكون تخصيص الحكم بما يقابله ، أو الإطلاق ضروريا ، فإذا لم يحتمل اختصاصه بما يقابله لا محالة يكون الإطلاق ضروريا.

وفي المقام بما ان امتناع التقييد انما هو لامتناع تخصيص الحكم بخصوص الموصلة ، ولا يحتمل اختصاص الوجوب بغير الموصلة ، فلا محالة يكون الإطلاق ضروريا ، ولكن عرفت عدم استحالة التقييد فراجع.

وقد استدل لاختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.

الوجه الأول : ما أفاده الأستاذ الأعظم (ره) (١) وهو ان كل مقدمة ليست واجبة بوجوب غيري مستقل ، بل كما ان ذا المقدمة واجب بوجوب واحد وان كان مركبا من أجزاء كذلك المقدمات بأجمعها واجبة بوجوب واحد غيري ، إذ الغرض المترتب على المجموع وهو التوصل إلى ذي المقدمة وتحققه في الخارج واحد ، وينبسط ذلك الامر الغيري المتعلق بمجموع المقدمات التي من جملتها الاختيار ، بناءً على ما هو الحق من اختياريته ، على كل مقدمة انبساط الوجوب.

__________________

(١) يظهر مختار آية الله الخوئي بمراجعة الحاشيتين من أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٧ و ٢٣٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٤٥ و ٣٤٧

٢٠٠