زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

وأقول يرد على ما أفاده أمران :

الأول : ما تقدم من ان القيد في الواجب المشروط يرجع إلى الهيئة لا إلى المادة المنتسبة فراجع.

الثاني : انه لو سلم ذلك :

يدفع الوجه الأول : بأن المتيقن في المقام هو رجوع القيد إلى ذات المادة الملاءمة مع الواجب المشروط والمطلق ولكن في الواجب المطلق لا يكفي مجرد ذلك ، بل لا بد وان يرجع القيد إليها قبل الانتساب وهذا ليس متيقنا.

وبعبارة أخرى : الواجب المطلق كالواجب المشروط يحتاج إلى بيان اكثر من ذكر القيد ، وهو رجوعه إلى المادة قبل الانتساب ، فلا يكون هو متيقنا ، لو دار الأمر بين رجوعه إليها قبل الانتساب أو بعده ، فيكون الدوران بين المتباينين.

ويدفع الوجه الثاني : انه كما يحتاج الواجب المشروط ، إلى لحاظ القيد مفروض الوجود وأخذه كذلك ، ، كذلك يحتاج الواجب المطلق إلى أخذه في حيز الخطاب فليس أحدهما متيقنا.

فتحصل انه لا ظهور يتمسك به في مقام الشك وعند دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية وقد عرفت ما يقتضيه الأصل.

الواجب النفسي والغيري

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى النفسي والغيري.

١٦١

وتنقيح القول بالبحث في موضعين :

الأول : في تعريف النفسي والغيري.

الثاني : في انه إذا دار الأمر بين كون واجب كغسل الجنابة نفسيا أو غيريا ولم يحرز شيء منهما فهل القواعد والأصول تقتضي البناء على الأول أو الثاني.

وقبل الدخول في البحث لا بد وان يعلم انه تظهر ثمرة هذا البحث فيما إذا علم وجوب شيء كغسل الجنابة ولم يعلم ان وجوبه نفسي فيجب مطلقا ، أو غيري للصلاة وغيرها ، فلا يجب ما لم يجب ما يحتمل كونه واجبا لاجله فإذا لم تجب الصلاة لمانع من حيض أو غيره لا يجب.

وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذا البحث.

اما الموضع الأول : فقد ذكروا في تعريف النفسي والغيري أمران :

أحدهما : ما عن التقريرات نسبته إلى القوم وهو ان الواجب النفسي هو ما امر به لنفسه ويكون واجبا لا لأجل واجب آخر ، والغيري ما امر به لغيره ويكون وجوبه لغيره (١).

واورد عليه أيضا على هذا يكون جل الواجبات واجبات غيرية (٢) فإنها إمكانه وجبت لما فيها من المصالح.

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٦٦ من قوله (فاعلم انه قد فسر في غير واحد منهم الواجب النفسي بما امر به لنفسه ... الخ).

(٢) الظاهر ان هذا الايراد للمحقق الآخوند في الكفاية ص ١٠٨ (فالأولى ان يقال).

١٦٢

وبعبارة أخرى ان هذا التعريف غير جامع لعدم شموله لغير المعرفة.

وغير مانع لان غير المعرفة من الواجبات النفسية قد امر بها لأجل ترتب مصالح عليها.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم بأن تلك المصالح وان كانت محبوبة لزوما الا أنها لخروجها عن تحت قدرة المكلف لما كان يتعلق بها الإيجاب.

ورد المحقق الخراساني (ره) (١) هذا الجواب بأن تلك الغايات وان كانت غير مقدورة بلا واسطة الا أنها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة وبديهي ان القدرة على السبب قدرة على المسبب وإلا لم يصح وقوع مثل التطهير والتزويج إلى غير ذلك من المسببات مورد الحكم من الأحكام الشرعية.

ووجه المحقق النائيني (ره) (٢) جواب الشيخ بما حاصله ان الغايات المترتبة على أفعال المكلفين على ثلاثة أصناف.

١ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط امر اختياري أو غير اختياري كالزوجية المترتبة على العقد.

٢ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط امر اختياري خاصة كالصعود على السطح الذي يكون واسطة بين نصب السلم والكون على السطح.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٨ (قلت : بل هي داخلة تحت القدرة).

(٢) نقل هذا التوجيه عن المحقق النائيني تلميذه المحقق السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ٢ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، وأيضا تجده في أجود التقريرات بعبارات أخرى ، المصدر الآتي.

١٦٣

٣ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط امر خارج عن اختيار الإنسان ، فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعد إلى المعد له لا نسبة السبب إلى المسبب.

كحصول الثمر من الزرع المتوقف ترتبه على الأفعال الاختيارية من زرع الحب في الأرض وسقيها وما شاكل ، على مقدمات أخر خارجة عن تحت الاختيار.

وتعلق التكليف بالغايات إمكانه يصح في الصنفين الأولين.

ولا يتم في الثالث لخروجه عن تحت الاختيار ، وما نحن فيه من هذا القبيل لان نسبة الأفعال الواجبة إلى المصالح المترتبة عليها نسبة المعد إلى المعد له حيث يتوسط بينهما أمور خارجة عن اختيار المكلف فجواب الشيخ تام.

واورد عليه سيدنا الأستاذ (قدِّس سره) (١) بأن ما أفاده وان تم بالقياس إلى الغرض الأقصى والغاية القصوى الا انه لا يتم بالإضافة إلى الغرض القريب وهو حيثية الإعداد للوصول إلى الغرض الأقصى حيث انه لا يتخلف عنها ، فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على علته التامة.

وفيه : ان المطلوب بالأصالة هو الغرض الأقصى وهو الموجب لجعل الوجوب على الأفعال ، وحيث ان ترتبه على الواجب ترتب المعلول على علته المعدة ، فلا محالة لا يصح تعلق التكليف به لخروجها عن تحت القدرة.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٧ حاشية رقم ١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٣ حاشية رقم ٢ بتصرف.

١٦٤

ويمكن توجيه ما أفاده الشيخ (ره) بوجه آخر غير ما أفاده المحقق النائيني (ره) الذي عرفت انه متين ، وهو انه يعتبر في تعلق التكليف بشيء زائدا على القدرة على متعلقه ، ان يكون أمرا عرفيا وقابلا لان يقع في حيز التكليف بحسب أنظار العرف.

وتلك المصالح والأغراض ليست مما يفهمه العرف العام كي خارجة عن أذهان عامة الناس ومجهولة.

فالمتحصل تمامية تعريف الواجب النفسي أيضا واجب لا لواجب آخر وان كان وجوبه لشيء آخر ، والواجب الغيري ما وجب لواجب آخر ، وان شئت فقل ان المولى إذا لاحظ الفعل ورأى انه يترتب عليه مصلحة واوجبه حفظا لها فهو الواجب النفسي ، وان رأى ان الواجب الآخر يتوقف عليه وإلا فلا مصلحة فيه نفسه فهو الواجب الغيري. فالواجب النفسي ما وجب حفظا للمصلحة ، والغيري ما وجب لواجب آخر وإرادة أخرى. وان جواب الشيخ تام.

وأجاب السيد المرتضى (١) عن الإيراد بجواب آخر.

وهو ان المسبب التوليدي وسببه ليسا فعلين صادرين عن المكلف بل هما يتحققان

__________________

(١) راجع الذريعة ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٥ (فصل في هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به) عند قوله : ومما يوضح ذلك أن الأمر في الشريعة قد ورد على طريق ، وما أورد المصنف هنا هو الضرب الثاني بتصرف.

١٦٥

بفعل واحد وحركة واحدة مثلا ، الإحراق والإلقاء في النار موجودان بفعل واحد وحركة فاردة فلا يعقل تعلق تكليفين بهما ، بل التكليف المتعلق بهما واحد والذي يتعلق بأحدهما عين ما يتعلق بالآخر وعليه فالأمر وان تعلق بالمصلحة الا انه عين تعلقه بالفعل فلا يصح ان يقال ان الفعل إنما وجب لواجب آخر وهذا بخلاف الواجب الغيري.

ويرد عليه ما تقدم من ان نسبة الأفعال إلى المصالح ليست نسبة الأسباب إلى المسببات بل نسبة المعد إلى المعد له.

مع انه قد عرفت ان المصالح من جهة أخرى لا تكون قابلة لتعلق التكليف بها.

الأمر الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) ، وهو ان الواجب النفسي ما كان وجوبه لأجل حسنه في حد ذاته سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن والواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل غيره سواء أكان في نفسه أيضا حسنا كالطهارات الثلاث أم لم يكن.

ثم قال ولعله مراد من فسرهما بما امر به لنفسه وما امر به لأجل غيره.

وبعبارة أخرى ان ، ملاك الواجب النفسي حسن ذي الأثر من جهة انطباق عنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله بل وذم تاركه سواء كان مقدمة لواجب آخر أم لا ، وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره وان كان في نفسه أيضا حسنا كالطهارات الثلاث.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٨ بتصرف.

١٦٦

ويرد عليه أولاً : ان العنوان الحسن المنطبق ان كان ناشئا عن ترتب المصلحة عليه ، فالإشكال باق بحاله ، فإن هذا العنوان يكون منطبقا على الواجب الغيري أيضا ، وان كان ثابتا في حد ذاته فيلزم ان لا يكون شيء من الواجبات النفسية متمحضا في النفسية لاشتمالها بأجمعها على ملاكين نظير صلاة الظهر الواجبة لنفسها ولكونها مقدمة لصلاة العصر وأفعال الحج فإن المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة لغيره.

وثانياً : ان دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات دعوى جزافية لا دليل عليها من الشرع ولا من العقل.

بل الدليل إنما دل على عدمه فإن الدليل الشرعي متضمن لبيان علل الشرائع وهي المصالح المترتبة على الواجبات.

وقد يتوهم ان في المقام قسما آخر من الواجب لا يكون نفسيا ولا غيريا ـ وذلك ـ كالمقدمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلا لصوم غد.

اما عدم كونه واجبا غيريا فلان وجوب الواجب الغيري معلول لوجوب واجب نفسي ومترشح منه فلا يعقل وجوبه قبل ايجابه.

واما عدم كونه واجبا نفسيا فلان الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب والمفروض ان ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه.

ولكن يرده مضافا إلى ما سيأتي من استحقاق العقاب على ترك الواجب الغيري ان وجوب تلك المقدمات إنما هو تحفظا لواجب آخر وعرفت ان هذا هو الملاك لكون الواجب واجبا غيريا.

١٦٧

لو دار الأمر بين كون الواجب نفسيا أو غيريا

واما الموضع الثاني : وهو ما لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما خاصة ، فيحمل الأمر عليه حتى يثبت الآخر. أم لا؟.

والبحث فيه يقع في مقامين :

الأول : في الأصل اللفظي.

الثاني : في الأصل العملي.

اما المقام الأول : فيمكن التمسك بإطلاق دليل ذلك الواجب الذي يحتمل ان يكون هذا واجبا لاجله كدليل الصلاة أو نحوها ، لدفع احتمال كون هذا المشكوك فيه المردد بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا قيدا له.

ولازم ذلك كونه واجبا نفسيا.

بيان ذلك : انه إذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الواجب كالصلاة بقيد ، فيتمسك بإطلاق دليل الصلاة لإثبات عدم تقييدها به ، ولازم ذلك هو عدم كون ما شك في قيديته واجبا غيريا ، وقد ثبت في محله ان الأصول اللفظية تثبت لوازمها.

والمشهور هو التمسك بإطلاق دليل وجوب ما علم وجوبه وتردد أمره بين كونه واجبا غيريا ، أو نفسيا كإطلاق ما تضمن الأمر بغسل الجنابة ، ويثبت به وجوبه النفسي.

١٦٨

توضيح ذلك ان الواجب النفسي وان كان في عالم الثبوت كالواجب الغيري مقيدا بقيد حيث انه الواجب لما يترتب عليه من المصلحة وليس هو الواجب المطلق غير المقيد ، الا انه في مقام الإثبات ، بما ان الواجب النفسي لا يحتاج إلى التنبيه على قيده ، بخلاف الواجب الغيري ، فلو كان غسل الجنابة واجبا نفسيا لما احتاج إلى أزيد من الأمر به ، بخلاف ما إذا كان واجبا غيريا فانه يحتاج إلى التنبيه على ان وجوبه مقيد بما إذا وجب ذلك الغير ، فمقتضى الإطلاق ومقدمات الحكمة البناء على انه واجب نفسي.

واورد عليه ، تارة بأن مفاد الهيئة معنى حرفي وهو جزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فلا يصح التمسك بإطلاقها (١).

وأخرى بأنه لا ريب في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الهيئة ، ومن المعلوم ان الشيء لا يتصف بالمطلوبية الا بواسطة تعلق واقع الطلب وحقيقة الإرادة به لا بتعلق مفهومه به.

فيستكشف من ذلك ان مفاد الهيئة فرد ، وهو لا يقبل التقييد ، وكلا الايرادين منسوبين إلى الشيخ الأعظم (ره) (٢).

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ص ٤٨ ـ قوله : فعلى ما ذكرنا سابقا لاوجه للقول بتقيد الهيئة إذا لا يتصور في مفاد الهيئة إطلاق ـ

(٢) كما هو الظاهر من مطارح الأنظار ص ٦٧ قوله : «ولا حاجة إلى إقامة دليل على ذلك بعد شهادة الوجدان بأن المستفاد من الأمر خصوص أفراد الطلب من غير فرق بين اختلاف الدواعي التي تعتور باعتوارها النفسية والغيريَّة فلا وجه للاستناد إلى إطلاق

١٦٩

ولكن يندفع الإيراد الأول بما تقدم في الواجب المشروط ، وفي المعنى الحرفي من ان مفاد الهيئة ليس جزئيا ، مع : انه أمكن للشيخ إنكار الواجب المشروط لهذه الشبهة ، ولكنه لا ينكر الواجب الغيري فلا محالة يلتزم برجوع القيد إلى نتيجة الجملة وهو وجوب ذلك الشيء المستفاد من الدليل ، وعليه فيتمسك بإطلاقها لنفيه.

واما الإيراد الثاني : فقد أجاب عنه المحقق الخراساني (ره) (١) بقوله ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي والذي يكون بالجمل الشائع طلبا وإلا لما صح إنشاؤه بها ضرورة انه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لانشائه كما يكون غيره أحيانا واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقية الداعية إلى إيقاع طلبه وإنشاء إرادته بعثا

__________________

الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد ، نعم لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صح القول بالإطلاق لكنه بمراحل عن الواقع إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب نعم يصح التمسك بالإطلاق من جهة المادة.

(١) كفاية الأصول ص ١٠٩.

١٧٠

نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافى اتصافه بالطلب الإنشائي أيضا والوجود الإنشائي لكل شيء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظ كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن بل كان إنشائه بسبب آخر انتهى.

وحاصل ما يفيده ان اتصاف الفعل بالمطلوبية الحقيقية ليس بواسطة دلالة الصيغة على الطلب الحقيقي فحسب.

بل الفعل يتصف بالمطلوبية الإنشائية بحسب مدلول الصيغة ، وإنما يتصف بالمطلوبية الحقيقية نظرا إلى انه إذا لم يكن قرينة على كون الداعي إلى الإنشاء هو غير الطلب ، يكون بناء العقلاء على البناء على انه الداعي ، ولذا لو كانت قرينة كذلك لا يتصف الفعل إلا باعتبار الطلب المفهومي.

وإذا أحرزت الطلب الحقيقي من غير إنشائها اتصف باعتباره دون المفهومي.

أقول : ما يمكن ان يقال في مفاد الهيئة ومفهوم الطلب ومصداقه تقدم مفصلا ولا نعيد ، والذي نزيد في المقام ان التمسك بالإطلاق في المقام لا يبتنى على كون مفاد الهيئة فردا أم كليا حتى ينازع في ذلك : فانه على كلا المسلكين لا سبيل إلى التمسك بالإطلاق الافرادي ، اما على الأول فواضح ، واما على الثاني فلأنه لا يحتمل ان يكون المفاد متعددا إذ المنشأ فرد من الوجوب لا أزيد ، كما انه على المسلكين يصح التمسك بالإطلاق الاحوالي للفرد كما هو واضح.

وتوهم ان مفاد الهيئة لكونه معنى حرفيا مغفولاً عنه فلا يعقل توجه الإطلاق والتقييد إليه.

١٧١

فاسد لما حققناه في محله من ان المعاني الحرفية ملحوظات استقلالا وليست بمغفول عنها.

واما المقام الثاني : وهو التمسك بالأصول العملية عند عدم وجود الأصول اللفظية.

فهي تختلف باختلاف الموارد ، توضيح ذلك انه مع الشك في كون فعل واجبا نفسيا أو غيريا ، تارة يعلم بتعلق الوجوب بما يشك في كونه مقيدا به ، وأخرى يشك في ذلك ، وثالثة يعلم بعدمه.

وفي الصورة الأولى ، تارة يعلم الوجوبين المفروضين من حيث الإطلاق والاشتراط ، وأخرى لا يعلم بذلك فها هنا صور أربع :

الأولى : ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك كون هذا قيدا له ، مع تماثل الوجوبين ، كما إذا علم بوجوب الغسل وشك في انه واجب نفسي أو غيري للصلاة ، وعلم فعلية وجوب الصلاة ، وأيضا علم اشتراط الوجوبين بالزوال.

وفي هذه الصورة اختار المحقق النائيني جريان البراءة عن تقييد متعلق ما علم كونه نفسيا بالواجب الآخر ، وانه يثبت بذلك نتيجة الإطلاق ، ففي المثال يكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالصلاة قبل الغسل ، والإتيان بها بعده.

واورد عليه الأستاذ الأعظم (١) بأن هذا الأصل ، يعارض أصالة البراءة عن

__________________

(١) حاشية أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٠ حاشية رقم ١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٨.

١٧٢

الوجوب النفسي المحتمل ثبوته للغسل ، إذ المتيقن ثبوته ، أصل الوجوب واما خصوصيته كونه نفسيا أو غيريا فهي مجهولة ، والعلم الإجمالي بثبوت إحدى الخصوصيتين يمنع عن جريان البراءة في كل منهما ، فاللازم هو الاحتياط ، والإتيان بالصلاة بعد الوضوء في المثال.

ولكن الحق ما أفاده المحقق النائيني ، إذ لا يجري الأصل عن كون الوجوب نفسيا ، لعدم ترتب الأثر الخاص على وجوبه النفسي ، لوجوب الإتيان بالغسل في المثال على التقديرين ، ويعاقب على تركه ، اما على المختار من استحقاقه العقاب على مخالفة الواجب الغيري فواضح ، واما على المشهور من عدم العقاب عليها فلأنه يعلم بالعقاب على تركه ، اما لكون وجوبه نفسيا ، أو لاستلزامه ترك الواجب النفسي وعليه ، فحيث يترتب على وجوبه الغيري اثر خاص ، وهو لزوم الإتيان بالصلاة بعد الوضوء ، فيجرى البراءة عنه بلا معارض.

الصورة الثانية : ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك في كون هذا قيدا له مع عدم العلم بتماثل الوجوبين ، كما إذا علم باشتراط خصوص الوجوب المعلوم كونه نفسيا ، واما الواجب الآخر المجهول حاله فيحتمل فيه من الإطلاق والاشتراط من جهة الشك في كون وجوبه نفسيا أو غيريا ـ كما ـ إذا لم يعلم في المثال ان وجوب الغسل مطلق بالقياس إلى الوقت ، أم مشروط وفي هذه الصورة يتصور الشك من جهات.

الأولى : من جهة الشك في تقيد الصلاة بالغسل ، والكلام في هذه الجهة هو الكلام في الصورة الأولى.

١٧٣

الثانية : من جهة الشك في وجوب ما تردد أمره بين كون وجوبه نفسيا ، أم غيريا قبل تحقق شرط ما علم كونه نفسيا ، فقد اختار المحقق النائيني (ره) (١) جريان البراءة عن وجوبه قبل تحقق ذلك الشرط فتكون النتيجة من هذه الجهة نتيجة الغيريَّة ، فيختص وجوب الغسل في المثال بما بعد دخول الوقت.

ولكن الأظهر عدم جريانها ، اما العقلية منها فللعلم بعدم ترتب العقاب على تركه قبل الزوال خاصة ، إذ المفروض ان وجوبه غير مختص بما قبل الزوال بل هو على فرض وجوبه نفسيا موسع ، واما الشرعية منها فلأنها انما تجري لرفع الكلفة الزائدة لا لرفع التوسعة وجريان البراءة في ذلك موجب للتضييق لا للتوسعة ، بل البراءة في المقام تجرى عن لزوم إيقاع ذلك العمل بعد الشرط فتكون النتيجة من هذا الجهة أيضا نتيجة النفسية.

وبذلك ظهر حكم الشك من الجهة الثالثة وهو عدم لزوم الإتيان به بعد الشرط لو أتى به قبله كما لا يخفى.

الصورة الثالثة : ما لو لم يعلم إلا وجوب ما يدور أمره بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا ، لاحتمال ان يكون في الواقع واجب آخر فعلى يتوقف حصوله على ما علم وجوبه إجمالا.

وفي هذه الصورة نسب المحقق النائيني (ره) (٢) إلى الكفاية التمسك بالبراءة في المقام ، واورد عليه بأن استحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب إما لنفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٠ (وأما الصورة الثانية) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٨.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧١ عند ذكر الصورة الثالثة وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٩.

١٧٤

أو لتوقف واجب فعلى عليه معلوم تفصيلا فيكون منجزا ، وان لم يكن ذاك الوجوب المحتمل ثبوته في الواقع منجزا من جهات أخر ، فإن عدم تنجزه من جهة لا ينافى تنجزه من جهة أخرى ، واصل البراءة لا ينافى فعليته واقعا وتنجزه بمقدار العلم ، بناءً على ما حقق في محله من صحة التفكيك في التنجز فلا تجرى البراءة في وجوب ما علم وجوبه المردد بين كونه نفسيا أو غيريا.

وما أفاده المحقق النائيني في نفسه حق لا ريب فيه ، إلا ان ما في الكفاية من الرجوع إلى البراءة هو في غير هذه الصورة ، بل مورد كلامه الصورة الرابعة الآتية ، واما هذه الصورة فهي داخلة في المورد الأول الذي اختار فيه عدم جريان البراءة.

الصورة الرابعة : ما إذا علم وجوب شيء في الشريعة كالوضوء وتردد أمره بين كونه واجبا نفسيا أم غيريا ومقدمة للصلاة التي لا تكون واجبة فعلا لمانع كالحيض.

وفي هذه الصورة تجرى البراءة عن وجوب الوضوء كما أفاده المحقق الخراساني (ره) إذ لو كان واجبا غيريا لما وجب فعلا. فيبقى الشك في وجوبه النفسي فتجرى البراءة عنه (١).

__________________

(١) ذكر هذه الصورة المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٢ ص ٣٨٩ وقال : هذا هو مراد المحقق صاحب الكفاية ، / أما في الكفاية فلم يذكر هذا التفصيل إنما قال : ومنها تقسيمه إلى النفسي ، ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، فالتحقيق أن الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمهما إلا أن إطلاقها

١٧٥

آثار الواجب النفسي والغيري

ثم انه يقع الكلام في آثارهما.

منها ما قيل من ، استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي ، واستحقاق العقاب على عصيانه ، وهما لا يترتبان على موافقة الأمر الغيري ومخالفته وتنقيح القول في مقامين :

المقام الأول : في الواجب النفسي.

المقام الثاني : في الواجب الغيري.

أما المقام الأول فالكلام فيه في موردين : أحدهما في العقاب ثانيهما في الثواب.

أما المورد الأول : فلا كلام في اصل استحقاق العقاب على مخالفته الأمر النفسي.

وانما الكلام في سبب ذلك. فالظاهر ، انه لا ريب في ان العقاب عليها ليس

__________________

يقتضي كونه نفسيا فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم. كفاية الأصول ١٠٨. وعلى هذا يظهر انه مع الشك يحمل على النفسي فيكون واجبا إلا أن واقع المثال ليس من هذا القبيل لعدم تمامية الإطلاق في المقام ومعه لا يتم النفسي ، والغيري معلوم العدم فيرجع الشك إلى الشك بالتكليف ولعل هذا هو مراد المحقق الخوئي.

١٧٦

لأجل عدم وصول المولى إلى غرضه لعلوه عما ينشأ من الجهة الحيوانية علوا كبيرا ، ولا لأجل عدم وصول العبد إلى الغرض المترتب على المتعلق إذ عدم تحصيل الغرض في نفسه لا يوجب استحقاق العقاب ، ولا لأجل تأديب العبد لئلا يعود إلى مخالفته المولى فإن هذا انما يحسن في دار التكليف لا في النشأة الآخرة التي ليست دار التكليف ، وليس لأجل إزالة القذارات الحاصلة بالمخالفة ليصير العبد لائقا لحضور مجلس السلطان وطاهرا قابلا لتنعمه بنعم دار الآخرة لعدم اجتماعه مع الخلود في العذاب فتدبر.

بل العقاب انما يكون بملاحظة أحد أمور ثلاثة.

الأول : بلحاظ جعل الشارع بدعوى ان قاعدة اللطف المقتضية لإرسال الرسل وانزال الكتب ، وبيان الأحكام واعلام العباد ما فيه الفساد أو الصلاح ، تقتضي تأكيد الدعوة في نفوس العامة بجعل العقاب.

الثاني : بملاحظة الحكم العقلي العملي الذي من شانه ان يدرك ما ينبغي فعله أو تركه أي القوة المميزة للحسن والقبح باعتبار مدركاته وهو يدرك ان مخالفة المولى خروج عن ذي الرقية ورسم العبودية فهو بذلك يصير ظالما وفاعل الظلم يستحق الذم من العقلاء والعقاب من الشارع بادراك من العقل.

الثالث : بملاحظة العلاقة اللزومية بمعنى ان أفعال العباد لما لها من الصور في هذا العالم تكون مادة لصور في عالم الآخرة ملائمة أو منافرة وتستعد لافاضة صورة كذائية ، ولكن الأخير مخالف لظاهر الآيات والروايات ، فالمتعين هو الأولان.

١٧٧

واما المورد الثاني : فالمشهور بين المتكلمين على ما نسب إليهم (١) ان الثواب انما هو بالاستحقاق والمفيد (ره) بنى على انه بالتفضل (٢) وتبعه المحقق النائيني وجمع من المحققين (٣).

واستدل المحقق النائيني (ره) (٤) له بأن إطاعة المولى والعمل على وفق العبودية لازم بحكم العقل وامتثال العبد لأوامر مولاه جرى منه على وظيفته لئلا يكون ظالما له وليس هو في عمله أجيرا للمولى حتى يستحق عليه شيئا.

ويرد عليه انه أخص من المدعى لاختصاصه بالواجبات ولا يعم المستحبات واستحقاق الثواب انما هو بملاك واحد.

والحق ان الثواب انما هو بملاحظة أحد أمور ثلاثة ، اما بلحاظ جعل الشارع ، أو بملاحظة درك العقل العملي ، أو بملاحظة العلاقة اللزومية على ما مر في العقاب ، واطلاق الاستحقاق بلحاظ الأول من جهة ان العبد بعمله بعد جعل الشارع يستحق ما جعله له ، وبلحاظ الثاني من جهة ان العبد بعمله يصير موردا للمدح بمعنى انه لو أثيب يكون الثواب واقعا في محله ، وبلحاظ

__________________

(١) نسبه في أجود التقريرات أنه المعروف بين الأصحاب ج ١ ص ١٧٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٠ ، ونسبه السيد الخوئي في الهداية في الأصول إلى المشهور ج ٢ ص ٨٣.

(٢) راجع كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد باب ١١٥ (القول في نعيم أهل الجنة أهو تفضل أو ثواب) ص ١١١.

(٣) كما أفاده في أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٠.

(٤) المصدر السابق في أجود التقريرات.

١٧٨

الثالث من جهة اقتضاء المادة القابلة لافاضة الصورة الكذائية ، وحيث ان الثالث مخالف لظاهر الآيات والروايات والاصحاب غير ملتزمين بذلك فلا يبعد ان يكون النزاع لفظيا لان المراد من الاستحقاق الذي ينفيه المفيد (ره) ومن تبعه هو اللزوم على المولى بحيث لو لم يثب على الطاعة فقد ظلم.

وبعبارة أخرى ثبوت حق للمكلف على المولى كما يثبت حق للمستاجر على المؤجر ، ولا اظن ان يكون هذا مراد المشهور من الاستحقاق ، بل الظاهر ان مرادهم به الاهلية واللياقة للثواب ، وان اعطاء الثواب للمطيع ليس كاعطائه للعاصي تفضلا صرفا بل ثواب واقع في محله.

وهذا المعنى من الاستحقاق لا اظن ان ينفيه المفيد ومن تبعه.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه في موردين الأول في العقاب ، الثاني في الثواب.

اما الأول : فقد ذهب جمع من المحققين إلى انه لا عقاب على مخالفة الامر الغيري من حيث هو. واستدل له بوجهين.

احدهما : ما افاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو ان العقاب دائر مدار البعد عن الله غير المتحقق عند مخالفة التكليف الغيري فلا عقاب عليها.

وفيه ان البعد المعنوي على فرض تعقله لا نتصور له معنى سوى معصية الله الصادقة على عدم الاتيان بما تعلق به التكليف الغيري ، مع انه لو سلم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٠ (تذنيبان) بتصرف.

١٧٩

كونه شيئا آخرا فالعقاب لا يترتب عليه وانما هو اثر لمخالفة المولى وعدم العمل بما عينه من الوظيفة.

واما ما افاده (١) في وجه العقاب بقوله لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة الخ.

فيرد عليه انه لو كان العقاب على مخالفة التكليف النفسي فما دام لم يخالف التكليف وان صارت المخالفة لازمة عليه لترك المقدمة لاوجه لاستحقاقه العقوبة لانه من قبيل القصاص قبل الجناية.

الوجه الثاني : ما افاده المحقق العراقي (ره) (٢) وهو انه لأجل عدم ترتب غرض عليه لا يعاقب على مخالفته.

وفيه ما تقدم آنفا من عدم دوران العقاب مدار الغرض ، وانما يدور مدار مخالفة المولى وعصيانه وهتك حرمته والتجاوز عن حد العبودية الصادقة على ترك المأمور به بالامر الغيري.

فالاظهر استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الغيري من حيث هو.

واما المورد الثاني : ففيه أيضا خلاف ، والاظهر هو ترتب الثواب على موافقة الامر الغيري ، وبعين الملاك الذي يحكم باستحقاق من وافق التكليف

__________________

(١) المحقق الآخوند المصدر السابق.

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٣٢٤ (الوجوب النفسي والغيري) قوله ثم إن المناط في استحقاق العقوبة في نظر العقل.

١٨٠