زبدة الأصول - ج ٢

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-35-7
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٢٦

حكم التعلم

واما المقام الثالث : فملخص القول فيه انه في التعليم والمعرفة مسالك ثلاثة.

الأول : ما ذهب إليه المحقق الاردبيلى (ره) وتبعه تلميذه صاحب المدارك ، وهو ان التعلم واجب نفسي تهيئي ، للنصوص (١) الدالة عليه ، وهو الاظهر عندنا كما سيأتي الكلام عليه في بحث الاشتغال ، ولازم ذلك هو وجوبه قبل

__________________

(١) نسب القول إلى المحقق الاردبيلي وصاحب المدارك ان التعلم واجب نفسي غير واحد منهم السيد الخوئي في كتابه الاجتهاد والتقليد بقوله «التجأ المحقق الاردبيلي ومن تبعه إلى الالتزام بالوجوب النفسي في المقام وذهبوا إلى ان التعلم واجب نفسي والعقاب انما هو على ترك التعلم نفسه لا انه على ترك الواجب الواقعي» ، كتاب الاجتهاد والتقليد ص ٢٩٥. ط دار الهادي ١٤١٠. وبعد مراجعة كلماتهم يمكن استظهار ذلك من مجمع الفائدة والبرهان من باب القراءة ، وصلاة الجمعة وفي الجزء السابع ص ٥٣٦ قال : «ويجب عليه التعلم ... لتحصيل الغرض». وفي معرض الحديث عن الصلاة في الدار المغصوبة قال : «فلا تبطل صلاة المضطر ولا الناسي بل ولا الجاهل لعدم النهي حين الفعل لان الناس في سعة ما لا يعلمون وان كان في الواقع مقصرا او معاقبا بالتقصير». ج ٢ ص ١١٠ (ويظهر منه ان الجاهل معاقب لعدم التعلم) واما صاحب المدارك فقد قال ج ٣ ص ٣٤٢ «ولا ريب في وجوب التعلم على الجاهل مع سعة الوقت لتوقف الواجب عليه». وقال في ج ٣ ص ٢١٩ : «اما الجاهل بالحكم فقد قطع الاصحاب بانه غير معذور لتقصيره في التعلم».

١٢١

حصول الشرط أيضا لعدم اختصاص تلك الادلة بالواجبات المطلقة والمشروطة بعد حصول ، الشرط ، بل تشمل المشروطة قبل حصول شرطها ، ويترتب على هذا القول استحقاق العقاب على ترك التعلم سواء صادف عمله الواقع ام لم يصادف.

ثانيها : ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو المنسوب إلى المشهور ، وهو ادراج المقام في المقدمات المفوتة وجعله من صغريات باب القدرة ، فملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ، ويترتب عليه ، ان وجوبه وجوب مقدمى ، بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، لكونه من متممات الخطاب بذى المقدمة ، ولازمه استحقاق العقاب على مخالفة الواقع.

ثالثها : ما اختاره المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان وجوبه طريقي من قبيل وجوب الاحتياط في موارد لزومه ، أي الوجوب الذي يكون بملاك التحفظ على ما في المتعلق للحكم الواقعي من المصلحة اللازمة الاستيفاء حتى عند الجهل.

وبعبارة أخرى المجعول تحفظا على الحكم الواقعي ، ويترتب عليه استحقاقه

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٥٤ وبعد بيانه المقدمة المفوتة وان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار قال : إلا ان التحقيق ان الممتنع بالاختيار ينافي الاختيار تكليفا وخطابا ولو كان ابتلائياً لعلم الممتنع عليه بامتناعه في حقه فلا يصلح للخطاب اصلا ، وانما لا ينافي الاختيار عقاباً كما ستعرف الوجه في ذلك ، فعلى هذا فالتارك المذكور معاقب ، ولكنه ليس مخاطباً وعقابه انما هو على عقاب تفويته التكليف على نفسه ..

(٢) أجود التقريرات ص ١٥٤ ـ ١٥٥ وفي الطبعة الجديدة ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

١٢٢

العقاب على ترك التعلم عند ادائه إلى مخالفة الواقع ، والفرق بينه وبين سابقه ظاهر.

وقد استدل المحقق الخراساني (١) لوجوبه قبل حصول شرط الوجوب بقوله ، من باب استقلال العقل بتنجيز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها الا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف فيستقل بعده بالبراءة انتهى.

وفيه : ان الاحتمال لا يزيد على العلم من حيث المنجزية للحكم ، فكما ان العلم بالتكليف المشروط قبل حصول شرطه موجب للتنجيز عند حصول الشرط مع بقائه على شرائط فعليته وتنجزه عند حصول الشرط فلذا لا عقاب على مخالفته مع عروض الغفلة عند حصول شرطه ، ولا يجب ابقاء الالتفات العلمي والتحفظ على عدم النسيان كذلك الاحتمال انما يوجب التنجيز في وقته مع بقائه على صفة الالتفات إلى حين تنجز التكليف ولا يجب بقاؤه بالتحفظ على عدم الغفلة المانعة عن الفحص عنه.

واما الشيخ الانصاري (ره) (٢) فقد استدل لما اختاره بما دل على وجوب المقدمات التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه.

وسيأتي الكلام عليه عند بيان المختار.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٩ ـ ١٠٠

(٢) مطارح الأنظار ص ٥٤.

١٢٣

واما المحقق النائيني (ره) (١) فقد استدل لما اختاره بعد الاعتراض على الشيخ الأعظم (ره) بأن التعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب سلب القدرة ومن هنا كانت الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

بما حاصله ان العقل يستقل بأن لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى إظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع فوظيفته إرسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الاحكام ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذٍ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته ، ولو لا استقلال العقل بذلك لانسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعي النبوة ، وللزم افحام الانبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعي النبوة ، لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول لم اعلم بانك نبي.

وبالجملة كما يستقل العقل بلزوم النظر إلى معجزة من يدعي النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم احكام الشريعة ، والمناط في الجميع واحد وهو استقلال العقل بأن ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ كما لا يختص وجوب النظر في معجزة النبي به ، بل يجب ذلك قبل

__________________

(١) فوائد الأصول ج ١ ص ٢٠٥ (والحاصل). أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٧ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٢٩ (هذا في غير التعلم).

١٢٤

البلوغ ان كان مميزا ليكون اول بلوغه مؤمنا مصدقا بالنبوة ، وإلا لزم عدم وجوب الايمان عليه اول البلوغ ، ويجب تعلم الصبي احكام العبادة الواجبة عليه اول البلوغ إذا لم يتمكن منه في وقته لو ترك التعلم قبل البلوغ.

وفي كلامه موقعان للنظر يظهر ببيان ما هو الحق في المقام.

وتفصيله : ان ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يكون على اقسام :

احدها : ما لو تمكن المكلف مع تركه من تعلم الواجب بعد ذلك ، والامتثال العلمي التفصيلي ، كما لو ترك تعلم مسائل الحج قبل زمان وجوبه مع كونه متمكنا من تعلم احكامه تدريجا من الوقت الذي يحرم فيه إلى آخر أعمال الحج ، ومن الضروري انه لاوجه للقول بوجوب التعلم قبل دخول الوقت حينئذ على القول بعدم كون وجوبه نفسيا.

نعم بعد دخول الوقت لا يجوز له تركه مع عدم امكان الامتثال الاجمالي.

ويلحق بالقسم الأول :

ثانيها : وهو ما لو فرض انه لو ترك التعلم قبل الوقت لما تمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، الا انه كان متمكنا من الامتثال العلمي الاجمالي ، كما لو دار امر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام وكان بحيث لو ترك التعلم قبل الوقت لما تمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده ، ولكنه كان متمكنا من الاحتياط ، وكما لو لم يعلم بمقدار النفقة الواجبة عليه على فرض الزواج ولم يتمكن من معرفة ذلك بعده ، ولكنه كان متمكنا من الاحتياط ، بناءً على ما هو الحق من ان الامتثال الاجمالي انما هو في عرض الامتثال العلمي التفصيلي ،

١٢٥

فانه حينئذ لاوجه لوجوب التعلم قبل الزواج.

واما من حيث الامتثال في غير موارد دوران الامر بين المتباينين كما في المورد الثاني.

فقد يقال انه حيث يكون شاكا في التكليف فتجري البراءة عنه وان تمكن من الاحتياط فلا يجب عليه شيء.

لكنه توهم فاسد إذ بعد حصول الشرط بما انه يحتمل التكليف ، ولا محالة يحتمل العقاب على مخالفته ، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل.

بمعنى انه لو كان واجبا ولم يأت به أو كان حراما ففعل ، وعاقبه المولى ، يكون عقابه في محله فلا بد من الاحتياط.

فإن قيل انه ما المانع من جريان البراءة عن ذلك التكليف المحتمل ، ويرفع احتمال العقاب بها ، فيرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

اجبنا عنه بأن عدم جريان البراءة العقلية انما هو من جهة ان موضوعها عدم البيان ، وحيث ان بيان المولى ، ليس بايصال التكليف إلى العبيد باى نحو امكن ، بل انما هو بجعل القانون ، ووضعه في معرض الوصول ، بحيث لو تفحصوا عنه لوصلوا إليه ، فلا موضوع لها في المورد ، ومن لم يتفحص عنه مع التمكن منه قبل حصول الشرط لا يجري في حقه هذه القاعدة.

فإن شئت فاختبر ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فانه إذا ارسل المولى مكتوبا إلى العبد ، وعين فيه تكاليفه في الشهر القادم ، ووصل المكتوب إلى العبد

١٢٦

ولكنه لم ينظر إليه حتى يعرف وظائفه ، مستندا إلى انه لا تجب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وبعد تحقق الشرط لم يتمكن من المراجعة إليه وتمكن من الاحتياط ، ومع ذلك لم يحتط وترك واجباته ، فهل يتوهم احد بانه ليس للمولى ان يعاقبه على ذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والظاهر ان هذا من الوضوح بمكان ، واما عدم جريان البراءة الشرعية : فلما سيأتي في مبحث البراءة والاشتغال من انها لا تجري في الشبهات قبل الفحص مطلقا.

ثالثها : ان المكلف لو ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يتمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، كذلك لا يتمكن من الامتثال الاجمالي بعد الوقت ، ويكون متمكنا من الاتيان بذات الواجب أي الامتثال الاحتمالى ، كما إذا فرض ان الوقت ضيق لا يتمكن المكلف الا باتيان احدى الصلاتين ، الجمعة أو الظهر ، والقصر أو الاتمام ، وفي هذا القسم يجب التعلم لانه يحتمل ترك الواجب في ظرفه لو ترك التعلم قبل حصول الشرط ويكون احتمال ذلك مستندا إلى ترك التعلم فيجب التعلم ، لا للمقدمية ، ولا لما افاده الشيخ الأعظم (ره) ، مما دلَّ على وجوب المقدمة التي لو تركت قبل الوقت لما تمكن من امتثال الواجب في ظرفه كالسير إلى الحج.

بل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل حيث انه لاحتمال ترتب ترك الواجب على ترك التعلم يحتمل العقاب على المخالفة ولا مؤمن منه فيحكم العقل بوجوب الدفع ، وهو لا يمكن الا بالتعلم قبل الوقت.

رابعها : ما لو كان ترك التعلم قبل الوقت موجبا لترك الواجب في ظرفه ، اما للغفلة عن التكليف ، أو لعدم التمكن من امتثاله ، والاول كثيرا ما يتفق في

١٢٧

المعاملات فانه إذا لم يتعلم احكام المعاملات ولم يميز الصحيحة عن الفاسدة فاوقع المعاملة فاسدة في الخارج وتحقق الانتقال في نظره فلا محالة يتصرف فيما يراه منتقلا إليه غافلا عن حرمته ، والثانى كثيرا ما يتفق في العبادات كالصلاة حيث انها مركبة من عدة اجزاء وشرائط ، ومعلوم ان تعلمها يحتاج إلى مدة من الزمن لا سيما لمن لا يحسن اللغة العربية ، وفي هذا القسم يجب التعلم قبل الوقت ، لما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو الملاك الذي لاجله يبنى على وجوب المقدمة ، الموجب تركها فوت الواجب في ظرفه ، الآتي.

وبذلك يظهر ان ايراد المحقق النائيني ، في غير محله.

كما ان ما افاده من ان وجوب التعلم ثابت حتى فيما قبل البلوغ بالتقريب المتقدم.

يرده ما دل على رفع القلم عن الصبي ، فانه يشهد بعدم الوجوب ، ولم يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الطريقي بعدم شمول دليل الرفع له ، سوى ما قيل ، من ان وجوب التعلم عقلي ، وحديث الرفع لا يصلح لرفعه ، وهو مردود بانه بعد ورود التعبد من الشارع بانه لا شيء على الصبى من ناحية مخالفة الاحكام الشرعية لا يحكم العقل بوجوب التعلم.

فإن شئت قلت ، انه يرتفع موضوع الحكم العقلي بتعبد الشارع ، فلا يلزم من ذلك التخصيص في الحكم العقلي ، كي يقال انه ممتنع.

١٢٨

ثم انه قد حكم الشيخ الأعظم (ره) (١) في رسالته العملية بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلى به عامة المكلفين.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) ، بأن ذلك يبتنى على احد امور.

١ ـ اختيار مذهب المحقق الاردبيلي من كون وجوب التعلم نفسيا موجبا للعقاب.

٢ ـ كون التجري موجبا للفسق وان لم يوجب العقاب.

٣ ـ الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها ، من جهة قضاء العادة باستلزام ترك التعلم فيما يكثر الابتلاء به ، لمخالفة الواقع.

والاول لم يلتزم هو (قدِّس سره) به.

واما الثاني فالالتزام به بعيد.

واما الثالث فالالتزام به ابعد فرض كون الوجوب طريقيا.

ويمكن ان يقال انه على القول بأن العدالة هي الملكة الباعثة للاتيان بالواجبات وترك المحرمات يتم ما افاده الشيخ لكشف التجرى عن عدم وجود الملكة في النفس وان لم يكن الفعل حراما.

__________________

(١) صراط النجاة ص ١٧٥ مسألة رقم ٦٨٢.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ (ثم أن الشيخ الأنصاري ...).

١٢٩

وجوب التعلم عند الشك في الابتلاء

هذا كله فيما لو علم المكلف بالابتلاء ، أو اطمأن به.

واما لو شك في ذلك ، فهل يجب التعلم؟ كما هو المشهور بين الاصحاب ، ام لا؟.

قد استدل للاول بما استدل به لوجوب التعلم مع العلم بالابتلاء.

ولكن قد يقال انه يمكن اجراء استصحاب عدم الابتلاء بالاضافة إلى الزمان المستقبل ، لليقين بعدم الابتلاء فعلا ، والشك في الابتلاء فيما بعد ، فيستصحب عدم الابتلاء ، بناءً على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن الاستصحاب انما يجري فيما إذا كان المستصحب اثرا شرعيا ، أو موضوعا ذا اثر شرعي ، والا كما في المقام ، حيث ان الاثر ، وهو استقلال العقل بوجوب التعلم انما هو مترتب على مجرد احتمال الابتلاء ، لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لا على واقعه ، فلا يجري الاستصحاب.

وبعبارة أخرى ، ان الاثر في كل مورد كان مترتبا على نفس الشك

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١ (ولكن لا يخفى ان جريان الاستصحاب).

١٣٠

والاحتمال دون الواقع ، متى شك فيه فالموضوع محرز بالوجدان ، ومعه لا مورد للتعبد بالواقع اصلا فانه لغو ، وما نحن فيه كذلك ، لان الموضوع هو احتمال الابتلاء ، وهو محرز بالوجدان ، واما الابتلاء الواقعي فلا اثر له كي يجري الاستصحاب فيه.

وفيه : ان التعبد بما هو محرز بالوجدان لغو صرف ، ومن اردأ انحاء تحصيل الحاصل ، والتخصيص في الحكم العقلي لا ريب في امتناعه ، اما التعبد بما يوجب رفع موضوع حكم العقل ، فلا محذور فيه.

وبعبارة أخرى ان الحكم العقلي قابل للتخصص والخروج الموضوعي ، وما نحن فيه من هذا القبيل : فإن موضوع حكم العقل هو الضرر المحتمل ، والمطلوب بالاستصحاب ليس هو اثبات وجوب الدفع ، بل المثبت بالاستصحاب عدم العقاب ، والضرر ، وبه يرتفع موضوع وجوب الدفع.

وعلى الجملة كما انه يصح رفع موضوع قبح العقاب بلا بيان باستصحاب الوجوب ، كذلك يصح رفع موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل بالاستصحاب المذكور ولا محذور في ذلك.

ولكن يمكن الاستدلال لوجوب الدفع ، وعدم جريان الأصل المذكور بوجهين.

١ ـ العلم الاجمالي بجملة من الاحكام الشرعية في ظرفها وهذا العلم الاجمالي مانع عن اجراء الأصل المذكور في كل ما هو من اطراف العلم الاجمالي.

١٣١

٢ ـ اطلاق ما دل على وجوب التعلم : إذ لو اختص ذلك بموارد العلم أو الاطمينان بالابتلاء لم يبق تحت تلك الادلة الا موارد نادرة.

ثم ان الكلام في ان المستفاد من الادلة من الآيات والروايات ، ان وجوب التعلم ، نفسي ، أو طريقي ، أو ارشادى موكول إلى محله وقد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث الاشتغال.

بيان حكم المقدمات المفوتة

واما المقام الرابع ، وهو بيان حكم المقدمات الوجودية للواجب التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها قبل مجيء وقت الواجب.

فتنقيح القول فيه يتوقف على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : انه من القواعد المسلمة" ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار" وهذه القاعدة لها موردان.

المورد الأول : ان امتناع الفعل الاختياري لأجل عدم تعلق الإرادة والاختيار به ، لا ينافى الاختيار ، والمخالف في هذا المورد الاشاعرة ، القائلون بالجبر.

بدعوى ان كل فعل من الافعال بما انه ممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى العلة ، وهي اما موجودة ، أو معدومة ، فعلى الأول يجب وجوده ، وعلى الثاني يمتنع ، فلا يكون فعل من الافعال اختيارياً.

والجواب عن ذلك ان الفعل الاختياري يستحيل وجوده بلا اختيار وإرادة ، فإذا اعمل الفاعل قدرته في الفعل ففعل ، يكون صدور هذا الفعل عن اختياره ،

١٣٢

ووجوب الفعل بعد الاختيار غير مناف للاختيار بل من لوازمه ، وإذا اعمل قدرته في الترك فترك يمتنع وجود الفعل وهذا الامتناع انما هو امتناع بالاختيار ، وهو لا ينافى الاختيار بل يؤكده ، والامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار في هذا المورد عقابا وخطابا.

المورد الثاني : ان الفعل الاختياري بالواسطة ، امتناعه لأجل اختيار الواسطة ، لا ينافى الاختيار ، كمن القى نفسه من شاهق : فإن السقوط قبل الالقاء مقدور بواسطة القدرة على الالقاء وعدمه ، فامتناعه لأجل اختيار الالقاء لا ينافى الاختيار ، لان هذا الامتناع يكون منتهيا إلى الاختيار ، وهذا انما هو في خصوص العقاب إذ العقلاء لا يذمون المولى إذا عاقب مثل هذا الشخص ويرون هذا العقاب صحيحا ، واما في الخطاب : فالامتناع ينافيه وان كان بالاختيار ، والمخالف في هذا المورد أبو هاشم فانه قائل بأن الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار خطابا أيضا ، ولم يخالف في عدم منافاته للاختيار عقابا ، احد من العقلاء.

المقدمة الثانية : ان القدرة ، تارة لا يكون لها دخل في ملاك الحكم اصلا بل الفعل يتصف بالمصلحة كان المكلف قادرا ام غير قادر ، وفي هذا المورد القدرة شرط عقلي ، واخرى تكون القدرة شرطا ودخيلة في الملاك ، وفي اتصاف الفعل بالمصلحة ، وفي هذا المورد القدرة شرط شرعي كما في باب الوضوء حيث ان القدرة على الماء شرط شرعي كما هو المستفاد من الآية الشريفة ، وعلى الثاني ، تارة تكون القدرة المطلقة ولو قبل حصول الشرط دخيلة في الملاك ، واخرى تكون ، القدرة الخاصة كذلك ، وعلى الثاني ، تارة تكون الخصوصية المعتبرة فيها

١٣٣

هي حصولها في زمان الواجب فقط ، واخرى تكون هي حصولها بعد تحقق شرط الوجوب ولو كان ذلك قبل زمان الواجب ، فهذه شقوق اربعة.

إذا عرفت هاتين المقدمتين :

فاعلم انه في الشق الأول ، وهو ما إذا لم تكن القدرة دخيلة في الملاك والغرض اصلا ، أقوال :

الأول : ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) (١) ، وهو انه لا يجب تحصيل تلك المقدمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها ، ولا يحكم العقل باستحقاقه العقاب ، لا على ترك المقدمة ، ولا على ترك ذي المقدمة.

بدعوى ، انه لو قصر المكلف قبل زمان الواجب في تحصيل المقدمات التي لو فعلها قبل تحقق وقت الخطاب لتمكن من امتثاله ، وتساهل في تحصيلها حتى حضر وقت التكليف ، وهو عاجز عن امتثاله ، لا يستحق العقاب على ترك شيء منهما ، اما عدم استحقاقه على ترك المقدمة فلعدم تعلق التكليف بها ، لا عقلا لعدم وجود ملاكه فيها ، ولا شرعا لعدم الدليل عليه ، واما عدم استحقاقه على ترك ذي المقدمة ، فلان التكليف غير متوجه إلى العبد ، لعدم القدرة ، فلا يكون العبد مقصرا في امتثال التكليف.

وفيه : ان العقل كما يستقل بأن تفويت الحكم وعدم التعرض لامتثاله مع وجوده موجب لاستحقاق العقاب ، كذلك يستقل بأن تفويت الغرض الملزم ،

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٨١ (الجهة الثالثة : في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه).

١٣٤

الذي هو قوام الحكم وملاكه ، موجب لاستحقاق العقاب ، وان كان هناك مانع عن جعل الحكم ، ألا ترى انه لو علم العبد بأن المولى عطشان ، ومن شدة العطش لا يقدر على طلب الماء ، وهو قادر على الاتيان به ، لا ريب في استحقاقه العقاب على تركه.

وبالجملة لا ينبغى التوقف في حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، وعليه فلو ترك العبد المقدمة وبواسطة ذلك امتنع عليه الاتيان بذى المقدمة في ظرفه يستحق العقاب على تفويت ملاك ذي المقدمة في ظرفه : لما تقدم من ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار عقابا ، فاستحقاق العقاب يكون على ذلك لا على ترك المقدمة ، ولا على مخالفة التكليف فتدبر.

القول الثاني : ما اختاره المحقق النائيني (ره) (١) ، وهو وجوب المقدمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها قبل تحقق وقت الخطاب ، بدعوى انه يستكشف الوجوب شرعا من حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم بتركها حفظا للغرض فيكون متمما للجعل الأول ، واوضح ذلك بالقياس على الإرادة التكوينية ، فانه كما لا شك في ان من يعلم بابتلائه في السفر بالعطش لو ترك تحصيل الماء قبل السفر ، تتعلق إرادته التكوينية بايجاد القدرة قبل بلوغه إلى وقت العطش ، فكذلك في الإرادة التشريعية للملازمة بينهما كما مر سابقا.

ويتوجه على ما افاده من استكشاف الوجوب الشرعي من حكم العقل بقبح ترك المقدمة الموجب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه ، ان الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٢١.

١٣٥

العقلي الواقع في سلسلة علل الاحكام ، أي ما يكون دركا للمصلحة أو المفسدة الذي هو ملاك الحكم ، يستكشف منه الحكم الشرعي من باب الملازمة ، واما ما يكون واقعا في سلسلة معاليل الاحكام كقبح المعصية ، أو ما يكون نظيره ، والجامع ما لا يكون دركا للمصلحة أو المفسدة ، فلا يستكشف منه الحكم الشرعي ، والمقام من قبيل الثاني لكونه دركا لصحة العقاب على ترك ما فيه الغرض الملزم في ظرفه ، لا دركا للمصلحة وهو بنفسه يصلح لمحركية العبد ، فلا يصلح ان يكون كاشفا عن جعل شرعي مولوى متمم للجعل الأول.

فتحصل ان الاقوى هو القول الثالث ، وهو استحقاق العقاب بترك المقدمة المفوتة وعدم وجوبها الشرعي.

واما الشق الثاني : وهو ما إذا كانت القدرة المطلقة دخيلة في الملاك ، فحاله حال الشق الأول كما هو واضح. واما الشق الثالث : كالاستطاعة التي علق عليها وجوب الحج ، فإن الظاهر ان الاستطاعة في اشهر الحج توجب صيرورة الحج ذا ملاك ملزم ، وان كان ظرف افعاله متاخرا ، والاستطاعة قبلها لا اثر لها فمن يرى معقولية الواجب المعلق يلتزم بوجوب الحج من اول اشهر الحج مع تحقق الاستطاعة ، وعليه فوجوب سائر المقدمات التي يتوقف عليها الحج على القول بوجوب المقدمة ، واضح ، ومن يرى عدم معقولية المعلق ، يلتزم بأن وجوبه مشروط ، وعلى ذلك فالمقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب وعدم القدرة على الحج في ظرفه ، بعد حصول شرط الملاك ، وهو الاستطاعة في اشهر الحج ، حكمها حكم المقدمة المفوتة في الشقين الاولين ، والمقدمة التي يترتب على تركها ذلك قبل حصوله لا

١٣٦

محذور في تركها ، إذ العقل انما يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم ، ولا يحكم بقبح ما يوجب عدم تحقق الملاك ، ألا ترى ان الصوم ذو ملاك ملزم بالنسبة إلى الحاضر ، ولا يحكم العقل بقبح المسافرة الموجبة لعدم كون الصوم بالنسبة إلى هذا الشخص ذا ملاك.

وعلى الجملة لا قبح في الفعل أو الترك المانع عن صيرورة فعل خاص ذا ملاك ملزم ، بخلاف ما يوجب فوت الملاك الملزم.

وبما ذكرناه يظهر حكم الشق الرابع ، وهو ما إذا كانت القدرة في زمان الواجب دخيلة في الملاك فانه لا يحكم العقل بالقبح لو ترك المقدمة الموجبة لفوت الواجب في ظرفه اصلا ، فإن ذلك يوجب عدم صيرورة الفعل ذا ملاك ملزم.

فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه عدم وجوب المقدمة التي تركها يوجب عدم القدرة على الواجب في ظرفه مطلقا ومنها التعلم ، وانما يوجب تركها العقاب فيما إذا لم تكن القدرة دخيله في الملاك ، أو كانت القدرة المطلقة دخيلة فيه ، ام كانت القدرة بعد حصول شرط خاص دخيلة وترك المقدمة بعده لا قبله ، ولا يوجب العقاب في غير هذه الموارد.

هذا كله فيما لو علم بافضاء الترك إلى فوت الواجب في ذلك.

واما لو احتمل ذلك فلا دليل على قبح ترك المقدمة وان اوجب فوت الملاك في ظرفه ، وعليه فلو صح ما نسب إلى المشهور من حكمهم بوجوب التعلم قبل الوقت وان احتمل الابتلاء بما لا يعلم حكمه ولم يعلم بذلك ، يكون ذلك من جهة كون وجوب التعلم واجبا نفسيا فتدبر فانه غير خال عن

١٣٧

الاشكال.

فإن قلت : انه بناءً على حكم العقل بقبح ترك المقدمة ، الموجب لترك الواجب في ظرفه ، انه احتمل ذلك فبما انه يحتمل تحقق العصيان في ظرفه بتركه المقدمة ، فلا محالة يحتمل العقاب ، فيحكم العقل بوجوب دفعه باتيانها دفعا للضرر المحتمل ، لعدم جريان البراءة في هذا المورد كما هو واضح ومر أيضا.

قلت : انه بناءً على ما حققناه في محله من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية يجري في المقام استصحاب عدم فوت الواجب في ظرفه بغير اختيار منه ، فتأمل فإن ذلك يتم على القول بوجوب المقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب في ظرفه كما اختاره المحقق النائيني ، ولا يتم على ما اخترناه من عدم الوجوب ، لعدم الاثر الشرعي.

واما ما اورده المحقق النائيني (١) على هذا الاستصحاب ، بأن جريانه يتوقف على كون الواقع المشكوك فيه اثرا ، أو ذا أثر شرعي حتى يتعبد به في ظرف الشك ، واما إذا لم يكن هناك اثر شرعي ، أو كان الاثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فلا معنى للتعبد به في مورده ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن وجوب دفع الضرر المحتمل مترتب على نفس الاحتمال وجدانا ، وليس للواقع اثر شرعي يدفع احتماله بالاصل ، فلا يبقى مجال لجريان استصحاب العدم.

فغير تام ، إذ مستند منعه عن الجريان ان كان عدم ترتب اثر على الواقع ،

__________________

(١) كما مر تخريجه عن أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١.

١٣٨

فيرد عليه ان من لم يفت الملاك الملزم منه في ظرفه على تقدير ترك المقدمة ، لا تجب عليه المقدمة ، ووجوبها مترتب على الفوت في ظرفه ، وان كان ترتب اثر الواقع الذي اريد اثباته بالاستصحاب على نفس الاحتمال.

فيرد عليه انه لو تم فإنما هو فيما إذا كان المترتب على الاستصحاب نفس الحكم المترتب على الاحتمال ولا يتم فيما إذا كان المترتب عليه عدم ذلك الحكم كما هو واضح ، والمقام من قبيل الثاني إذ المترتب على الاستصحاب هو عدم الوجوب.

الواجب المعلق

ومن تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى المعلق ، والمنجز.

واول من قسم الواجب إلى هذين القسمين انما هو صاحب الفصول (١) ، قال انه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، وإلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من اول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل انتهى.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٧٩ آخر الصفحة (تمهيد مقال لتوضيح حال)

١٣٩

وهذا التقسيم في نفسه وان كان متينا ، وله وجه وجيه ، إذ القيد الدخيل في الواجب أو الوجوب على اقسام.

١ ـ ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كزوال الشمس بالاضافة إلى صلاة الظهرين.

٢ ـ ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه اختياريا كالطهارة بالاضافة إلى الصلاة.

٣ ـ ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه غير اختياري ، كالايام المخصوصة المجعولة وقتا للحج ، فإن الحج يتصف بالمصلحة من اول زمان الاستطاعة ، أو من اول اشهر الحج أي من اول شوال ، أو من حين خروج الرفقة الا ان حصول المصلحة بفعل الحج متوقف على مجيء وقته.

وفي القسم الأول لا مناص عن جعل الوجوب مشروطا كما تقدم.

وفي القسم الثاني جعله مطلقا وايجاب ايجاد القيد.

وفي القسم الثالث جعل الوجوب حاليا والواجب استقباليا على فرض معقولية المعلق كما ستعرف.

الا ان الذي صار لتقسيم صاحب الفصول ، هو ما رأى في الفقه واجبات يكون ظرفها في ما بعد ، ومع ذلك تجب مقدماتها قبل زمانها ، منها : ان الفقهاء افتوا بلزوم المقدمات الوجودية للحج قبل وقت الحج.

ومنها : افتاؤهم بوجوب غسل الجنابة قبل الفجر ليلة الصيام.

ومنها : غير ذلك من الموارد ، ومن البديهي انه لا يتصور ان تكون المقدمات

١٤٠