زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

وأما ما أورده هو (قدِّس سره) (١) عليه ، بان ما ذكره مستلزم لكون المعنى في نفسه لا مستقلا ولا غير مستقل وليس هذا إلّا ارتفاع النقيضين.

فهو غير تام. إذ الاستقلالية والآلية في كلماته أريد بهما الاستقلالية والآلية في اللحاظ ، فقبل تعلق اللحاظ بالمعنى لا يكون متصفا بشيء منهما ، لعدم قابلية المعنى للاتصاف بأحدهما في نفسه ، فلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وعن بعض الأعاظم (٢) ، أن مراده : إن المعنى الاسمي والحرفي متحدان في طبيعي المعنى ، وإنما الاختلاف بينهما في أن كلا منهما ، حصة خاصة من ذلك الطبيعي الجامع.

توضيح ذلك : أن المعنى الحرفي هو الطبيعي الملحوظ آلة ، والمعنى الاسمي هو الطبيعي الملحوظ استقلالا ، وحيث أن الطبيعي ما لم يتحصص لم يوجد لا خارجا ولا ذهنا ، فكل حصة موجودة بوجود تغاير سائر الحصص ، وان كان جميع الحصص مشتركة في اصل الطبيعي ، وهذا هو معنى قولنا : أن نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة الأب الواحد.

والحرف موضوع للحصص الموجودة باللحاظ الآلي ، والاسم موضوع للحصص الموجودة باللحاظ الاستقلالي ، ولا نعنى بذلك وضع كل منهما

__________________

(١) ما أورده النائيني (قدِّس سره) على الخراساني (ره) في أجود التقريرات ج ١ ص ١٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣.

(٢) السيد الخوئي (قدِّس سره) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٣٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٤.

٨١

للحصص مقيدة باللحاظ الآلي ، أو الاستقلالي ، حتى يرد عليه المحاذير الثلاثة المذكورة في الكفاية ، بل المراد وضعهما لذوات الحصص التوأمة مع اللحاظ ، وإنما يؤخذ اللحاظ عنوانا معرفا ، وعليه فيصح أن يقال : إن الاسم والحرف وضعا لمفهوم واحد ومع ذلك لا يجوز استعمال أحدهما في موضع الآخر.

وفيه : كما ستعرف من أن مراده ليس ذلك أيضاً ـ انه لو سلم كون هذا مراده أن ما ذكروه في محله ـ من أن الموجود لا بد وان يكون حصة من الطبيعي ، ولا يعقل أن يكون هو الطبيعي ، وإلّا يلزم أن يكون شيء واحد موجودا بوجودات متباينة ، فيكون نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء ، إنما هو في الوجود الخارجي ، وأما في الوجود الذهني فلا ينبغي التوقف في أن الموجود به ، أي المتصور والملحوظ إنما هو الطبيعي نفسه وإلّا لما صح قولنا : الإنسان نوع ، إذ ما لم يتصور لا يصح الحمل ، ومعه يصير حصة لا نوعا ، والسر في ذلك ، أن النفس من المجردات ، فيمكن إحاطة النفس بالطبيعي وليس معنى الوجود الذهني إلّا ذلك ، فإذا الملحوظ آلة ، متحد مع الملحوظ استقلالا ذاتا ، لا أنهما متغايران.

مع أن لازم كون الموجود بالوجود الذهني حصة من الطبيعي ، عدم الصدق على الخارجيات ، وامتناع امتثال" سر من البصرة". إذ الحصة الموجودة بالوجود الذهني ، كما تغاير الحصة الموجودة بالوجود الذهني الآخر ، كذلك تغاير الحصة الموجودة بالوجود الخارجي. فلا يمكن الامتثال حتى مع التجريد ، وإلغاء الخصوصية.

ودعوى أن الحصة الملحوظة حين الأمر ، تكون مرآةً لما يوجد في الخارج.

٨٢

مندفعة ، بأنه بعد كونهما متغايرتين ، لا معنى لذلك.

أضف إلى ذلك كله ، أن لازم ما ذكره ، كون الموضوع له خاصا.

والمحقق الخراساني ، ملتزم بان الموضوع له عام. بل لازمه كون الموضوع له في الأسماء أيضاً خاصا ، كما لا يخفى.

والظاهر أن مراد المحقق الخراساني مما ذكره : أن المعنى الاسمي والحرفي واحد من جميع الجهات ، وإنما الاختلاف بين الاسم والحرف ، يكون في العلقة الوضعية ، وهو المانع عن صحة استعمال كل منهما موضع الآخر.

توضيح ذلك : انه كما يكون للواضع أن يقيد الموضوع له ، ويوضع لفظ" البكاء" للبكاء الشديد ، ويقيد الموضوع ، ويوضع لفظ" محمد حسن" لشخص خاص ، كذلك له تضييق الوضع ، والعلقة الوضعية ، بان يقول : مثلا أني وضعت لفظ الماء ، للجسم السائل البارد بالطبع في الشتاء.

بمعنى أني متعهد بأني متى ما أردت ذلك الجسم في الشتاء ، أبرزه بهذا اللفظ ، وما لو أردته في الصيف ، فأبرزه بلفظ آخر ، ويكون ذلك ، نظير تقييد اعتبار الملكية في باب الوصية بما بعد الموت ، وتقييد الطلب في الواجب المشروط.

وعليه فالمحقق الخراساني يدعى أن لفظ" من" ولفظ" الابتداء" وضعا لمفهوم واحد ، إلّا أنّ الوضع في الأول ، مقيد بما إذا لوحظ ذلك المعنى حالة لغيره وآلة ، وفي الثاني ، مقيد بما إذا لوحظ استقلالا ، فالعلقة الوضعية بين كل من اللفظين ، وذلك المفهوم ، إنما تكون في حال دون حال. فلهذا لا يصح ،

٨٣

استعمال أحدهما في موضع الآخر.

وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه ، والتدبر في كلمات المحقق الخراساني في الكفاية في المقام ، وفي المشتق ، لا ترتاب في أن مراده ذلك.

ولكن ذلك أيضاً لا يكون فارقا بين المعنيين ، فانه إن ادّعى كون الحرف ، موضوعا للمعنى حين ملاحظته آلة لغيره ، فيلزم أن يكون كل ما يلاحظ معرفا لغيره معنى حرفيا.

توضيحه : إن المفاهيم والعناوين الكلية ، قد تلاحظ استقلالا وبما هي ، ليحمل عليها بعض عوارضها ، كما إذا لوحظ الإنسان ، ليحمل عليه ، انه كلي أو حيوان ناطق ، وقد تلاحظ بما أنها مرآة ، وآلة ووجه للمصاديق لها ليحمل عليها عوارض المصاديق ، كما إذا لوحظ الإنسان ، ليحمل عليه انه ضاحك ، إذ بديهي ، أن الضاحك ، هو الفرد. وإنما يؤخذ العنوان قنطرة إليه ، لتعذر تصور المصاديق بأجمعها.

وعليه ، فيلزم أن تكون المفاهيم ـ حين ما تلاحظ مرآة للمصاديق ـ معان حرفية. وهو كما ترى.

أضف إليه ، أن ملاحظة الشيء آلة لغيره ، لا مورد لها ، سوى المفاهيم ، بالإضافة إلى مصاديقها ، إذ لا يصح جعل كل شيء ، مرآة لكل شيء. بل لا بد أن يكون بينهما مناسبة خاصة ، وهي كون المعرف عين المعرف. ولذا لا يصح لحاظ الجدار ، مرآة للباري تعالى مع وجود المناسبة بينهما ، وهي العِليَّة.

وعلى ذلك فلا يعقل كون المعنى الحرفي ، ما لوحظ آلة لغيره. إذ لو أريد أن

٨٤

الظرفية ، مثلا في قولنا : " زيد في الدار" لوحظت مرآة للمصاديق ، فهي مفهوم كلي ومعنى اسمي. وإن أريد أنها لوحظت مرآة بالنسبة إلى الطرفين أو أحدهما ، فهو غير صحيح كما عرفت.

وان ادعي أن المعنى الحرفي ، هو الملحوظ حالة لغيره ، فيلزم أن تكون المصادر معان حرفية.

توضيح ذلك : أن الفرق بين المصادر ، وأسماء المصادر ـ على ما ذكره أهله (١) ـ هو أن المعنى الحدثي كالإكرام : تارة يلاحظ بما هو موجود في نفسه ، وأخرى بما انه وصف لمعروضه ، وحالة للمكرم.

فالأول ، هو اسم المصدر.

والثاني ، هو المصدر ، وكذلك الظرفية ، ربما تلاحظ بما هي ، وربما تلاحظ بما أنها حالة للدار ، فإن لوحظت على النحو الأول ، فهي اسم المصدر. وان لوحظت على النحو الثاني. فهي المصدر ، لا انه على الأول ، معنى اسمي ، وعلى الثاني ، معنى حرفي.

فالمتحصل مما ذكرناه : فساد القولين الأولين. وان المعنى الاسمي والحرفي ، متباينان بالذات والحقيقة.

ثم إن القائلين بهذا القول ، اختلفوا في كيفية هذا التباين ، وما به الامتياز.

__________________

(١) في علوم اللغة كما في مجمع البحرين ج ٤ ص ٦٩ ، والفرق بين المصدر واسم المصدر ، إن المصدر مدلوله : الحدث ، واسم المصدر مدلوله : اللفظ ، وذلك اللفظ يدل على الحدث.

٨٥

فقد يقال : أن التغاير بينهما ليس بالتباين ، بل بالجزئية والكلية.

وفيه أنه إن أريد ـ يكون المعنى الحرفي جزئيا ـ انه جزئي خارجي حقيقي.

فيرد عليه ، أن لازم ذلك كون الأعلام الشخصية معان حرفية ، مع انه نرى استعمال الحرف في الكلي. كقولنا : سر من البصرة ، وصلِّ في المسجد.

وإن أريد به ، أنه جزئي إضافي ، كما عن صاحب الفصول.

فيرد عليه أن لازم ذلك كون جميع الأسماء إلّا الأجناس العالية ، معان حرفية ، كما لا يخفى ، مع أنّ الأجناس العالية ـ كغيرها من الأسماء ـ قابلة للتقييد بقيد ، فتصير جزئية إضافية.

وإن أريد به أنه جزئي ذهني ، فيرد عليه ما تقدم ، من أنّ لحاظ كون المعنى آلة لغيره ، وحالة ، له ، لا يوجب كون المعنى معنى حرفيا.

وأما ما أورده المحقق الخراساني على هذا الوجه (١) ، من الإيرادات الثلاثة ، فاثنان منها غير واردين.

أحدهما : (٢) أن هذا اللحاظ لا يكون مأخوذا في المعنى والمستعمل فيه ، وإلّا فلا بد من لحاظ آخر متعلق بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى.

__________________

(١) من أن الوضع له عام والموضوع له خاص في المعاني الحرفية وإن المستعمل فيه فيها خاص أيضاً الذي لم يرتضه المحقق الخرساني.

(٢) كفاية الأصول ص ١١ بعد قوله" والتحقيق" سطر ١٢.

٨٦

فيرد عليه ، انه يعتبر في الاستعمال لحاظ المستعمل فيه ، إذا لم يكن حاضرا بنفسه عند النفس ، من جهة انه إذا لم يتوجه إليه ، لا يمكن أن يحكم عليه ، وان يستعمل اللفظ فيه. وإذا كان المعنى من سنخ اللحاظ ، أو كان ذلك جزء له ، فلا حاجة في الحكم عليه واستعمال اللفظ فيه لحاظ آخر.

ثانيهما : (١) أن لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف ، ليس إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء ، فكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه ، كذلك ذاك اللحاظ.

ويرد عليه ، أن المدعى أن لحاظ الآلية اخذ جزء للموضوع له ، ودخيلا فيه بخلاف لحاظ الاستقلالية في الاسم ، ولذا يكون معنى الحرف جزئيا ، والمعنى الاسمي كليا.

نعم إيراده الثالث (٢) ، تام. قال : مع انه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات ، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها ، حيث لا موطن له إلّا الذهن.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١ بعد قوله" والتحقيق" سطر ١٨.

(٢) كفاية الأصول ص ١١ بعد قوله والتحقيق (الإيراد الثاني).

٨٧

مختار المحقق النائيني في المعنى الحرفي ونقده (١)

وعن المحقق النائيني (ره) اختيار مسلك آخر في الفرق بينهما.

وحاصله : أن المعاني الاسمية : معان إخطارية ، ولها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل الذي هو وعاء الإدراك ، ويكون استعمال الألفاظ فيها موجبا لإخطارها في الذهن ، والمعاني الحرفية أمور إيجادية ، واستعمال الألفاظ فيها موجب لإيجاد معانيها من دون أن يكون لها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد هي في موطن الاستعمال.

ومحصل ما ذكره من الفرق بينهما يبتنى على أركان أربعة :

الأول : أن المعاني الاسمية مفاهيم إخطارية غير مربوط بعضها ببعض ، كمفهوم" زيد" و" دار" ومفهوم النسبة الظرفية لا حقيقتها ، ويتوقف تأليف الكلام منها إلى الربط ، ولو كان معاني الحروف أيضاً إخطارية لما وجد الربط ، بل كان حالها حال المعاني الاسمية في الاحتياج إلى الربط ، فلا محالة تكون المعاني الحرفية بأجمعها إيجادية موجدة للربط بين المفاهيم غير المرتبطة.

الثاني : أن لازم كون المعاني الحرفية إيجادية ، إن لا واقع لها بما هي معان

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٦ ، (وأما توضيح المختار فيحتاج إلى بيان مقدمات) ثم ذكر المقدمات وقسّمها إلى أركان أربع ، نقلها المصنف هنا بتصرف ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥ ـ ٢٤.

٨٨

حرفية في غير التركيب الكلامي ، بخلاف المفاهيم الاسمية ، فإنها مفاهيم متقررة في عالم مفهوميتها سواء استعمل اللفظ فيها أم لا.

الثالث : أن المادة في الهيئة الإنشائية ، مثل" بعت" ، تكون إيجادية ، إلّا انه فرق بين هذا النحو من الإيجاد والإيجاد في الحروف ، وهو أن الحرف موجد لمعنى غير استقلالي ربطي بين مفهومين في مقام الاستعمال ، ولا واقع له غير هذا المقام ، بخلاف البيع الذي يوجد بقول البائع : " بعت" فان إيجاده بمعونة الهيئة ليس في عالم الاستعمال ، بل بتوسط الاستعمال يوجد المعنى في نفس الأمر في الأفق المناسب لوجوده ، وهو عالم الاعتبار ، فكم فرق بين إيجاد معنى ربطي في الكلام بما هو كلام ، وبين إيجاد معنى استقلالي في موطنه المناسب له.

الرابع : أن المعنى الحرفي حين الاستعمال غير ملتفت إليه ، ويكون حاله حال اللفظ حين الاستعمال ، فكما أن المستعمل حين الاستعمال لا يرى إلّا المعنى ، ولا يلتفت إلى اللفظ ، كذلك المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال. بل الملتفت إليه ، هي المعاني الاسمية غير الاستقلالية. ولو التفت إليه يخرج عن كونه معنى حرفيا. ولذا لا يعقل جعله مبتدئا يخبر عنه.

توضيح ذلك : انه تارة تخبر عن نفس السير الخاص وتقول : " سرت من البصرة" فالنسبة الابتدائية في هذا المقام ، مغفول عنها. وأخرى عن نفس النسبة ، فتقول النسبة الابتدائية كذا ، فهي الملتفت إليها.

فالمتحصل من هذه الأركان : إن الحروف ، لها معان في قبال المعاني الاسمية ، وهي في حد كونها معاني ـ أي في عالم التجرد العقلاني ـ معان غير مستقلة وتكون المعاني الحرفية بأجمعها ، إيجادية ، موجدة لمعنى ربطي في الكلام ، لا في

٨٩

محل آخر ، كما في مادة الهيئة الإنشائية.

بخلاف المعاني الاسمية ، فإنها بجواهرها واعراضها في عالم التجرد العقلاني ، معان مستقلة ، وتكون إخطارية.

ويرد على ما أفاده (قدِّس سره) أمور :

الأول : أن الكلام الذي هو مركب من الكلمات التي يكون كل كلمة منها فردا من مقولة الكيف المسموع ، من حيث هو كلام لا يعقل الارتباط فيه. بل كون الكلام مرتبطا بعضه ببعض ، إنما يكون بلحاظ ما يحكى عنه هذا الكلام ، وإنما يستند إليه ثانيا وبالعرض. وعلى ذلك :

إن كان مراده (قدِّس سره) من أن الحرف يوجد الربط ، انه يوجد الربط في الكلام ، ويكون آلة لربط بعض أجزائه ببعض ، فقد عرفت ما فيه.

وان كان مراده ، انه يوجد الربط بين أجزاء المدلول بالعرض ، أي الواقع.

فهو غير معقول. إذ الحاكي لا يمكن أن يؤثر في المحكي ، وإلّا لزم تقدم ما هو متأخر ، مضافا إلى مخالفته للوجدان.

وان أريد انه يوجد الربط في المدلول بالذات ، أي المفاهيم المتصورة.

فيرد عليه : إن تلك المفاهيم ، إن لوحظت مرتبطا بعضها ببعض ، فالحرف لم يصر سببا لإيجاد الربط ، بل يكون حاكيا عنه ، فيكون معناه إخطاريا.

وان لوحظت غير مرتبط بعضها ببعض ، فلا يعقل إيجاد الربط بين أبعاضها ، إذ الشيء لا ينقلب عما هو عليه.

٩٠

وان شئت قلت : إن الكلام يكون حاكيا عنها ومؤخرا ، فكيف يعقل تأثيره فيها.

الثاني : انه لو سلمنا أن الحرف يوجد الربط بين أجزاء الكلام ، ولكن بما انه لا يكون حاكيا عن النسبة الخارجية ، ولا حاكي ، عنها غيره ، فلا يصح السكوت عليه.

مثلا" زيد قائم" مركب من الموضوع ، والمحمول ، والنسبة. والحاكي عن الموضوع والمحمول الخارجيين ، هو الموضوع والمحمول في الكلام ، فليس في الكلام ما يحكي عن النسبة الخارجية ، وعليه فلا بد أن لا يصح السكوت عليه ، إذ الكلام إنما يصح السكوت عليه باعتبار مدلوله ، وهو كما ترى.

الثالث : أن ما ذكره لكون المعنى الحرفي إيجاديا ولا واقع له سوى الكلام ولا يمكن لحاظه استقلالا ويكون دائما مغفولاً عنه.

يرد عليه : انه غالبا يكون المقصود الأصلي لإلقاء الكلام إلى المخاطب ، إفادة المعاني الحرفية ، أي النسب الخارجية ، مثلا من علم وجود" زيد" و" الدار" ، وأراد أن يخبر عن كون زيد في الدار ، يقول : زيد في الدار ، لإفادة النسبة الظرفية ، فكيف ، يمكن الالتزام بكونها مغفولاً عنها ، مع أن الكلام سيق لبيانها ، وإنما ذكر الاسم مقدمة لإفادتها.

٩١

مختار الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) في المعنى الحرفي (١) ونقده

وقد أفاد الأستاذ الأعظم : بأن الحروف إنما وضعت لتضييقات المعاني الاسميَّة ، وتقيداتها بقيود خارجة عن حقائقها في عالم المفهومية ، كان للمعنى وجود خارجي أم لم يكن.

توضيح ذلك : أن كل مفهوم من المفاهيم الاسمية جزئيا كان أم كليا يكون مقسما لأقسام وله حصص.

غاية الأمر :

تارة يكون تقسيمه بلحاظ أنواعه كالجنس.

وأخرى بلحاظ أصنافه كالنوع.

وثالثة بلحاظ أفراده.

ورابعة بلحاظ حالات شخص واحد ولو كان بسيطا من جميع الجهات. وحيث أن حصص المعنى الواحد وأقسامه ـ فضلا عن المعاني الكثيرة ـ غير متناهية ، الموجب ذلك لعدم إمكان وضع خاص لكل حصة ، وغرض المتكلم قد يتعلق بإبراز حصّة خاصة من المفهوم ، فلا بد للواضع من وضع ما يوجب

__________________

(١) في حاشيته (قدِّس سره) على أجود التقريرات ج ١ ص ١٨ ، (لا إشكال في تحقق الربط في الكلام بواسطة الحروف) ... الخ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧.

٩٢

تحصص المعنى وتقيده ، وليس ذلك إلّا الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة ، وهيئة الإضافة أو التوصيف ، مثلا كلمة" في" في قولنا : الصلاة في المسجد ، لا تدل إلّا على أن المراد من الصلاة ليس هي الطبعية السارية ، بل خصوص حصة منها ، كان تلك الحصة موجودة في الخارج ، أم معدومة ممكنة ، أم ممتنعة. ولهذا يكون استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، وبلا عناية في شيء منها.

ولكن يرد عليه ، أن ما ذكر وان كان متينا ، إذ ليس شأن الأسماء التضييق ، بل ذلك شأن الحروف ، إلّا أنّ ذلك اثر معاني الحروف ونتيجتها لا أنها وضعت لذلك. والشاهد عليه ، أن قولنا : زيد في الدار ، يدل على ثبوت النسبة الظرفية التي هي غير المعاني الاسمية ، ولو مع فرض إرادة الحصص منها ، والدال عليها ليس إلّا لفظ" في".

بيان المختار في المعنى الحرفي

والتحقيق يقتضي أن يقال : أن الحروف إنما وضعت للنسب والروابط الصرفة.

توضيح ذلك : أن الوجود ينقسم إلى أربعة أقسام :

الأول : ما يكون في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب.

الثاني : ما يكون في نفسه ولنفسه وبغيره ، وهو وجود الجوهر.

الثالث : ما يكون في نفسه ولغيره وبغيره ، وهو وجود الأعراض ، ويعبر عنه

٩٣

بالوجود الرابطي ، ويعبر عن هذه الثلاثة ، بالوجود المحمولي ، ومفاد كان التامة وثبوت الشيء.

الرابع : ما يكون في غيره ولغيره وبغيره وهو المعبّر عنه بالوجود الرابط ، وهو اضعف مراتب الوجود ، حتى انه في الأسفار حكم بِتخالف الوجود الرابط مع الوجود المحمولي سنخاً ، وإنّ إطلاق الوجود عليها من باب الاشتراك اللفظي ، والحروف والهيئات إنما وضعت لإفادة هذا المعنى.

وبما ذكرناه ظهر الفرق بين الحروف والأعراض.

فان قلت : الفرق بين الحروف وجملة من الأعراض واضح مما ذكرت ، وأما الفرق بينها وبين الأعراض النسبية ، كمقولة الأين فغير ظاهر.

قلت : الفرق بينهما ، أن تلك الأعراض إنما وضعت لهيئات ذوات نسب ، مثلا مقولة الأين إنما هي الهيئة القائمة بالكائن في المكان ، وأما الحروف فإنما وضعت للنسب الخاصة ، مثلا كلمة" في" وضعت لنسبة الكون في المكان ، و" من" وضعت لنسبة المبتدأ به بالمبتدإ منه.

فان قيل : إن مثل قولنا : " زيد في الدار" يدل على مقولة الأين بلا ريب ، والدال عليها في هذه الجملة احد أمرين :

فإما أن يكون هو لفظ الدار ولو مجازا ، وهو خلاف الوجدان.

وإما أن يكون هو لفظ" في" ، فيعلم من ذلك أن كلمة" في" إنما وضعت للعرض النسبي المعبَّر عن وجوده بالوجود الرابطي ، لا لربط الأعراض بموضوعاتها المعبّر عنه بالوجود الرابط.

٩٤

أجبنا : إن الكلام المزبور لا يدل على مقولة الأين ، نعم لازم ما يدل عليه ـ وهي نسبة الكون في المكان ـ تحقق مقولة الأين ، ولكن الكلام لا يدل عليها ، وهذا نظير ما لو اخبر المتكلم بمجيء احد المتلازمين ، فانه وان كان يستفاد منه مجيء الآخر إلّا أن الكلام المسوق لبيان مجيء أحدهما لا يدل عليه.

فتحصل مما ذكرناه أمور :

الأول : ثبوت الفرق بين الحروف والأعراض النسبية ، فما نسب إلى المحقق العراقي (ره) من عدمه ضعيف.

الثاني : انه لا فرق بين الحروف والهيئات ، كما عليه جماعة من الحكماء منهم صدر المتألهين (١) فإيراد المحقق العراقي عليه غير وارد.

الثالث : أن المعنى الحرفي إخطاري لا إيجادي ، ومع ذلك يكون مباينا مع المعنى الاسمي ذاتا ، لكونه متقوما وجودا وذاتا بالغير ، بخلاف المعنى الاسمي.

الرابع : أن المعنى الحرفي ملحوظ استقلالا ، لكنه في ضمن لحاظ المنتسبين لا وحده ، فانه بنفسه وذاته متقوم ، ومُتَدَلٌّ بهما ، ولا يكون ملحوظا آلة لغيره. فتدبر فانه حقيق به (٢).

__________________

(١) كما قد يظهر من كلامه صدر المتألهين في الاسفار بقوله : «ومعنى الحروف ، الجمل وهي الحروف المقطعة القرآنية والكلمات التامات المفردة ..» راجع ج ٧ ص ٤١ ، وما بعدها.

(٢) وبعبارة اخرى ان المعنى الحرفي له وجود مستقل ، هو ملحوظ فيه حين الاستعمال ، الا ان هذا الوجود بما هو ليس له قابلية الدلالة بمفرده ، فهو مفتقر في الدلالة إلى طرفين التي بهما

٩٥

الوضع في الحروف عام والموضوع له عام

أما المقام الثاني : وهو ان الموضوع له في الحروف عام أو خاص ، فقد اختلفت كلمات القوم فيه على أقوال :

الأول : كون الوضع عاما ، والموضوع له والمستعمل فيه خاصا.

الثاني : كون كل من الوضع ، والموضوع له ، والمستعمل فيه عاما.

الثالث : كون الوضع عاما ، وكل من الموضوع له ، والمستعمل فيه خاصا.

أما الوجه الأول ، فهو بديهي البطلان إذ الوضع إنما يكون للاستعمال ، فلا معنى لوضع اللفظ لمعنى لا يستعمل فيه أبدا ، ويستعمل في معنى آخر.

وأما الوجه الثاني ، ففيه مذاهب :

الأول : ما اختاره المحقق الخراساني (١) ، وقد عرفت ما فيه. نعم لو تم ما ذكره في المعنى الحرفي ، صح ما بنى عليه.

__________________

يبرز معناه. ففي وجوده ليس مفتقرا إلى الطرفين ، ودلالته لا تتم الا بالطرفين. وبهذا البيان يتضح الفرق بين الوجود المستقل التي به تتم الدلالة كالمعنى الاسمي ، وليس هو كما ذهب اليه آخرون ان لا وجود له الا بوجود طرفيه.

(١) كفاية الأصول ص ١١ حيث التزم أن الوضع في الحروف عام والموضوع له عام والمستعمل فيه عام.

٩٦

الثاني : ما اختاره أستاذ الأساتذة المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله : أن المراد من الكلية والجزئية في المقام ليس بمعنى الصدق على الكثيرين وعدمه ، كما هو شأن المفاهيم الاسمية. إذ حقيقة المعنى الحرفي ، هي حقيقة الربط الكلامي ، فلا يعقل صدق هذه النسبة على الخارج ، بل هي مما ينطبق عليه المفهوم الاسمي بل المراد بالكلية والجزئية في المقام ، هو أن المعنى الحرفي الذي يكون قوامه بالطرفين ، كما إن الطرفين خارجان عن حريم المعنى ، هل التقيدات أيضاً خارجة فيكون الموضوع له واحدا وكليا؟

وبعبارة أخرى : يكون ما أوجدته كلمة" من" مثلا في جميع الموارد هوية واحدة ، وتكون الخصوصيات اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حريم المعنى؟

أم هي داخلة في المعنى ، فيكون الموضوع له متعددا وخاصا؟

واختار (قدِّس سره) الأول ، بدعوى إن المعاني الحرفية ، وان احتاجت في مقام وجودها إلى خصوصية الطرفين ، إلّا أنها في مقام ماهياتها لا تحتاج إليها ، فهي نظير الأعراض ، فكما أنها في مقام تحققها في الخارج تحتاج إلى الموضوع ، لا في مقام ماهياتها ، فكذلك المعنى الحرفي.

وفيه : أن الموضوع له في الحروف إن كان هو القدر المشترك بين الروابط الخاصة الذي هو مفهوم من المفاهيم ، تم ما ذكره في المقام : من أن الموضوع له عام ، إلّا أن لازمه كون المعنى الحرفي إخطاريا.

__________________

(١) في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٠.

٩٧

وان كان الموضوع له في الحرف حقيقة الربط الكلامي ، الذاتي تكون معنى جزئيا وان كانت خصوصيات الأطراف خارجة عن حريم المعنى ، فيكون الموضوع له خاصا.

وبذلك يظهر أن ما ذكره المحقق الرشتي (ره) (١) من القول بكون المعنى الحرفي إيجاديا ، يستلزم كون الموضوع له خاصا ، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، متين ولا يمكن الجواب عنه بان الكلي الطبيعي موجود في الخارج ، إذ هو وإن كان صحيحا إلّا انه لا يكون هو الموضوع له على هذا المبنى.

والتحقيق يقتضى أن يقال : بعد ما لا شك في أن النسب الخاصة

__________________

(١) في بدائع الأفكار ص ٤٦ حيث أطال الكلام في النقض والإبرام إلى أن قال : «فنقول لو لا حضور المشار إليه وتشخصه بالإشارة الحسّية لم يحصل حقيقة المشار إليه الكلّي الّذي هو المعنى العام الملحوظ في الوضع فلا يحصل الاستعمال في ذلك المعنى أيضا وكذا لو لم يذكر الصّلة بعد ذكر الموصول لم يكن الاستعمال في ذلك المعنى العام الملحوظ في حال وضع الموصول أعني الشيء المتعيّن بصلته تعينا فعليا وهكذا إلى سائر المبهمات وما يضاهيها في هذا القسم من الوضع الّذي نتكلّم فيه وبهذا البيان ينقدح فساد جلّ الإيرادات الموردة على هذا القول بل كلّها فاحفظه واغتنم.

ثم قال : «إذا تمهدت المقدمات قلنا إنّ المختار من القولين هو القول الأوّل ويدل عليه وجوه ثلاثة الأوّل أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الكلّية يصحّ استعمالها فيها بلا ريب لأنّ جواز الاستعمال من اللّوازم الظّاهرة للوضع مع أنّ استعمال هذا في كلي المشار إليه المذكّر واستعمال أنا في كلي المتكلم واستعمال الّذي في كلي المتعيّن بصلته أمر غير معهود بين الأوائل والأواخر بل غير صحيح في العرف واللّغة.

٩٨

المتحققة ، إذا لاحظناها نرى بالوجدان أن كل جملة منها متماثلة ، وتماثلها إنما يكون بأمر ذاتي داخل في قوامها ، مثلا النسبة الظرفية التي تستعمل كلمة" في" فيها ، لها جزئيات خارجية متماثلة ، وتلك الجزئيات متباينة مع جزئيات النسبة الابتدائية ، وعلى ذلك وقع الكلام في أن تلك الجهة ، هل هي جامع حقيقي أم انتزاعي ، وهل تكون هي الموضوع لها أم لا؟

فالكلام في موردين :

الأول ، في إمكان وجود الجامع الحقيقي بين تلك النسب.

والثاني ، في مقام الإثبات.

أما الأول ، فقد يقال كما عن المحقق الأصفهاني : بأنه لا يمكن وجود الجامع بين تلك النسب الخاصة" حيث أن حقيقة النسبة في ذاتها متقومة بالمنتسبين ذهنا وعينا ، فلا تقرر لها مع قطع النظر عن الوجودين ، بخلاف الماهيات ، فإنها متقررة في ذواتها" (١).

__________________

(١) راجع بحوث في الأصول ج ١ ص ٢٥ (من الفصل الثاني) إلى ان قال : «وحيث ان حقيقة النسبة متقوّمة في ذاتها بالمنتسبين فلا جامع ذاتي بين حقائق النسب ، فان إلغاء الطرفين إعدام لذاتها» / وتعرض لذلك في نهاية الدراية ج ١ ص ٢٥ ثم عاد في ص ٢٧ ليؤكد الفكرة فقال : «وبالجملة لا شبهة في أنّ النسبة لا يعقل ان يوجد في الخارج إلّا بوجود رابط لا في نفسه ، مع ان طبيعي معناها لو كان قابلا للحاظ الاستقلالي ، وإلّا كان في تلك الحال ماهيّة تامّة في اللحاظ ، ومثلها إذا كان قابلا للوجود العيني كان قابلا للوجود في نفسه مع أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لغيره فكون النسبة حقيقةً امراً قائماً بالمنتسبين

٩٩

وعليه فلا جامع ذاتي بين حقائق النسب ، فان إلغاء الطرفين إعدام لذاتها ، فهي مع قطع النظر عنهما لا شيء أصلاً حتى تقررا ، فلا يعقل أن يكون الموضوع له فيها عاما.

وفيه : أن المراد بالكليَّة والجزئية ، والعموم والخصوص في الموضوع له فيها ، ليس عدم دخل المنتسبين ودخلهما ، بل المراد انه كما تكون النسبة في وجودها وتقررها وذاتها تابعة لهما ـ وهي بذاتها معنى متدل في الغير ـ كذلك تكون في كليتها وجزئيتها تابعة لهما.

فان كان الموضوع له هي النسب الخاصة بين المنتسبين الخاصين بخصوصيتهما ، كان الموضوع له خاصا.

وان كان الموضوع له هو النسبة القائمة بالمنتسبين العامين ، كان عاما ، مثلا

__________________

لو لم يكن نقصان في حدّ ذاتها لم يكن مانعاً عن وجودها في نفسها ، مع أنّ من البديهي أنّ حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين من دون نفسيّة واستقلال أصلا ، فهي متقوّمة في ذاتها بالمنتسبين ، لا في وجودها فقط بخلاف العرض ، فان ذاته غير متقومة بموضوعه بل لزوم القيام بموضوعه ذاتي وجوده فانّ وجوده في نفسه وجوده لموضوعه ، وإذا كانت النسبة بذاتها وحقيقتها متقوّمة بالطّرفين فلا محالة يستحيل اختلافها باختلاف الوجودين من الذهن والعين ، ومنه ظهر انّ الأمر كذلك في جميع أنحاء النسب سواء كان بمعنى ثبوت شيء لشيء كما في الوجود الرّابط المختص بمفاد الهليّات المركبة الإيجابيّة وبمعنى كون ... أو كان من النسب الخاصّة المقوّمة للأعراض النسبية ككون الشيء في المكان أو في الزّمان أو غير ذلك.

١٠٠