زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

تمايز العلوم إنما يكون بتمايز الموضوعات ، وهو أن تمايز العلوم إنما يكون بتمايز الأغراض التي دونت العلوم لأجلها ، أمور :

الأول : انه يرد عليه ما أورده هو (قدِّس سره) (١) على المشهور ، " من انه يلزم أن يكون كل باب بل كل مسألة من كل علم علما على حدة" ، إذ يترتب على كل مسألة غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة أخرى ، مثلا الغرض في علم الأصول : الاقتدار على الاستنباط ، وبديهي أن القدرة المترتبة على مسألة حجية خبر الواحد ، غير القدرة المترتبة على مسألة حجية الاستصحاب.

الثاني : انه ربما لا يترتب على علم غرض خاص كالفلسفة العالية.

الثالث : انه على مسلكه (قدِّس سره) يستكشف من وحدة الغرض ، وحدة الموضوع ، الجامع بين موضوعات المسائل المؤثرة في ذلك الغرض ، فلا يكون لعدوله وجه عن ما اختاره المشهور ، إذ مع وجود المائز في المرتبة السابقة على الغرض لاوجه لجعله مائزا.

وأما ما أورده المحقق النائيني (٢) عليه : أنَّ العلوم المدوَّنة ربما لا يترتب عليها

الأغراض المذكورة ، فلا يمكن أن يكون التمايز بها.

فغريب إذ ليس المراد من الأغراض الوجودات الخارجية ، بل الاقتدار عليها ، مثلا الغرض من علم النحو ليس صيانة المقال عن الألحان بل القدرة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١١.

٤١

عليها.

وحقُّ القول في المقام ، انه لا ريب في أنّ كل مسألة من أي علم كانت لها واقع محفوظ ومتحققة في نفس الأمر مع قطع النظر عن العلم والجهل ، كان المحمول فيها من الأمور الحقيقية ، أو كان من الأمور الاعتبارية كالوجوب.

وتميز كل مسألة عن غيرها ، تارة يكون بالموضوع ، وأخرى بالمحمول ، وثالثة بكليهما.

كما لا ريب في أن هذه المسائل المتشتتة المتحققة في نفس الأمر ، يشترك كل طائفة منها في أمر واقعي مع قطع النظر عن تدوين العلم ، وذلك الأمر ربما يكون هو الجامع بين موضوعات المسائل ، وربما يكون هو الجامع بين المحمولات ، وثالثا يكون هو الغرض المترتب على المجموع الجامع بين الأغراض الخاصة المترتبة على المسائل ، وذلك الجامع أيضاً يختلف سعة وضيقا.

مثلا يترتب على مسائل باب الفاعل ، غرض واحد في قبال باب المفعول. ويترتب على مسائل باب المرفوعات ، غرض وحداني أوسع من ذلك الغرض. ويترتب على مسائل النحو غرض أوسع. وهكذا ... هذا حال المسائل قبل التدوين.

وأما بعد التدوين وجعل كل طائفة من تلك المسائل علما مستقلا ، فيتوجه السؤال عن ما به تمايز العلوم وانه بما ذا تمايز كل علم عن غيره.

وفي هذا المقام أقول : إنّ التمايز تارة يكون المراد منه التمايز في مقام التعليم والتعلم لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه وان أيتها

٤٢

داخلة في هذا العلم ، وأيتها خارجة عنه.

وأخرى يراد به التمايز في مقام التدوين ، وانه ما ذا يكون داعيا وباعثا لاختيار المدون عدّة من القضايا المتشتتة المتخالفة وتدوينها علما واحدا وتسميتها باسم واحد؟

أما التمايز في المقام الأول : بالنسبة إلى الجاهل المتعلم ، فتارة يكون بالموضوع ولو مقيدا بحيثية خاصة ، كما يقال : إن موضوع علم النحو ، الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء ، والمراد بالحيثية المذكورة ، حيثية استعداد ذات الموضوع لورود المحمول عليه. وعليه ، فدعوى : " أنّ ذلك يرجع إلى التمييز بالمحمولات" ناشئة عن عدم مراجعة كلمات أهل المعقول.

وأخرى يكون بالمحمول ، كما يقال في تعريف علم الفقه : بأنه العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

وثالثة يكون بالغرض ، كما ترى من تعريف المنطق بأنه : قانون آلي يقي رعايته عن خطأ الفكر وهذا غايته.

ورابعة يكون بذكر فهرست المسائل إجمالاً (١).

وأما في المقام الثاني : بالنسبة إلى المدوِّن ، فمناط اعتبار الوحدة لعدة مسائل

__________________

(١) وقريب من هذا ما ذهب إليه السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات نعم تفرد السيد المصنف (دام ظله) بأن الجامع للمدوّن ليس الغرض مطلقاً بل غرض المصنف الشخصي كما سيأتي.

٤٣

متشتتة وجعلها علما واحدا ، ليس هو وحدة الموضوع ، أو المحمول ، أو الغرض ، لأنه ، وان كان لها جامع حقيقي ، وهو تارة يكون بالموضوع ، وأخرى بالمحمول ، وثالثة بالغرض المترتب عليها ، إلا أنّ ذلك الجامع يختلف سعة وضيقا كما مر تفصيله.

بل المناط : هو غرض المصنف الشخصي ، مثلا تارة يتعلق غرضه بتدوين علم يترتب عليه غرض خاص كعلم المنطق ، وأخرى يتعلق بتدوين ما يعرف فيه أحوال الإنسان من تمام جهاته ، وثالثة يتعلق بتدوين ما يعرف به ما يعرضه الحركة والسكون ، وهكذا ... وهذا هو المصحح لهذا الاعتبار ، كما هو واضح بعد التدبر في ما ذكرناه.

* * *

٤٤

موضوع علم الأصول

الامر الخامس : في موضوع علم الأصول.

مما ذكرناه ظهر انه لا موضوع لهذا العلم ، ولكن لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا أنَّ له موضوعا ، فيقع الكلام في بيان ما هو الموضوع؟

ربما يقال : أن موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها. واختار هذا القول ، المحقق القمي (١) ، ونسب إلى كثير من الأصحاب ، بل قيل : انه المشهور بينهم.

أورد عليه (٢) : بان لازم ذلك ، خروج أكثر المسائل الأصولية عن علم الأصول ، وكونها من مباديه ، كمباحث الحجج والأمارات ، ومباحث الاستلزامات العقلية ، والأصول العملية ، وغير ذلك من المباحث لان البحث

__________________

(١) كما ذكر ذلك السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ١ ص ٢٨.

وقال المحقق القمِّي في كتابه قوانين الأصول ج ١ ص ٩ في المقدمة : «وأما موضوعه (أي موضوع علم الأصول) فهو أدلة الفقه وهي : " الكتاب والسنة والإجماع والعقل" ، وأما الاستصحاب فإن أخذ من الأخبار فيدخل في السنة وإلا فيدخل في العقل ، وأما القياس فليس من مذهبنا.

(٢) السيد الخوئي في المحاضرات ج ١ ص ٤. ولكن هذا الإيراد على تعريف المحقق القمي والذي نسب أيضاً للمشهور أورده غير واحد بل يمكن القول أن أكثر المتأخرين تعرضوا لهذا الإيراد ولكن بعبارات مختلفة ومع فوارق بسيطة.

٤٥

في مباحث الحجج والأمارات بأسرها بحث عن الدليلية فهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية ، فتدخل في مباديه.

والبحث في الاستلزامات العقلية بحث عن أحوال الأحكام بما هي أحكام ، لا عن عوارض الأدلة بما هي أدلة ، ولا بما هي هي ـ فتدخل في المبادئ الأحكامية ، وبذلك يظهر خروج الأصول العملية.

ولذلك عدل صاحب الفصول (١) عن هذا المسلك ، واختار أن الموضوع" ذوات الأدلة بما هي" ، وعليه فالبحث عن دليليتها ، بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.

ولكن يرد عليه : أن البحث في حجية خبر الواحد ، وسائر الإمارات على هذا خارج عن علم الأصول.

فان المراد من السنة : إن كان نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو كذلك ، فالبحث عن حجية الخبر بحث عن عوارض الحاكي للدليل لا عن عوارضه ، وأيضاً ، يلزم خروج مبحث التعادل والترجيح ، وما شاكله من المباحث والاستلزامات العقلية عنه.

__________________

(١) كما في المحاضرات ج ١ ص ٤ وقد تعرض غير واحد لتعريف صاحب الفصول ممن قارب عصره كالميرزا الآشتياني في بحر الفوائد وغيره ممن تأخر عنه.

وقال صاحب الفصول الغروية ص ١٢ «وأما بحثهم عن حجية الكتاب وخبر الواحد فهو بحث عن الأدلة لان المراد بها ذات الأدلة لاهي مع وصف كونها أدلة ...

٤٦

ولذلك التجأ الشيخ الأعظم (١) إلى إرجاع البحث عن حجية الخبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة ، وقال : فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة ، اعني قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة. انتهى.

أورد عليه المحقق الخرساني (٢) بقوله : فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارضه ، فإنها مفاد كان الناقصة.

لا يقال : هذا في الثبوت الواقعي ، وأما الثبوت التعبدي كما هو المهم في هذه المباحث ، فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فانه يقال نعم ، لكنه مما لا يعرض السنة ، بل الخبر الحاكي لها ، فان الثبوت التعبدي ، يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به ، وهذا من عوارضه ، لا عوارضها. انتهى.

وقد ذُكر ـ لإرجاع البحث عن ثبوت السنة بالخبر بالثبوت التعبدي ، إلى البحث عن عوارض السنة انتصاراً للشيخ الأعظم ـ وجهان :

أحدهما : ما في تعليقة المحقق الأصفهاني على الكفاية (٣) ، وحاصله : أن

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ١٠٨. عند الحديث عن الظنون الخارجة بالنصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم.

(٢) كفاية الأصول ص ٨. م.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ١٥.

٤٧

حجية الخبر ، عبارة عن تنزيله منزلة السنة ، فهو وجود تنزيلي لها ، وهذا المعنى كما له مساس بالخبر كذلك له مساس بالسنة ، فان حاصل البحث ، إثبات وجود تنزيلي للسنة ، وبهذا الاعتبار يقال بثبوت السنة تعبدا.

وفيه أولاً : انه قد حققنا في محله ، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب (١) ، أنه لا تنزيل في باب الحجج ، بل جعل الحجية ، عبارة عن جعل الحكم المماثل ، أو تتميم الكشف ، فلا يكون مؤدى الخبر ، منزلاً منزلة الواقع.

فان قلت : إن جعل الكاشفية للخبر ، يلازم جعل المنكشفية للسنة ، وصيرورتها محكية ، يرجع البحث فيها إلى البحث عن عوارض السنة.

قلت : إن غرض الأصولي متعلق بالجهة الأولى ، وأما الجهة الثانية فلا يبحث عنه الأصولي ، وإنما هي لازمة لما يبحث عن ثبوته ، وهو كاشفية الخبر.

ثانيهما : إنَّ حجية الخبر ، عبارة عن تنجز السنة بالخبر ، فالبحث عن حجية الخبر ، بحث عن عوارض السنة.

وفيه : مضافا إلى ما حقق في محله ، من عدم معقولية جعل المنجزية وسيأتي مفصلا في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

أن المجعول هو المنجزية للخبر لا المتنجزية للسنة ، وان كانت هي لازمة لما هو المجعول ، فهو أشكال وجواب ، كالثبوت التعبدي.

فإيراد المحقق الخراساني على الشيخ الأعظم ، متين لا يمكن الجواب عنه ،

__________________

(١) زبدة الأصول ج ٣ ص ٤١ ـ ٤٢ من الطبعة الاولى (قيام الامارات والاصول مقام القطع).

٤٨

فهذا الوجه أيضاً لا يتم.

ولذلك عدل صاحب الكفاية (١) عن مسلك المشهور ، والتزم بان موضوع علم الأصول ، عبارة عن جامع مقولي واحد لموضوعات مسائله. وقد مر ما في ذلك مفصلا.

فعلى فرض لزوم البناء على وجود الموضوع.

فالحق أن يقال : انه الجامع الانتزاعي من مجموع مسائله ، كعنوان ما يقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط ، وتعيين الوظيفة في مقام العمل.

* * *

__________________

(١) الكفاية ص ٨ بقوله (إن موضوع علم الأصول الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة).

٤٩

تعريف علم الأصول

الامر السادس : في تعريف علم الأصول.

المعروف بين الأصحاب في تعريف علم الأصول ، " أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي" (١).

قال في الكفاية (٢) : الأولى تعريفه : " بأنه صناعة ، يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليه في مقام العمل" انتهى.

ووجه الأولوية أمور ، عمدتها اثنان :

أحدهما : خلوه من ذكر العلم.

وهو متين ، إذ الأصول ليس هو العلم بالقواعد الخاصة ، بل هو الفن والصناعة ، وهي نفس المسائل التي يتعلق بها العلم تارة ، والجهل أخرى ، وأما العلم بتلك القواعد ، فهو العلم بالأصول ، لا علم الأصول.

ثانيهما : إضافة قيد : " أو التي ينتهي إليها في مقام العمل" لتدخل مسألة

__________________

(١) تناقل هذا التعريف أغلب من كتب في الأصول ويمكن القول أنه لا يخلو كتاب من المتأخرين لم يتعرض له ومن ذلك صاحب القوانين ج ١ ص ٥ / بدائع الأفكار ص ٢٦ وغيرهما.

(٢) كفاية الأصول ص ٩.

٥٠

حجية الظن على الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في علم الأصول.

توضيح ذلك : انه (ره) في أول مسألة البراءة ، صرح (١) : بان الأصول العملية لا تقع في طريق استنباط الأحكام ، لأنها وظائف مجعولة للجاهل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على الحكم الشرعي.

وأما حجية الظن على الحكومة (٢) في حال الانسداد ، فالمراد بها ، التبعيض في الاحتياط ، والاكتفاء في مقام الامتثال بالامتثال الظني كما حققناه في محله ، فلو اقتصر في التعريف ، على ما اشتهر ، لزم خروج هذه المسائل عن الأصول ، وهو بلا وجه. وهذا هو الوجه لإضافة هذا القيد ، وعدم الاقتصار على تعريف المشهور.

لا ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٣) : من أنّ الأصول العملية على قسمين : الأول : الأصول الشرعية ، والثاني : الأصول العقلية ، والأصول الشرعية بأنفسها أحكام شرعية ، لا أنها واسطة في استنباطها ، والأصول العقلية ، لا تنتهي إلى حكم شرعي أبداً ، والظن الانسدادي لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن به

__________________

(١) الكفاية ص ٣٣٧ في أول المقصد السابع. والمنقول عنه هنا بتصرف.

(٢) هذا التعبير اختصار لما استدلوا به في نهاية أدلة حجية الخبر من أنه إذا انسد باب العلم والعلمي فيدور الأمر بين ترك التكليف وفيه مخالفة قطعية لما هو معلوم قطعا من وجود تكاليف في الشريعة ، وبين العمل بالظن أو الشك والوهم ولا شك من حكم العقل بلزوم العمل بالظن لان الثاني ترجيحٌ للمرجوح.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ١٧ ـ ١٨.

٥١

أبدا.

ثم انه (ره) سرّى هذا الإشكال إلى جل المسائل الأصولية ، بدعوى أن المجهول في الإمارات غير العلمية سندا كخبر الواحد ، إما أحكام مماثلة لما اخبر به العادل ، أو منجزيتها للواقع ، وعلى الأول ، تكون نتيجة البحث عن حجيتها ، حكما شرعيا ، وعلى الثاني ، لا ينتهي إلى حكم شرعي ، وكذلك في الإمارات غير العلمية دلالة ، كالظواهر ، بل يتعين فيها الثاني ، لان دليل حجيتها بناء العقلاء ، ولا معنى للالتزام بان هناك حكما من العقلاء مماثلا لما دل عليه ظاهر اللفظ حتى يكون إمضاء الشارع أيضاً كذلك.

ثم ادخل مباحث الألفاظ في ذلك من جهة أن نتائجها لا تقع في طريق الاستنباط إلا بتوسط حجية الظواهر التي عرفت حالها.

ثم بعد ذلك تصحيحاً لتعريف المشهور بنحو لا يرد عليه هذا الإيراد قال (١) : " إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلا تحصيل الحجة على الحكم الشرعي".

وهذا المعنى كما ينطبق على حجية الإمارات ، لأنها بأي معنى كانت دخيلة في إقامة الحجة على حكم العمل في الفقه ، كذلك ينطبق على حجية الأصول العملية ، وعليه فعلم الأصول ، ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي من دون لزوم التعميم.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ١٩.

٥٢

أما ما ذكره في تعريف الاستنباط (١) ، فهو مما لا تساعد عليه اللغة ، ولا الاصطلاح.

وأما الجواب ـ عن اصل الإشكال بحيث يتم ما ذكره المشهور ، ويندفع ما أورد عليه ـ فيتوقف على بيان مقدمات :

الأولى : إن المراد من الأحكام الشرعية ، إنما هي الأحكام الكلية القابلة للإلقاء إلى المقلدين ، ويكون تطبيقها على مصاديقها بيد المقلدين لا المجتهدين ، فلا تشمل الأحكام الجزئية ، كحرمة الخمر المعيَّنة الخارجية ، ولا الأحكام الكليَّة التي يكون أمر تطبيقها بيد المجتهد ، ولا يقدر المقلِّد على ذلك ، وليست هي وظيفته.

الثانية : إن المراد بها ، اعم من الأحكام الظاهرية والواقعية.

الثالثة : إن المراد من القواعد التي تقع في طريق الاستنباط ، ما يمكن أن يقع

__________________

(١) المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية ج ١ ص ١٩ قوله : «إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلّا تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، ومن الواضح دخل حجية الأمارات بأي معنى كان في إقامة الحجّة على حكم العلم في علم الفقه ، وعليه فعلم الأصول ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي من دون لزوم التعميم إلّا بالإضافة إلى ما لا بأس بخروجه كالبراءة الشّرعية الّتي معناها حلّية مشكوك الحرمة والحلية لا ملزومها ولا المعذر عن الحرمة الواقعيّة. ، وأمّا الالتزام بالتعميم على ما في المتن ففيه محذوران. الخ». وفي ج ٢ ص ١٨٨ قال : «بل الاستنباط والاجتهاد تحصيل الحجّة على الحكم.»

٥٣

في طريق الاستنباط ، لا الواقعة في ذلك الطريق على كل تقدير.

وبعبارة أخرى ، المراد بها ، المسائل التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط في الجملة وعلى بعض التقادير ، ولا يعتبر وقوع النتيجة على جميع التقادير في طريق الاستنباط ، مثلا : مسألة حجية الخبر الواحد ، مسألة تقع نتيجتها في طريق الاستنباط على تقدير القول بالحجية ، ولا تقع في ذلك الطريق على فرض القول بعدم الحجية.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الإمارات غير العلمية تقع في طريق الاستنباط بمعنى انه لو انضم إلى نتيجة البحث فيها صغرياتها ، تكون النتيجة حكما كليا فرعيا ، سواء قلنا : بان المجعول فيها ، الطريقية ، أو الحكم المماثل.

أما على الأول فواضح.

وأما على الثاني فلان نتيجة البحث فيها وان كان حكما شرعيا إلا أنه حكم غير قابل للإلقاء إلى المقلدين ، بل أمر تطبيقها على صغرياتها بيد المجتهد ، وهذا بخلاف الحكم المستخرج منها ، بعد ضم الصغرى إليها ، فانه يكون حكما كليا قابلا للإلقاء إلى المقلدين.

وبهذا ظهر حال الأصول العمليَّة الشرعية كالاستصحاب ، فإنها وان كانت بأنفسها أحكاما إلا أنها لا يصح إلقائها إلى المقلدين ، نعم بينهما فرق ، وهو أنّ المستخرج من الإمارات حكم واقعي ، والحكم المستخرج من الأصول العملية حكم ظاهري ، وهذا لا يوجب الفرق فيما هو ضابط كون المسألة أصولية.

وأما الأصول العقلية ، فهي بأنفسها ليست من المسائل ، ولم تُعنون في

٥٤

الأصول ، مثلا : في الأصول ، لا يبحث عن قبح العقاب بلا بيان ، بل هي قاعدة مسلمة عند الجميع ، وهي مسألة كلامية ، والمخالف فيها إنما هو الأشعري ، كما لا يبحث فيها عن وجوب دفع الضرر المحتمل ، واستحالة الترجيح بلا مرجح ، والتكليف بما لا يطاق ، وإنما تكون هذه ، قواعد مسلَّمة عند الكل ، بل في الأصول ، في مسألة البراءة ، إنما يبحث عن انه هل يجب التوقف والاحتياط في الشبهة التحريمية لأخبار الاحتياط والتوقف أم لا دليل على وجوبه؟

واختار الاخباريون الأول ، وذهب الأصوليون إلى الثاني ، وحيث انه على تقدير ثبوت دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط تقع النتيجة في طريق الاستنباط ، لأنه إذا انضم إليها (إن شرب التتن محتمل الحرمة) يستنج حكم فرعي كلي ، وهو عدم جواز شرب التتن ، فتكون المسألة أصولية ، وان كان على تقدير العدم والدخول في قاعدة : " قبح العقاب بلا بيان" لا يستنبط حكم أصلاً ، كما عرفت في المقدمة الثالثة.

كما انه في مبحث الاشتغال ، إنما يبحث عن شمول أدلة البراءة ، كحديث الرفع وغيره ، لأطراف العلم الإجمالي والشبهات قبل الفحص ، أم لا؟ وعلى تقدير العدم يرجع إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فيما يمكن الموافقة والمخالفة ، واستحالة الترجيح بلا مرجح فيما لا يمكن ، وحيث انه على تقدير الشمول ، يستنبط من ضم الصغرى إلى نتيجة المسألة حكم فرعي كلي ، فتكون المسألة أصولية.

وقد يقال : انه على ما ذكرت تكون ، قاعدة الطهارة وقاعدة لا ضرر ، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، من المسائل الأصولية :

٥٥

فانه يستنتج من الجميع أحكام فرعية كليَّة ، مثلا يستنتج من الأولى طهارة الحديد ، ومن الثانية عدم لزوم البيع الغبني ، ومن الثالثة أن البيع الفاسد يضمن به.

أقول : أما قاعدة الطهارة ، فهي وان انطبقت عليها تعريف مسائل الأصول إلا أن وجه عدم عدِّها من المسائل ، أمران :

الأول : اتفاق الكل عليها ، ولم يخالف فيها أحد كي تُعنون وينازع فيها ، والذي يدلنا على أن هذا هو وجه عدم التعرض لها ، إلغاؤهم لجملة من المباحث الأصولية وعدم تعرضهم لها ، كمسألة حجية القياس ، ولذا تكون مذكورة في عداد المسائل في كتب القدماء.

الثاني : أن المسائل الأصولية بالتتبع والاستقراء ، هي ما يفيد في جميع أبواب الفقه أو أكثرها ، وليست قاعدة الطهارة كذلك.

وأما قاعدة لا ضرر فقد حققناه في محله (١) ، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب (٢) ، إن الضرر المنفي هو الضرر الشخصي ، لا النوعي ، وعليه فلا يستنتج منها حكم كلي ، وإنما يستنتج منها أحكام جزئية شخصية ، ولذلك ذكرنا في محله : انه لا يمكن إثبات خيار الغبن بحديث لا ضرر.

ومنه : يظهر ما في قاعدة : " ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده" لما حقق

__________________

(١) فقه الصادق ج ١٨ ص ٤٠٢ (الميزان هو الضرر الشخصي) الطبعة الثالثة ، قم المقدسة.

(٢) زبدة الأصول ج ٣ ص ٤٦٢ (الميزان في الضرر الشخصي) الطبعة الاولى.

٥٦

في محله (١) ، من أن المراد بها ، انه كل عقد شخصي خارجي إن كان صحيحا ، يضمن به ، فكذلك على تقدير الفساد.

* * *

__________________

(١) في القواعد الفقهية والمكاسب المحرمة (كتاب البيع) هذه القاعدة معروفة ومعنونة.

٥٧

العلقة الوضعية ليست من الأمور الواقعية

الامر السابع : في الوضع ، والكلام فيه في جهات :

الأولى : إن العلقة الوضعية التي تكون بين اللفظ والمعنى ، ولاجلها يدل اللفظ على المعنى ، هل هي ذاتية؟ أم جعلية محضة؟ أم تكون وسطا بينهما؟.

الثانية : انه على فرض كون العلقة جعلية ، ما ذا يكون مجعولا؟.

الثالثة : في أقسام الوضع إمكانا ، وأقسامه وقوعاً.

أما الجهة الأولى : فقد يقال : أنها ذاتية (١) ، بمعنى أنها من الأمور التكوينية الواقعية ، ولكنه فاسد ، لان الأمور الواقعية على قسمين :

الأول : الموجودات الخارجية.

الثاني : النفس الأمرية التي يكون الخارج ظرفا لنفسها لا لوجودها ، أي لا وجود خارجي لها ، ومع ذلك لا تكون فرضية واعتبارية كالملازمات ، واستحالة

__________________

(١) هذا القول نسبه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ص ٨١ قاعدة ١٨ إلى عبّاد بن سليمان الصيمري قال : «وذهب عبّاد بن سليمان الصيمري وجماعة إلى أن الألفاظ لا تحتاج إلى وضع ، بل تدل بذاتها ، لما بينها وبين معانيها من المناسبة. كذا نقله في المحصول» / وفي تحقيق التمهيد لمكتب التحقيق الإسلامي خرَّجه في المحصول ج ١ ص ٥٧ / وفي فواتح الرحموت ج ١ ص ١٨٤ / اضافة إلى أن المحقق صاحب الفصول ص ١٣ حكاه عنه ، وكذلك صاحب القوانين أيضا ج ١ ص ١٩٣ ، والظاهر أن عبَّاد كان من المعتزلة.

٥٨

اجتماع النقيضين ، فإنها أمور واقعية ومع ذلك لا وجود لها.

والقسم الأول : ينقسم إلى الجوهر والعرض ، أما عدم كون الوضع من الجواهر ، فلان الجوهر هو الموجود لا في الموضوع ، والوضع ليس له وجود خارجي ، وعلى فرضه ، يكون وجوده بوجود المرتبطين.

وأما عدم كونه من الأعراض ، فلان هذه العلقة قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى لا بوجودهما ، ولذا يصح الوضع للمعدوم بل للمستحيل ، وأما عدم كونه من الأمور النفس الأمرية ، فلان المراد بكونه منها ، إن كان كونه من المدركات العقلية ، نظير الملازمة بين طلوع الشمس والنهار ، فهو بديهي الفساد.

إذ لا ريب في انه مع الجهل باللغة لا ينتقل الذهن إلى المعنى من تصور اللفظ. وان كان المراد ، ثبوت المناسبة الذاتية بين كل لفظ ومعناه ، وان كانت تلك المناسبة بنحو لا يلتفت إليها الواضع حين الوضع ، وهو وان لم يكن مستحيلا ، إلّا انه لا بد من إقامة البرهان عليه.

والاستدلال له : ـ بأنه بما أن نسبة جميع الألفاظ إلى كل معنى من المعاني على حدٍّ سواء فوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص من دون تلك المناسبة ، ترجيح بلا مرجح ، وهو محال ، فلا بد من الالتزام بثبوتها ـ.

فاسد ، لعدم استحالة الترجيح بلا مرجح ، كما حقق في محله ، لا سيما إذا كان هناك مرجح لاختيار الطبيعي الجامع بين الأفراد ، فانه في هذه الصورة لا قبح فيه أيضاً ـ وسيأتي الكلام في ذلك في مبحث الطلب والإرادة ـ مع أن المرجح يمكن أن يكون أمراً خارجيا ، كمن يسمى ولده (رضا) لكونه متولدا

٥٩

في يوم تولد إمامنا الرضا مثلا.

مضافا إلى أن الالتزام بذلك ، غير مربوط بالمدَّعى ، وهو كون العلقة أمراً واقعيا ، وإنما يكون ذلك التزاما بان منشأها أمراً حقيقيا.

فتحصل عدم كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية محضة.

وقد يدَّعى كما عن المحقق النائيني (ره) (١) بأن الوضع وسط بين الواقعيات والجعليات. وحاصل ما ذكره : انه بعد ما نقطع بحسب التواريخ انه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ للمعاني ، ونرى عدم كون الدلالة ذاتية.

فلا محيص عن الالتزام بان الواضع هو الله تعالى جعل لكل معنى لفظا خاصا لما بينهما من مناسبة مجهولة عندنا ، وهذا الجعل منه تعالى ليس جعلا تكوينيا كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ، ولا جعلا تشريعيا كجعل الأحكام المحتاج إيصالها إلى إرسال الرسل ، بل يكون وسطا بينهما ، ويلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم بالتكلم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ، فحقيقة الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي.

ويرد عليه : مضافا إلى أن لازم ما ذكره عدم كونه أمراً واقعيا بل جعليا ، غاية الأمر طريق إيصاله غير طريق إيصال سائر المجعولات الشرعية وذلك لا يخرجه عن كونه جعلياً ، هذا البرهان مؤلف من أمرين :

الأول عدم إمكان كون الواضع هو البشر : لاستحالة إحداث شخص أو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٩.

٦٠