زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) ، بان ذلك يتم لو كان التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل السلب والايجاب ، ولكن حيث يكون الاطلاق متوقفا على ورود الحكم على المقسم وتمامية مقدمات الحكمة فالتقابل بينهما يكون تقابل العدم والملكة ، وعليه ، فإذا فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسك بالاطلاق.

وما نحن فيه من هذا القبيل فان انقسام المتعلق بما إذا اتى به بقصد الامر وعدمه يتوقف على ورود الامر وليس في مرتبة سابقة عليه مقسم اصلا ، فالحكم لم يرد عليه ، فلا معنى للتمسك بالاطلاق ، وعلى ذلك بنى على ان كل مورد لم يكن قابلا للتقييد يمتنع الاطلاق فيه ايضا.

واورد عليه الاستاذ الاعظم (٢) ، بان من اشتاق إلى فعل وكان ملتفتاً إلى امكان وجوده في الخارج على وجوه.

فاما ان يتعلق شوقه بخصوص حصة خاصة منه مقيدة بقيد وجودي أو عدمي.

أو يتعلق بمطلق وجوده القابل للانطباق على كل واحد من الوجودات الخاصة ، من غير فرق بين التقسيمات الاولية ككون الصلاة بطهارة أو بدونها.

وبين التقسيمات الثانوية ككون المكلف عالما بالحكم أو جاهلا ، وكون

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١١٣ (الأمر الثالث) وفي الطبعة الجديدة ص ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٢) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ١١٣ وكان قد اورد تفصيل ذلك في الحاشية ص ١٠٣ كما اشار (الأمر الثاني) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٦٨ والتفصيل ص ١٥٦.

٥٠١

الصلاة مع قصد القربة أو بدونه : لان متعلق الشوق لا بد وان يكون متعينا في ظرف تعلقه به ويستحيل فرض الاهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعين له في فرض تعلقه به ، فكما ان الملتفت إلى انقسام الماء إلى حار وبارد إذا اشتاق إلى شربه لا مناص له من تعلق شوقه اما بالمطلق أو بالمقيد فكذلك الملتفت إلى انقسام الصلاة إلى قسمين ، باعتبار انه تارة يؤتى بها مع قصد القربة ، واخرى بدونه اما ان يتعلق شوقه بالمطلق أو بالمقيد ، وعليه فإذا فرض استحالة التقييد باتيانها مع قصد القربة كان الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا ، وإذا فرض استحالة التقييد بالخلاف ايضا فالاطلاق يكون ضروريا.

واورد على ما استدل به المحقق النائيني لاستلزام استحالة التقييد استحالة الاطلاق : بان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة :

بان القابلية المعتبرة فيه لا يلزم ان تكون شخصية دائما بل يجوز ان تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ألا ترى انه يصدق على الإنسان انه جاهل بحقيقة ذات الواجب مع انه يستحيل ان يكون عالما بها (١).

أقول : تحقيق القول في المقام على نحو يظهر ما هو الحق عندنا وما يرد على هؤلاء الاساطين يقتضي ان يقال :

انه في الانقسامات الاولية والثانوية امتناع التقييد في مقام الثبوت إلى جعل الحكم.

__________________

(١) الظاهر ان هذا الايراد للسيد الخوئي (قدِّس سره) في محاضرات في الأصول ج ٢ ص ١٧٤ ـ ١٧٥. وفي حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ١٠٤ وفي الطبعة الجديدة ص ١٥٦.

٥٠٢

تارة يكون لاجل امتناع شمول الحكم للمقيد بهذا القيد ، مثل تقييد الصلاة الواجبة بالافراد الخارجة عن تحت قدرة المكلف.

واخرى يكون لاجل امتناع تخصيص الحكم بالمقيد بهذا القيد كتخصيص الولاية بالفاسق : فانه مستلزم لترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، وصدوره من الحكيم محال.

وثالثة لاجل مانع في نفس الجعل ، والا فشمول الحكم له بعد جعله لا محذور فيه كما ان التخصيص به مما لا يترتب عليه محذور.

فان كان الامتناع من الجهة الاولى ، فلا محالة يمتنع الاطلاق ايضا فانه لا فرق في شمول الحكم بين كونه ثابتا له بالخصوص أو لما يعمه ، فكما ان التكليف بغير المقدور ممتنع ، كذلك التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، فتأمل فإن في خصوص المثال كلاما تقدم.

وان كان الامتناع من الجهة الثانية فالاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروري فان المانع انما هو في التخصيص لا في شمول الحكم.

وان كان من الجهة الثالثة ، فان كان الاطلاق عبارة عن دخل جميع الخصوصيات في الحكم ، فإن امتناع التقييد مستلزم لامتناع الاطلاق ، إذ لا فرق في امتناع الجعل بين كونه بنحو التقييد ، أو الاطلاق ، وان كان الاطلاق عبارة عن رفض القيود ، وعدم دخل شيء من الخصوصيات في الحكم ، فامتناع التقييد لا يستلزم امتناع الاطلاق ، ولا كونه ضروريا ، كما لا يستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا.

٥٠٣

اما الأول فلانه يمكن جعل الحكم على الطبيعة الجامعة.

ودعوى ان الاطلاق يتوقف على ورود الحكم على المقسم ، وهو ممتنع في الانقسامات الثانوية كما في المقام إذ ليس في مرتبة سابقة على جعل الحكم مقسم اصلا فلا يمكن ورود الحكم عليه.

مندفعة بانه يعتبر في الاطلاق ورود الحكم على ذات المقسم وهي الطبيعة الجامعة المعراة عن جميع الخصوصيات ، لا بما هو مقسم فعلي.

واما الاخيران : فلانه يمكن ان يكون الغرض مترتبا على المقيد ، بهذا القيد وشوق المولى متعلقا به خاصة ، وانما لم يؤمر به لمانع في الجعل وعليه ، فليس له جعل الحكم مطلقا ولا مقيدا بخلاف ذلك القيد ، هذا بحسب مقام الثبوت.

واما في مقام الاثبات ، فإذا امتنع التقييد لا يمكن التمسك بالاطلاق إذ من مقدمات الحكمة انه كان له ان يقيّد ولم يقيّد وهذه المقدمة غير جارية في الفرض.

فتحصل مما ذكرناه انه في المقام لو فرض عدم امكان اخذ قصد الامر في المتعلق لا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات كون الواجب توصليا ، فلا مناص عن الرجوع إلى ما يقتضيه الاطلاق المقامي لو كان ، والا فإلى ما تقتضيه الاصول العملية وستعرف تنقيح القول فيهما.

كما انه ظهر عدم تمامية شيء من كلمات ائمة الفن فان مورد كلامهم هو امتناع التقييد من الجهة الثالثة.

وعليه فما افاده الشيخ الاعظم (ره) من ان امتناع التقييد يوجب كون

٥٠٤

الاطلاق ضروريا وثابتا.

وما افاده الاستاذ الاعظم من كونه مستلزما لكون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا.

يرد عليهما انه يمكن ان يكون ما فيه الغرض ومتعلق الشوق المقيد بهذا القيد.

واما ما افاده العلامة النائيني (ره) فلأنه يتوقف على كون الاطلاق عبارة عن دخل جميع الخصوصيات في الحكم.

وقد عرفت ما فيه فتدبر فإن ما ذكرناه في المقام هو القول الحق.

ما يقتضيه الاطلاق المقامي

ثم انه على فرض الاغماض عما ذكرناه من امكان اخذ قصد القربة في المتعلق ، الذي عليه بنينا جواز التمسك بالاطلاق اللفظي ، وفرض امتناع اخذه في المأمور به ، يكون مقتضى الاطلاق المقامى البناء على كون الواجب توصليا حتى تثبت التعبدية :

وذلك لان المولى إذا كان في مقام البيان وكان القيد على فرض دخالته مما لا يمكن اخذه في المأمور به ، فان كان القيد مما لا يغفل عنه العامة كقصد القربة ، وكان مما يحكم العقل ولو من باب الاحتياط بلزوم الاتيان به ، فعدم بيان المولى دخله في حصول الغرض ، ولو بنحو الأخبار ، لا يعد إخلالا بالغرض فلا يصح

٥٠٥

التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات عدم دخله في المأمور به : إذ للمولى ان يتكل في بيان ما يحصل به الغرض على ما يحكم به العقل.

واما لو انتفى احد القيدين ، بمعنى ان العقل لم يكن حاكما بلزوم الاتيان به ، بل كان يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، أو كان القيد مما يغفل عنه العامة كقصد الوجه والتمييز ، فيصح التمسك بالاطلاق المقامى ، المتوقف على ان يكون عدم بيان دخل القيد على فرض دخالته اخلالا بالغرض حتى يصح ان يقال ان الحكيم حيث لا يخل بالغرض فيستكشف من عدم البيان عدم دخله في ما يحصل به الغرض ، الذي هو حقيقة الاطلاق المقامي.

اما مع انتفاء القيد الأول فواضح.

واما مع انتفاء القيد الثاني فلان القيد لو كان دخيلا ليس للمولى الاتكال على حكم العقل بلزوم الاتيان به لانه فرع الالتفات المفقود في الفرض ، وحيث ان المختار في جميع القيود المشكوك دخلها ، عدم الرجوع إلى قاعدة الاشتغال على ما ستعرف ، فيتمسك بالاطلاق المقامي لإثبات كون الواجب توصليا.

وبما ذكرناه ظهر امور :

الأول : ان الاطلاق المقامي يقتضي البناء على كون الواجب توصليا.

الثاني : ان ما اختاره المحقق الخراساني من عدم التمسك بالاطلاق المقامي في قصد القربة انما يكون صحيحا على ما بنى عليه ، من حكم العقل بلزوم الاحتياط عند الشك في دخله في حصول الغرض.

٥٠٦

الثالث : ان ما في الكفاية من انه إذا كان الامر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه ولم ينصب قرينة على دخل قصد الامتثال في حصوله يحكم بعدم دخله.

لا ربط له بالاطلاق المقامي ، فان هذا الوجه يتوقف على احراز كون المولى بصدد بيان تمام ما له دخل في الغرض ، والاطلاق المقامى من مقدماته لزوم القيام مقام البيان ، والا يكون اخلالا بالغرض.

الرابع : ان ما افاده المحقق الخراساني ، من انه يتمسك بالاطلاق المقامي لإثبات عدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ، تام.

ولا ينافي مع ما افاده من عدم التمسك به لإثبات عدم اعتبار قصد القربة (١).

ما يقتضيه الاصل العملي

واما القسم الثاني من المقام الأول : الشك في التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول وهو ما يقتضيه الاصل العملي ، فبناء على ما هو الحق من امكان اخذ قصد الامر في المأمور به ، لو شك في واجب انه تعبدي أو توصلي ، ولم يكن هناك اطلاق يثبت التوصلية.

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٧٥ (ثالثتها) بتصرف.

٥٠٧

لا كلام في ان المرجع هي اصالة البراءة بناءً على جريانها فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين : لعدم الفرق بين هذا القيد وسائر القيود.

واما بناءً على عدم امكان اخذه في المتعلق ، كما بنى عليه المحقق الخراساني ، فقد يقال كما في الكفاية.

انه لا مجال الا لاصالة الاشتغال وانه لا تجرى البراءة العقلية ولا الشرعية ، وان بنينا على جريانهما في ما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

اما عدم جريان البراءة العقلية في المقام مع جريانها في تلك المسألة فلان الشك هناك في نفس التكليف ، فإذا ترددت الصلاة الواجبة بين المشتملة على جلسة الاستراحة وفاقدتها ، يرجع الشك ، إلى الشك في التكليف بجلسة الاستراحة وعدمه.

وهذا بخلاف المقام ، فانه لا شك في التكليف سواء كان قصد الامر دخيلا ام لا ، بل الشك انما يكون في سقوط التكليف بمجرد الفعل بلا قصد القربة لحصول الغرض ، وعدم سقوطه لعدم حصوله ، ومعلوم ان الشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال.

واما عدم جريان البراءة الشرعية : فلانه في سائر موارد الاقل والاكثر ، دخل الجزء أو الشرط في حصول الغرض ، وان كان واقعيا غير قابل للوضع والرفع ، ولكن دخله في المأمور به شرعي وقابل للرفع والوضع ، فبدليل الرفع يكشف انه ليس هناك امر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك فيه يجب الخروج عن عهدته عقلا.

٥٠٨

بخلاف المقام فان قصد الامتثال على فرض دخله ، كما لا يكون دخله في حصول الغرض شرعيا قابلا للرفع ، كذلك لا يكون دخله في المأمور به شرعيا بمعنى انه ليس للشارع وضعه ، فليس له رفعه ، فهو غير قابل لتعلق الرفع الشرعي به ، وعلى ذلك فبما انه شك في سقوط الامر للشك في سقوط الغرض ، لو اتى بالفعل بلا قصد القربة ولا تجرى البراءة ، فلا مناص عن الرجوع إلى ما يستقل به العقل من لزوم الخروج عن عهدة التكليف ، وانه لا يكون العقاب مع الشك وعدم احراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.

هذا محصل كلامه (قدِّس سره) (١) بتوضيح منا.

واورد عليه المحقق النائيني بايرادين :

احدهما انه بناء على لزوم تحصيل الغرض ، لا بد من البناء على الاشتغال في سائر موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين وعدم الجدوى في جريان البراءة الشرعية ، والكلام في ذلك موكول إلى محله.

ثانيهما : ان الوجه في كون المرجع في المقام هي قاعدة الاشتغال ان كان من جهة رجوع الشك إلى الشك في حصول الغرض اللازم الاستيفاء لو اتى بالفعل مجردا عن قصد القربة كما هو ظاهر كلامه.

فيرد عليه ان ترتب الملاكات على الأفعال ليس من قبيل ترتب المسببات

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٧٥ ـ ٧٦.

٥٠٩

التوليدية على اسبابها كي يصح تعلق التكليف بها ، بل من قبيل ترتب المعلولات على عللها المعدة ، فليست تحت اختيار المكلف فلا يصح تعلق التكليف بها ، بل وظيفة المكلف حينئذ ليست الا الاتيان بالمأمور به كما تقدم تفصيل ذلك في مبحث الصحيح والاعم.

وعليه فلو اتى بالمأمور به وشك في حصول الغرض لا يحكم العقل بلزوم الاتيان بالفعل بنحو يسقط الغرض وهو اتيانه مع قصد الامتثال.

والجواب عن ذلك قد تقدم في مبحث الصحيح والاعم وعرفت ان نسبة الاغراض إلى الواجبات نسبة المسببات إلى اسبابها ، فراجع ولا نعيد ما ذكرناه.

فالصحيح في الجواب عن ما افاده المحقق الخراساني ان الاغراض المترتبة على الواجبات على قسمين :

الأول : ما يفهمه العرف والعامة ويكون محصله ايضا معلوما عندهم بمعنى ان له قدرا متيقنا ثابتا عندهم ، كالقتل ، والطهارة ، وفي هذا القسم يصح التكليف بالغرض وإذا شك في المحصل لا بد من الاتيان بما يقطع معه بحصول الغرض.

الثاني : ما لا يفهمه العرف ولا يدرون ما ذا يحصله ، وفي مثل ذلك لا يصح التكليف به ، بل وظيفة المولى حينئذ الامر بما يحصله ووظيفة المكلف الاتيان بالمأمور به واكثر الواجبات الشرعية من هذا القبيل ، فحينئذ لو اتى بالمأمور به بتمامه ومع ذلك شك في حصول الغرض لا مورد لقاعدة الاشتغال إذ تطبيق ما يفي بالغرض على ما امر به انما هو وظيفة المولى ولا يجب على العبد سوى الاتيان بالمأمور به.

٥١٠

فان قيل ان كان المشكوك دخله في الغرض مما امكن اخذه في المتعلق تم ما ذكرت ، إذ يصح الرجوع إلى قبح العقاب بلا بيان.

واما إذا كان مما لا يمكن اخذه كقصد القربة على الفرض ، فحيث انه لو كان دخيلا في حصول الغرض لما تمكن المولى من بيانه ، فلا مورد للرجوع إلى تلك القاعدة العقلية.

اجبنا عنه : ان المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لذلك الحكم العقلي ، ليس هو الامر ، بل المراد به الوصول ، وايصال المولى ، تارة يكون بامره ، واخرى بجعل وجوب الاحتياط ، وثالثة بالاخبار ، فانه ايضا ايصال ويرتفع به موضوع قبح العقاب بلا بيان ، وفي المقام وان كان لا يمكن الايصال بالامر ، الا انه للمولى الاخبار بدخله في حصول الغرض ، فإذا لم يبين يكون المرجع القاعدة المزبورة.

فتحصل انه بناء على جريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين تجرى البراءة في المقام ايضا ، فالاصل العملي ايضا يقتضى كون الواجب توصليا.

الشك في سقوط الواجب بفعل المحرم

واما المقام الثاني : وهو ما إذا شك في واجب انه توصلي أو تعبدي بالمعنى الثاني فالكلام فيه يقع في مواضع.

الموضع الأول : انه لو شك في واجب انه ، هل يسقط بفعل المحرم ، ام لا.؟

فهل الخطاب يقتضى عدم السقوط بمعنى انه يقتضى اعتبار صدوره على

٥١١

وجه غير محرم ، ام لا؟ وجهان :

اقواهما الأول : إذ لا ريب في تضاد الاحكام كما سيأتي تنقيح القول فيه في مبحث اجتماع الامر والنهى ، وعليه فإذا فرضنا بقاء الحرمة ، فلا يمكن ان ينطبق الطبيعة المأمور بها على ذلك الفرد في موارد امتناع الاجتماع وهي الموارد التي تنطبق الطبيعتان المتعلقة احداهما للامر ، والاخرى للنهي ، على الموجود الواحد.

نعم في موارد جواز الاجتماع وهو ما لو كان كل من الطبيعتين منطبقة على موجود ، غير ما ينطبق عليه الاخرى ، مقتضى القاعدة سقوط الأمر باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم ، من غير فرق بين التعبدي ، والتوصلي ، على ما سيأتي تحقيق القول في ذلك في محله.

وستعرف ان ما ذكره ـ المحقق النائيني ، من اعتبار الحسن الفاعلى في اتصاف الفعل الخارجي بالوجوب ، وعليه بنى عدم الصحة حتى في مورد جواز اجتماع الامر والنهي ـ غير تام.

مع انه في مورد جواز الاجتماع ، لفرض ان للمأمور به وجودا ، غير وجود المنهى عنه ، يكون الحسن الفاعلى باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم موجودا : إذ كما ان الوجود متعدد كذلك الايجاد لاتحاد الوجود والايجاد ، وتمام الكلام في محله.

ثم انه نسب إلى المحقق العراقي القول بان مقتضى القاعدة السقوط حتى في موارد امتناع الاجتماع.

٥١٢

واستدل له بانه لو كان للكلام ظهورات ودلالات متعددة ، فلا يسقط بعضها لاجل سقوط بعضها الآخر ، بل مقتضى القاعدة بقائه على الحجية.

والمقام كذلك : إذ للهيئة ظهوران واطلاقان :

احدهما : كون جميع افراد المادة مامورا بها.

ثانيهما : كون كل فرد من ما يصدق عليه المادة ذا مصلحة ملزمة.

فاطلاقها من الجهة الاولى قد قيد عقلا بالفرد غير المحرم ، فلا وجه لسقوط اطلاقها من الجهة الثانية عن الحجية ، وعليه فإذا اتى بالفرد المحرم يحصل الغرض ، وبتبع ذلك يسقط الامر.

ودعوى ان مقتضى الاطلاق الاحوالي للمقيد لزوم الاتيان بالفرد غير المحرم سواء اتى بالفرد المحرم غير المأمور به قبله ام لا ، فيقع التنافي بين هذين الاطلاقين.

مندفعة : بانه بما ان التقييد انما يكون بدليل منفصل فهو لا يقتضى سوى سقوط حجية ظهور المطلق في اطلاق ، ولا يوجب ذلك انعقاد ظهور للمقيد في التقييد. هذا محصل كلامه (قدِّس سره) (١).

وفيه : ان كشف وجود الملاك والغرض في مورد يتوقف على احد امرين :

الأول : إما كون الدليل في مقام بيانه ولو بالاطلاق.

__________________

(١) راجع كلامه (قدِّس سره) في نهاية الافكار ج ١ ص ٢٠٨ (الموضع الثالث من المقام الثاني).

٥١٣

الثاني : او ثبوت الامر الفعلي فيه ليكشف عن وجود الملاك كشف المعلول عن علته.

وليس في المقام بالنسبة إلى الفرد المحرم شيء منهما.

اما الأول فلان الدليل المتضمن لبيان الحكم انما يكون في مقام البيان من هذه الجهة ولا يكون في مقام بيان ما فيه الغرض زائدا على ذلك ، فلا يصح التمسك باطلاق الدليل لاثبات ذلك : فانه فرع تمامية مقدماته ، ومن جملتها كون المولى في مقام البيان ، وكونه في مقام البيان من جهة لا يكفي في التمسك بالاطلاق من الجهة الاخرى.

واما الثاني : فلفرض عدمه فلا كاشف عن وجود الملاك.

فتحصل انه في موارد امتناع اجتماع الامر والنهى ، لو قدم جانب النهي مقتضى القاعدة عدم السقوط باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم ، الا إذا قامت قرينة على السقوط الكاشف عن تحقق المصلحة ، فهي حينئذ تكون دليلا على ان التكليف مشروط بعدم هذا الفرد ، وعليه فلو شك في سقوطه بالفعل المحرم يشك في الاشتراط وعدمه ، ومقتضى الاصل اللفظي لو كان ، والعملي مع عدمه ، البناء على عدم الاشتراط ، فالاصل يقتضى عدم التوصلية بهذا المعنى.

الشك في سقوط الواجب بالفعل غير الاختياري

الموضع الثاني : لو شك في واجب انه ، هل يسقط إذا تحقق الفعل من دون إرادة واختيار ، ام لا؟

٥١٤

أقول : بناءً على ما تقدم في مبحث الطلب والارادة ، ويأتى في مبحث الضد من امكان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، لا مانع من التمسك بالاطلاق لو كان ، لاثبات عدم اعتبار القدرة شرعا في المأمور به ، ومع عدمه مقتضى اصالة البراءة عن اعتبار امر زائد على المقدار المعلوم تعلق التكليف به ذلك ، فالاصل هو التوصلية بهذا المعنى.

وقد استدل للاختصاص بالمقدور بوجوه :

الوجه الأول : الانصراف ، اما بدعوى انصراف مادة الأفعال إلى خصوص ما إذا صدرت عن إرادة واختيار ، أو بدعوى انصراف هيئاتها إلى ذلك ، فلا يصح التمسك بالاطلاق والاصل ، لعدم اعتبار القدرة والاختيار.

ولكن الدعويين فاسدتان :

اما الاولى : فلان المادة ان كانت قصدية بحيث لا يتحقق الا مع القصد كالتعظيم والتوهين فلا كلام فيها ، وان لم تكن بنفسها كذلك كالقيام والضرب ، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص ما إذا صدرت بارادة واختيار.

واما الثانية : فقد اجاب عنها المحقق النائيني (ره) (١) بان هيئات الأفعال موضوعة لافادة قيام المبادئ وانتسابها إلى فاعلها ، وهذا امر يشترك فيه جميع المواد على اختلافها اعم من ان تكون صادرة بالاختيار وصادرة من غير اختيار ، فدعوى الانصراف في الهيئة المشتركة بين الجميع خالية عن الدليل.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥٢.

٥١٥

ولكن هذا الجواب أي عدم الوجه للانصراف المزبور ، وان كان متينا على ما حققناه في بيان ما وضعت هيئة الامر له ، الا انه ليس للمحقق النائيني (ره) ان يجيب بذلك : فان دعوى المستدل وان كانت عامة الا ان محط نظره في المقام خصوص هيئة الامر ، فمثل المحقق النائيني (ره) الذي يرى انها وضعت لتحريك عضلات العبد نحو المطلوب ، لا مناص له من تسليم هذه الدعوى وارجاعها إلى ما افاده (قدِّس سره) في وجه الاختصاص.

الوجه الثاني : ما افاده المحقق النائيني (١) ، وحاصله ان الغرض من الامر هو بعثه وايجاد الداعي له لتحريك عضلاته نحو ايجاد المأمور به ، وهذا يستلزم كون المتعلق مقدورا له لانه من البديهي انه انما يمكن جعل الداعي في خصوص الفعل الارادي ، فحيث انه لا يمكن التخيير بينهما عقلا فيرجع الشك إلى الشك في اشتراط الخطاب وعدمه ، فالاطلاق والاصل يقتضيان عدم الاشتراط.

والجواب عن ذلك ان التكليف بخصوص غير المقدور الممتنع الوجود لغو لا يصدر عن الحكيم ، واما تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور الصادر من المكلف بغير اختياره فلا ارى فيه محذورا.

الوجه الثالث : ما افاده المحقق النائيني ايضا ، وهو انه يعتبر في المأمور به زائدا على الحسن الفعلي الحسن الفاعلى ، ولازمه تعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة إذ غير المقدورة لا حسن فاعلي فيها وان كان لها حسن فعلى.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٠٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥٤ (الثانى)

٥١٦

والجواب عنه مضافا إلى منع اعتباره كما مر ، ان لازمه كون الاصل في الواجبات التعبدية بمعنى اعتبار قصد القربة فيها كما لا يخفى.

فالمتحصل ان مقتضى الاطلاق كون الواجب هو الجامع ، وسقوط التكليف بالفعل غير الاختياري ، والاصل العملي يقتضى ذلك ايضا : إذ تقيد التكليف بخصوص الحصة المقدورة مشكوك فيه ، والاصل عدمه.

الشك في سقوط الواجب بفعل الغير

الموضع الثالث : لو شك في سقوط الواجب بفعل الغير ، فهل الاصل اللفظي أو العملي يقتضى السقوط ، أو عدمه ، وجهان ، بل قولان.

ولقد اطال المحقق النائيني (١) في المقام ، وقسم السقوط بفعل الغير إلى السقوط به مع الاستنابة وبدونها ، وافاد في كل من القسمين تحقيقات ، الا ان اقتضاء الاصل له ، لا يتوقف عليها.

والمنسوب إلى المشهور ان مقتضى الاطلاق سقوطه وكون الواجب توصليا بهذا المعنى من غير فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع أو بغير ذلك.

وحق القول في المقام : ان احتمال سقوط التكليف بفعل الغير في عالم الثبوت يتصور على انحاء.

__________________

(١) المصدر السابق

٥١٧

احدها : احتمال كون التكليف متعلقا بفعل نفسه أو غيره بنحو التخيير الشرعي ، أو بالجامع بينهما فيكون التخيير عقليا.

ثانيها : احتمال كون المتعلق هو فعله أو استنابته لغيره ، ونتيجة ذلك تخييره بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر.

ثالثها : ان يكون التكليف مرددا بين كونه مشروطا بعدم قيام غير (المكلف به فيسقط بفعل غيره ، وبين كونه مطلقا أي سواء قام به غيره ام لم يقم فلا يسقط.

وعلى الاولين ، يدور امر الواجب بين كونه ، تعيينيا ، أو تخييريا.

وعلى الثالث يدور امر الوجوب بين كونه مطلقا أو مشروطا.

وقد مر وسياتى في محله ان مقتضى الاطلاق كون الواجب تعيينيا عند دوران الامر بينه وبين كونه تخييريا ، كما ان مقتضى الاطلاق كون الوجوب مطلقا عند دوران الامر بينه وبين المشروط.

اضف إلى ذلك ان الاحتمال الأول غير معقول : لان تعلق التكليف المتوجه إلى شخص بفعل غيره غير معقول ، وكذا بالجامع بينه وبين فعل نفسه ، والاحتمال الثاني لازمه كفاية الاستنابة ومسقطيتها بنفسها ، ولو لم يأت بالفعل في الخارج وهو خلاف الفرض. اضف إلى ذلك كله ، ان الظاهر من الدليل في مقام الاثبات هو ذلك ، إذ كما انه إذا استند الفعل الماضي أو المضارع إلى شخص ، يكون ظاهرا في صدور المادة منه بالمباشرة ، كقولنا ضرب زيد فانه ظاهر في صدور الضرب من زيد بالمباشرة ، كذلك ، إذا امر به ، ووجه الخطاب إليه ،

٥١٨

وقال فليضرب زيد يكون ظاهرا في ان المطلوب هو صدوره منه بنفسه ، وعلى ذلك فاحتمال السقوط بفعل الغير ، مرجعه إلى الشك في اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير ، فمقتضى اطلاق الخطاب لو كان هو عدم الاشتراط.

واما الاصل العملي فالشك في الوجوب بعد فعل الغير على الاحتمال الثالث المعقول الذي لا محذور فيه ، شك في سقوط التكليف بعد ثبوته لا في اصل الثبوت ، فهو مورد لقاعدة الاشتغال والاستصحاب ، لا البراءة.

لا يقال انه لو شك في الوجوب من ناحية الشك في كونه مشروطا أو مطلقا مع الشك في وجود الشرط يكون المرجع اصالة البراءة لكون الشك في ثبوت الحكم لا في السقوط.

فانه يقال انه يتم ذلك مع عدم احراز فعلية التكليف ، كما لو شك في فعلية وجوب اكرام زيد من ناحية عدم مجيئه ، واحتمال شرطية المجيء لوجوب اكرامه ، واما مع احراز الفعلية كما في المقام واحتمال عدم التكليف من ناحية احتمال سقوطه بفعل الغير ، كما في تحنيط الميت لو فعله الصبى المميز ، فلا يتم لانه شك في سقوط التكليف بعد ثبوته فتدبر فانه دقيق.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الاصل هو التوصلية في هذا المقام.

تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري

المبحث الخامس : إذا علم بوجوب شيء ، وتردد امره بين ، الوجوب النفسي والغيري ، أو بين التعييني والتخييري ، أو بين العينى والكفائي ، فما ذا

٥١٩

يقتضيه الاصل والقاعدة؟ فالكلام في مسائل ثلاث :

المسألة الاولى إذا دار امر الوجوب بين النفسي والغيري ، فافاد المحقق الخراساني (١) ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا لان الوجوب الغيرى مقيد إذ معنى كونه غيريا انه منوط بوجوب شيء آخر والنفسي مطلق ، إذ هو الوجوب غير المنوط بشيء والاطلاق ينفى التقييد.

واورد عليه بان الوجوب النفسي هو الوجوب لا لغيره ، لا الوجوب المطلق ، غاية الامران قيده من القيود العدمية ، فالامر دائر بين ان يكون مشروطا بشيء وان يكون بشرط لا والاطلاق يثبت اللابشرطية لا بشرط اللائية.

وفيه : يمكن ان يقال انه بالاطلاق يثبت عدم كون الوجوب مترشحا من الغير ، ولازم ذلك كون الوجوب نفسيا غير مترشح من الغير ، وبديهى ان الاصل اللفظي كما يثبت به الشيء يثبت به لوازمه كما في سائر الامارات ، ولعله إلى ذلك يرجع ما افاده المحقق الخراساني.

وايضا يكون ذلك مراد بعض المحققين حيث قال ردا على الايراد ان القيود العدمية يكفي فيها عدم القرينة على الوجودية بدعوى ان مجرد ذلك دليل عدمها وإلا لزم نقض الغرض.

المسألة الثانية : لو شك في واجب انه تعييني أو تخييري.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ٧٦ : قضية اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا لان كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب.

٥٢٠