زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

انصراف حقيقة الطلب ولبّه لا انصراف الصيغة (١).

ويرد على ذلك مضافا إلى انه امر دقيق لا يتكل عليه عند بيان أمر عرفي ، ان لازم ذلك حمل الامر على اعلى مراتب الوجوب في الشدة والتأكد.

فالصحيح في وجه ظهور الامر في الوجوب بناء على ذلك هو بناء العقلاء كما يظهر بالمراجعة إلى الاوامر الصادرة عن الموالى العرفية :

فانه لا ريب في عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب ، ويصح عقاب المولى على مخالفته ، وان لم يعين الوجوب ، راجع المحاورات العرفية.

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

المبحث الثالث : هل الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ككلمة اعاد ـ يعيد ـ أو ما شاكلهما ظاهرة في الوجوب ام لا؟

والكلام فيها يقع في مقامين.

المقام الأول : في ان الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ، هل تستعمل في غير معناها ، أو تكون مستعملة في معناها؟

__________________

(١) المصدر السابق. إضافة إلى ان صاحب البدائع ص ٢٧١ قال : ومن الغريب مما يستفاد من بعض عبارات صاحب الحاشية ، ونقل عن اخيه (أي صاحب الفصول) صريحا من ان تبادر الوجوب من الصيغة انما هو لانصراف حقيقة الطلب ولبّه اليه .. الخ.

٤٦١

وعلى الأول : فهل تستعمل فيه مجازا ، ام بنحو الحقيقة؟

وعلى الثاني : فهل هو استعمال فيه بداعي الاعلام ، أو انه من قبيل الاخبار عن تحق المقتضى ، لاجل العلم بتحقق المقتضي (بالكسر) للغفلة عن مانعه أو عدم شرطه ، أو عدم الاعتناء به؟ كما هو كذلك في اخبار المنجمين والاطباء وجوه واقوال :

اما الوجه الأول : فقد اختاره القدماء ، وهو خلاف الاستعمالات الشائعة المتعارفة.

واما الوجه الثاني : فقد اختاره الاستاذ الاعظم ، وقد تقدم الكلام في توضيح ما ذكره في هذا المقام ، وما يرد عليه في اوائل الكتاب (١) في مبحث الاخبار والانشاء فراجع (٢).

واما الوجه الرابع : فيرد عليه ان امر المولى وطلبه ليس مقتضيا للفعل بل يكون داعيا إليه ، وعلى فرض كونه مقتضيا ليست إرادة المأمور من قبيل الشرائط التي تغفل عنها ولا يعتنى باحتمال عدمها عند العرف والعقلاء.

واما الوجه الثالث : فافاده المحقق النائيني (ره) (٣) قال ان المستعمل فيه في الموردين أي مقامي الانشاء والاخبار شيء واحد وهو ـ النسبة التلبسية ـ غاية الامر انها إذا استعملت في مقام الاخبار يكون ظرف النسبة الخارج وتدل على

__________________

(١) زبدة الأصول ج ١ ص ٦٢ (وضع المركبات) من الطبعة الاولى

(٢) زبدة الأصول ج ١ ص ٤٦ (تحقيق الانشاء والاخبار) من الطبعة الاولى.

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٨٨ (المقام الأول) ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٣٤.

٤٦٢

النسبة التلبسية في الخارج وإذا استعملت في مقام الانشاء يكون ظرفها هو عالم التشريع.

وفيه : ان هيئة فعل المضارع لم توضع لكل نسبة تلبسية ، بل للنسبة التلبسية الصدورية ، وعليه فإذا استعملت في مقام الانشاء لا تكون مستعملة فيما وضعت له على هذا فان النسبة المتحققة بالطلب في عالم التشريع غير هذه النسبة.

والحق : ان يقال انها تستعمل في معنى واحد سواء ، أكانت مستعملة في مقام الاخبار ، ام استعملت في مقام الانشاء ، ولكن في المورد الثاني يكون الاستعمال كنائيا أي استعملت في معناها واريد منه الانتقال إلى لازمه ، وهو تعلق الشوق بالفعل ، وهذا النحو من من الاستعمال شايع.

المقام الثاني : في وجه دلالتها على الوجوب.

وملخص القول فيه ، ان الكلام في ذلك هو الكلام في دلالة صيغة الامر على الوجوب ، من حيث الاقوال ، والمختار ، والادلة.

الا ان في المقام وجها آخر للدلالة على الوجوب ذكره المحقق الخراساني (١) ،

وحاصله : ان الاخبار بالوقوع في مقام الطلب كاشف عن كون المتعلق مطلوبا بنحو لا يرضى المولى الا بوقوعه وتحققه.

ولكن يمكن ان يورد عليه ، بعدم انحصار النكتة المصححة لاستعمال الجملة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٧١ (المبحث الثالث).

٤٦٣

الخبرية في مقام الطلب في ذلك ، بل نفس كون المتعلق موردا للشوق ومطلوبا للمولى ، يصلح لذلك لكونه محركا لوقوعه في الخارج ، فالحق انها كصيغة الامر في ذلك بلا تفاوت بينهما.

التعبدي والتوصلي

المبحث الرابع : في الواجب التعبدي والتوصلى وقبل بيانهما نقدم مقدمات.

المقدمة الاولى : ان الواجب التوصلي يطلق على معنيين.

الأول : ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، كدفن الميت ، وكفنه ، ورد السلام ، وما شاكل ذلك ، وفي مقابله الوظيفة الشرعية التي شرعت لاجل التعبد والتقرب بها.

الثاني : ما لا يعتبر فيه المباشرة ، أو الاختيار ، أو الاتيان به في ضمن فرد سائغ فلو تحقق من دون التفات ، او بغير اختيار ، او فعله الغير ، او في ضمن فرد محرم كفى.

وبعبارة اخرى : الواجب التوصلي مرة يطلق ويراد منه ما لا يعتبر فيه المباشرة من المكلف.

واخرى يطلق ويراد منه ، ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار.

وثالثة يطلق ويراد منه ما لا يعتبر فيه ان يكون في ضمن فرد غير محرم ،

٤٦٤

ويقابل الأول ما يعتبر فيه المباشرة ، والثانى ما يعتبر فيه الاختيار ، والثالث ما يعتبر ان يكون في ضمن فرد سائغ.

والنسبة بين التعبدي بالمعنى الأول وهو ما يعتبر فيه قصد القربة ، والقسم الأول من التعبدي بالمعنى الثاني عموم من وجه إذ جملة من الواجبات التعبدية بالمعنى الأول توصلي بالمعنى الثاني ، منها : الزكاة فإنها واجبة تعبدية يعتبر فيها قصد القربة ، وتسقط عن ذمة المكلف بفعل الغير سواء كان بالاستنابة أو بالتبرع مع الاذن ، واما سقوطها بالتبرع من دون الاذن فلا يخلو عن إشكال.

ومنها : الصلوات الواجبة على ولى الميت فانها تسقط عن ذمته باتيان غيره.

ومنها : صلاة الميت فانها تسقط عن ذمة المكلف بفعل الصبى غير المميز.

ومنها : الحج فانه واجب على المستطيع ويسقط عنه بفعل غيره إذا كان عاجزا ومنها غير ذلك.

وجملة من الواجبات التعبدية بالمعنى الثاني توصلية بالمعنى الأول ، كرد السلام.

وجملة منها تعبديّة بكلا المعنيين ، كالصلوات اليومية ، وصيام شهر رمضان وما شاكل ذلك.

كما ان النسبة بين التعبدي بالمعنى الأول ، والقسم الثاني من التعبدي بالمعنى الثاني عموم من وجه : لتصادقهما على الصلوات الواجبة :

وافتراق الأول في الواجبات التعبدية الصادرة عن الغير كالصلوات الواجبة على ولي الميت إذا اتى به غيره فان فعل الغير خارج عن تحت اختياره

٤٦٥

وقدرته ، وافتراق الثاني ، في رد السلام.

نعم النسبة بين التعبدي بالمعنى الأول ، والقسم الثالث من التعبدي بالمعنى الثاني عموم مطلق إذ لا واجب يعتبر فيه قصد القربة ويسقط بالاتيان في ضمن فرد محرم كما لا يخفى.

المقدمة الثانية : قد فسر المحقق الخراساني التوصلي والتعبدي بالمعنى الأول بقوله : الوجوب التوصلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ويسقط بمجرد وجوده بخلاف التعبدي فان الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك بل لا بد في سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى (١) انتهى.

وفيه اولا : ان الفرق بينهما انما يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب ، ولا فرق بينهما من ناحية الغرض من الوجوب.

توضيح ذلك : انه في كل امر من اوامر المولى الحكيم غرضان ، احدهما في طول الآخر ، فان المولى إذا لاحظ الفعل الصادر من العبد اختيارا فربما يرى ان فيه مصلحة فيشتاق إلى فعله ، فيحصل من ذلك غرض في الامر به ، وهو جعل ما يمكن ان يكون داعيا للعبد إلى الفعل : إذ لو امر المولى ، ولم يرخص في تركه يصير هذا الامر صغرى لكبرى عقلية ، وهي قبح مخالفة المولى.

فامر المولى بضميمة تلك الكبرى يحرك العبد نحو الفعل ، فاحد الغرضين مترتب على الآخر ، ويكون احدهما مترتبا على الواجب ، وهو الغرض الأول ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٧٢ (المبحث الخامس).

٤٦٦

والآخر مترتبا على الوجوب وهو الثاني ، والغرض المترتب على الامر والوجوب يترتب على نفس الامر في جميع الموارد بلا توقف على شيء آخر سوى الوصول إلى العبد.

وبعبارة اخرى يترتب الغرض عليه في ظرف وصول التكليف إلى العبد ، واما الغرض المترتب على الواجب ، أي المصلحة فتارة يترتب على مطلق وجوده ، واخرى يترتب عليه إذا اتى به بقصد القربة ، ففى المورد الأول يكون الواجب توصليا ، وفي المورد الثاني يكون تعبديا.

ويترتب على هذا مضافا إلى عدم تمامية ما ذكره المحقق الخراساني ان الاطلاق الذي هو محل الكلام من انه يقتضي التعبدية أو التوصلية هو اطلاق المادة لا اطلاق الصيغة ، ويكون جعل هذا المبحث من مباحث الصيغة في غير محله.

وثانيا : مع الاغماض عن هذه المسامحة الواضحة ، جعل التعبدي خصوص ما لا يحصل الغرض المترتب عليه الا مع اتيانه بقصد القربة ، غير صحيح :

إذ من المطلوبات التعبدية العبادات الذاتية وهي ما تكون بنفس ذاتها مع قطع النظر عن انطباق عنوان اطاعة المولى عليها التي هي السبب لصيرورة غيرها عبادة ، يصدق عليها عنوان التخضع والتذلل واظهار العبودية كالسجود وغيره من الأفعال التي بنى العقلاء قاطبة على الاتيان بها في مقام اظهار العبودية والتخضع ، ولا يعتبر في اتصاف هذه الأفعال بالعبادية : الاتيان بها بقصد القربة ، بل تتصف بها لو اتى بها بقصد عناوين انفسها ، كعنوان السجود ، مع قصد كونها تعظيما لشخص خاص ، ما لم ينه عنها الشارع.

٤٦٧

فان سئل ان ما هو عبادة كذلك كيف يعقل النهي عنه؟

اجبنا عنه : بانه ربما يكون المكلف معه من الارجاس ، ما يوجب عدم قابليته لان يعبد ربه ، ولهذا يصح النهي عنه.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الاولى في مقام الفرق بينهما ، ان يقال ان التعبدي هو ما لا يحصل الغرض المترتب على الفعل الا مع الاتيان به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع ، والتذلل ، واظهار العبودية والتوصلي غيره.

وقد اورد المحقق النائيني (ره) (١) على من فرّق بينهما من ناحية الغرض مبتنيا على ما ذكره في مبحث الصحيح والاعم ، من ان الأفعال بالاضافة إلى المصالح من قبيل العلل المعدّة ، لا من قبيل الاسباب بالاضافة إلى مسبباتها ، ولذلك التزم باستحالة جعلها متعلقة للتكليف.

وحاصل الايراد ان حصول المصلحة ، وعدمها ، اجنبيان عن المكلف ، فلا معنى لكونه بصدد تحصيلها ، بل هو مكلف بايجاد المأمور به في الخارج.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم في ذلك المبحث ، من ان نسبة الأفعال إلى الاغراض الموجبة للامر بها ، نسبة الاسباب إلى مسبباتها ، وان كانت بالاضافة إلى الغرض الاقصى من قبيل العلل المعدة.

انه لو سلم ذلك يتم الفرق المذكور ايضا ، إذ حينئذ يقال ، ان الواجب التوصلي هو ما كان نفس وجود الفعل من قبيل العلة المعدة ، والواجب

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١١٢. ومن الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٦٧.

٤٦٨

التعبدي هو ما كان الفعل المأتي به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع ، والتذلل من قبيل العلة المعدة ، لا مجرد وجود الفعل.

الدواعي القربية

المقدمة الثالثة : هل الداعي القربي أي ما يوجب اتصاف الفعل بالعبادية :

يكون منحصرا في قصد الامر كما اختاره صاحب الجواهر (ره).

ام يعم قصد المحبوبية؟ كما هو الاقوى.

ام هناك دواع قربية غيرهما؟ وجوه ، واقوال :

الاظهر هو القول الثاني ، وهو انحصار الداعي القربي في الامر ، والمحبوبية ، واما غيرهما مما توهم كونه من الدواعي القربية فلا تكون بانفسها منها.

توضيح ذلك ان ما يتوهم ان يكون منها امور :

الأول : حصول القرب إليه تعالى.

الثاني : شكر نعمه.

الثالث : تحصيل رضاه ، والفرار من سخطه.

الرابع : رجاء الثواب ، ورفع العقاب الخامس : حصول المصلحة الكامنة في الفعل.

وشيء منها بنفسه لا يكون موجبا للعبادية : إذ القرب إليه تعالى سواء أكان

٤٦٩

المراد منه القرب الروحانى ، ام القرب المكانى الادعائي لا يحصل الا باتيان المطلوب الشرعي امتثالا لامره تعالى.

كما ان ، نعمه لا تشكر الا به ، ورضاه لا يحصل الا بذلك.

واما رجاء ثوابه والتخلص من النار ، فهما ايضا يترتبان على امتثال امره تعالى فلو كان قصده ذلك على وجه المعاوضة بلا توسيط قصد الامر ، لا يكون المأتي به عبادة ولا يصح.

وعليه فيتم ما عن العلامة في جواب المسائل المهنائية (١) : اتفقت العدلية على ان من فعل فعلا لطلب الثواب أو لخوف العقاب لا يستحق بذلك ثوابا.

ومما ذكرناه ، ظهر حال المصلحة الكامنة إذ استيفائها في العبادات لا يمكن الا باتيانها امتثالا لامره تعالى ، فلو اتى بالعبادة من دون قصد القربة ، ولو كان من قصده حصول المصلحة لا تستوفي تلك لترتبها على الفعل المأتي به امتثالا لامره تعالى.

مع ان اتيان العمل بداعي حصول المصلحة يكون كالتجارة للربح لا يوجب القرب إلى الله تعالى فلا يكون ذلك من الدواعي القربية ، وان كانت المصلحة مترتبة على ذات الفعل.

وبالجملة شيء من الأمور المذكورة لا يترتب في العبادات على ذات العمل

__________________

(١) نقل كلامه الشيخ الاعظم الانصاري (قدِّس سره) في كتابه الطهارة ج ٢ ص ٤٥ ط مؤسسة الهادي (ع) قم المقدسة. وفي الطبعة القديمة لمؤسسة اهل البيت ج ١ ص ٨٦.

٤٧٠

كي يقصد به ذلك ، فلا يحسن عد شيء منها في قبال قصد الامر من الدواعي القربية.

ثم انه بعد ما عرفت من ان العبادة في غير العبادات الذاتية لا تتحقق الا باتيان الفعل بقصد الامر أو المحبوبية.

فاعلم انه حيث تكون الأمور الخمسة المذكورة آنفا وغيرها من قبيل داعي الداعي ، فيكون لغايات الامتثال درجات.

أحدها : وهو اعلاها ، ان يكون الداعي والمحرك لاتيان الفعل بقصد القربة ، اهليّة المطاع للعبادة ، وهذه المرتبة لا توجد الا للأوحدي ، بل ليس لاحد دعواها الا لمن ادعاها ، بقوله (ع) الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك (١).

الثاني : ان يكون اقصى غرضه حصول القرب إليه تعالى ، أو تحصيل رضاه ، أو شكر نعمه التي لا تحصى.

الثالث : ان يقصد به حصول الثواب ورفع العقاب ، أو حصول المصلحة ، أو زيادة النعم الدنيوية إلى غير ذلك.

__________________

(١) مرآة العقول ج ١ ص ١٠١ باب النية / بحار الأنوار ج ٦٧ ص ١٨٦ باب ٥٣ النية وشرائطها ومراتبها وكمالها وثوابها ...

٤٧١

أخذ قصد الامر في المتعلق

وبعد ذلك نقول لا كلام ولا اشكال فيما إذا علم كون الواجب توصليا أو تعبديا بالمعنى الأول أو الثاني.

وانما الكلام والاشكال فيما إذا شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا والكلام فيه في مقامين :

الأول في الشك في التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول.

الثاني في الشك في التعبدي والتوصلي بالمعنى الثاني.

اما المقام الأول : فالكلام فيه في قسمين.

الأول ، في مقتضى الاصل اللفظي من عموم أو اطلاق ،

الثاني : في مقتضى الاصل العملي وانه يقتضي البناء على كونه تعبديا ، أو توصليا.

اما القسم الأول : فالمعروف بين الاصحاب انه لا اطلاق في المقام كي يتمسك به لاثبات كون الواجب توصليا ، وهذه الدعوى مبتنية على امرين :

الأول : دعوى استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم امكانه.

الثاني : دعوى عدم امكان التمسك بالاطلاق في صورة استحالة التقييد ، فلا بد من البحث في هاتين الدعويين.

اما الدعوى الاولى فتنقيح القول فيها بالبحث في موارد.

٤٧٢

١ ـ هل يمكن اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول ، فيكون دخل قصد القربة في العبادات كدخل سائر الاجزاء والشرائط باخذه تحت الامر وفي حيز الخطاب بالمركب ، ام لا؟.

٢ ـ انه هل يمكن دخله في المتعلق بالامر الثاني بحيث يكون في كل عبادة امران ـ احدهما متعلق بذات العمل ـ والثانى باتيانه بداعي امره ، ام يستحيل ذلك ، أو غير واقع؟.

٣ ـ إذا لم يمكن اخذ قصد الامر في المتعلق لا بامر واحد ولا بامرين ، هل يمكن اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره من الدواعي القربية ، ام لا يمكن؟.

٤ ـ إذا لم يمكن شيء من ذلك ، هل يمكن اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق ام لا؟.

٥ ـ هل يكون دخل قصد القربة في العبادات من باب دخله في حصول الغرض بلا اخذه في خطاب ، فيكون الالزام به عقليا من باب لزوم تحصيل غرض المولى ، ام لا يعقل ذلك.

استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر

اما المورد الأول : فقد استدل لاستحالة اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول بوجوه :

٤٧٣

الوجه الأول : ما افاده المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، وهو انه يلزم تقدم الحكم على نفسه ، وقد قربه في صدر كلامه بما حاصله :

ان قصد الامر متأخر عن الامر ، لانه يتأتى من قبل الامر ، فلا يمكن اخذه في المتعلق الذي هو متقدم على الامر ، وإلا لزم تقدم ما هو متأخر.

وظاهر ذلك ان المحذور انما هو في مقام جعل الحكم.

وحيث ان هذا الوجه كان واضح الفساد ، لان ما لا يتاتى الا من قبل الامر انما هو قصد الامر خارجا ، وما يعتبر في متعلق الامر هو لحاظه قبل الامر ولا تنافي في تأخر الشيء خارجا وتقدمه لحاظا.

فقد غيّر هذا التقريب بقوله : فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال امرها.

ونظره إلى لزوم الدور في مرحلة الاتصاف خارجا كما صرح به في حاشيته على رسائل الشيخ الاعظم في رسالة القطع.

قال في التعليقة ، وبالجملة ما لم يكن الامر متعلقا بنفس الصلاة بما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط وحدها من دون تقييد بالقربة ونحوها لم يكد يتمكن منها بداهة توقف اتيانها بداعي امرها على كون الامر بها وحدها ، ومن هنا انقدح لزوم الدور الصريح في ذلك في اتصاف الصلاة المأتي بها بقصد القربة مثلا بالوجوب أو الاستحباب.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٧٢ (ثانيها) بتصرف.

٤٧٤

تقريره انه يتوقف حينئذ اتصافها باحدهما وكونها واجبة أو مستحبة على قصد امتثال الامر بها ضرورة توقف تحقق الصيغة والاتصاف على الموصوف والمفروض انه لا يتحقق بدونه ويتوقف قصد امتثال الامر بها وإتيانها بداعي امرها على كونها واجبة أو مستحبة ومحكومة باحدهما لما عرفت من عدم التمكن منه بدونه (١) انتهى.

فيكون هذا وجها آخر للامتناع.

ثم انه (قدِّس سره) اورد عليه في الكفاية ، بانه إذا لم يكن محذور في عالم الجعل كما هو المفروض لإمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر ، المستلزم ذلك لتعلق الامر بنفس الصلاة في ضمن الامر بالصلاة المقيدة بقصد الامر ، فلا محالة يمكن اتيان الصلاة بداعي الامر الضمنى المتعلق بها فلا يلزم تقدم ما هو متاخر.

واجاب عن ذلك بان اعتبار قصد الامر ان كان من قبيل الشرط ويكون الدخيل التقيد به دون القيد ، فذات المقيد لا تكون مامورا بها فان الجزء التحليلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، ولا ينحل الأمر بالمقيد إلى الأمر بذاته والأمر بقيده ، وان كان من قبيل الجزء فيكون المأمور به نفس الصلاة ، وقصد الأمر ، ويكون قصد الأمر جزءاً للمأمور به :

فهو وان لم يلزم منه ما ذكر من المحذور إلا انه يرد عليه أمران :

__________________

(١) راجع الفوائد ص ٤٩ (فها هنا مقامان الأول ... وبالجملة) الناشر وزارة الثقافة والارشاد الاسلامية ١٤١٠ ه‍.

٤٧٥

الأول : ان اعتباره كذلك موجب لتعلق الوجوب بامر غير اختياري إذ الفعل وان كان بالارادة اختياريا الا ان الإرادة ليست اختيارية والا لزم التسلسل.

الثاني : ان الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه انما يصح إذا اتى بالمركب بهذا الداعي ، لا إذا اتى به وحده مثلا انما يصح الاتيان بالركوع بقصد الامر بالصلاة في ضمن الاتيان بالصلاة لا فيما إذا اتى به وحده وهذا غير ممكن في المقام إذ لا يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامر بداعي امتثال امره وإلا لزم كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه ، وهو في حد عليّة الشيء لعلّة نفسه (١).

ولكن يمكن ان يختار كون قصد الامر جزءاً للمأمور به.

ولا يرد عليه ما ذكره من الامرين :

اما الأول : فلان قصد الامر ليس هو الإرادة بل يكون من دواعيها ، إذ المحرك والداعى للارادة ، ربما يكون امرا إلهيا ، وربما يكون نفسانيا ، ويعتبر في العبادات ان يكون من قبيل الأول ، مع ان لزوم التسلسل من محاذير لابدية اختيارية الإرادة ، واما ان الإرادة هل يمكن ان تتحقق متصفة بالاختيارية فهو لا يترتب عليه ذلك المحذور ، وبديهى انه يمكن ، وذلك لانه وان سلم تحقق الإرادة في بعض الاحيان من غير اختيار المريد ، الا انه لا شبهة في انه قد يتحقق بالارادة ، ويضاف إلى ذلك ما حققناه في محله من ان الإرادة ارادية بنفس ذاتها لا بارادة اخرى فلا يلزم التسلسل.

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٧٢ ـ ٧٣ بتصرف.

٤٧٦

واما الثاني : فوضوح وجه النظر فيه يتوقف على بيان مقدمات.

الاولى : ان الامر المتعلق بمركب اعتباري من الموجودات المتعددة ينحل إلى اوامر عديدة : فان الامر ليس الا ابراز شوق المتكلم بتحقق المأمور به ، فإذا كان له وجودات متعددة فلا محالة يكون كل موجود متعلقا لشوق المولى المبرز بالامر ، فيكون كل جزء محكوما بحكم ، غاية الامر حيث تكون المصلحة المترتبة عليها واحدة وهي لا تستوفى الا باتيان جميع الاجزاء ، فلا محالة يكون لهذه الاحكام المتعددة ، امتثال واحد ، وعصيان واحد ، فتكون ارتباطية.

الثانية : ان المتعلق للامر ان كان واجبا توصليا ، وأتى المكلف ببعض تلك الاجزاء بداعي القربة ، وببعضها الآخر لا بداعي القربة ، يثاب على اتيانه بما قصد به الامتثال ، ولا يتوقف ذلك على اتيان الجميع بداعي امتثال الامر كما لو كان الداعي لغسل الثوب مقدمة للصلاة ، في الغسلة الاولى هو امر المولى ، وفي الغسلة الثانية غيره.

الثالثة : انه ربما يكون بعض اجزاء المأمور به تعبديا وبعضها توصليا ، نظير ما لو نذر ان يصلى في هذه الليلة ، صلاة الليل ، وبكرم العالم بنحو يكون المجموع متعلقا لنذر واحد :

فان جزء المأمور به بالامر الوجوبي ، وهي الصلاة ، تعبدي ، وجزئه الآخر وهو اكرام العالم ، توصلي ، بل الظاهر ان اكثر الواجبات التعبدية كذلك ، باعتبار اكثر شروطها.

ألا ترى : ان الصلاة التي هي من الواجبات التعبدية مشروطة بالاستقبال والتستر الذين هما واجبان توصليان فيها ، فلو ستر لا لقصد الامر صحت

٤٧٧

صلاته.

ودعوى : ان لازم ذلك كون الامر الواحد تعبديا وتوصليا : وذلك كاستعمال اللفظ في اكثر من معنى بل اردأ منه.

مندفعة : بما عرفت من ان الوجوب في التعبدي والتوصلى واحد ، ولا اختلاف فيه ، وانما الاختلاف بينهما يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب ، فالتعبدي والتوصلي عنوانان طارئان عليه باعتبار ذلك ، لا انهما من الخصوصيات الذاتية الموجبة لتعدد الامر.

إذا عرفت هذه المقدمات.

فاعلم ، انه يمكن ان يؤخذ ، قصد الامر في المتعلق من دون ان يلزم هذا المحذور : إذ المأمور به حينئذ شيئان :

احدهما : الصلاة التي هي من الأفعال الجوارحية.

ثانيهما : قصد الامر الذي هو فعل جانحي ، وكل منهما له امر خاص غير الآخر ، ويكون احدهما وهي الصلاة من الواجبات التعبدية ، والآخر واجبا توصليا ، والامر المتعلق بقصد الامر انما يدعو إلى اتيان الجزء الآخر أي الصلاة بقصد امرها لا بداعي آخر ، فمتعلق هذا الامر الضمني انما هو قصد ذلك الامر الضمني ، فيكون محركا نحو اتيان ذلك المأمور به بداعي امره ، فلا يلزم كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه ، بل إلى داعوية غيره بمعنى جعله داعيا.

ومما ذكرناه ظهر عدم تمامية الوجه الثالث من الوجوه التي ذكروها لامتناع اخذ قصد الامر في المتعلق.

٤٧٨

وهو ما ذكره بعض المحققين (ره) ، وحاصله انه لا ريب في ان الامر انما يحرك نحو المتعلق فلو جعلت دعوة الامر ومحركيته ، التي هي معنى قصد الامر ، بعض المتعلق لزم كون الامر محركا نحو جعل نفسه محركا ، وهو محال : فانه على حد كون الشيء علة لعلية نفسه الذي هو اوضح فسادا من كون الشيء علة لنفسه (١).

ويرد عليه مضافا إلى ما تقدم :

ان الامر لا يكون محركا لا بوجوده الواقعي ولا بوجوده العملي.

اما الأول : فواضح.

واما الثاني : فلان كثيرا من الناس يصل إليهم الامر ، ولا يتحركون كالفساق ، فمن ذلك يعلم ان الامر ليس علة للحركة بل هو لا يكون الا ما يمكن كونه محركا وداعيا.

وان شئت قلت ان الامر لا يكون علة للحركة في شيء من الموارد : إذ تحريك العضلات انما يكون بتأثير الإرادة واعمال النفس قدرتها.

نعم المرجح لذلك يكون هو الامر ، فكما ان المرجح قد يكون الشوق النفساني ، وقد يكون امر المولى.

__________________

(١) كما في حاشية اجود التقريرات للسيد الاعظم الخوئي (قدِّس سره) ج ١ ص ١٠٧. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥٦ ، ويستحسن أيضاً مراجعة نهاية الدراية ج ٢ ص ٢١٠ ، ومقالات الأصول للمحقق العراقي ج ١ ص ٢٣٦ حيث انهما تعرضا لهذا الإيراد ورده.

٤٧٩

وعليه فدعوى كون اخذ قصد الامر في المتعلق على حد كون الشيء علة لعلية نفسه ، ممنوعة.

الوجه الرابع : من امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلق ما ذكره المحقق النائيني (قدِّس سره) (١) وهو العمدة في المقام وهو ان اخذ قصد الامر في المتعلق مستلزم لتوقف الشيء على نفسه وفرضه موجودا قبل وجوده ، في مقام الانشاء ، والفعلية ، والامتثال.

وتوضيح ما ذكره يتوقف على بيان مقدمة مفروضة في استدلاله ، التي عليها يبتنى ما ذكره في وجه الاستحالة.

وهي ان كل حكم من الاحكام الشرعية ، له متعلق وموضوع ، والاول هو ما يطلبه المولى ويجب ايجاده في الواجبات ، والثانى هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من الشرائط من العقل والبلوغ ونحوهما.

ثم ان المتعلق ، تارة يكون له متعلق ، وهو يكون على قسمين :

الأول ما يكون وجوده ، تحت قدرة المكلف ، مثل العقد الذي هو متعلق للوفاء الذي هو متعلق للوجوب.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٠٦ ، ط الجديدة ج ١ ص ١٦٠ ، ولكن التحقيق ان عدم القدرة في محل الكلام ليس ناشئاً من عدم تمكن المكلف من أسباب الفعل مع إمكان الفعل في حد ذاته كالطيران إلى الهواء بل من استحالة التقييد في حد ذاته في مقام الإنشاء والفعلية والامتثال.

٤٨٠