زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

وراء العلم التصديقي شيئا.

الرابع : انه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس ، يقال : ان في نفسي كلاما لا أريد أن ابديه :

قال الله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (١).

وفيه : ان هذا لا يختص بالكلام ، مثلا يقول المهندس ان في نفسي صورة بناء سأنقشها ، ويقول الصائم ان في نفسي أن أصوم غدا ، وهكذا ، والحال ان ذلك ليس وراء الوجود الذهني والتصور شيئا.

الخامس : انه يطلق المتكلم على الله تعالى ، وهذه الهيئة ـ أي هيئة اسم الفاعل ـ وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا ، ولذا لا يطلق النائم على من أوجد النوم في الغير بل على من اتصف به.

وحيث أن من الواضح أنه لا يتصف الله تعالى بالكلام اللفظي ، لاستحالة اتصاف القديم بالحادث ، فلا بد من الالتزام بالكلام القديم ، وليس هو الا الكلام النفسي.

وفيه : أولا : ان المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام ، فانه كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج الهواء ، وهو قائم بالهواء لا بالمتكلم ، بل المبدأ في صيغة المتكلم هو التكلم ومعناه ايجاد الكلام ، فاطلاقه على الله تعالى وغيره بمعنى واحد.

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الملك.

٤٤١

وثانيا : ان ما ذكر من أن هيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا ، فهو غلط بل هي وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات نحو قيام.

وأما خصوصية كونه قياما حلوليا أو ايجاديا أو غيرهما فهي تختلف باختلاف الموارد ولا تدخل تحت ضابط كلي ، فالنائم لا يطلق على الموجد للنوم ، لكن الضار والنافع يطلقان على موجد هذين المبدأين.

وعليه فلا مانع من صدق المتكلم على الموجد للكلام.

السادس : انه لا كلام في صحة الاوامر الامتحانية وتحققها عند عدم تعلق الإرادة الحقيقية بمتعلقاتها ، وتلك الاوامر تدل على معنى قائم في النفس ليس بإرادة لانتفائها وجدانا ولا بغيرها من الصفات المعروفة من العلم والترجي وما شاكل ، وليس هو الا الطلب الذي هو الكلام النفسي في الانشائيات ويكون قائما بالنفس.

وفيه : ان الاوامر الامتحانية على قسمين :

أحدهما : ما يكون مقصود الامر هو صدور العمل وتحققه خارجا لاستكشاف قدرة المأمور على ذلك العمل لا لمصلحة فيه ، وفي ذلك لا محالة تتعلق إرادة الامر بنفس العمل لتوقف غرضه الباعث له على الآمر على تحقق العمل.

ثانيهما : ما يكون المقصود استكشاف استعداد المأمور لطاعة الآمر وعدمه ، وفي مثل ذلك نلتزم بأنه ليس الامر سوى ابراز الاعتبار النفساني ، وهو جعل المادة على عهدة المأمور ، وليس هناك إرادة ولا طلب.

٤٤٢

فانقدح أنه لا برهان على وجود الكلام النفسي.

الدليل على عدم ثبوت الكلام النفسي

بل الوجدان يرده وينفيه ، ويظهر ذلك بعد بيان مقدمة ، وهي :

انه لا ريب في أن للنفس صفات وكيفيات كالشوق ، والحب ، والكراهة ، وما شاكل ، كما أنه لا كلام في أن لها أفعالا كالتأمل والتفكر والبناء وغيرها ، والعلم على مسلك المتقدمين من الفلاسفة من الصفات وعلى مسلك المتأخرين منهم من أفعال النفس.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن دعوى وجود صفة في النفس غير الصفات المعلومة المعينة وتسمى بالكلام النفسي ، مردودة.

والنزاع ينقطع بالرجوع إلى ما في النفس وجعل الوجدان قاضيا وحاكما ، حيث يرى الناظر المنصف أنه ليس في النفس صفة غير تلك الصفات.

وان اردت أن يطمئن قلبك فراجع نفسك ، ترى أن كل صفة وفعل توجد في النفس ويصدر منها عند إرادة التكلم تكون موجودة وصادرة منها عند إرادة الاكل مثلا بلا فرق بينهما أصلا ، فكما أنه إذا أراد المتكلم أن يتكلم يتصوره ويتصور دواعيه ثم يحصل له التصديق بالفائدة فيحصل الميل ثم الجزم والعزم عليه فيعمل قدرته فيتكلم ، كذلك عند إرادة الاكل جميع هذه موجودة بلا نقيصة ، فوجود صفة أخرى في النفس عند إرادة التكلم وتكون مدلولة للكلام

٤٤٣

اللفظي مما لا يساعده الوجدان.

وان شئت توضيح ذلك فاعلم : ان الجمل اما خبرية أو انشائية :

أما الجمل الخبرية فليس في مواردها ، غير تسعة أمور :

١ ـ مفردات الجملة ،

٢ ـ معاني المفردات ،

٣ ـ الهيئة التركيبية لها ،

٤ ـ مدلول الهيئة التركيبية ،

٥ ـ تصور المخبر مادة الجملة وهيئتها ،

٦ ـ تصور مدلول الجملة ،

٧ ـ مطابقة النسبة لما في الخارج أو عدم مطابقتها له ،

٨ ـ علم المخبر بالمطابقة أو عدمها أو شكه فيها ،

٩ ـ إرادة المتكلم لايجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.

واعترف المثبتون له بعدم كون شيء من هذه هو الكلام النفسي.

أما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية ، والفارق بينهما أنه ليس في مواردها خارج تطابقه أو لا تطابقه.

وعليه فالامور التي لا بد منها في الجملة الانشائية سبعة ، وهي غير السابع والثامن من الأمور المذكورة.

٤٤٤

وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منهما.

فالمتحصل : مما ذكرناه : ان الكلام النفسي أمر خيالي لا برهان على وجوده ، بل البرهان والوجدان على خلافه ، والروايات المروية عن المعصومين عليهم‌السلام ترده.

وقد وقع الفراغ من هذه الرسالة

في اليوم الثامن من شهر صفر سنة ١٣٩٠ ه

والحمد لله أولا وآخرا.

* * *

٤٤٥

الفصل الثاني : فيما يتعلق بصيغة الامر

وفيه مباحث :

المبحث الأول : ربما يذكر لصيغة الامر معان :

الطلب ، التهديد ، الترجي ، التمني ، الانذار ، الاهانة ، الاحتقار ، التعجيز ، التسخير وغير ذلك.

وعن حاشية المعالم (١) ذكر خمسة عشر معنى لها.

ولكن الذي اختاره جماعة من المحققين كالخراساني (٢) والنائيني (٣) والاصفهاني (٤) وغير هم ان لها معنى واحدا.

وتنقيح القول بالبحث في موارد :

الأول : في تعيين معنى صيغة الامر إذا استعملت في مقام الطلب.

الثاني : في ان الصيغة المستعملة في مقام التهديد والترجي وما شابه ، هل استعملت فيما تستعمل فيه إذا كانت في مقام الطلب ، ام غيره؟

__________________

(١) راجع هداية المسترشدين ص ١٣٨ (صيغة افعل وما في معناها).

(٢) كفاية الأصول ص ٦٩.

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٨٦ ، وفي ط الجديدة ص ١٣١ ، قال وأما بقية المعاني فالظاهر انها كلها راجعة إلى معنى واحد وهي الواقعة التي لها اهمية في الجملة

(٤) نهاية الدراية ج ١ ص ٢١٥ (في معاني صيغة الأمر).

٤٤٦

الثالث : في انه ، هل هي من قبيل المشترك اللفظي ، أو الحقيقة والمجاز؟

اما المورد الأول : فقد ذكر في تعيينه وجوه :

منها : ما اختاره المحقق الخراساني من انها موضوعة للطلب الانشائى وتستعمل فيه دائما نعم يختلف الداعي إلى انشائه ، فقد يكون هو الطلب الحقيقي ، وقد يكون التهديد ، وقد يكون امر آخر ، فتخيل ان لها معان متعددة منشأه اشتباه الداعي بالمعنى.

نعم ، يمكن ان يدعى انها موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداع البعث والتحريك ، لابداع آخر منها ، فاستعمالها في الطلب بسائر الدواعي خلاف الوضع لا الموضوع له (١).

ولكنك عرفت في مبحث الطلب والارادة ، ان الطلب عبارة عن التصدي نحو المطلوب ، وان الامر بعد تحققه يكون مصداقا للطلب لا ان الانشاء يتعلق به ، وعرفت ان الطلب الانشائي لا نتعقل له معنى معقولا.

ومنها : ما اختاره المحقق النائيني وهو ان الصيغة انما وضعت للنسبة الانشائية الايقاعية (٢).

وفيه : ان المراد ان كان وقوع المادة على المكلف في عالم التشريع ، وجعله في كلفتها ، فهي توجد بالصيغة اذ بها يقع المكلف في الكلفة والكلام انما هو في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٦٩ ، بتصرف.

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٨٨ ، ط الجديدة ج ١ ص ١٣٣ (اما المقام الأول)

٤٤٧

معنى الصيغة أي الذي تستعمل فيه ، وان كان غير ذلك ، فعليه زيادة التوضيح والبيان.

ومنها : ما عن جماعة منهم المحقق العراقي (١) ، والمحقق الأصفهاني (ره) (٢) ، من انه عبارة عن البعث الملحوظ نسبة بين المادة التي طرئت عليها الصيغة وبين المخاطب بها.

وفيه : ان البعث كالطلب من المفاهيم التي تصدق على الامر بعد وجوده ويكون الامر بنفسه مصداقا له : لكونه يبعث المأمور نحو الفعل لا انه يكون الامر مستعملا فيه.

فالصحيح ان يقال : ان هيئة الامر بمقتضى التعهد الوضعي مبرزة لقصد تفهيم كون صدور المادة من المخاطب متعلقا لشوق المتكلم.

وبعبارة اخرى وضعت لافادة تلك النسبة ، ولعل ما عن جماعة من كون الحكم عبارة عن الإرادة ، يرجع إلى ذلك.

واما ما افاده الاستاذ الاعظم (٣) من انها موضوعة لابراز اعتبار الوجوب ، وكون المادة على عهدة المخاطب.

__________________

(١) مقالات الأصول ص ٢٢٢ (المقالة الرابعة عشر).

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ١٩١.

(٣) في حاشيته (قدِّس سره) على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦ في مبحث الوضع (واما الكلام من الجهة الثانية) ثم عاد واكد ذلك ص ٩٦ (من المقام الثاني من مدلول صيغة الامر). وفي الطبعة الجديدة ص ٣٧ وص ١٤٥.

٤٤٨

فهو لا يرد عليه شيء ، ويؤيده النصوص المعبرة عن التكاليف بالديون ، الا ان الاظهر بعد مراجعة موارد استعمالها عند العرف هو ما اخترناه.

واما المورد الثاني : فقد اختار المحقق الخراساني (١) انها تستعمل في معنى واحد دائما وانما الاختلاف من ناحية الداعي.

ولكن بعد ما عرفت في مبحث الانشاء والاخبار ، من ان ما هو المشهور ، ان حقيقة الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ ، باطل ، وليس الانشاء الا ابراز امر نفساني وعرفت ان الصيغة المستعملة في مقام الطلب تكون مبرزة لشوق المتكلم إلى الفعل لا يبقى مورد لهذا الكلام.

والحق ان يقال بتعدد المستعمل فيه ، إذ في مورد الطلب يكون المستعمل فيه هو الشوق إلى الفعل ، وفي الموارد الأخر ليس كذلك كما هو واضح ، ولذا تكون الصيغة في المورد الأول مصداقا للطلب ، ويصدق على الامر الطالب وعلى المأمور به المطلوب منه ، وهذا بخلاف الموارد الأخر.

واما المورد الثالث : ففى الكفاية (٢) اختيار ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب إذا كان بداعي البعث والتحريك فتكون حقيقة فيه خاصة.

ولكن لا كلام في انه عند عدم نصب القرينة تكون الصيغة محمولة على انها استعملت بداعي الجد ، ولا يعتنى باحتمال إرادة التهديد مثلا منها ، اما

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٦٩

٤٤٩

للانصراف ، أو للاصل العقلائي : لان بناء العقلاء على حمل الاقوال والافعال على الجد حتى يظهر خلافه ، أو لما افاده (قدِّس سره).

الصفح عن هذا البحث اولى لعدم ترتب اثر عليه.

دلالة صيغة الامر على الوجوب وعدمها

المبحث الثاني : لا شك في ، ان الاوامر الصادرة من الشارع الا قدس على نحوين :

احدهما : ما يكون المكلف ملزما بامتثاله ، ويعاقب على مخالفته.

ثانيهما : ما يكون مقرونا بالترخيص على نحو يجوز مخالفته.

ويسمى الأول بالوجوب ، والثاني بالندب.

وعلى هذا وقع الكلام في انه إذا ورد امر من الشارع ، ولم تقم قرينة على تعيين احدهما فهل الصيغة تحمل على الوجوب أو الندب.

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

احدهما : فيما يمتاز به الوجوب عن الندب : وفيه اقوال :

٤٥٠

١ ـ ما ذهب إليه المتقدمون (١) من الاصحاب من تركب الوجوب والاستحباب من جنس ، وهو طلب الفعل ، وفصل وهو المنع من الترك ، أو الاذن فيه.

٢ ـ ما اختاره المحققون من المتأخرين وهو انهما مرتبتان بسيطتان من الطلب ، والمنع من الترك ، وعدمه من لوازم شدة الطلب وضعفه ، لا انهما مقومان لحقيقة الوجوب والندب.

٣ ـ ما اختاره جماعة منهم المحقق النائيني (٢) ، والاستاذ (٣) ، من ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفية المستعمل فيه ، وهما خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، بل المستعمل فيه كالموضوع له واحد فيهما حقيقة في كلا الموردين ، والاختلاف بينهما انما هو من ناحية حكم العقل بلزوم العمل وعدمه ، فالوجوب والاستحباب امران انتزاعيان ينتزعان من ترخيص المولى في ترك المأمور به وعدمه.

__________________

(١) نسبه إلى المتقدمين غير واحد وممن قال بذلك صاحب المعالم ص ١٤ حيث قال : الوجوب مركب من أمرين : أحدهما المنع من الترك ، فصيغة الامر الدالة على الوجوب دالة على النهي عن الترك بالتضمن وذلك واضح.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٩٥ (في دلالة الصيغة على الوجوب وعدمها) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٤٤.

(٣) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٩٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٤٥ الحاشية رقم ٤.

٤٥١

ولعله إلى ذلك نظر المحقق القمي (١) حيث جعل الوجوب من لوازم صدور الصيغة من المولى ، الا انه ارجعه بالآخرة إلى المدلول اللفظي.

اما القول الأول : فيرده انه لا يخطر المعنى المركب عند استعمال الصيغة في الوجوب أو الاستحباب.

وبعبارة اخرى ان الصيغة انما تحكى عن الإرادة والشوق ، ولا تحكى عن المنع من الترك أو الاذن فيه كما يظهر ذلك بعد المراجعة إلى المرتكزات العرفية والمتفاهم العرفي عند الامر بشيء.

واما القول الثاني : الذي اختاره المتأخرون.

فاورد عليه المحقق النائيني (٢) بان ما يستعمل فيه الصيغة في جميع الموارد هي النسبة الانشائية ، وهي لا شدة فيها ولا ضعف ، واما الإرادة فيه وان كانت قابلة للشدة والضعف في حد نفسها ، الا انها ما لم تشتد لا تكون إرادة سواء أكان المراد فعلا من الأفعال الضرورية ام غيرها.

واما الطلب الذي هو عين الاختيار فهو ايضا في جميع الأفعال على حد سواء.

__________________

(١) راجع قوانين الأصول ج ١ ص ٨٢ وفي نهاية الصفحة قال : أن صيغة افعل مع قطع النظر عن القرائن تفيد الوجوب اللغوي ، وبضميمة المقام يتم الوجوب الاصطلاحي.

(٢) أجود التقريرات ص ٩٥ ، وكان قد اعتبر في ص ٨٨ ان صيغة الامر دالة على النسبة الانشائية فقط. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٤٤ (والحق عدم صحة هذا القول ايضا .. الخ).

٤٥٢

وفيه ، اولا : ما عرفت من ان ما يستعمل فيه الصيغة ليس هو النسبة الايقاعية بل ابراز الشوق بالمادة.

وثانيا : انه لو سلم عدم ثبوت المراتب في الإرادة التكوينية بكلا معنييها ، لا نسلم ذلك في الإرادة التشريعية أي الشوق المتعلق بفعل العبد : إذ لا ريب في ان له مراتب من جهة اختلاف المصالح الموجبة لتعلق الشوق بالفعل المأمور به.

ودعوى : ان الإرادة التشريعية ، والارادة التكوينية توأمان.

مندفعة : بان ذلك غير تام كما مر.

فالصحيح في الايراد عليه ، ان يقال ان مراتب الشوق مختلفة في الواجبات ايضا ، ويكون الشوق المتعلق ببعضها آكد من الشوق المتعلق بالآخر ، بل يمكن ان يدعى القطع بان الشوق والميل المتعلق ببعض المستحبات كزيارة ابى عبد الله (ع) آكد بمراتب من الشوق المتعلق ببعض الواجبات ، وعليه فلا يمكن ان يكون الوجوب والاستحباب ، مرتبتين من الطلب.

فان قيل انه يمكن ان يقال ، ان الطلب الوجوبي ، هو ما نشأ عن المصلحة اللزومية ، والاستحبابي ما كان عن المصلحة غير اللزومية.

اجبنا عنه ، بان الوجوب والاستحباب ، متحققان حتى مع عدم وجود المصلحة فكيف يصح جعل المصلحة ملاكا للوجوب والاستحباب ، مع انه لا يمكن ان تكون المصلحة دخيلة في الموضوع له : لانها من دواعي الامر ومقدمة عليه ، فكيف يصح اخذها في المستعمل فيه ، وهل هذا الا تأخر ما هو متقدم فتأمل.

٤٥٣

فالاظهر ان المستعمل فيه في الموردين واحد حقيقة ، والاختلاف بينهما انما يكون من ناحية حكم العقل بلزوم الامتثال وعدمه.

توضيح ذلك : انه إذا امر المولى عبده بشيء ، فان رخص في مخالفته فلا سبيل للعقل إلى الحكم بلزوم اتيان المأمور به ، وان لم يرخص في الترك ، فالعقل من باب لزوم دفع الضرر المحتمل يحكم بلزوم الاتيان بالمأمور به ، بمعنى ان العقل يدرك استحقاق العقاب على مخالفته.

وبعبارة اخرى ، انه لو عاقبه المولى على ترك ما امر به ، لا يعد المولى مذموما بل العقلاء يرون ان له ذلك ، وان العبد مستحق له ، جرياً على قانون المولوية والعبودية ، وهذا الحكم من العقل ثابت حتى مع علم العبد بعدم المصلحة في المأمور به.

وبذلك يظهر امور :

١ ـ ان ما عن المحقق النائيني (ره) ، من ان الاختلاف انما هو من حيث المبادئ ، حيث ان إيقاع المادة على المخاطب ، تارة ينشأ عن مصلحة لزومية ، واخرى عن مصلحة غير لزومية ، غير تام.

٢ ـ ان ما عبّر به في كلمات القوم ، من ان الامر حقيقة في الوجوب ، مسامحة في التعيني ، فان الوجوب انما يحكم به العقل لو امر المولى بشيء ولم يرخص في تركه ، بل لو لم يصل الترخيص إلى العبد.

ولذا يحكم بالوجوب مع عدم وصول الترخيص وان احتمل وجوده.

٣ ـ ان حمل الامر على الوجوب ليس من الظهور اللفظي ، ولذا يحكم به ،

٤٥٤

ولو انشأ الحكم بغير اللفظ.

٤ ـ انه إذا استعمل الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا ، كما في قوله اغتسل للجمعة والجنابة ، ورخص في ترك احدهما دون الآخر ، كما لو قال لا بأس بترك غسل الجمعة ، يحكم بوجوب ما لم يرخص في تركه ، واستحباب ما رخص فيه من دون ان يستلزم استعمال اللفظ في اكثر من معنى ، أو استعماله في الطلب الجامع غير المتفصل بفصل ، أو غير محدود بحد الشدّة والضعف ، أو يلزم خلاف ظاهر من الظهورات المتبعة وهذا بخلاف المسلكين الآخرين كما لا يخفى.

فهذه ثمرة مهمة مترتبة على ما حققناه.

المورد الثاني : هل يحمل الامر على الوجوب مع عدم القرينة ام لا؟

أقول : على ما اخترناه ، حمل الامر على الوجوب واضح.

واما على المسلكين الآخرين : فقد يقال كما عن جماعة منهم المحقق الخراساني انه حقيقة في الوجوب.

واستدل لذلك بان المنساق إلى الذهن والمتبادر هو الوجوب عند استعماله بلا قرينة (١).

ويرده ان التبادر وان كان علامة الحقيقة الا انه فيما إذا كان ذلك من حاق اللفظ والا فلو احتمل ان يكون لغير ذلك كما في المقام إذ لعله يكون من جهة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٧٠.

٤٥٥

الاطلاق ومقدمات الحكمة ، كما ذهب إليه بعض ، أو من جهة حكم العقل كما اخترناه ، فلا يكون هذا الانسباق علامة الحقيقة.

واورد صاحب المعالم على القوم ، انه لو سلم كون الصيغة حقيقة في الوجوب الا ان كثرة استعمالها في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما تكون سببا لصيرورة الندب مجازا مشهورا ، والشهرة تارة تصل إلى حد تحصل العلقة الوضعية فحينئذ لو هجر المعنى الحقيقي يصير هو معناه المنقول إليه ، والا فيكون من قبيل المشترك اللفظي ، وان لم تصل إلى هذا الحد ، فلا يحمل اللفظ المجرد عن القرينة على شيء منهما (١).

واجاب عنه المحقق الخراساني (٢) باجوبة ثلاثة :

الأول : ان كثرة الاستعمال في المعنى المجازى توجب النقل ، أو الحمل عليه ، أو التوقف فيما إذا لم يكن اللفظ مستعملا في المعنى الحقيقي كثيرا ، والا فلا توجب شيئا من ذلك ، والمقام من هذا القبيل لكثرة استعمال الصيغة في الوجوب ايضا.

وفيه : ان استعمال الصيغة في الاستحباب اكثر من استعمالها في الوجوب بمراتب ، بل نسبة الثاني إلى الأول نسبة الواحد إلى المائة ، كما يظهر لمن راجع الواجبات كالصلاة ، فان مستحباتها ازيد من واجباتها كما لا يخفى ، هذا مضافا إلى المستحبات المستقلة كآداب الاكل ونحوها.

__________________

(١) معالم الدين ص ١٥ (المبحث الأول في الاوامر ، اصل) بتصرف

(٢) كفاية الأصول ص ٧٠.

٤٥٦

الثاني : ان المجاز المشهور انما يكون فيما إذا كان استعمال اللفظ فيه بلا قرينة ، والا فان كان مع القرينة المصحوبة لا تكون كثرة الاستعمال موجبا لصيرورته مجازا مشهورا.

وفيه : ان المجاز المشهور هو ما كثر استعمال اللفظ فيه مع القرينة ، ثم وصل إلى حد يحمل اللفظ المجرد عن القرينة عليه ، أو يتوقف ولا يحمل لا عليه ولا على المعنى الحقيقي.

الثالث : النقض بصيغة العموم حيث انه كثر استعماله في الخاص حتى قيل ما من عام الا وقد خص ولا ينثلم بذلك ظهوره بل تحمل على العموم ما لم تقم قرينة على إرادة الخصوص.

وفيه : اولا : ان مسلكه المتصور ، ان التخصيص لا يوجب استعمال العام في الخاص ، بل العام مستعمل فيما وضع له وان التخصيص يكون بتعدد الدال والمدلول.

وثانيا : لو اغمضنا عن ذلك ، فبما انه في موارد كون التخصيص بدال متصل بالعام لا بدليل متصل ليس شائبة المجازية كما لا يخفى ، فلا يتم ما ذكره لعدم كون التخصيص بالمنفصل كثيرا كي يصح النقص المزبور.

وثالثا : ان الفاظ العموم ليس لها اوضاع خاصة في الشرعيات ، وحيث ان التخصيص في غير الشرعيات من موارد استعمال العموم قليل جدا.

فدعوى كثرة التخصيص واستعمال العام في الخاص بالنسبة إلى استعماله فيما وضع له ، ممنوعة.

٤٥٧

وربما يورد على صاحب (ره) المعالم بوجه آخر ، وهو ان كثرة الاستعمال الموجبة لكون المجاز مجازا مشهورا ، انما تكون في الاعلام الشخصية واسماء الاجناس ، لا في مثل الهيئات التي تختلف باختلاف المواد المتهيئة بها التي ينتزع منها على اختلافها جامع يعبر عنه بصيغة افعل مثلا واستعمال هيئات خاصة في الندب لا يوجب انس الذهن بالنسبة إلى غير تلك الهيئات.

وفيه : انه قد مر في اوائل الكتاب (١) ان الهيئات موضوعة بالوضع النوعي فلكل هيئة وضع واحد في ضمن أي مادة تحققت فهي تستعمل دائما في الجامع.

فالمتحصل ان ما افاده صاحب المعالم متين.

وفي المقام نزاع آخر وهو انه على فرض عدم كونها حقيقة في الوجوب ، هل لا تكون ظاهرة فيه ايضا؟.

أقول : بناء على ما اخترناه من خروج الوجوب والاستحباب عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، لا يبقى مورد لعقد هذا البحث ، كما هو واضح.

واما على القول الآخر ، فقد استدل لظهورها في الوجوب ، بوجوه :

الأول : غلبة استعمالها في الوجوب.

الثاني : غلبة وجوده.

والجواب عنهما ما ذكرناه انتصارا لصاحب المعالم (ره) من ان استعمالها في

__________________

(١) زبدة الأصول ج ١ ص ٣١ من الطبعة الاولى (واما المورد الثاني).

٤٥٨

الندب اكثر من استعمالها في الوجوب لغلبة وجوده فراجع.

الثالث : ما ذكره صاحب الحاشية (١) ، وهو اكملية الوجوب وهي توجب ظهور اللفظ فيه وانصرافه إليه ، وهو بظاهره بيّن الفساد.

ويرد عليه ما افاده المحقق الخراساني من ان الاكملية غير موجبة للظهور إذ الظهور لا يكاد يكون الا لشدة انس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها له ومجرد الاكملية لا يوجبه.

ولكن الظاهر ولا اقل من المحتمل انه اراد بذلك ما اختاره المحقق الخراساني كما ستعرف.

الرابع : ما افاده المحقق الخراساني (٢) انه لو كان الآمر بصدد البيان فقضية

__________________

(١) حكاه في نهاية الدراية عن بعض المحققين ج ١ ص ٢٢٤ ، والظاهر انه صاحب هداية المسترشدين حيث قال : «وكذا ظهوره عرفا في الطلب الحتمي لا يفيد ذلك فإنه كظهور مطلق الطلب فيه من باب انصراف المطلق إلى الفرد الكامل كما سنشير اليه» راجع ص ١٣٧ ثم أشار إلى ذلك في ص ١٤٢ (المقام الثالث في ان لفظ الأمر هل يفيد الوجوب وضعا او لا؟). إلا ان صاحب بدائع الافكار ص ٢٠٥ نسبه إلى الشهيد الثاني والبهائي حكاية ، وقال وهو الموجود في الزبدة حيث نقل قوله بقوله : «وتبادر الوجوب من لفظ الأمر عند الاطلاق ليس لانه موضوع له ، بل هو من باب انصراف المطلق إلى أكمل الافراد نظير ظهور لفظ الطلب الحتمي في قولك اطلب منك الفعل واريده منك مع انه حقيقة في القدر المشترك اتفاقا». ولكنه ـ أي صاحب البدائع ـ ابدى تعجبه من ذلك.

(٢) كفاية الأصول ص ٧٢ (المبحث الرابع)

٤٥٩

مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فان الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه.

وهذا الوجه لو قصر النظر على ما هو ظاهره بين الفساد :

لان الوجوب يحتاج إلى مئونة بيان التقييد بالمنع من الترك ، دون الندب الذي قيده عدم المنع من الترك : إذ يكفي في اثباته عدم نصب القرينة على المنع.

فالاطلاق يقتضى الحمل على الندب لا الوجوب.

ولكن الظاهر ان المحقق الخراساني ينبه بما ذكره على امر دقيق لطيف ، وهو ان الوجوب والاستحباب امران بسيطان لا مركبان ، من طلب شيء مع المنع من الترك ، أو الاذن فيه ، والوجوب هو الطلب التام الذي لا حد له من جهة النقص وبلغ مرتبة لا يرضى الآمر بترك ما تعلق به ، والندب هو الطلب المحدود الفاقد لمرتبة من الإرادة فهو متفصل بفصل عدمي ليس من سنخ الطلب.

وعليه فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على إرادة الحد يحمل الكلام على إرادة المرتبة التامة الخالصة غير المحتاجة إلى بيان الحد لعدم الحد له ، ولعل هذا هو مراد صاحب الحاشية من الاكملية.

والشاهد عليه ، قوله : ان الانصراف الموجب لتبادر الوجوب من الصيغة

٤٦٠