زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

حقيقة السعادة والشقاوة

الثاني : انه قد مر أن المحقق الخراساني (ره) التزم بأن الكفر والعصيان تابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، واستشهد لذلك بخبرين :

احدهما : " السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه" (١).

والثانى" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" (٢) ، قال والذاتى لا يعلل (٣).

وفيه : ان السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين ، وذلك لان السعادة عبارة عما يوجب دخول الجنة والراحة الابدية واللذات الدائمة ، والشقاوة عبارة عما يوجب دخول النار والعقوبات والآلام.

ويتضح ذلك بعد بيان حقيقة السعادة والشقاوة.

__________________

(١) تفسير القمي ص ٢٢٧ رد الجبرية والقدرية. التوحيد ٣٥٦ باب السعادة والشقاء. الزهد للاهوازي من علماء القرن الثالث للهجرة. وغيرهم وعنهم البحار ج ٥ ص ٩ و ١٥٧. الا ان نص الروايات السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه ، ومنه تقديم الشقي على السعيد.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٧٧ خطبة لامير المؤمنين (ع) ح ١٩٧ ، الفقيه ج ٤ ص ٣٨٠ ح ٥٨٢١.

(٣) كفاية الأصول ص ٦٨.

٤٢١

وهي : أن سعادة كل شيء هي بلوغه منتهى كماله وغاية فعليته بحسب نوعه ، وهي الفعلية التامة من جميع ما لنوعه من الاستعداد.

وهذه هي المرتبة العليا من السعادة.

ويقابلها الشقاوة المطلقة ، وهي عدم كمال عن موضوع قابل له ، وما بين أقصى الطرفين مراتب لا تحصى.

وحيث أن المرتبة العليا من السعادة قليلة جدا وهي في الإنسان أقل ، بل من أول الدهر إلى آخره الإنسان الكامل بتمام معنى الكلمة البالغ غاية فعلية هذا النوع منحصر في فرد واحد ، وهو أشرف الانبياء والمرسلين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا محالة سعادة كل انسان ممزوجة بالشقاوة ، بمقدار نقص حظ الإنسان من السعادة له حظ من الشقاوة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انهما تنتزعان عن الاطاعة التي توجب القرب إلى الله تعالى وصيرورة الإنسان كاملا ، والعصيان الموجب للبعد ، ولنقص حظ الإنسان من الكمال فلا معنى لكون الاطاعة ناشئة عن السعادة والعصيان ناشئا عن الشقاوة ، فهما ليستا ذاتيين.

لا يقال : ان منشأهما من الصفات النفسانية المعبر عنها في الاخبار بجنود العقل وجنود الجهل ، من الذاتيات.

فانه يقال : ان الله سبحانه أعطى بحكمته الكاملة كل مكلف قوتين داعيتين إلى الخير والشر ، احداهما العقل ، والاخرى الجهل. وخلق صفات حسنة تقوى العقل في دعوته إلى الخير ، وخلق ضدها من الرذائل تقوى الجهل في دعوته إلى

٤٢٢

الشر ، فلا تخص الصفات الحسنة بطائفة والرذيلة بطائفة أخرى حتى يقال : ان بعض الناس سعيد ذاتا والآخر شقى كذلك باعتبار منشأهما.

وأما الرواية الاولى التي استدل بها على مختاره ، فهي بظاهرها ، وان كانت دالة على ما اختاره ، الا أنه لا بد من صرفها عن ظاهرها لوجهين :

الأول : ان الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام يفسر بعضها بعضا ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام ، وهذه الرواية قد فسرت في الروايات الاخرى بأن المراد منها ان الله يعلم وهو في بطن أمه أنه يعمل أعمال الاشقياء أو السعداء.

لاحظ خبر ان ابى عمير (١) قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله" الشقى من شقى في بطن والسعيد من سعد في بطن أمه". فقال : الشقى من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الاشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء ، الحديث.

الثاني : أنه مع قطع النظر عن الروايات المفسرة لا محيص عن صرفها عن

ظاهرها ، لان من كان مطيعا فصار عاصيا أو كان عاصيا فصار مطيعا ، هل يكون في بطن أمه شقيا أم سعيدا ، فان كان سعيدا يلزم أن لا يكون الشقي في بطن أمه شقيا لانه حين عصيانه شقي ، أولا يكون عصيانه ناشئا عن الشقاوة ،

__________________

(١) التوحيد باب ٥٨ باب السعادة والشقاوة حديث ٣ ، ص ٣٥٦.

٤٢٣

وان كان شقيا لزم أن لا يكون السعيد في بطن أمه سعيدا لانه حين اطاعته سعيد ، أولا تكون اطاعته ناشئة عن السعادة الذاتية.

وأما الرواية الثانية فهي أجنبية عما اختاره بالمرة ، وذلك لان مفادها أنه كما أن معادن الذهب والفضة مختلفة تنقسم إلى الجيد والرديء كذلك الناس مختلفون باختلاف الغرائز والاستعدادات والصفات النفسانية ، وذلك لا يلزم سلب الاختيار ، بل الاختيار في الجميع يكون موجودا ولا يكون أحد مجبورا على الاطاعة أو العصيان كما مر تحقيق ذلك.

وأين هذا من الالتزام بأن الاطاعة والعصيان ناشئتان عن السعادة والشقاوة الذاتيتين.

اختلاف الناس في الصفات النفسانية

الثالث : لا يخفى أنا لا ندّعي تساوى جميع الافراد في المرجحات الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان وعدم مدخلية الصفات النفسانية ، التي هي جنود العقل وجنود الجهل فيه ، لان هذا مخالف للعيان ويرده الآيات الشريفة والروايات المستفيضة.

بل ندّعي وجود الاختيار في الجميع وان المطيع يطيع باختياره والعاصي يخالف التكليف باختياره ، والا فلو كان مجبورا على الفعل لا يكون بالنسبة إلى ذلك الفعل مطيعا ولا عاصيا ولا يستحق الثواب ولا العقاب عليه.

وبعبارة أخرى : لا بد من اشتراك جميع المكلفين في قدرتهم على الفعل

٤٢٤

والترك حتى يصح التكليف والثواب والعقاب ، وأما زائدا على ذلك بحيث يلزم تساوى الجميع في الاستعدادات والصفات النفسانية الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان فغير لازم ، ولا محذور في اختلاف الناس فيها كاختلافهم في الجمال وأشباهه.

وتلك الاستعدادات والصفات النفسانية قسمان : قسم يكون كسبيا اراديا يحصل من الاطاعة والعصيان. كما ورد في الروايات الكثيرة ان بعض الحسنات يكون معدا للآخر ويعطى القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته ، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان. وقسم يحصل من أمور غير اختيارية ، وعلى أي حال لا يوجب سلب القدرة.

البداء في التكوين

ولمناسبات غير خفية ينبغى لنا البحث في مسألتين :

الاولى مسألة البداء في التكوين :

لا خلاف بين علمائنا في القول بالبداء ، وما عن المحقق الطوسى (قدِّس سره). في نقد المحصل في الرد على الفخر الرازي ، من أن الامامية لا يقولون بالبداء ، يتعين أن يكون مراده هو البداء الذي نسبه الفخر إلى الامامية ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده.

وبه يندفع استغراب ـ جماعة من المحققين منهم السيد الداماد والعلامة

٤٢٥

المجلسي ـ هذا الجواب.

وكيف كان فيشهد له : من الكتاب قوله تعالى (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (١) ، وسيمر عليك معنى الآية الكريمة.

والنصوص الكثيرة ، لاحظ خبر زرارة عن أحدهما (عليها‌السلام) : ما عبد الله بشيء مثل البداء (٢) ، وخبر هشام بن سالم وحفض بن البخترى وغيرهما عن أبى عبد الله قال في هذه الآية" يمحو الله ما يشاء ويثبت" قال : فقال وهل يمحى الا ما كان ثابتا وهل يثبت الا ما لم يكن (٣).

وخبر عبد الله (ع) بن سنان عنه عليه‌السلام : ما بد لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو له (٤).

وخبر ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عنه (ع) : ما عظم الله عزوجل بمثل البداء.

وخبر الريان بن الصلت قال : سمعت الرضا (ع) يقول : ما بعث الله نبيا قط الا بتحريم الخمر وان يقر له بالبداء.

وخبر الجهنى قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقولون : لو يعلم الناس ما في

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

(٢) أصول الكافي ج ١ باب البداء حديث ١ ص ١٤٦.

(٣) أصول الكافي ج ١ باب البداء حديث ٢ ص ١٤٦

(٤) أصول الكافي ج ١ باب البداء حديث ٩ ص ١٤٨

٤٢٦

القول بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام فيه (١). إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الواردة في ذلك.

انما الكلام في المراد من البداء ، فان المخالفين نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه ، قال الفخر الرازى عند تفسيره قوله تعالى" يمحو الله ما يشاء ويثبت" : قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده (٢) ، انتهى.

كلمات علمائنا في معنى البداء

ولعلمائنا الابرار في تحقيق البداء معان :

احدها : ما عن السيد المرتضى (٣) في جواب مسائل أهل الري ، وهو أن المراد بالبداء النسخ نفسه ، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوى.

وقريب منه ما ذكره الشيخ في محكي العدّة (٤) ، الا أنه صرح بأن اطلاقه على

__________________

(١) الاحاديث الثلاثة الأخر : التوحيد باب البداء ص ٣٣٣ و ٣٣٤ ح ٢ و ٦ و ٧.

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ١٣ ـ ١٤ تفسير الآية.

(٣) راجع رسائل المرتضى ج ١ ص ١١٧.

(٤) راجع عدّة الأصول للشيخ الطوسي ج ٢ ص ٤٨٥ من الطبعة الجديدة (فصل في ذكر حقيقة النسخ وبيان شرائطه والفصل بينه وبين البداء).

٤٢٧

النسخ على ضرب من التوسع والتجوز.

ووافقهما في ذلك الفيلسوف النحرير السيد السند محمد باقر الداماد في نبراس الضياء.

ثانيها : ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد قال : ليس البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة ، ولكن يجب علينا أن نقر لله عزوجل بأن له البداء ، ومعناه أن له ان يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل كل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ، ويبدأ بخلق غيره ويأمره بأمره ثم ينهى عن مثله ، أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه (١).

ثالثها : ما ذكره بعض المحققين في شرحه على الكافي (٢) وتبعه المحدث الكاشاني (ره) في الوافى (٣) ، وهو أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهى تلك الأمور ، بل انما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربما تأخر بعض الاسباب الا موجب لوقوع الحوادث على خلاف ما يوجبه بقية الاسباب لو لا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، لو لا ذلك السبب ولم

__________________

(١) التوحيد ص ٣٣٥ باب ٥٤ البداء.

(٢) راجع شرح اصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج ٤ ص ٢٤٥.

(٣) الوافي ج ١ ص ٥٠٧ باب البداء ، وعنهما البحار ج ٤ ص ١٢٨ باب ٣ البداء والنسخ ، وج ٥٤ ص ٣٦٤ باب ٤ القلم واللوح المحفوظ والكتاب المبين والامام المبين وام الكتاب.

٤٢٨

يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثم لما جاء أو انه واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأول ، فينمحي عنها نقش الحكم السابق ويثبت الحكم الآخر.

وهذا هو السبب في البداء في امور العالم ، فإذا اتصلت بتلك القوى نفس النبي (ص) أو الامام (ع) فرأى فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصره أو سمعه بأذن قلبه ، وأما نسبة ذلك كله إلى الله تعالى فلان كل ما يجرى في العالم الملكوتى انما يجرى بارادة الله تعالى بل فعلهم بعينه فعل الله ، فكل كتابة تكون في هذه الالواح فهو أيضا مكتوب لله تعالى بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأول ، فيصح أن يصف الله نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار.

رابعها : ما عن الفاضل المدقق الميرزا رفيعا (١) ، وحاصله : أن الأمور كلها منتفشة في اللوح ، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قد يكون الامر العام أو المطلق المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة ،

__________________

(١) وهو الميرزا رفيع الدين محمد بن حيدر الطباطبائي النائيني المشتهر بالميرزا فيعا المتوفى ١٠٨٠ تقريبا والمدفون باصفهان ، وكان من مشاهير علماء عصره والمتبحرين في الحكمة والكلام ، تتلمذ على يد العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي ، له عدّة مؤلفات منها شرح اصول الكافي ، ورسالة التشكيك وغيرهما ، راجع الذريعة ج ١١ ص ١٤٨ وج ١٣ ص ٩٦. واما نص كلامه في البداء راجع شرح اصول الكافي ج ٤ ص ٢٥٠.

٤٢٩

ويتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو والاثبات ، البداء عبارة عن هذا التغير في ذلك الكتاب.

خامسها : ما اختاره المحقق المجلسي (ره) (١) وحاصله : ان المعصومين عليهم‌السلام انما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون ان الله قد فرغ من الامر ، وعلى النظام وبعض المعتزلة القائلين ان الله خلق الموجودات دفعة واحدة والتقدم انما يقع في ظهورها ، وعلى بعض الفلاسفة القائلين بأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الأول ، وعلى آخرين منهم قالوا ان الله سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة وانما ترتبها في الازمان فقط.

فنفوا عنه كل ذلك ، واثبتوا أن الله تعالى كل يوم في شأن من اعدام شيء واحداث آخر وإماتة شخص واحياء آخر إلى غير ذلك.

وهناك أقوال أخر لا يهمنا التعرض لها.

ما هو الحق في معنى البداء

وحق القول في المقام يتوقف على بيان أمور :

الأول : لا شك في أن ما يحدث في عالم الكون بأجمعه تحت قدرة الله

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٢٨ باب البداء والنسخ.

٤٣٠

وسلطانه ، وان وجود أي ممكن منوط بمشيئة الله تعالى. وهذا من البداهة بمكان.

الثاني : ان للاشياء بأجمعها تعينا علميا في علم الله الازلي ، ويعبر عن هذا التعين العلمي تارة بتقدير الله وأخرى بقضائه ، ولكن ليس العلم الالهى متعلقا بالموجودات خاصة بل يكون متعلقا بها بما لها من المبادئ والخصوصيات.

وعليه فحيث أن الممكنات بأجمعها تحت قدرة الله ومنوطة بتعلق المشيئة والإرداة بها ، فيكون العلم بها منذ الأول غير مزاحم لقدرته عليها حين ايجادها ، فمعنى قضاء الله وتقديره أن الاشياء بأجمعها متعينة في العلم الالهى الازلي على ما هو عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق الإرادة والاختيار والمشيئة بها حسب ما تقتضيه المصالح والمفاسد المختلفة باختلاف الظروف.

الثالث : ان وجود كل موجود له نسبتان :

نسبة إلى علته التامة التي يستحيل عدمه معها.

ونسبة إلى مقتضيه الذي يحتاج الشيء في وجوده معه إلى ، شرط ، وعدم مانع.

فمع وجود الشروط ، وعدم الموانع يوجد ، ومع وجود المانع أو فقد الشرط لا يكاد يتحقق.

وعلى هذا فمع تحقق المقتضى كان الظاهر ذلك الشيء ثم بعد ما وجد المانع ظهر منه خلاف ما كان يظهر من المقتضي ، وإلى هذا يشير جملة من الاخبار :

روى العياشي عن الفضيل قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : من الامور

٤٣١

أمور محتومة لا محالة ، ومن الامور امور موقوفة عند الله يقدم ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها يشاء ، لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة ، فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته (١). ونحوه غيره.

الرابع : حيث عرفت أن العلم الالهي يتعلق بالاشياء على واقعها ، لان انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله حسب ما تقتضيه المصالح والمفاسد كان العلم متعلقا به على هذه الحالة ، والا لم يكن العلم علما به على وجهه وانكشافا له على واقعه.

فيكون لله علمان : علم بالاشياء من جهة عللها التامة وهو العلم الذي لابداء فيه أصلا ، وله علم بالاشياء من جهة مقتضياتها التي موقوفة التأثير على وجود الشروط وفقد الموانع. وهذا العلم يمكن أن يظهر خلاف ما كان ظاهرا منه بفقد شرط أو وجود مانع.

وإلى هذا المعنى يشير كثير من الاخبار المروية عن المعصومين (عليهم‌السلام) ، قال الامام الرضا (ع) لسليمان المروزي في حديث : ان عليا (ع)؟ كان يقول : العلم علمان : فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فانه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ورسله ، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ويثبت ما يشاء (٢).

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٢١٧ آية ١٣ من سورة الرعد ح ٦٥.

(٢) التوحيد باب ٦٦ في ذكر مجلس الرضا (ع) مع سلمان المروزي متكلم خراسان ... ، ص ٤٤٤ ح ١.

٤٣٢

وفي الكافي عن ابى بصير عبد الله (ع) : ان لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه (١). ونحوهما غيرهما.

إذا تدبرت فيما ذكرناه يظهر لك أن البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والاثبات ، وأما القضاء الحتمي المعبّر عنه بأم الكتاب والعلم المخزون عند الله تعالى فيستحيل أن يقع فيه البداء.

ففى خبر عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (ع) قال : ما بدا لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو له.

وفي خبر الجهني عنه (ع) : ان الله لم يبدله من جهل.

وفي خبر منصور بن حازم عنه (ع) قال : سألته هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالامس؟ قال : لا ، من قال (ع) هذا فأخزاه الله.

قلت : أرأيت ما كان ما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (٢).

إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

وإلى ما ذكرناه نظر العلامة المجلسي (ره) قال : اعلم أن الآيات والاخبار تدل على أن الله تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات : أحدهما

__________________

(١) الكافي ج ١ باب البداء ح ٨ ص ١٤٧.

(٢) الكافي ج ١ باب البداء ح ص ١٤٨ ، ح ٩ و ١٠ و ١١.

٤٣٣

اللوح المحفوظ الذي لا تغير فيه أصلا وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخر لوح المحو والاثبات فيثبت فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولى الالباب.

مثلا : يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضى طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه الستون وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون ، كما أن الطبيب الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاح يكون ستين سنة فإذا شرب سما ومات أو قتله انسان فنقص من ذلك أو استعمل دواء قوى مزاجه فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب.

والتغيير الواقع في هذا اللوح مسمى بالبداء اما لانه مشبه به كما في سائر ما يطلق عليه ، تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها ، أو لانه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبر بالاول ما اعلموا أولا (١) ، انتهى

تنبيهات

وتمام الكلام في المقام بالتنبيه على أمور :

الأول : أن ما ذكرناه في معنى البداء المستفاد من الاخبار ، هو الظاهر من

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ باب ٣ البداء والنسخ ص ١٣٠.

٤٣٤

الآية الكريمة المتقدمة (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (١) ، لان محو الشيء هو اذهاب رسمه وأثره ، وقد قوبل في الآية الشريفة بالاثبات وهو اقرار الشيء في مستقره بحيث لا يضطرب ، فالمحو هو ازالة الشيء بعد ثبوته برسمه.

وحيث أنه ذكر الآية بعد قوله تعالى" لكل أجل كتاب" وذكر في ذيلها" وعنده أم الكتاب" ، فالظاهر منها أن لكل وقت كتابا يخصه ، فتخلف الكتب باختلاف الاوقات.

وان هذا الاختلاف ظهر من ناحية اختلاف التصرف الالهي بمشيئته حسب ما تقتضيه المصالح لا من جهة اختلافها في انفسها ، ومع ذلك فعند الله أم الكتاب أي الاصل الذي ينشأ منه الشيء ويرجع إليه هذه الكتب التي تمحى وتثبت بحسب الاوقات.

وبعبارة أوضح : ان لله سبحانه في كل وقت كتابا وقضاءً ، وانه يمحو ما يشاء من تلك الاقضية ويثبت ما يشاء ، ومع ذلك عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء محتوم لا يتغير ، وهو الاصل الذي يرجع إليه سائر الاقضية.

وبهذا البيان يظهر أن ما قيل في تفسير الآية الشريفة من الوجوه والاقوال كلها في غير محلها ، ولتمام الكلام محل آخر.

الثاني : ان البداء بالمعنى الذي يقول به الامامية هو الابداء والاظهار حقيقة ،

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

٤٣٥

واطلاق لفظ" البداء" عليه مبني على التنزيل والمشاكلة.

الثالث : ان القول بالبداء اعتراف بأن لله تعالى السلطنة التامة على الممكنات وأنها بأجمعها تحت سلطانه وقدرته حدوثا وبقاء ، وانه يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه منه اجابة دعائه وكفاية مهماته.

وإلى هذا تشير الاخبار المتضمنة للاهتمام بشأن البداء ، وعليه يحمل ما دل على أن الصدقة تزيد في العمر وكذلك صلة الرحم وما شاكل.

الرابع : ان ما وقع في كلمات المعصومين من الانباء بالحوادث الآتية ، انما هو على نحوين :

أحدهما : ما أخبر بوقوع الامر المستقبل على سبيل الجزم ، فهو كاشف عن أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم.

والآخر : ما أخبر به معلقا على أن لا تتعلق بخلافه المشيئة الالهية ولو مع قرينة منفصلة ، فهو كاشف عن كون المخبر به مما جرى به القضاء الموقوف الذي هو مورد للبداء.

الكلام النفسي

الثانية : مسألة الكلام النفسي :

قد اتفقت الاشاعرة على أن للكلام نوعا آخر غير النوع اللفظي المعروف المسمَّى عندهم بالكلام النفسي.

٤٣٦

ثم اختلفوا :

فذهب جماعة منهم إلى أنه مدلول للكلام اللفظي ومعناه.

وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ وان دلالة اللفظ عليه من قبيل دلالة الفعل الاختياري على إرادة الفاعل.

وعلى ذلك بنوا القول بقدم القرآن ، نظرا إلى أنه كلام الله الذي هو من صفاته الذاتية القديمة بقدمه ، والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام ، الا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول (١) بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا.

وفي مقابل هذه الطائفة ، ذهب غيرها من طوائف المسلمين إلى حدوث القرآن ، وان كلامه اللفظي مخلوق له ، وليس هناك نوع آخر من الكلام.

أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي

وقد استدل القائلون بثبوت الكلام النفسي على مدعاهم بوجوه :

الأول : ان الكلام اللفظي المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الأزل وغير الازل وإلا لزم اتحاد القديم مع الحادث وهو محال ، لأن صفات الله عزوجل عين ذاته.

__________________

(١) شرح التجريد المقصد الثالث ص ٣٥٤.

٤٣٧

وحيث ان الله تعالى وصف نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال سبحانه (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (١) وكذلك وصفه بها المعصومون (عليهم‌السلام) في الاخبار والادعية ، فلا مناص من البناء على ثبوت الكلام النفسي وان الله تبارك وتعالى متصف به ، وذلك الكلام مجتمعة اجزاؤه وجودا.

والجواب عن ذلك يبتني على بيان مقدمة :

وهي : ان صفاته تعالى على قسمين :

الصفات الذاتية ، والصفات الفعلية.

والفارق بينهما أن صفات الله الذاتية هي التي ، لا يمكن نفيها عنه ، ويستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا كالعلم والقدرة ، حيث أنه لا يمكن نفيهما عنه ، ولسنا نصفه بالعجز والجهل.

وصفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال وبنقيضها في حال آخر كالخلق والرزق ، فيقال : ان الله تعالى خلق كذا ولم يخلق كذا ، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا.

وأيضا الصفات الذاتية لا تتعلق بها القدرة ولا الإرادة ، لانهما تتعلقان بالممكنات دون غيرها.

والقسم الأول متحد مع ذاته سبحانه قديم بقدمه.

وأما القسم الثاني فهو من مخلوقاته ومن آياته ، ولا يكون متحدا مع ذاته

__________________

(١) الآية ١٦٤ من سورة النساء.

٤٣٨

ولا قديما بقدمه.

إذا عرفت هذه المقدمة يظهر لك جليا أن التكلم انما هو من الصفات الفعلية ، لانطباق ما ذكر ضابطا لها عليه ، فانه يصح أن يتصف الله تعالى بمقابله ويصح سلبه عنه ، ويقال كلم الله موسى ولم يكلم فرعون ، وتتعلق قدرته به لانه سبحانه كان قادرا على التكلم مع موسى وبتبع ذلك تتعلق إرادته به.

مع أنه يدل على كونه من صفات الفعل ما رواه الكليني (ره) باسناده عن ابى بصير قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : لم يزل الله عزوجل ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلما أحدث الاشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور. قال : فقال تعالى الله عن ذلك ، ان الحركة صفة محدثة بالفعل. قال : قلت فلم يزل الله متكلما؟ قال : فقال ان الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزوجل ولا متكلم (١).

وعلى ذلك فلا يلزم من اتصاف الله تعالى بالكلام اللفظي اتحاد الحادث والقديم.

الثاني : ما عن المحقق الدواني (ره) (٢) ، وهو أن ترتيب الكلمات وجعلها

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ باب صفات الذات ص ١٠٧ ح ١.

(٢) وهو العلامة جلال الدين محمد بن أسعد الدوّاني ، وتجد نص كلامه حول الكلام النفسي في الحاشية على الهيئات الشرح الجديد للتجريد تحقيق الشيخ احمد العابد نشر دفتر

٤٣٩

جملا مترتبة في الذهن هو الكلام النفسي ، لانه معنى قائم بالنفس وجدانا غير العلم.

وفيه : ان هذا عين العلم التصورى ، غاية الامر كون المتصور الكلمات. وبعبارة أخرى : هو الوجود الذهني الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة.

الثالث : ان انكشاف ثبوت المبدأ والمحمول للموضوع للنفس علم ، وأما قرار النفس وحكمها بذلك فهو غير العلم ، فهو الكلام النفسي وصفة من الصفات النفسانية.

وفيه : ان للعلم فردين ، احدهما تصوري ، والآخر تصديقي ، وما ذكر ليس

__________________

تبليغات اسلامي ص ٧٧ ، في معرض رد المقدس الاردبيلي عليه قال المقدَّس الاردبيلي : وظهر ضعف ما ذكره الدوّاني من ان له في تحقيق الكلام كلاما حيث قال : ولنا في هذا المقام كلام ، يقتضي تمهيد مقدمة : ان صفة الكلام فينا عبارة عن قوة تأليف الكلام ، وكلامنا عبارة عن الكلمات التي هي مؤلفة في الخيال ، وبعد تمهيد هذه المقدمة نقول : صفة التكلم القائم بذات الله تعالى صفة هي مصدر تأليف الكلمات ، وكلامه تعالى هي الكلمات التي هي مؤلفة له تعالى بذاته في علمه القديم بغير واسطة ، وهذا الكلام الازلي خطاب متوجه إلى مخاطب مقدّر ، وامتيازه عن العلم : فإن كلام غيره معلوم له تعالى ، وليس كلامه ، كما ان كلام غيرنا معلوم لنا وليس كلامنا ، وهذا الذي ذكرناه ليس ما ذهب اليه الحكماء من كلامه تعالى علمه ، ولاما ذهب اليه الحنابلة ومن يحذو حذوهم مثل صاحب المواقف من ان كلامه الاصوات والحروف ، او ما يشمل الاصوات والحروف والمعاني ، ولاما هو المشهور عن الاشعري كما يظهر بالتأمل الصادق.

٤٤٠