زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

غاية الاحسان ثم احتاج اليك بأهون شيء ، فلا شبهة في أن العقل مع قطع النظر عن الشرع يدرك حسن قضاء حاجته وقبح مقابلته بالرد والهوان ، مع أن قضاء حاجته لا يلائم الشهوات ورده لا ينافرها ، فليس ذلك الا لان للعقل ملائمات ومنافرات مع قطع النظر عن كل شيء.

وبالجملة بما أن للعقل نورانية تنكشف لها الحقائق على ما هي عليه ، يحكم (أي يدرك) بقبح بعض الأفعال وحسن بعضها ، فانكار الحسن والقبح العقليين مكابرة.

عدالة الله تعالى

وأما عدله تعالى : فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجور والحكيم الذي لا يظلم ، وانه لا يكلف عباده ما لا يطيقون ولا يتعبدهم بما ليس لهم إليه سبيل ، ولا يكلف نفسا الا وسعها ، ولا يعذب أحدا على ما ليس من فعله ، ولا يلومه على ما خلقه فيه.

وهو المنزه عن القبائح والمبرأ من الفواحش ، والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان ، ولا يريد ظلما للعباد ، ولا يظلم مثقال ذرة.

وأما من يخالفنا ـ وهم الاشاعرة ـ فقالوا : ان من الله جور الجائرين وفساد المعتدين ، وانه صرف أكثر خلقه عن الايمان والخير وأوقعهم في الكفر والشرك ، وان من أنفذ وفعل ما شاء عذبه ومن رد قضاءه وأنكر قدره وخالف مشيئته

٤٠١

أثابه ونعمه ، وأنه خلق أكثر خلقه للنار ولم يمكنهم من طاعته ثم أمرهم بها وهو عالم بأنهم لا يقدرون عليها ولا يجدون السبيل إليها ، ثم استبطأهم لمّا لمْ يفعلوا ما لم يقدروا عليه لمَّا لمْ يوجدوا ما لم يمكنهم منه.

وان الحسن ما فعله ولو كان ذلك عقاب أشرف الانبياء ، والقبيح ما تركه ولو كان ذلك ثواب أشقى الاشقياء.

واستدلوا لما قالوا بأنه ليس للعقل التحكم على الله تعالى ، بل هو ساقط في هذا المقام.

ولكنك بعد ما عرفت من ثبوت الحسن والقبح العقليين فثبوت عدالته تعالى لا يحتاج إلى مزيد بيان ، إذ العقل يدرك حسن العدل وان تركه للقادر عليه قبيح.

وان فعل القبيح ينافر الحكمة والكمال فلا يكاد يصدر منه تعالى.

وبالجملة العقل يدرك أنه سبحانه لكماله وحكمته وقدرته وغناه صدور القبيح منه محال ، ولا يفعل القبيح. لانه لو فعل القبيح والظلم لكان :

اما جاهلا بالقبيح ، أو عالما به عاجزا عن تركه ، أو محتاجا إلى فعله ، أو قادرا غير محتاج بل يفعله عبثا.

وعلى الأول يلزم كونه جاهلا ، وعلى الثاني كونه عاجزا ، وعلى الثالث كونه محتاجا ، وعلى الرابع كونه سفيها.

والكل عليه محال.

٤٠٢

التكليف بما لا يطاق

وأما التكليف بما لا يطاق ، فالتزمت الاشاعرة بعدم قبحه وعدم قبح العقاب على مخالفته ، خلافا للعدلية.

أما قبح العقاب على مخالفة التكليف بما لا يطاق فمما لا يمكن انكاره بعد الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليين ، لان العقاب حينئذ مصداق للظلم ، وهو قبيح بلا ريب.

وأما التكليف بما لا يطاق ، ففيه قولان للعدلية.

وقد استدل على استحاليته بوجوه : ليس المقام موردا لذكرها كلها وانما نشير إلى الوجوه المهمة منها :

الأول : ما عن المحقق النائيني (قدِّس سره) ، وهو أن الطلب التشريعي انما هو تحريك لعضلات العبد نحو المطلوب بارادته واختياره وجعل الداعي له لأن يفعل ، ومن البدهي أنه لا يمكن جعل الداعي للفعل غير الارادي (١).

وفيه : ان الوضع ليس الا التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى وابرازه ، وفي الامر ـ على ما حقق في محله ـ يكون المبرز باللفظ كون صدور المادة من المخاطب متعلقا لشوق المتكلم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٠٢ (الوجه الثاني). وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥٤.

٤٠٣

وعلى ذلك فحيث انه لا ريب في امكان تعلق شوق المولى بفعل غير اختياري للعبد ، بل بفعل غير اختياري لنفسه إذا كان المولى من الموالى العرفية ، وانه يمكن ابراز هذا الشوق باللفظ الذي هو واقع الامر فالايراد عليه واضح.

نعم حكم العقل بلزوم اطاعة المولى يتوقف على كونه مقدورا له.

الثاني : ما عن المحقق النائيني (ره) أيضا ، وهو أن المطلوب على المذهب الحق لا بد وأن يكون حسنا بالحسن الفاعلي ، وهو لا يتحقق في الفعل غير الارادي (١).

وفيه : ان اعتبار الحسن الفاعلى في اتصاف الفعل بالوجوب ، مما لم يقم عليه دليل ، إذ الوجوب تابع للملاك ، فان كان الملاك في الفعل وان لم يكن متصفا بالحسن الفاعلي كان الوجوب متعلقا به كذلك.

بل يمكن دعوى اتفاقهم على عدم اعتباره ، لانهم التزموا في التوصليات بأن الفعل يقع مصداقا للواجب وان لم يؤت به بقصد التقرب إلى الله بل بالدواعي النفسانية. وغير خفي أن الفعل الصادر عن غير الداع القربي لا يكون متصفا بالحسن الفاعلي.

الثالث : ما ذكره بعض المحققين من أن البعث والانبعاث متضائفان ، والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية ، فإذا لم يمكن الانبعاث ولم يقدر العبد عليه لا يمكن البعث أيضا.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٠١ (الوجه الأول). وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٥٣.

٤٠٤

وفيه : ما حقق في محله في بيان حقيقة الامر من أنه ليس الامر الا ابراز كون المادة متعلقة لشوق المولى.

الرابع : ان ابراز المولى شوقه إلى الفعل لا بد وأن يكون بداع من الدواعي ، والا يكون لغوا وصدوره من الحكيم محالا ، وفائدة ذلك ليست الا اتيان العبد به وتحصيل ملاكه ومصلحته ، فإذا لم يكن مقدورا فلا يترتب على الابراز ثمرة فيكون لغوا.

والحق : أن هذا وجه قوي ، الا أنه يختص بالتكليف بغير المقدور مستقلا ، ولا يجرى في التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، فانه يمكن فرض فائدة في ذلك المورد ، وهو أنه لو صدر منه ذلك الفعل غير المقدور بغير اختياره لكان مجزيا عن الاتيان بالفرد المقدور ويسقط التكليف بذلك ، كما انه يختص بالقدرة العقلية ولا يجرى في موارد عدم القدرة الشرعية ، كعدم القدرة على الامر المهم في موارد التزاحم.

ولصاحب بن عبّاد (١) كلام في هذا المقام لا بأس بنقله :

قال في فصل له في هذا الباب : كيف بأمره بالايمان وقد منعه منه ، وينهاه

__________________

(١) وقد نقل كلامه هذا في الرد على الجبرية العلامة الحلي (قدِّس سره) في كتابه نهج الحق وكشف الصدق ص ١٠٧. والصاحب بن العبّاد من علماء وفقهاء الشيعة ومن مشاهير الشعراء بحق أهل البيت (ع) وهو من علماء القرن الرابع للهجرة ، توفي سنة ٣٨٥ في الري ، له في اهل البيت عدّة قصائد معروفة ومشهورة ، وللاطلاع على حياته راجع ما جمعه من اقوال العلماء بحقه العلّامة الاميني في كتابه الغدير ج ٤ من ص ٤٠ إلى ٨١.

٤٠٥

عن الكفر وقد حمله عليه ، وكيف يصرفهم عن الايمان ثم يقول" أنى يصرفون" ويخلق فيهم الكفر ثم يقول" فأنى تؤفكون" ، وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول" لم تكفرون" ، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول" ولا تلبسوا الحق بالباطل" ، وصدهم عن السبيل ثم يقول" لم تصدون عن سبيل الله" ، وحال بينهم وبين الايمان ثم قال" وما ذا عليهم لو آمنوا" ، وذهب بهم عن الرشد ثم قال" فأين تذهبون" ، وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال" فما لهم عن التذكرة معرضين".

وغيرها من الآيات الدالة على أن التكليف بما لا يطاق لم يقع ، قال سبحانه : (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (١) ، وقال : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ، وقال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (٣) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال.

فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه : ان القول بالجبر لا يساعده البرهان ، بل يخالفه ، والوجدان يرده وينافيه ، والآيات القرآنية المباركة ، والنصوص الواردة عن المعصومين ترده ، ويترتب عليه عدّة توالٍ فاسدة.

__________________

(١) الآية ٢٨٦ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٣) الآية ١٥٧ من سورة الأعراف.

٤٠٦

الاستدلال للقول بالتفويض ونقده

الطائفة الثانية من المسلمين ـ وهم المعتزلة ـ حفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن أفعال العباد الاختيارية غير مربوطة به تعالى ، بل تمام المؤثر هو الإنسان.

وقد مرَّ عند نقل الأقوال في المسألة ، ان اكثر القائلين بالتفويض قالوا بوجوب الفعل بعد إرادة الإنسان ، وذهب جماعة منهم إلى عدم الوجوب.

واستدلوا له بعد الرد على الجبرية والبناء على أن الأفعال الاختيارية تصدر عن الإنسان باختياره.

بأن مبادئ الأفعال من نفس وجود الإنسان وحياته ، وادراكه للفعل ، وشوقه إليه ، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه ، وقدرته على ايجاده ، وان كان حدوثها من قبل الله عزوجل ، الا أن بقاءها واستمرارها في الوجود لا يحتاج إلى المؤثر في كل آن.

ويكون مثل خالق الاشياء معها ، مثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه وتبقى الكتابة نفسها ، أو مثل البناء يقيم الجدار بصنعه ثم يستغني الجدار عن بانيه ويستمر وجوده وان فني صانعه.

وعليه فلا يحتاج العبد في صدور الفعل منه ـ بعد افاضة الوجود وسائر المبادئ ـ إلى شيء ، وهو المؤثر التام فيه.

وفيه : ان الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه إليه ،

٤٠٧

لانه لا يخرج عن امكانه بالوجود ، ففى كل آن من الآنات بما أنه ممكن والافتقار من لوازم ذاته محتاج إلى المؤثر ليفيض إليه الوجود ، ومفتقر إلى مدد مبدعه الأول في كل حين والا لانعدم ، بل بالنظر الدقى الحقيقي انه عين الحاجة لا شيء محتاج.

فالانسان في كل حين ـ حتى حين الفعل ـ مفتقر إلى موجده ليفيض إليه الوجود وسائر المبادئ ، والا لما تمكن من ايجاد الفعل ، ويكون مثله تعالى (ولله المثل الاعلى) كتأثير القوة الكهربائية في الضوء ، فان الضوء لا يوجد الا حين تمده القوة بتيارها ويفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين.

مع أن الله تعالى نفسه في مقام التشريع ، والتشريع لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للتكليف المولوي فيما لا يملك المولى منه شيئا.

مع أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه ، وقد قال سبحانه : (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (١).

وقال : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) (٢).

وقال : (للهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (٣).

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الحديد.

(٢) الآية ١ من سورة التغابن.

(٣) الآية ٢٨٤ من سورة البقرة.

٤٠٨

الامر بين الامرين

إذا عرفت فساد قول هاتين الطائفتين ـ أي قول الجبرية ، والمفوضة ـ وشناعة تينك المقالتين.

فاعلم أن الحق هو القول بالامر بين الامرين الذي هو الخير كله ، وقد مر تقريبه وتوضيحه بالمثال ، ففعل العبد الاختياري وسط بين الجبر والتفويض ، لانه بعد ما عرفت من نفى الجبر والتفويض بالبرهان العقلي.

فالافعال الاختيارية الصادرة عن العباد بما أنها تصدر منهم بالاختيار وليس في صدورها منهم قهر واجبار ، فهم مختارون فيها ، والافعال تستند إليهم وهم الموجدون لها.

وبما أن فيض الوجود والقدرة وسائر المبادئ يكون بافاضة الله تعالى آناً فآنا بحيث لو انقطع الفيض لما تمكن العبد من ايجاد الفعل ، فالفعل مستند إليه تعالى.

وكل من الاسنادين حقيقي ، فالعلم ينادى بأعلى صوته موافقا لمذهب الحق انه : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين.

والآيات القرآنية كما مر ناظرة إلى هذا المعنى ، وان اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه.

وما حققناه وأوضحناه وأوضحنا المنزلة بين المنزلتين ووفينا دليلها ، دقيقة غامضة تكون من أسرار العلوم الالهية وخلاصة الفلسفة الحقة ، مأخوذة عن

٤٠٩

ارشادات أهل البيت عليهم‌السلام وعلومهم ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (١).

بحث روائي

وإليك بعض ما ورد عنهم (ع) :

روى الصدوق بسند صحيح عن الامام الرضا (ع) قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال (ع) : ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد الا كسرتموه؟

قلنا : ان رأيت ذلك.

فقال (ع) : ان الله عزوجل لم يطع باكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه.

فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا ولا منها مانعا ، وان ائتمروا

__________________

(١) فقد اختصهم الله بدينه وارتضاهم لعلمه .. وجعلهم مستودعا لمكنون سره وأمناء على وحيه .. وجعلهم نورا للبلاد وعمدا للعباد ، وحجته العظمى وأهل النجاة والزلفى ... هم السبيل الاقوم ، الراغب عنهم مارق والمقصر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق ، هم نور الله في قلوب المؤمنين والبحار السائغة للشاربين ، أمنٌ لمن التجأ اليهم ، وأمان لمن تمسك بهم ... الخ راجع البحار ج ٢٣ ص ٢٤٤ باب ١٣.

٤١٠

بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل فعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه.

ثم قال (ع) : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه (١).

فانظر إلى هذا الحديث كيف أثبت الامر بين الامرين ونفى الطرفين بكلمتين موجزتين ، حيث أنه نفى التفويض بقوله" وهو المالك ، هو القادر" ، ونفى الجبر بقوله" لما ملكهم وأقدرهم".

توضيحه : انه قد عرفت أن المفوضة انما ذهبوا إلى ما قالوا من جهة توهم استغناء الممكن في بقائه عن المؤثر وان حدوثه كاف في بقائه ، فلزمهم من ذلك نفى سلطنة الله تعالى وقدرته وخروج الاشياء بالوجود عن ملكه ، فقد نفى (ع) ذلك بقوله" هو المالك" كما صرح بذلك في الآيات القرآنية على ما تقدم.

وحاصل كلامه (ع) : ان الله جل شأنه قادر على كل شيء ومالك كل شيء حتى اختيار الإنسان ، فلا معنى لقول المفوضة.

والجبرية انما التزموا بما قالوا من جهة توهم عدم مالكية العبد وعدم قدرته ، لتخيل احتياج كل ممكن إلى علة موجبة ، أو تخيل كون علمه تعالى أو إرادته علة لصدور الفعل ، أو منافاة القدرة لسلطنة الله تعالى ، فقد نفى جميع ذلك بقوله عليه‌السلام" لما ملكهم" و" على ما أقدرهم".

__________________

(١) التوحيد ص ٣٦١ الحديث ٧ ، باب نفى الجبر والتفويض ، وعيون أخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٤٤ باب ١١ ح ٤٨.

٤١١

وحاصل كلامه : ان علمه تعالى وارادته متعلقان بقدرة العبد ومالكيته ، فالفعل يصدر عن القدرة ، وحيث أنه هو المالك والقادر فلا تنافي قدرة العبد مع قدرته وسلطنته.

وروى الكليني (قدِّس سره) في الكافي (١) عن أمير المؤمنين (ع) بسند فيه رفع ، ورواه الصدوق (ره) في العيون بعدة طرق (٢) ، والعلامة (ره) في شرح التجريد ، وغيرهم في سائر الكتب الحديثية (٣) والكلامية : انه لما انصرف أمير المؤمنين (ع) من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه ثم قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام بقضاء من الله وقدر؟

فقال أمير المؤمنين (ع) : أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر.

فقال له الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟

فقال له : مه يا شيخ فو الله لكم الاجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ : كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ١٥٥ ح ١ ، وفي البحار ج ٥ ص ١٢.

(٢) عيون أخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٣٨ ح ٣٨. والتوحيد ص ٣٨١.

(٣) مثل كنز العمال ج ١ ص ٣٤٤ ح ١٥٦٠ ، وغيره.

٤١٢

فقال (ع) له : وتظن أنه كان قضاء وقدرا لازما؟!!

انه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهى والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالاحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة اخوان عبدة الاوثان ، وخصماء الرحمن وحزب الشيطان ، وقدرية هذه الامّة ومجوسها ، ان الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يملك مفوضا ، ولم يخلق السماوات والارض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، الحديث.

فانظر إلى هذه الرواية أيها الطالب للحقيقة كيف جمع فيها تحقيقات دقيقة ونفى الجبر والتفويض بالبرهان وذكر التوالى الفاسدة المترتبة على الجبر ، وذلك أنه لما سأله الشيخ عن مسيرهم إلى الشام أبقضاء من الله وقدر ،

قال (ع) : أجل كل ما فعلتم كان بقضائه وقدره ، فتوهم الشيخ من هذه الجملة الجبر ، من جهة أنه صور القضاء والقدر واستنتج نتيجته ، وهي : ان إرادة الله تعالى الازلية التي لا تتخلف عن المراد متعلقة بأفعال الإنسان ، وكان لازم ذلك ارتفاع الحسن والقبح ، ولذلك لما سمع الشيخ منه (ع) كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في حال اليأس : عند الله احتسب عنائي ، أي فعلي هذا كان مسيرى من حيث تعلق إرادة الله تعالى غير اختياري لى فلم يبق لى الا العناء والتعب!!.

فأوضح (ع) مراده وقال : وتظن انه كان قضاءً حتما وقدرا لازما لا دخل

٤١٣

لاختيار العبد وارادته ، ليس كذلك بل العبد مختار في فعله.

فالقضاء والقدر عبارة عن الامر والحكم ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية كما صرح بذلك في رواية اخرى (١) في ذيل هذا الحديث.

ثم أخذ (ع) بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبنى عليها ، إلى أن قال : ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ، والظاهر أن المراد به أنه لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال ان طوعه مكروه للمطيع.

وأما قوله" ولكان المذنب أولى بالاحسان" الخ ، فالظاهر أنه (ع) أشار بذلك إلى مطلب دقيق ، وهو : أنه على مسلك الجبرية بما أن ذات المذنب اقتضت الاحسان في الدنيا باللذات فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذات في النشأتين وبما ان ذات المطيع اقتضت المشقة في الدنيا وايلام المطيع ، بالتكاليف الشاقة فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك.

ثم اشار (ع) إلى بعض المطالب الدقيقة لا تساعدنا الظروف لشرحها ، ثم أبطل التفويض بقوله" لم يملك مفوضا".

وفي التوحيد عن الامامين الصادقين (عليها‌السلام) : ان الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون.

__________________

(١) البحار الجزء الخامس ، ابواب العدل ، باب ١ نفي الظلم والجور عنه تعالى وإبطال الجبر والتفويض واثبات الامر بين الامرين واثبات الاختيار والاستطاعة وفيه ١١٢ حديثا وغيره من الابواب.

٤١٤

قال : فسئلا (عليها‌السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟

قالا : نعم أوسع مما بين السماء والارض (١).

وفيه أيضا عن محمد بن عجلان قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : فوض الله الامر إلى العباد؟ قال (ع) : أكرم من أن يفوض إليهم. قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال (ع) : الله أعدل من يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه (٢).

وفيه أيضا عن الامام الصادق (ع) قال رسول الله (ص) : من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله تعالى ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أن المعاصي بغيره قوة الله فقد كذب على الله (٣).

وفيه أيضا عن مهزم قال أبو عبد الله (ع) : أخبرني عما اختلف فيه من خلقك من موالينا. قال : قلت في الجبر والتفويض.

قال : فاسألني. قلت : أجبر الله العباد على المعاصي؟

قال : الله اقهر لهم من ذلك.

قلت ففوض اليهم؟

__________________

(١) التوحيد ص ٣٦٠ ح ٣ / الكافي ج ١ ص ١٥٩ باب الجبر والقدر والامر بين الامرين ح ٩.

(٢) التوحيد ص ٣٦١ باب ٥٩ ح ٦ / بحار الأنوار ج ٥ ص ٥١ باب ١ ح ٨٣.

(٣) التوحيد ص ٣٥٩ باب ٥٩ ح ٢.

٤١٥

قال : الله أقدر عليهم من ذلك.

قال : قلت فأي شيء هذا أصلحك الله؟

قال : فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال : لو أجبتك فيه لكفرت (١).

قوله (ع) " الله أقهر لهم من ذلك" معناه : ان الله أقوى من أن يقهر عباده ينحو يبطل به مقاومة القوة الفاعلة ، بل هو يريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى اختياره ، فيأتى به من غير أن يبطل إرادته.

وعن تحف العقول (٢) كتب علي بن محمد إلى شيعته من أهل الاهواز

كتابا مفصلا وهو مشحون بالتحقيقات مشتمل على البرهان لاثبات الامر بين الامرين ولغيره من المطالب الدقيقة ، ولا يساعد وضع الكتاب لنقله بتمامه ، وانما نذكر بعض ما رواه عن آبائه (ع) :

قال (ع) : فانا نبدأ بقول الصادق (ع): " لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين" وهي صحة الخلقة وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على الفعل ، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق (ع) جوامع الفضل.

__________________

(١) التوحيد باب ٥٩ نفي الجبر والتفويض ص ٣٦٣ ح ١١.

(٢) تحف العقول ص ٤٦٠ رسالة في الرد على أهل الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين / ونقلها في البحار الجزء الخامس ص ٦٨ باب ٢ آخر وهو من الباب الأول ، والمقاطع المروية ضمن الرسالة عن الإمام الصادق (ع) نقلها غير واحد مفصلة في الكتب الحديثية كالبحار ، والوسائل ، والتوحيد ، والخصال ، وغيرهم.

٤١٦

ثم في آخر الرسالة فسر كلام الامام الصادق (ع) ، ففسر صحة الخلقة بكمال الخلق للانسان بكمال الحواس وثبات العقل والتمييز واطلاق اللسان بالنطق ، وفسر تخلية السرب بأنه الذي ليس عليه رقيب يمنعه العمل مما أمر الله تعالى به ، وفسر المهلة في الوقت بالعمل الذي يمتنع به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله ، وفسر الزاد بالجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمر الله تعالى به مثل الراحلة للحج ، وفسر السبب المهيج بالنية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلب.

وروى عن الامام الصادق (ع) أيضا انه سئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي؟

فقال الصادق (ع) هو أعدل من ذلك.

فقيل له : فهل فوض اليهم؟ فقال (ع) هو أعز وأقهر من ذلك.

وروي عنه (ع) أنه قال في القدر : على ثلاثة اوجه :

رجل يزعم أن الامر مفوض إليه! فقد وهن الله تعالى في سلطانه فهو هالك.

ورجل يزعم أن الله جل وعز اجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون! فقد ظلم الله تعالى في حكمه فهو هالك.

ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ.

٤١٧

وروى (ع) في أخريات الرسالة ما أخبر به أمير المؤمنين (ع) عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها ويقعد ويفعل ويترك ، فقال له أمير المؤمنين (ع) : أسألك عن الاستطاعة تملكها من دون الله تعالى أو مع الله؟

فسكت عباية ، فقال أمير المؤمنين : قل يا عباية.

قال : وما أقول؟

قال (ع) : ان قلت انك تملكها من دون الله قتلتك.

وان قلت تملكها مع الله قتلتك.

قال فما اقول؟ قال : تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك.

فان يملكها اياك كان ذلك من عطائه وان يسلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك والقادر على ما أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون" لا حول ولا قوة الا بالله".

قال عباية : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال (ع) : لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله الا بعون الله.

ثم روى (ع) روايات أخرى عن آبائه (ع) ، ثم أخذ في بيان حقيقة المنزلة بين المنزلين واثباتها ، والاحتجاج عليها حتى صيَّرها أظهر من الشمس.

على أن لكل واحد من الائمة الاثنى عشر (ع) الذين هم خزان علم الله ومعادن حكمته كلمات وافية في هذا الموضوع ومقالات موضحة للمنزلة بين المنزلتين ، ولم يدعوا على هذه الحقيقة من ستار.

٤١٨

دفع الشبهة عن الحديث القدسي

خاتمه في بيان أمور :

الأول ان في جملة من نصوص (١) المقام ، فقد تمسك المعصومون (ع) بما ورد في الحديث القدسي من قول الله عزوجل" اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني (٢) " ، والمقصود من هذا الامر دفع الشبهة التي ربما تورد على هذه الجملة.

وحاصلها ان نسبة الفعل في الطاعة والمعصية إلى الله تعالى وإلى العبد نسبة واحدة ، وفي الموردين منتسب إلى الله عزوجل من جهة وإلى العبد من جهة أخرى ، فما الوجه في الاولوية من الطرفين؟

وقد ذكر في دفعها وجوه :

الأول : ان الله تعالى جعل في قبال القوى النفسانية التي هي جنود الجهل ، من الغضب والطمع وغيرهما ، قوى رحمانية ، وعبّر عنها في النصوص بجنود العقل والرحمن ، لئلا يكون العبد مجبولا على اطاعة النفس ويكون مختارا في

__________________

(١) راجع أصول الكافي ج ١ باب الجبر والقدر حديث ١٢ ، وباب المشيئة والارادة حديث ٦ ، والتوحيد باب ٥٩ حديث ١٠ ، وباب ٥٥ حديث ١٣ ، وغيرهما من كتب الاحاديث.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٥٢ باب المشيئة والارادة ح ٦ ، وأيضا ص ١٥٧ ح ٣ وص ١٥٩ ح ١٢ ، وفي البحار ج ٥ ص ٤ ح ٣ وغيرهما.

٤١٩

الطاعة والمعصية ، ويكون متمكنا من المجاهدة وتقديم المرجحات الالهية.

فحينئذ إذا تعارضت القوى النفسانية مع القوى الرحمانية وقدم المرجح الالهى فالله عزوجل أولى بالفعل ، وان قدم المرجح النفساني وغلبت جنود الجهل فهو أولى بالفعل لمغلوبية الجهة الالهية ، فالامر بين الامرين لا ينافي الاولوية.

الثاني : انه قد ورد في النصوص الكثيرة أن بعض الحسنات يكون معدا للآخر ويعطي القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته ، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان ، وهذه الجملة تكون ناظرة إلى ذلك.

ومحصل مفادها حينئذ : انه إن أطاع ، فالله أولى به لانه الموفق ، وإن عصى فالعبد أولى به لانه اتبع فيه هوى نفسه وشهواته.

الثالث : ان منشأ الاولوية هو أن الله تعالى انما أعطى نعمة الوجود والقدرة والشعور وغيرها وأمر بصرفها في محلها ، فان فعل ذلك فقد عمل بوظيفته ومع ذلك فالله هو ولى الاحسان الذي مكنه من ذلك ، وان لم يفعل ذلك وصرف النعمة في غير محلها فقد فعل بسوء اختياره ، وهذا حسن.

ويؤيده تذييل هذه الجملة في بعض تلك النصوص بقوله تعالى" عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك (١) ".

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٢٠