زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

العبد حقيقة عزل الله تعالى عن ملكه أو تصرف الغير في سلطانه ، كيف هو وقدرته وجميع شئونه موجودة بايجاده.

ولنمثل لتقريب ذلك مثالا وان كان دون ما نحن فيه بكثير ، وهو : أن الغنى القادر القوى لو أعطى الضعيف وأغنى الفقير ، وهو قادر في كل حين على سلبه وابقائه ، هل يتوهم أحد أن يعد الضعيف شريكا للقوي؟ كلا.

وبهذا الذي ذكرناه أخبر أمير المؤمنين (ع) عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها ويقعد ويفعل ويترك.

فقال له أمير المؤمنين (ع) : اسألك عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية.

فقال له أمير المؤمنين (ع) : قل يا عباية. قال : وما أقول؟

قال : ان قلت انك تملكها من دون الله قتلتك ، وان قلت تملكها مع الله قلتك. قال : فما أقول؟

قال : تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك (١). الحديث

فانظر إلى هذا الحديث كيف كشف الغطاء ولم يدع على هذه الحقيقة من ستار.

__________________

(١) نقله الامام أبو الحسن (ع) الثالث في رسالته إلى اهل الاهواز على ما رواها في البحار ج ٥ ص ٧٥.

٣٨١

الاستدلال للجبر باسناد الاضلال إلى الله تعالى

خامسها : انه قد نسب الاضلال إلى الله تعال في كثير من الآيات ، قال الله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء) (١) ، وقال عزوجل : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (٢) وقال سبحانه : (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) (٣) فتدل هذه الآيات على أنه تعالى خالق الضلال والكفر في العبيد ، فيصدهم عن الايمان ويحول بينهم وبينه.

وربما قالوا : ان هذا هو حقيقة اللفظ بحسب اللغة ، لان الاضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا ، كما أن الاخراج والادخال عبارتان عن جعل الشيء خارجا وداخلا.

وأورد العدلية على ذلك بوجوه :

الأول : انه لا يقال لمن صد الطريق أنه أضله بل يقال منعه ، وانما يقال اضله إذا أغواه.

الثاني : ان الله تعالى وصف الشيطان وفرعون وأمثالهما بالاضلال ، ومعلوم

__________________

(١) الآية ٤ من سورة إبراهيم.

(٢) الآية ٢٧ من سورة الرعد.

(٣) الآية ١٢٥ من سورة الأنعام.

٣٨٢

أنهم ليسوا خالقين للضلال في قلب أحد ، قال الله تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١) ، وقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) (٢).

الثالث ان ذلك يضاد كثيرا من الآيات ، كقوله : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى) (٣) وقوله سبحانه : (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤) ، وقوله عزوجل : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٥) ، إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع : ان الله تعالى ذم ابليس ومن سلك سبيله في الاضلال والاغواء وأمر بالاستعاذة منهم.

قال سبحانه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (٦) ، وقال : (وَقُل رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين) (٧) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد) (٨) ، وقال سبحانه : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة القصص.

(٢) الآية ٧٩ من سورة طه.

(٣) الآية ٩٤ من سورة الإسراء.

(٤) الآية ٤٩ من سورة المدثر.

(٥) الآية ٦٩ من سورة غافر.

(٦) الآيات ١ و ٤ من سورة الناس.

(٧) الآية ٩٧ من سورة المؤمنون.

(٨) الآية ٢٦ من سورة ص.

٣٨٣

قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) (١) ، فلو كان الله تعالى هو المضل الحقيقي فكيف ذمهم عليه.

وأيضا لو وجبت الاستعاذة منه كما وجبت منهم ، ولاستحق المذمة كما استحقوا ، ولوجب أن يتخذوه عدوا كما وجب اتخاذ ابليس عدوا.

الخامس انه عزوجل في كثير من الآيات نسب الضلال إلى العصاة ، كما في قوله تعالى : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (٢) ، وقوله سبحانه : (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) (٣).

فلو كان المراد بالضلال هو ما هم فيه لزم منه تحصيل الحاصل وهو محال :

وأيضا فأمثال هذه الآيات صريحة في أنه يفعل بهلم الاضلال بعد فسقهم ، فيكون مغايرا له.

السادس انه تعالى يذكر هذا الضلال جزاءً لهم على سوء فعلهم وعقوبة عليه ، فلو كان المراد ما هم عليه لكان ذلك تهديدا لهم بشيء هم عليه مقبلون وبه متلذذون.

ولذلك كله ذهب العدلية إلى أنه يجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل :

الأول ـ أن يحمل الاضلال على الاضلال عن الجنة.

الثاني ـ أن يحمل الاضلال على الهلاك والابطال ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ

__________________

(١) الآية ٧٩ من سورة طه.

(٢) الآية ٢٦ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٣٤ من سورة غافر.

٣٨٤

كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (١) ، وقوله تعالى : (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

الثالث ـ أن الضلال والاضلال هو العقاب والتعذيب ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُر) (٣).

الرابع ـ أن يكون الاضلال هو التخلية وترك المنع ، فيقال أضل فلان ابنه إذا لم يتعاهده بالتأديب.

ويؤيده ما عن العيون عن الامام الرضا (ع) في قوله تعالى" وتركهم في ظلمات لا يبصرون" ، قال : ان الله تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم (٤).

وقريب منه غيره.

الخامس ـ وهو أحسن الوجوه ، انه إذا ضلَّ الإنسان باختياره عند حضور شيء من دون أن يكون ذلك علَّة لضلاله بل غايته كونه من مقدماته البعيدة وعلله المعدة ، يقال انه أضله.

__________________

(١) الآية ١ من سورة محمد.

(٢) الآية ١٠ من سورة السجدة.

(٣) الآية ٤٧ من سورة القمر.

(٤) عيون أخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٢٣ ح ١٦ باب ١١ ما جاء عن الرضا (ع) من الاخبار في التوحيد / بحار الأنوار ج ٥ ص ١١ ح ١٧ باب ١ نفي الظلم والجور عنه تعالى.

٣٨٥

قال الله تعالى في حق الاصنام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١) ، أي ضلوا بهن ، وقال (وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) (٢) ، أي ضل بهم كثير من الناس.

والاضلال بهذا المعنى منسوب إلى الله تعالى نظرا إلى أن الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان لها مبادئ خارجة عن دائرة اختياره ، كوجود الإنسان وحياته وإدراكه للفعل وشوقه إليه ، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه وقدرته على ايجاده ، وتلك المبادئ موجدها هو موجد الإنسان نفسه ، وقد ثبت في محله أن بقاء الاشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن.

وعلى هذا فالكفر والفسق إذا صدرا عن العبد باختياره بما أن مبادئهما من قبل الله تعالى فلذلك يصح أن ينسبا إليه تعالى.

وبذلك يظهر الجواب عما أورد على القرآن المجيد بأنه : قد يسند الفعل إلى العبد واختياره ، وقد يسند الأفعال إلى الله تعالى ، وهذا تناقض واضح.

__________________

(١) الآية ٣٦ من سورة إبراهيم.

(٢) الآيتين ٢٣ و ٢٤ من سورة نوح.

٣٨٦

كلام العارف الشيرازي في معنى الاضلال

وللعارف الصدر الشيرازي كلام في توجيه نسبة الاضلال إلى الله تعالى لا بأس بنقله ملخصاً ، لاشتماله على مطالب دقيقة :

قال : ان الله تعالى متجل للخلق بجميع صفات كماله وأسمائه ومفيض على عباده وعوالمه بكل نعوت جماله وجلاله ، فالاول ما تجلى في ذاته لذاته ، فظهر من تجليه عالم أسمائه وصفاته ، فهي أول حجب الاحدية ، ثم تجلى بها على عالم الجبروت ، فحصلت من تجليه أنوار عقلية وملائكة مهيمنة قدسية ، وهي سرادقات جبروتية ثم تجلى من خلق تلك الانوار على العالم الملكوت الاعلى والاسفل ثم على أشباحها الغيبية والمثالية ، ثم على عالم الطبيعة السماوية والارضية.

ولكل من هذه العوالم والحضرات منازل وطبقات متفاوتة ، وكلما وقع النزول أكثر قلت هذه الانوار الاحدية بكثرة هذه الحجب الامكانية ، وتراكمت النقائص والشرور بمصادمات الاعدام. أو لا ترى أن كلا من الصفات السبعة الالهية التي هي أئمة سائر الصفات برية من النقصان والامكان والكثرة والحدثان.

ثم إذا وقعت ظلالها في هذا العالم الادنى حجبتها الآفات والشرور ولزمتها الاعدام والنقائص ، فإذا ارتفعت عن عالم الاجسام زالت عنها تلك النقائص والشرور ورجعت إلى اقليم الوحدة.

٣٨٧

ثم زعم أن هذا هو معنى الامر بين الامرين من الجبر والقدر ، وهو أن النقائص والقصورات اللازمة في هذا العالم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحق تارة وإلى الخلق ، اخرى انما نشأت ولزمت من خصوصية هذا الموطن فعادت الينا لا إلى الصفة الالهية ، وهو معنى قوله تعالى في الحديث القدسي" أنت أولى بسيئاتك منى" (١) ، ومعنى قوله : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (٢) أن الأفعال الصادرة منه بلا واسطة وكذا الصفات الالهية الثابتة له في مقام التوحيد قبل عالم الكثرة ليس فيها شائبة النقص والقبح حتى يرد فيها السؤال ، لان عالم الالوهية كله نور وكمال.

ثم نقل عن بعض أصحاب القلوب ، والظاهر أنه ابن العربي ، أنه ذكر تقريبا للطبائع والافهام وتسهيلا لفهم التوحيد الافعالى على العقول فيما يضاف إلى الجمادات والاعجام ، فان الحجاب عن ادراك هذا التحقيق أمران :

احدهما اختيار الإنسان والحيوان.

وثانيهما ما ينسب إلى الجمادات وسائر الاجرام.

اما الأول : فان نسبة إرادة الإنسان إلى مشيئة الله تعالى كنسبة ادراك الحواس إلى ادراك العقل.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٥٠ باب المشيئة والارادة ح ٦ ، وباب الجبر والقدر والامر بين الامرين ص ١٥٧ ح ٣ ، وص ١٦٠ من نفس الباب ح ١٢ بسند ثالث.

(٢) الآية ٢٣ من سورة الأنبياء.

٣٨٨

كما في قوله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَن يَشَاء اللهُ) (١) ، ونسبة مصادر أفعالها من الابدان والاعضاء كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو أمير الجوارح ، كما دل عليه قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) وقوله : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (٤).

وأما الثاني فقد انكشف لدى البصائر المستنيرة أن الشمس والقمر والغيم والمطر والارض وكل حيوان وجماد مسخرات بأمره تعالى ومقبوضات بقبض قدرته ، كالقلم الذي هو مسخر للكاتب وعلمه وارادته وقدرته وقوته التي في عصبه واصبعه ، كما أن علمه ومشيئته واردتان من خزائن غيب الملكوت ، وكتابة قلم اللاهوت على ترتيب ونظام وتقدم وتأخر من الاعلى فالاعلى إلى الادنى حتى انتهى أثر القدرة من احدى حاشيتي الوجود إلى الاخرى من القلم الاعلى إلى القصب الادنى.

وهذا مما يشاهده من انشرح صدره بنور الله ويسمع بسمعه المنور من يدرك ويفهم تسبيح الجمادات وتقديسها وشهادتها على أنفسها بالعجز والسخرية بلسان ذلق أنطقها الله به الذي أنطق كل شيء بلا حرف وصوت ما لا يسمعه ، الذين هم عن السمع لمعزولون.

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة الإنسان.

(٢) الآية ١٠ من سورة الفتح.

(٣) الآية ١٤ من سورة التوبة.

(٤) الآية ١٧ من سورة الأنفال.

٣٨٩

فقال بعض الناظرين من هذا المشكاة للكاغذ (١) وقد رآه اسودَّ وجهه : لم تسوَّد وجهك وتشوَّش بياضك بهذا السواد؟

فقال بلسان الحال : سلوا هذا المداد الذي ورد عليّ وغير هيئتي وجبلّتي.

فقال للمداد : لم فعلت ذلك؟

فقال : كنت مستقرا في قعر الدواة لا صعود لى بنفسى عن ذلك القعر فوردت على قصبة تسمى القلم فرقاني من مقعري ، ولو لا نزوله ما كان لي صعود.

فقال للقلم : لم فعلت ذلك؟

فقال : كنت قصبا ثابتا في بعض البقاع لا حركة منى ولا سعى فورد على قهرمان سكين بيد قاطع فقطعني عن أصلي ومزق على ثيابي وشق رأسي ثم غمسني في سواد الحبر ومرارته.

فقال للسكين : لم فعلت؟

فأشارت إلى اليد ، فاعترض عليها فقالت : ما أنا الا لحم ودم وعظم

حركني فارس يقال له القدرة فاسألها. فلما سألها عن ظلمها وتعديها على اليد أشارت إلى الإرادة.

فقال لها : ما الذي قواك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة؟

__________________

(١) الكاغذ من الالفاظ الفارسية ومعناها الورق.

٣٩٠

فقالت : لا تعجل لعل لنا عذرا وأنت تلوم ، فانى ما انبعثت بنفسى ولكن بعثنى حكم حاكم وأمر جازم من حضرة القلب وهو رسول العلم على لسان العقل بالاشخاص للقدرة والالتزام لها في الفعل ، فانى مسكين مسخر تحت قهر العلم والعقل فلا أدرى بأى جرم سخرت لهما وألزمت لهما الطاعة ، ولكني أدرى أن تسخيري اياها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم.

فأقبل على العلم والعقل والقلب طالبا ومعاتبا اياهم على سبب استنهاض الإرادة وانهاضها للقدرة.

فقال العقل : أما انا فسراج ما اشتعلت بنفسى ولكن اشعلت.

وقال القلب : اما أنا فلوح ما انسبطت ولكن بُسطت وما انتشرت ولكن نشرني من بيده نشر الصحائف.

واما العلم فقال : انما انا نقش في منقوش وصورة في بياض لوح القلب لما أشرق العقل ، وما انحططت بنفسى فكم كان هذا اللوح قبلى خاليا فاسأل القلم عنى واسأله عن هذا.

فرجع إلى القلم تارة أخرى بعد قطع هذه المنازل والبوادى وسير هذه المراحل والمقامات ، فوقع في الحيرة حيث لم يعلم قلما الا من القصب ولا لوحا الا من العظم والخشب ولا خطا الا بالحبر ولا سراجا الا من النار ، وكان يسمع في هذا المنزل هذه الاسامي ولا يشاهد شيئا من مسماها.

فقال له العلم : زادك قليل وبضاعتك مزجاة ومركبك ضعيف ، فالصواب لك أن تؤمن بهذه المسميات ايمانا بالغيب وتنصرف وتدع ما انت فيه.

٣٩١

فلما سمع السالك ذلك استشعر قصور نفسه فاشتغل قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآه بعين النقص ، ولقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ، لقوة استعداد كبريائيته في مادته ، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نورا على نور.

فقال له العلم : اغتنم الفرصة وافتح بصرك فلعلك تجد على هذه النار هدى.

ففتح بصره فرأى القلم الالهى كما سمع نعته من العلم أنه ليس من قصب ولا خشب ولا له رأس وذنب ، وهو يكتب على الدوام في صحائف قلوب الانام أصناف العلوم والحقائق ، وكان له في كل قلب رأس ولا رأس له ، فقضى منه العجب فودع عند هذا العلم وشكره وقال : لقد طال مقامي عندك وأنا عازم على السفر إلى حضرة القلم.

فلما جاءه وقص عليه القصص وسأله ما بالك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الارادات إلى أشخاص القدرة وصرفها إلى المقدورات؟

فقال : لقد نسيت ما رأيت في عالم الملك وسمعته من جواب القلم عن سؤالك.

قال : لم أنس. فقال : جوابي مثل جوابه لتطابق عالمى الملك والملكوت ، أما سمعت أن الله تعال خلق آدم على صورته ، فاسأل عن شأني الملقب ب" يمين الملك" فاني مقهور في قبضته مسخر ، فلا فرق بين قلم الآدمي والخلق الالهي في معنى التسخير انما الفرق في ظاهر الصورة والتصوير.

٣٩٢

قال : ومن يمين الملك؟

قال : أما سمعت قوله تعالى : (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١) ، هو الذي يرددها.

فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم.

فقال : جوابي ما سمعت من اليمين الذي في عالم الشهادة وهو الحوالة إلى القدرة ، فلما سار إلى عالم القدرة فرأى فيه من العجائب ما استحقر غيرها ، فأقيل عند ذلك عليها فسألها عن تحريك اليمين.

فقالت : أنا صفة فاسأل القادر إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات.

وعند هذا كاد أن يزيغ وينطق بالجرأة على السؤال ، فثبت بالقول الثابت ونودى من سرادقات الحضرة (لايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(٢) ، فغشيته الحضرة فخر صعقا ، فلما أفاق قال : سبحانك ما أعظم شأنك تبت اليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار ، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ الا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وبك منك؟

فأقول : اشرح لى صدري لاعرفك ، واحلل عقدة الصمت من لساني لاثنى عليك.

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة الزمر.

(٢) الآية ٢٣ من سورة الأنبياء.

٣٩٣

فعند هذا رجع السالك واعتذر عن سؤاله ومعاتبته.

فقال لليمين والقلم والعلم والارادة والقدرة وما بعدها : اقبلوا عذرى فانى غريبا كنت في بلادكم ولكل داخل دهشة فما كان انكاري عليكم الا عن قصوري وجهلي والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لى ان المتفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار والكل تحت تسخيره وهو الأول والآخر والظاهر والباطن.

فهذا هو الكلام في تفسير الاضلال (١). انتهى.

الآيات التي استدل بها للجبر

سادسها جملة من الآيات الشريفة ، وهي طوائف :

منها : ما تقدم من الآيات المتضمنة لاسناد الاضلال إلى الله تعالى وقد مر الجواب عنها.

ومنها : الآيات المتضمنة لنسبة الهداية إلى الله سبحانه ، وقد مر عند الاستدلال بها لتعلق إرادته تعالى ومشيئته بأفعال العباد الجواب عنها.

وملخصه أن للهداية أنواعا :

__________________

(١) للعالم العارف صدر المتألهين الشيرازي ، كما نقله عنه الوافي (المصدر السابق).

٣٩٤

أولها : الهداية العامة التكوينية ، وهي الهداية إلى جلب المنافع ودفع المضار ، باضافة المشاعر الظاهرة والمدارك الباطنة والقوة العاقلة ، قال الله سبحانه : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (١).

ثانيها : نصب الدلائل العقلية الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه يشير قوله تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (٢).

ثالثها : الهداية العامة التشريعية بارسال الرسل وانزال الكتب وإليه يشير قوله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (٣) ، وقوله عزوجل : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً) (٤).

رابعها : الهداية الخاصة التكوينية ، وهي الهداية إلى طريق السير إلى حصار القدس والسلوك إلى مقامات الانس بانطماس آثار التعلقات البدنية واندراس أكدار الجلابيب الجسمية والاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال ومطالعة أنوار الجمال ، وهذا النوع عناية ربانية خص الله بها بعض عباده حسب ما يقتضيه حكمته.

وإلى هذا النوع يشير كثير من الآيات ، قال عز من قائل (ليْسَ عَلَيْكَ

__________________

(١) الآية ٥٠ من سورة طه.

(٢) الآية ١٠ من سورة بلد.

(٣) الآية ١٧ من سورة فصلت.

(٤) الآية ٣ من سورة الإنسان.

٣٩٥

هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (١) ، (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢) (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) (٣) ، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

ومنها : الآيات المتضمنة لنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى ، وقد تقدمت جملة منها.

والجواب عنها : ما مر من أن فعل العبد وسط بين الجبر والتفويض وله حظ من كل منهما ، لان القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله تعالى واعمال القدرة في أخرى ، وكل من الاسنادين حقيقي ، والآيات الكريمة ناظرة إلى هذا المعنى.

ومنها : قوله عز من قائل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (٥).

وفيه : ان اللام في قوله" لجهنم" ليست للعلة ، بل للعاقبة والمآل والصيرورة ، كما في قول الشاعر" لدوا للموت وابنوا للخراب". فالآية

__________________

(١) الآية ٢٧٢ من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٤٤ من سورة الأنعام.

(٣) الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٥٦ من سورة القصص.

(٥) الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.

٣٩٦

الشريفة لا تدل على أن كثيرا من الانس والجن خلقوا ليدخلوا السعير ، بل تدل على أن عاقبة كثير من الطائفتين هو دخول جهنم وذيلها يدل على أن هذه العاقبة التي في انتظارهم ليست بجبر من الله تعالى ، بل من ناحية أنهم افشلوا وسائل ادراكاتهم بالمعاصى عن اختيار.

وبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال له بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) (١) فان هذه الآية واردة في الذين كفروا باختيارهم.

ولا يبعد أن يكون المراد بهم الكفار من كبراء مكة الذين عاندوا في أمر الدين ولم يألوا جهدا في ذلك ، تدل خصوصا بقرينة تغيير السياق ـ حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم ـ على أن فيهم حجابين : حجابا في أنفسهم ، وحجابا من الله تعالى عقيب كفرهم ، فأعمالهم متوسطة بين حجابين من ذاتهم ومن الله تعالى.

القول بالجبر مخالف للوجدان

فالمتحصل مما ذكرناه أن شيئا من البراهين التي أقيمت على الجبر لا يتم.

__________________

(١) الآيتين ٦ و ٧ من سورة البقرة.

٣٩٧

وأضف إلى ذلك أن القول به مخالف للحس والوجدان ، وذلك لان كل انسان يجد ويدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الأفعال ويتمكن من أن يفعلها أو يتركها ، ولا يفعلها الا ويرى أنه قادر على تركها.

وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد ما لم يعتريه شبهة من الخارج.

وقد أطبق العقلاء كافة على استحقاق فاعل القبيح للذم وفاعل الحسن للمدح ، مع اطباقهم على أن الذم والمدح انما يتوجهان إلى المختار دون المضطر ، فكون جملة من الأفعال اختيارية مما بنى عليه بناء العقلاء.

مع أنه يترتب على القول بالجبر عدة توال فاسدة ، قد أشرنا إليها سابقا ، وهي : انكار التحسين والتقبيح العقليين.

وسلب العدالة عن الله تعالى.

وان التكليف بما لا يطاق لا محذور فيه.

وكل واحد من هذه التوالي كاف في الرد على الجبرية.

التحسين والتقبيح العقليان

ولا بأس بالإشارة الاجمالية إلى وجه فساد كل واحد منها وان كان واضحا غير محتاج إلى بيان ، فأقول :

أما الحسن والقبح العقليان فذهبت الاشاعرة ـ خلاقا للمعتزلة والامامية ـ

٣٩٨

إلى انكار الحسن والقبح العقليين ، وأنه مع قطع النظر عن كون الأفعال ملائمة للطبع أو منافرة له تكون الأفعال متساوية لا تفاوت بينها في الحسن والقبح ، سوى أن أفعال العباد قد تتصف بالحسن والقبح بعد تعلق الاحكام الشرعية بها باعتبار موافقتها للشرع ومخالفتها ، بخلاف أفعاله تعالى فانها لا تتصف بهما من هذه الجهة أيضا ، ولا مجال للعقل أن يحكم فيها بتحسين أو تقبيح.

وقد استندوا في ذلك إلى أمرين :

الأول : ان الفعل عرض والحسن والقبح العقليان من قسم العرض أيضا ، والعرض لا يعرض عليه عرض ولا يتصف به ، فالفعل لا يمكن اتصافه بالحسن والقبح العقليين.

وفيه : أولا النقض ، بأن الالوان كالبياض والحمرة والسواد أعراض ، والشدة ، والضعف ، والحسن ، والقبح أيضا من الاعراض ، وغير خفي أن الشدة والضعف والحسن والقبح تعرض على الالوان وتتصف الالوان بها ، هذا اللون شديد وذاك ضعيف ، هذا حسن وذلك قبيح ، فكيف جاز هنا اتصاف العرض بالعرض.

وثانيا بالحل ، وهو أنه فرق بين العرض الوجودى والعرض الانتزاعي ، والذي وقع محل الكلام في عروضه على العرض انما هو القسم الأول كالالوان ، وأما القسم الثاني كالحسن والقبح والشدة والضعف فليس لاحد دعوى عدم عروضها على الاعراض.

الثاني : وهو يختص بانكارهما بالاضافة إلى أفعاله تعالى ، وهو أنه لو سلم الحسن والقبح العقليان في أفعال العباد أنا لا نسلمهما في أفعاله تعالى.

٣٩٩

ضرورة أنه ليس للعقل التحكم على الله تعالى ، فيقول : هذا الفعل منه قبيح فيجب تركه ، أو حسن فيجب فعله.

كيف وهو الفعال لما يشاء ، وكل ما يفعل يكون تصرفا في ملكه ، لا يسأل عما يفعل.

وفيه : ان هذا اشتباه نشأ من التعبير بأن العقل يحكم بالحسن والقبح ، وقد حققنا في محله أن شأن القوة العاقلة حتى بالنسبة إلى أفعال العباد ليس هو التشريع وجعل الاحكام ، بل هذا المقام من مختصات الله تعالى وسفرائه ، بل شأنها الدرك ، فالقوة العاقلة دراكة لا مشرعة.

وعليه فنقول في المقام : ان الحسن والقبح لا يكونان بتحكم من العقل ، بل هما صفتان واقعيتان يدركهما العقل.

توضيح ذلك : أنه كما يكون لكل واحدة من الحواس الخمس ملائمات ومنافرات ـ مثلا : السمع تلذه الاصوات الحسنة وتزعجه الاصوات القبيحة ـ كذلك تكون للعقل الذي به انسانية الإنسان والا فهو كغيره من الحيوانات ملائمات ومنافرات.

ضرورة أن القوة العاقلة قوة درّاكة ، فإذا لاحظت الأفعال فقد تراها ملائمة لها وترى استحقاق فاعلها للمدح كالعدل فيقال انها حسنة ، وقد تراها منافرة لها ترى استحقاق فاعلها للذم كالظلم فيقال انها قبيحة ، وقد تراها خالية عن الجهتين فتختلف بالوجوه والاعتبارات.

وان شئت توضيح ذلك بالمثال العرفي : فانظر إلى رجل قد أحسن اليك

٤٠٠