زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

مستلزما للجبر وعدم قدرة العبد وارادته في الفعل لفرض وجوب صدوره ، ففيما اراده العبد من باب الاتفاق يكونان ، أي الفعل والارادة معلولين لعلة واحدة وهي الإرادة الالهية. واما ان كانت متعلقة بفعله بما له من المبادئ المصححة لاختياريته في حد ذاته من القدرة والارادة والشعور ، فلا يستلزم ذلك الجبر ، لفرض عدم تعلق الإرادة بالفعل وان لم يرده العبد بل بماله من المبادئ الاختيارية أيضا ، فلا مجال لدعوى الاختيارية لوجوب الصدور.

ثم أورد على نفسه أيضا : بأن ما ذكر يكفي في صحة التكليف ويخرج بذلك عن اللغوية. لا أنه يبقى السؤال عن وجه المؤاخذة والعقاب ، لان اشكال وجوب الفعل بارادة الباري ـ الذي توهمه الاشعري ـ يندفع بما ذكر ، كما أن اشكال وجوب الفعل بارادة الفاعل ، مندفع بأن ذلك يؤكد اراديته ، الا أن اشكال وجوب الإرادة نفسها التي هي من الممكنات المستندة إلى إرادة الباري الواجبة بالذات الموجبة لعدم اختيارية الفعل المعلول لها لان الجبر على العلة جبر على المعلول ، يبقى بحاله. ومعه لا يصح العقاب ، لانه لا يصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار.

وأجاب عنه : بأن العقاب تابع للكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن الشقاوة الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما.

وليس مراده بذلك ما احتمله بعض من أن المثوبة والعقوبة من تبعات الأفعال ولوازم الاعمال ونتائج الملكات الفاضلة وآثار الملكات الرذيلة ، ومثل هذه العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض على البدن ، المؤيد ذلك بقوله

٣٦١

تعالى : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُون)(١).

وقوله (ص) " انما هي أعمالكم ترد اليكم" (٢). لا من جهة منافاة ذلك لظاهر الكتاب والسنة ، فانه يمكن أن يقال : ان المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لافاضة الصورة المنافرة من الله تعالى ، ونسبة التعذيب والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أن افاضة تلك الصورة المؤلمة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب.

بل من جهة أن الجواب لا يناسب مع مبنى الاشكال ، وهو أنه كيف يؤاخذ على ما لا ينتهي بالآخرة إلى الاختيار ، ولامع قوله بأنه عقاب على الكفر والعصيان الناشئين عن الاختيار.

بل الظاهر أن مراده أن العقاب انما هو من معاقب خارجي ، غاية الامر يكفي في صحة المؤاخذة التي يكون استحقاقها بحكم العقل والعقلاء ، هذا المقدار من الاختيار المصحح للتكليف ، كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الموالى العرفية ومؤاخذة العبد إذا أمروه بشيء وخالفه ، إذ لو كان الفعل بمجرد استناده إلى الله تعالى غير اختياري وغير صالح للمؤاخذة لما صحت مؤاخذة الموالى العرفية أيضا ، وإذا كان الفعل في حد ذاته قابلا للمؤاخذة عليه لم يكن هناك فرق بين كون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة أو غيره.

__________________

(١) الآية ١٤٧ من سورة الأعراف.

(٢) الحكايات للشيخ المفيد (قدِّس سره) ص ٨٧ ، الناشر مؤتمر الشيخ المفيد ، قم المقدسة.

٣٦٢

غاية الامر يبقى سؤال ، وهو أنه تعالى لم أوجد من سيوجد منه المهلكات ، أو لم أوجد نفس مقدمات الاختيار الموجبة لأنواع العقوبات ، وهل لا يكون ذلك منافيا لرحمة رب الارباب؟

والظاهر أن قوله" اللازمة لخصوص ذاتهما" (١) الخ ، اشارة إلى الجواب عن ذلك.

وجه ايجاد من سيوجد منه المهلكات

وحاصله كما أفاده بعض المحققين (٢) يظهر بعد بيان مقدمات :

الأولى : ان لكل ماهية من الماهيات في حد ذاتها حدا معينا بحيث لو زيد عليه أو نقص عنه خرجت عن كونها تلك الماهية. مثلا : ماهية الشجر جوهر ممتد نام ، ولو زيد عليه الحاسية صار حيوانا ، ولو نقص عنه النمو صار جمادا.

الثانية : ان لماهية الاشياء نحو وجود في العلم الازلي الربوبي بتبع العلم بالوجودات.

الثالثة : ان المجعول بالأصالة هو الوجود والماهية مجعولة بالتبع والعرض ، وجدانها لذاتها وذاتياتها ولوازمها غير محتاج إلى جعل وتأثير ، ولا يعقل الجعل

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٦٨.

(٢) كما افاده صاحب الكفاية حسب الظاهر ، نقله المصنف (مد ظله) ببيان آخر للتوضيح.

٣٦٣

بين الشيء ونفسه ولا بينه وبين لوازمه.

الرابعة : ان كل ممكن غير متوقف على ممتنع بالذات يجب وجوده ، إذ لا نقص في طرف مبدأ المبادئ ولا في المعلول لفرض امكانه ولا في الوسائط والاسباب لفرض عدم التوقف على الممتنع بالذات ، وغيره يجرى فيه هذا البيان.

إذا عرفت هذه المقدمات :

يظهر لك أن تفاوت الماهيات في أنفسها ولوازمها بنفس ذواتها لا بجعل جاعل وتأثير مؤثر ، فمنهم شقي ومنهم سعد بنفس ذاته وماهويته ، حيث أن الماهيات كانت موجودة في العلم الازلي وطلبت بلسان حال استعدادها الدخول في دار الوجود ، وكان معطي الوجود فياضا بذاته غنيا بنفسه فيجب عليه افاضة الوجود ويمتنع عليه الامساك عنه ، وحيث ان الجود بمقدار قبول القابل وعلى طبق حال السائل كانت الافاضة عدلا وصوابا.

فالاعتراض ان كان بالقياس إلى الماهية فهو باطل بأن الشقي شقي في حد ذاته ، والسعيد سعيد في حد ذاته.

وان كان بالاضافة إلى الوجود.

فيدفعه أن افاضة الوجود على وفق قبول القابل عدلٌ وصواب.

ويمكن أن يقال : ان ما في النبوى الشريف مع قطع النظر عما ورد في

٣٦٤

تفسيره" الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه" (١) يكون اشارة إلى ذلك ، والاختصاص ببطن الأم اما لانه أول النشآت الوجودية عند الجمهور ، أو أن المراد بالبطن مكنون الماهية ، واطلاق الأم على الماهية بلحاظ جهة قبولها كما أطلق الاب على الله تعالى في بعض الكتب السماوية بلحاظ جهة فاعليته.

الموجب لاختيار الله تعالى العقاب

ويبقى السؤال عن أنه : ما الموجب لاختيار الله تعالى العقاب بعد استحالة التشفي في حقه؟

ويمكن الجواب عنه بوجهين :

احدهما : ما عن جماعة من الاساطين منهم الشيخ الرئيس (٢) والمحقق

__________________

(١) التوحيد للصدوق ص ٣٥٦ باب السعادة والشقاوة ، طبعة طهران ، والبحار ج ٥ ص ٩ رواه عن تفسير علي بن ابراهيم.

(٢) راجع شرح الاشارات ج ٣ ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩ حيث قال في معرض الحديث القدر : «فلم العقاب؟» إلى ان قال : «فإن ذلك ايضا يكون حسناً لانه قد كان يجب يكون التخويف موجوداً في الأسباب التي تثبت فتنفع في الاكثر ، والتصديق تأكيد للتخويف ، فإذا عرض من اسباب القدر عارض واحد ، مقتضي للتخويف والاعتبار ، فركب الخطأ وأتى بالجريمة وجب التصديق لاجل الغرض العام ... الخ». كما يمكن ان يستفاد ذلك من ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤

٣٦٥

الأصفهاني (ره) (١) وهو أن التعذيب من باب تصديق التخويف والايفاء بالوعيد الواجبين في الحكمة الالهية ، فان خلاف الميعاد مناف للحكمة وموجب لعدم ارتداع النفوس من التوعيد.

وفيه : ان وجهه حفظ النظام ، والحكيم يراعى المصلحة العامة الكلية ، فكما لو لا تخويف من يرتدع حقيقة بالردع لما ارتدع ولم يبق نظام الكل محفوظا كذلك لو احتمل المجرم بما هو مجرم أنه لا يعذب ، فعموم التخويف له دخل في حفظ النظام الذي لا أتم منه نظام.

ثانيهما : ان استحقاق العقاب انما هو بحكم العقل ، من جهة أن العصيان والمخالفة خروج عن زى الرقية ورسم العبودية ، وهو ظلم والظالم يستحق العقاب.

هذا كله فيما يرجع إلى شرح مطالب الكفاية ، وانما أطلنا الكلام في ذلك دفعا للشبهة المغروسة في أذهان الاكثر من أن المحقق الخراساني يصرح بالجبر.

ومع ذلك ففى كلامه مواقع للنظر يظهر عند بيان المختار في الجواب عن هذا الوجه.

__________________

بعد الحديث عن كون النبي (ص) يجب أن يكون داعيا إلى التصديق بوجود خالق قدير خبير ..

(١) بحوث في الأصول ج ٢ ص ٥٨ (تذييل وتكميل) ، وفي نهاية الدراية ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ (كيفية المثوبة والعقوبة).

٣٦٦

إرادة الله تعالى على قسمين

وحاصله يبتني على بيان أمور :

الأمر الأول : ان إرادة الله تعالى على قسمين التكوينية والتشريعية ، والمراد بالاولى هو فعله تعالى واحداثه وخلقه كما نطقت بذلك النصوص الكثيرة.

لاحظ صحيح صفوان بن يحيى قلت لابي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك ، لانه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فارادة الله لا غير ذلك ، يقوله له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له (١). ونحوه غيره.

والمراد بالارادة التشريعية جعل الاحكام.

وبما ذكرناه يظهر أن ما أفاده المحقق الخراساني (قدِّس سره) ـ تبعا للحكماء والفلاسفة من تفسير إرادة الله تعالى بالعلم.

في غير محله ، فان العلم عين ذاته تعالى والارادة فعله واحداثه ، وبينهما بون بعيد.

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ١٠٩ باب ان الإرادة من صفات الفعل. وورد في عدة مصادر اخرى منها الآمالي للطوسي المجلس ٨ ص ٢٠٥.

٣٦٧

وأضعف من ذلك ما عن جماعة منهم ، من ارجاع الإرادة في الله تعالى إلى العلم مفهوما.

مع أنه لو أغمض عما ذكرناه وسلم كونها عين ذاته ، ما استدلوا به على تغاير العلم والقدرة والحياة في الله سبحانه ، وهذا يجرى في الإرادة أيضا.

والوجدان أقوى شاهد على التغاير ، فان قولنا" الله عالم" و" الله مريد" ليسا من قبيل المترادفين نظير" زيد انسان" و" زيد بشر" بل الضرورة قاضية بأنه يفهم من كملة" الله عالم" شيء" ومن كلمة" الله مريد" شيء آخر.

وأيضا قاضية بأن الاعتقاد بان الله تعالى عالم ليس اعتقادا بأنه مريد ، والبرهان على كونه عالما لا يكون برهانا على أنه مريد.

نعم لو التزمنا بثبوت إرادة ذاتية فيه سبحانه وراء الارادة في مرتبة فعله ، لا مصداق له فيه سوى علمه تعالى ، ولكن لا دليل على ثبوتها.

إرادة الله من صفات الفعل

الامر الثاني ان إرادة الله تعالى من صفات الفعل لا من الصفات الذاتية ، وذلك لوجوه :

الأول انطباق ما ذكرناه ضابطا لصفات الفعل من اتصافه بما يقابلها أيضا على إرادته ، ويقال : ان الله تعالى مريد لوجود الإنسان وغير مريد لوجود العنقاء.

٣٦٨

الثاني ان وجود الموجودات ليس كمالا له تعالى حتى تكون إرادة وجودها من الصفات الكمالية الذاتية.

الثالث تطابق الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام على ذلك.

لاحظ صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله قال : قلت لم يزل الله مريدا؟

قال (ع) : ان المريد لا يكون إلا المراد معه ، لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد (١). وهذا الخبر صريح في أن إرادته ليست من الصفات الذاتية.

وصحيح محمد بن مسلم عنه (ع) : المشيئة محدثة (٢). ونحوهما غيرهما.

أفعال العباد غير متعلقة لإرادة الله تعالى

الثالث ان إرادته تعالى لو كانت من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة لكانت متعلقة بجميع الممكنات ، ومنها أفعالنا لان الصفات الذاتية المتحدة مع الذات متعلقة بالجميع ، والا فلو لم تكن متعلقة ببعض الممكنات لصح سلبها عنه تعالى بالاضافة إليه. وقد تقدم أن الصفات الذاتية لا يمكن سلبها عنه.

ولكن بعد ما عرفت من أنها من صفات الفعل ، فاعلم أن متعلقها الأعيان

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ١٠٩.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ١١٠.

٣٦٩

الخارجية وأفعاله ، وأما أفعال العباد فلا تكون متعلقة لإرادته تعالى وان كان فيض الوجود والقدرة وسائر المبادئ من قبل الله تبارك وتعالى ، بل موجد فعل العبد هو النفس بوساطة أعمال القدرة بلا دخل لإرادته فيه ، فلا تكون أفعال العباد متعلقة لإرادته حتى يلزم الجبر.

ولأئمتنا الأطهار عليهم الصلاة والسلام كلمات في هذا الموضوع تشير إلى ما ذكرناه :

منها : ما رواه المحقق المجلسي عن إمامنا الهادي (ع) : أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله؟ فقال : لو كان خالقا لها لما تبرأ منها (١).

ومنها : خبر صالح النيلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : ولكن حين كفر كان في إرادة الله تعالى أن يكفر ، وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير ، قلت : أراد منهم ان يكفروا؟ قال عليه‌السلام : ليس هكذا أقول ، ولكني أقول علم أنهم سيكفرون (٢). ونحوهما غيرهما.

وعلى الجملة كون إرادة الله تعالى من الصفات الفعلية وعدم تعلقها بأفعال العباد الاختيارية ، ينبغي أن يعد من الأمور المسلّمة.

وما عن المتكلمين من النزاع والجدال في أن إرادته تعالى حادثة أم قديمة ، يبتنى على أن يكون المراد من الإرادة هو الشوق.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥ ص ٢٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ١٦٢ ، باب الاستطاعة.

٣٧٠

ولكن بعد ما عرفت من أن الإرادة عبارة عن أعمال القدرة ، فكل ما قيل في هذا المقام في غير محله ، إذ على ذلك لا ريب في أنها حادثة مخلوقة له.

فان قلت : ان إرادته تعالى وان لم تكن متعلقة بفعل العبد الا أن إرادة العبد بما أنها خارجة عن تحت قدرته فهي معلولة لإرادته تعالى وموجودة بايحاده ، فتكون إرادته علة لعلة الفعل ، فتكون العلة واجبة الصدور والا لزم تخلف مراده عن إرادته ، فالفعل أيضا يكون واجب الصدور ، لان الجبر على العلة جبر على المعلول.

توجه عليك ما تقدم مفصلا من أن الاختيار فعل النفس. وهي موجدة له واختياري بنفس ذاته ، فلا تكون إرادة العبد متعلقة لإرادة الله.

إذا تبينت لك هذه الأمور انكشف جليا دفع هذا الوجه ، فان إرادة الله تعالى لا تكون متعلقة بأفعال العباد ليلزم وجودها ولا يلزم من وجودها من دون تعلق إرادته به التصرف في سلطان المولى ، بعد كون المبادئ بأجمعها تحت اختياره وقدرته كما مر ، فلا جبر.

الآيات التي استدل بها على تعلق إرادة الله تعالى بالأفعال

وقد يقال : ان في القرآن الكريم قد انتسبت الإرادة ومشقاتها في ثلاث وأربعين آية إلى الله تعالى ، وعلى ذلك فهي متعلقة بأفعال العباد وارادته لا تتخلف عن المراد ، فيعود محذور الجبر.

ولكن يرد عليه أن تلك الآيات على طوائف :

٣٧١

الأولى : الآيات الدالة على عدم تخلف المراد عن إرادته.

نظير قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) ، وقوله عزوجل : (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(٢).

وهذه الطائفة لا تعين ما تتعلق به الإرادة ، بل تدل على أنه ان تعلقت إرادته بشيء يتحقق ذلك الشيء. وهذا مما لا كلام فيه ولا نزاع حوله.

الثانية : الآيات المتضمنة لجعل إرادة الإنسان موردا لإرادة الله تعالى.

كقوله سبحان : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا* كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)(٣).

وهذه الطائفة لا تدل على تعلق إرادة الله بالفعل الاختياري ، بل تدل على أن الإنسان مختار في كل ما يريد ولا يكون مجبورا فيه ، غاية الامر ان الله تعالى يمد الفاعل المختار أيا ما أراد بإعطاء الوجود والقدرة وسائر مبادئ الفعل ، فهذه الطائفة تدل على الاختيار دون الجبر.

__________________

(١) الآية ٨٢ من سورة يس.

(٢) الآية ١١ من سورة الفتح.

(٣) الآيات من ١٨ إلى ٢٢ من سورة الإسراء.

٣٧٢

الثالثة : ما يدل على أن الله تعالى لا يريد الظلم.

نظير قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ)(١).

وعدم دلالة هذه على المدّعى واضح. نعم ان كان للوصف واللقب مفهوم لكانت دالة على إرادة غير الظلم.

الرابعة : ما دل على تعلق إرادته باليسر.

كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٢).

وهذه الطائفة دالة على تعلق الارادة التشريعية باليسر دون العسر ، وقد مر أنها تتخلف عن المراد.

وأما الآية الكريمة : (وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣) التي توهم دلالتها على ذلك ، بتقريب انها تدل على أن عدم إيمان قوم نوح عليه‌السلام انما كان من جهة إرادة الله تعالى المتعلقة بأفعالهم.

فيرد على الاستدلال بها : ان الغي ليس بمعنى الضلالة ، بل من المحتمل إرادة البأس أو العقاب منه.

وعلى الأول تدل الآية على أن البأس الذي هو نتيجة أفعالهم الاختيارية

__________________

(١) الآية ١٠٨ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١٨٥ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٣٤ من سورة هود.

٣٧٣

مورد لارادة الله تعالى ، وإرادة النتيجة غير إرادة الفعل.

وبه يظهر ما فيه على الثاني ، مع أنه لو كان بمعنى الضلالة يرد على الاستدلال بها ما سيأتي في الآيات التي نسب فيها الضلال إلى الله.

وأما الآية الشريفة : (فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)(١).

فذيلها قرينة على أن جعل الله تعالى صدره ضيقا انما هو من جهة أن الكافر لم يؤمن باختياره ، فيكون سبيل الآية الكريمة سبيل النصوص الكثيرة الدالة على ان العبد ربما يكون مخذولا ومحروما من عناية الله تعالى بسبب ارتكابه بعض المعاصي ، كما أنه ربما يكون موفقا بالحسنات والخيرات بواسطة التزامه ببعض الخيرات والحسنات فبعضها يكون معدا للآخر ويعطي القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته ، وإذا ثبت ذلك في الضلالة ثبت في الهداية أيضا.

المشيئة الالهية وافعال العباد

ولا يخفى أن كثير من الآيات الكريمة تضمنت للمشيئة الإلهية.

واستدل بها تارة لكون أفعال العباد الاختيارية متعلقة لها ، فلا بدَّ من

__________________

(١) الآية ١٢٥ من سورة الأنعام.

٣٧٤

وجودها لاتحاد الارادة والمشيئة ، وأخرى للجبر ، كقوله تعالى : (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ)(١) ، وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(٢) ، وقوله عزوجل : (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء)(٣) ، وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ)(٤) ، وقوله سبحانه : (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا)(٥) ، وقوله تعالى : (قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاء اللهُ)(٦) ، وقوله عزوجل : (لَّوْ يَشَاء اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)(٧) ، وقوله تعالى : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ)(٨) إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة للمشيئة البالغة مائتي آية.

ولكن لا دلالة في شيء منها على ما استدل بها له.

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة الانسان.

(٢) الآية ٢٧ من سورة الرعد.

(٣) الآية ٢٨٤ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٢٧ من سورة الفتح.

(٥) الآية ٦٩ من سورة الكهف.

(٦) الآية ٤٩ من سورة يونس.

(٧) الآية ٣١ من سورة الرعد.

(٨) الآية ٢٣ ٢٤ من سورة الكهف.

٣٧٥

أما الآية الأولى وما بمضمونها ، فلان صدرها متضمن لبيان أن القرآن يكون هاديا وان الإنسان يكون متمكنا من الهداية إلى الحق بواسطته ، ولكن الضالين لا يشاءون هذه الهداية بسوء اختيارهم. فهي بقرينته تدل على أن الله تعالى لو شاء أن يجبرهم على أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا كان له ذلك ، ولكنه لم يشأ لان دار الدنيا دار الاسباب والاختيار ، بل جعل ذلك تحت اختيارهم ومشيئتهم.

ويمكن أن يقال : ان المراد بها" ما تشاءون الاسلام الا أن يشاء الله أن يلطف لكم في الاستقامة" ، لما في الكلام من معنى النعمة.

وأما الآية الثانية وما بمضمونها نظير قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(١) ، وقوله سبحانه : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء)(٢) ، وقوله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٣) إلى غير ذلك من الآيات ، فهي تدل على أن الهداية الخاصة وكذا ما يقابلها مختصة بطائفة خاصة.

توضيحة : ان الهداية هي الارشاد والدلالة ، والهدى ضد الضلال ، الهداية من الله تعالى على قسمين عامة وخاصة.

والاولى : قد تكون تكوينية ، وقد تكون تشريعية.

__________________

(١) الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٧٢ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٥٦ من سورة القصص.

٣٧٦

والهداية العامة التكوينية ما أعدها الله تعالى في طبيعة كل موجود ، فهي تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها ، الفارة تفر من الهرَّة ولا تفر من الشاة ، والنمل يهتدي إلى تشكيل جمعية وحكومة ، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه. وهكذا ، قال تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(١).

والهداية التشريعية العامة هي افاضة العقل على الإنسان ثم ارسال الرسل وانزال الكتب.

وأما الهداية الخاصة ، فهي عناية ربانية خصَّ الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته ، فيهيئ له ما به يهتدى إلى كماله ويصل إلى مقصوده ، ولو لا تسديده لوقع في الغي والضلالة ، ومع ذلك لا يكون مجبورا في ذلك.

وفي امثال هذه الآية أشير إلى نكتة لطيفة ، وهي الرد على القائلين بإله الخير وإله الشر ، أي المجوس الملتزمين بأن وسائل الشر انما تكون متحققة بايجاد إله الشر ، وان الله تعالى لايهيأ تلك الوسائل ، وتدل على ان الأسباب كلها من الله تعالى.

وأما الآية الثالثة : وما بمضمونها فإنما تدل على أن جميع الأفعال واقعة تحت المحاسبة ، سواء أكانت ظاهرة أم لا ، غاية الامر لله تعالى أن يغفر لمن يشاء.

وأما الرابعة ، والخامسة : وما بمضمونهما من الآيات فغاية ما تدل عليه أنه حيث يحتمل من يريد أن يعمل عملا أن يحدث ما يمنع عنه ، فعليه أن يتوجه إلى

__________________

(١) الآية ٥٠ من سورة طه.

٣٧٧

الله تعالى ويسأله أن تكون الحوادث بنحو لا تمنعه عما يريد.

وأما السادسة : وما بمضمونها فملخص القول فيها ان المراد بالنفع والضرر ان كان هو الطبيعي منهما فعدم ارتباطها بالمقام ظاهر ، وان كان ما ينشأ عن عدم العمل بالوظائف فكونه منوطا بمشيئة الله تعالى انما هو من جهة كون جعل الوظيفة وبيانها على الله تعالى.

وبما ذكرناه في الآيات السابقة يظهر ما في السابعة والثامنة.

الاستدلال للجبر بعلم الله تعالى

ثالثها ان الثابت في محله أن علمه تعالى متعلق بجميع الموجودات ولم يخرج شيء عن تحت علمه ، ومنها أفعالنا ، فكل ما يصدر منا متعلق لعلمه فيجب وجوده وإلا لزم كون علمه تعالى جهلا.

وان شئت قلت : انه لتعلق علمه بالفعل لا بد وأن يوجد الفعل جبرا ، أو يتبدل علمه بالجهل ، وحيث أن الثاني محال فيتعين الأول.

ويتضح الجواب عن ذلك ببيان أمور :

الأول ان علمه تعالى لا يكون متعلقا بأفعالنا فقط ، بل هو متعلق بها وبمقدماتها ، وإلا لزم كون علمه محدودا ، واتصافه بمقابل العلم ، وهذا ينافي كون العلم من الصفات الذاتية.

وحيث ان من مقدمات الفعل الاختياري الاختيار والارادة ، فيكون عالما

٣٧٨

بصدور الفعل عن الاختيار. ولو التزمنا بالجبر ولزوم صدور الفعل لزم انقلاب علمه جهلا ، إذ المعلوم كون الفعل صادرا عن الاختيار ، والواقع صدوره جبرا.

الثاني أن علمه تعالى ليس علّة للفعل ، كما أن علمنا بأنا سنفعل كذا لا يكون هذا العلم علة لذلك الفعل ، فان حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه ولا ربط لذلك بصدور ذلك الفعل ليكون علة له.

وأيضا فلو كان علمه علّة لم يكن هناك حاجة إلى الإرادة ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) وفي غير ذلك من الآيات والروايات جعلت الإرادة غير العلم ، وقد تقدمت.

وقد عرفت أن تفسير جماعة إرادته تعالى بعلمه غلط واشتباه مناف للاخبار والآيات.

فإن قيل : ما معنى تصريح كثير من الفلاسفة بأن علمه تعالى فعلى لا انفعالي ، بعد كون ظاهره أن علمه ليس تابعا للمعلوم بل المعلوم تابع له؟

قلنا : ان مرادهم بذلك أن العلم :

تارة يطلق ويراد منه نفس الاضافة المتأخرة عن وجود الطرفين التي هي المضاف الحقيقي.

وأخرى يطلق ويراد منه مبدأ تلك الاضافة. والعلم بالمعنى الأول ليس من

__________________

(١) الآية ٨٢ من سورة يس.

٣٧٩

الصفات الذاتية له تعالى وإلا يلزم أن يكون لغير ذاته مدخلية في كمال ذاته ، وهو مستلزم لمدخلية غيره في ذاته ، وهو ضروري البطلان.

بل العلم بالمعنى الثاني ، أي مبدأ تلك الاضافة الخاصة كمال له وعين ذاته ، فعلمه بمعنى ما هو مبدأ العالمية.

أو المراد أن علمه بما أنه من الصفات الذاتية متحد مع ذاته ، وحيث أن ذاته مبدأ لجميع الموجودات حتى أفعال العباد لان مبادئها من قبل الله تعالى ، فكذلك علمه المتحد مع ذاته ، فليس معنى فعليّة علمه كونه علة لجميع الموجودات. وحيث أن ذاته لا تكون علة لافعال العباد بل الموجد لها هو العبد ، فكذلك علمه المتحد مع ذاته.

الثالث أن علمه تعالى كما يكون متعلقا بأفعال العباد كذلك يكون متعلقا بأفعاله ، فلو كان علة لزم الالتزام بالجبر حتى في أفعاله سبحانه.

الاستدلال للجبر بسلطنة الله تعالى

رابعها : أن اثبات القدرة للعبد واسناد الفعل إليه استقلالا أو مع الله والالتزام بأنه الموجد يستلزم ثبوت الشريك له ، فلا بد من الالتزام بالجبر حفظا لسلطنة الله وأنه المتصرف الوحيد.

وفيه : ان ذلك انما يلزم لو كان للعبد استقلال ووجود وقدرة بنفسه ، وأما مع الالتزام بأنه محتاج في وجوده وقدرته وسائر مبادئ الفعل بل بالنظر الدقيق هو كسائر الموجودات عين الحاجة لا شيء محتاج ، فلا يلزم من اسناد الفعل إلى

٣٨٠