زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

فليست تلك الحقيقة هو البدن ولا شيئا من أجزائه ، ولا خاصة من خواصه.

وأنكر الماديون وجود هذه الحقيقة ، وقالوا : ان الإنية التي نشاهد ليست إلا سلسلة الاعصاب التي تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي ، وهو الجزء الدماغي على التوالى وفي نهاية السرعة ، غاية الامر على صفة الوحدة.

ففى ذلك الجزء الدماغي مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه ، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب" أنا" ، فالذي نرى أنه ثابت فهو في الحقيقة مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الادراكية وسرعة ورودها.

وذكر بعضهم في تنظيره بقوله : كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما ، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت ، وكذا يجد صورة الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس بواحد ثابت بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه.

وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس ، والذى نرى أنه غير جميع أجزائنا صحيح لكنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه ، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالى والتوارد لا تغفل عنه ، فان لازم الغفلة وقوف الاعصاب عن أفعالها ، وهو الموت.

وأيضا قالوا : ان كل خاصة من الخواص البدنية وجدنا علتها المادية ولم نجد

٣٤١

أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى نحكم بوجود حقيقة الإنيّة.

وقال المتأخرون منهم : ان المتحصل من التشريح والفزيولوجيا ان الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والخلايا التي هي الاصول في حياة الإنسان ، فالنفس أثر مخصوص لكل واحد منها أرواح متعددة ، فالإنيّة المشهودة للانسان على صفة الوحدة مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على صفة الاجتماع ، ولذا هذه الخواص الروحية تبطل بموت الخلايا وتفسد بفسادها ، فلا معنى للروح المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني.

هذه هي عمدة ما استدل بها الماديون على نفى أمر آخر وراء أعضاء البدن ، وهناك وجوه أخر يظهر ما فيها مما نورده على هذه الوجود.

ويرد على الوجه الأول : انه إذا كان المفروض أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ، وليس وراء تلك الأمور شيء آخر ، وكون ما نرى من الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الادراكات الكثيرة.

فما الموجب لحصول هذا الواحد الذي لا يشاهد غيره ، ومن أين حصلت الوحدة؟.

وما ذكروه من الوحدة الاجتماعية غير مربوطة بالمقام ، فان الواحد الاجتماعي هو الكثير في الواقع الواحد في الحس أو الخيال ، لا في نفسه ، والمدَّعى في المقام كون الادراكات الكثيرة في أنفسها هي شعور واحد عند أنفسها.

وان قيل : ان المدرك في المقام هو الجزء الدماغي.

٣٤٢

توجه عليه : ان المفروض أن ليس للجزء الدماغي ادراك آخر وراء هذه الادراكات متعلقا بها كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية.

وان قيل : انه لا وحدة لها وانما يشتبه الامر على الحس أو القوة المدركة فتدرك الكثير واحدا.

أجبنا عنه : بأن الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بمقايسة ما عند الحس بما في الخارج من واقع هذه المشهودات.

وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعى.

مثلا : نشاهد الجرم العظيم من بعيد صغيرا كنقطة سوداء ، فما عند الحس ـ وهي النقطة السوداء ـ لا اشتباه فيها ، وانما الاشتباه يكون لو قايسنا ما عنده بما في في الخارج من واقع ذلك المشهود. والمفروض في المقام أن لا مقام آخر وراء الادراكات الكثيرة كي يحكم بالاشتباه والغلط من مقايسة ما فيه بتلك الادراكات.

ويرد على الوجه الثاني : ان المثبتين لا يسندون بعض الافاعيل البدنية إلى البدن وبعضها إلى النفس ، والاول فيما علله ظاهرة ، والثانى فيما علله مجهولة كي يرد عليهم ما ذكر. بل يسندون جميع الافاعيل إلى البدن بلا واسطة وإلى تلك الحقيقة مع الواسطة ، وانما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن اسناده إلى البدن ، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما تقدم.

ويرد على الوجه الثالث مضافا إلى ما أوردناه على الوجه الأول : ان غاية ما

٣٤٣

يمكن أن يثبت بما ذكر من الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي : ان العلل الطبيعية لا تقى بوجود الروح ، ولا تصلح أن يستنتج منها وجوده. وقديما قالوا" عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود".

فالمتحصل : ان وجود تلك الحقيقة المعبر عنها ب" أنا" غير قابل للانكار.

وتلك الحقيقة لها حكومة على سائر الاعضاء والغرائز ولها أن تفشل ما يميل إليه سائر الاعضاء ، وهي العاملة القوية الموجبة لحصول الاعتدال بين ما هو أساس الغرائز ، وهو حس جلب النفع ودفع الضرر ، مع التكاليف الاجتماعية والدينية ، وبالنتيجة تصير الأفعال موافقة للقوانين الخارجية.

الشوق ليس علة للفعل الاختياري

الثانية : ان الموجب لصدور الفعل الاختياري هو أعمال هذه الحقيقة قدرتها في العمل لا الشوق ، إذ نرى بالوجدان أنه بعد تحقق الشوق الاكيد المتعلق بالهدف وبنفس الفعل ، يمكن لتلك الحقيقة المشار إليها آنفا أن تمنع عن الفعل وتمنع عن تحققه وتوجب أن لا يوجد.

قال ارسطو : ان ما هو سبب صدور الفعل هو ذلك لا الشوق المشترك بين الإنسان وسائر الحيوانات.

وأيضا ربما يعارض ذلك مع الشوق والرغبة ولا يعقل المبارزة الا مع التعدد.

وأيضا ان الشوق يتعلق بالمجال والممتنع ولا يعقل تعلق الاختيار به.

٣٤٤

نعم ، لا ننكر أن العوامل الخارجية والداخلية ربما تبلغ من الشدة إلى حد تغفل الحقيقة الإنية عن نفسها ، مثلا : لو استمعت صوتا حسنا وغفلت عن نفسها ، وفي مثل ذلك لا محالة يصدر الفعل لكنه فعل غير اختياري وخارج عن تحت القدرة.

وبالجملة : لا ريب في أن مجرد الشوق لا يوجب تحرك العضلات لما يرى بالوجدان أنه ربما يشتاق الإنسان إلى شيء ولا يتحقق المشتاق إليه الا بعد أعمال القدرة وحملة النفس. مثلا : لو وقف الإنسان على قنطرة وكان في أحد طرفيها بساتين فيها رياحين واشتاق إلى الذهاب إليها كمال الاشتياق وكان في الطرف الآخر النار مشتعلة لودنا منها لاحترق وكره الذهاب إليها كمال الكراهة ، ومع ذلك لا يتحقق ما تعلق شوقه به ، بل يرى نفسه بعد ذلك قادرا على الذهاب إلى كلا الطرفين.

فمن هذا يستكشف أن الشوق لا يكون علة للفعل ، بل بينهما واسطة ، وهو أعمال القدرة ، حيث أن زمام البدن بيد النفس تقلبه حيث ما شاءت ، فبعد تحقق الشوق لها أن تعمل قدرتها في الفعل فيفعل ، وهذا معنى ما يقال" شئت ففعلت" ، ولها أن لا تعمل فلا يتحقق الفعل.

وهذا الاعمال الذي يكون فعل النفس ، يعبر عنه بالمشيئة والاختيار ، وحملة النفس والارادة والفعل يصدر عنه لا عن الشوق.

٣٤٥

قانون العلية العامة

الثالثة ان قانون العليَّة والمعلولية ، بمعنى أن الموجود يحتاج إلى علة لاجل وجوده ووجوب تحقق المعلول عند تحقق العلة بتمام أجزائها وامتناع تحققه مع عدم جزء منها ، وان تم في الموجودات غير الأفعال الاختيارية الا أنه لا يتم في الاختيار ، بحيث يكون الاختيار لازم التحقق عند تمامية علته وان لا يعقل وجوده مع عدم العلة.

وبعبارة أخرى : احتياج كل ممكن حادث إلى علة لا ينفك عنها ، ممنوع ، لعدم البرهان عليه ، بل البرهان على خلافه ، فان الاختيار فعل النفس ، والنفس توجده ولا تكون الأمور الخارجية ولا الغرائز الداخلية التي أساسها حب البقاء المنشعب منه حس جلب النفع ودفع الضرر ، إذ ربما يكون جميع ذلك موجودة والنفس متوجهة إليها ومع ذلك لا يختار الفعل.

وما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) (١) من أن دعوى عدم احتياج بعض

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٢٠٠ قال : «وثالثاً : أنّ الاختيار الّذي هو فعل نفساني إن كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النّفس من العلم والقدرة والإرادة فيكون فعلاً قهريّاً لكون مباديه قهريّة لا اختياريّة ، وإن كان ينفك عنها وأنّ تلك الصفات مرجحات فهي بضميمة النّفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة ، ولا يوجد المعلول إلّا بعلّته التامّة ، وتوهّم (الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود المرجح في الأوّل دون الثاني) من الغرائب (فانّه لا فرق بين ممكن وممكن في الحاجة إلى العلّة ، ولا

٣٤٦

الممكنات إلى العلة من الغرائب ، إذ الممكن مساوق للمفتقر.

مندفع : بأنا لا ندّعي وجود الممكن بذاته ونلتزم بافتقاره إلى الموجد ، الا أنا نقول : ان احتياج كل ممكن ولو كان فعلا اختيارا إلى العلة التامة ـ أي ما لا ينفك عن وجوده الفعل يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ومما يؤيد ما ذكرناه انه لا عين ولا أثر في الآيات والروايات عن عليّة الله تعالى للموجودات ، واحتياج الممكن إلى العلة ، بل انما عبر فيها باحتياج الممكن إلى الموجد والخالق والصانع.

إذا عرفت هذه المقدمات ، يظهر لك أن السبب لوجود الفعل الاختياري ليس هو الشوق ، حتى تكون شبهة الجبر شبهة لا يمكن دفعها ، بل السبب هو أعمال النفس قدرتها في الفعل وأنها تامة في الأفعال الاختيارية بلا محرك آخر ، فالجواب عنها واضح.

ايرادات هذا الجواب ونقدها

وربما يورد على هذا الجواب بايرادات :

__________________

فرق بين معلول ومعلول في الحاجة إلى العلّة التامّة ، فان الإمكان مساوق للافتقار إلى العلّة ، والمعلول إذا وجد له ما يكفي في وجود المعلول به كان علّة تامّة له وإذا لم يكن كافيا في وجوده فوجود المعلول به خلف فتدبّره فانّه حقيق به.

٣٤٧

أحدها أن الاختيار بهذا المعنى حادث أم واجب ، فان كان واجبا لزم أن يصحبه من أول وجوده ، وان كان حادثا ولكل حادث محدث فوجود الاختيار يكون بايجاد الموجد.

والموجد اما أن يكون هو أو غيره؟

فان كان هو بنفسه فان كان باختيار آخر لزم التسلسل ، فلا بد وأن يكون وجود الاختيار بغير الاختيار ، فيكون مجبورا على الاختيار من غيره.

وبما أن الجبر على العلة جبر على المعلول فالفعل يصدر جبرا.

وبعبارة أخرى : الاختيار لا يكون واجبا بالبداهة بل هو ممكن ، وبما أن كل ممكن يحتاج في وجوده إلى العلة التامة فهو معلول لعلة وتلك العلة اختيارية أم غير اختيارية ، فان كانت اختيارية وصادرة عن اختيار آخر ينقل الكلام إلى ذلك الاختيار ، فلا بد وأن ينتهي إلى علة غير اختيارية وإلا لزم التسلسل.

فان انتهى إلى علة غير اختيارية أو من الأول التزمنا بذلك فيعود المحذور ويثبت الجبر ، إذ القصر على العلة قصر على المعلول.

وفيه : ان الجواب عن هذه الشبهة يتوقف على بيان مقدمتين :

الاولى : انه لا يعتبر في انصاف الفعل بكونه اختياريا سوى القدرة عليه واستناد الفعل إليها ، ولا يعتبر سبق الاختيار وان كان اختيارية الفعل الخارجي مساوقة لذلك. ولا يكفي مجرد القدرة ، فلو كان الشخص قادرا على الذهاب إلى محل خاص ولكن لم يعمل قدرته في ذلك بل أجبر عليه وكان بتحريك الغير ، لا يكون هذا الفعل اختياريا.

٣٤٨

الثانية : ان كل ممكن بما أن الوجود والعدم بالاضافة إليه على حد سواء لا يعقل وجوده بنفسه ، فلا محالة يحتاج إلى الموجد ليخرج به عن حد الاستواء ، وغير الأفعال الاختيارية من الموجودات يحتاج إلى العلة التامة ، وأما الأفعال الاختيارية فلا يتوقف صدورها عليها ، بحيث يكون الموجد لها لا يكاد ينفك عنها كما عرفت. وبعبارة أخرى : دعوى احتياج الأفعال الاختيارية إلى شيء يستحيل انفكاكها عنه ، من الاشتباهات الناشئة عن التعبير باحتياج الممكن في وجوده إلى العلة.

وبهذا البيان يندفع ما يقال : كيف يلتزم بوجود الصانع القديم وحدوث الممكنات ، ولو كان الله تعالى علة لما أمكن التخلف ولزم القدم في جميع الممكنات.

إذا عرفت هاتين المقدمتين :

فاعلم : ان أعمال القدرة والاختيار انما يكون فعلا قائما بالنفس ، وهي موجدة له بنفسها ويكون هو اختياريا بلا احتياج إلى العلة التامة.

والنفس ليست علة تامة له حتى يستحيل انفكاكه عنها فيعود المحذور ، بل النفس موجدة له ، فتارة يوجد الداعي لها فتوجده ، وأخرى لا ينقدح لها الداعي فلا توجده ، فالفعل الخارجي اختياري للنفس بوساطة اختيارية فعل النفس لا بنفسه ، لانه ليس من أفعالها ولكن لسلطنة النفس على البدن وكون العضلات منقارة للنفس في حركاتها وليس لها مزاحم في سلطانها يكون الفعل الخارجي اختياريا للنفس.

ومعنى كونه اختياريا لها صدوره مسبوقا بالاختيار.

٣٤٩

وأما فعل النفس ، وهو أعمال القدرة ، فهو اختياري لها بنفسه بلا وساطة شيء آخر وبلا احتياج إلى سبق اختيار آخر.

وهذا نظير العلم ، حيث أن المعلوم ينكشف بوساطته وهو منكشف بنفسه ، ولعل هذا هو المراد من الرواية الشريفة المتضمنة انه" خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق" الاشياء بالمشيئة" (١) ، فلا وجه لتوجيهها بتوجيهات بعيدة كما عن بعض المحقين.

وما ذكره المحقق الأصفهاني من أن إرادته تعالى التي هي أيضا من أفعاله ، يستحيل أن تكون عين ذاته ، لاستحالة كون الفعل عين فاعله ، فلا محالة تكون قائمة بذاته. فان كانت قديمة بقدمه كان حال هذا القائل حال الاشعري الملتزم بقدم الصفات الزائدة على الذات وهو باطل بالضرورة.

وان كانت حادثة كان محلها الواجب ، إذ لا شيء آخر يقوم به ، فيلزم كون الواجب محلا للحوادث ، فيكون حال هذا القائل حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات (٢).

مندفع بما ستعرف من أن إرادته تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات ، وليست أفعاله تعالى نظير أفعالنا ، بل إرادته ليست الا خلقه وأرزاقه وغيرهما من أفعاله.

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ١١٠ باب الارادة انها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل.

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٢٠٠ (في اتحاد الطلب والارادة) عند قوله : ورابعا ، بتصرف.

٣٥٠

وعليه فدعوى عدم كون إرادته من سنخ الأفعال الصادرة عن الاختيار ، حتى يكون موجودا قائما بنفسه أو بموجود آخر ، فاسدة.

وعلى الجملة ليس قيامها به الا كقيام سائر الأفعال به ، بل هي هي.

الثاني ما في مقالات المحقق العراقي (ره) من أن انعزال الإرادة (أي الشوق) عن التأثير وكون تمام المؤثر هو الاختيار (أي أعمال القدرة) خلاف الوجدان. كيف ويعتبر في العبادات أن تكون ارادة قربية ، ولو انعزلت الإرادة عن التأثير فلا معنى لارادية العبادة ولا لنشوّها عن قصد القربة ، وهو كما ترى (١).

أقول : ينبغى أن يعد صدور هذا الكلام من هذا المحقق النحرير من الغرائب ، وذلك لان المراد من ارادية الفعل صدوره عن الاختيار الذي يكون واسطة بين الشوق والفعل ، ومعنى اعتبار الإرادة القربية في العبادة أنه حيث يكون الاختيار بدواعى مختلفة فيعتبر في العبادات أن يكون بداع القربة ويكون المحرك أمر المولى ، وهذا لا ينافي ثبوت الواسطة بين الشوق والعمل.

الثالث ما في تقريرات بحثه ، وحاصله : انا لا نتعقل شيئا في النفس يحدث بعد الإرادة ، إذ للنفس قسمان من الفعل ، الجانحي ، والجارحي ، والاول ينحصر في التصور والتصديق ونحوهما مما يكون من مبادئ الإرادة ولا يعقل تأخره عنها ، والثانى نفس الأفعال الخارجية.

وفيه : ان المدعى ثبوت فعل من ما يكون من قبيل القسم الأول أي الفعل

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٢١٣ (بحث في الطلب والارادة).

٣٥١

الجانحى ، ولكن دعوى عدم معقولية تأخره عن الشوق فاسدة ، إذ لو أريد تأخر ما يكون متقدما عليه ، فهو واضح البطلان وأما لو أريد به وجود فعل آخر ـ وهو حملة النفس الذي عرفت أن الوجدان يساعد على وجوده ـ فهو لا يكون متقدما كي يلزم منه تأخر ما هو متقدم.

عدم استحالة الترجيح بلا مرجح

تذنيب : لا يخفى أنه بعد ما عرفت من عدم كون الشوق علة للفعل ، فاعلم أنه الداعي والمرجح لوجود الاختيار غالبا ، لان الاختيار في وجوده يحتاج إلى موجد وهو النفس ومرجح وهو الشوق غالبا ، والاحتياج إلى المرجح انما يكون لاجل الخروج عن اللغوية ، والا فيمكن ايجاد الفعل الاختياري بلا مرجح ، لعدم استحالة الترجيح بلا مرجح.

توضيح ذلك : انه لا اشكال ولا كلام في استحالة الترجح بلا مرجح ، بمعنى وجود الشيء بلا موجد ، لان الممكن في وجوده محتاج إلى المؤثر وهو المرجح للوجود. وهذا من البداهة بمكان.

وأما الترجيح بلا مرجح فقد وقع الخلاف في امكانه.

فالتزم اكثر الفلاسفة والحكماء بامتناعه.

وذهب جماعة من المحققين إلى امكانه ، وهو الاقوى عندي.

إذ محصل البرهان الذي ذكر للامتناع أن الترجيح بلا مرجح يرجع إلى الوجود بلا موجد ، وحيث أنه محال فهذا أيضا محال.

٣٥٢

توضيحه : أنه لو فرضنا تساوى الفعلين من جميع الجهات وكانت نسبة الإرادة اليهما متساوية فتعلق الإرادة الذي هو موجود من الموجودات بأحدهما دون الآخر يكون بلا مرجح وبلا موجد ، فيلزم الوجود بلا موجد ، ومن البديهي امتناعه.

وفيه : انه بعد ما عرفت من أن الموجد للاختيار هو النفس لا يلزم الوجود بلا موجد من الترجيح بلا مرجح ، إذ ليس لتعلق الإرادة بالفعل وجود آخر غير وجود الإرادة والاختيار ، بل للاختيار وتعلقه بالفعل وجود واحد ، لكونه من الصفات التعلقية ، وموجد هذا الوجود هو النفس.

فلا يلزم المحذور المذكور ، اذ لها الخيار في ايجاد كل منهما ، فلا يترتب على ايجاد أحدهما دون الآخر محذور عقلي.

فالاقوى بحسب البرهان امكان الترجيح بلا مرجح.

ويضاف إلى ذلك الوجدان ، فراجعه في موارده ترى أن ما ادعيناه واضح لا سترة عليه. بداهة أن الهارب يختار أحد الطرفين مع عدم مرجح له بالخصوص.

ودعوى وجود المرجحات الخفية في أمثال هذا المورد. لا يمكن المساعدة عليها ، فعهدة اثباتها على مدعيها. هذا كله في امكان الترجيح بلا مرجح.

وأما الكلام في قبحه ، فالحق هو التفصيل.

توضيح ذلك : أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، ومنه ترجيح الفعل على الترك إذا كان مرجوحا ، وأما إذا تساويا فان لم يكن ترجيح في نوع الفعل :

٣٥٣

بأن لم تترتب فائدة على الفعلين أصلا ، يكون قبيحا أيضا ، إذ مرجع ذلك إلى ايجاد الفعل بلا فائدة ، وهو قبيح لكونه عبثا.

وأما إذا كان المرجح في النوع ولم يكن في واحد بالخصوص فلا بد من التفصيل بين التكوينيات والتشريعيات ، والالتزام بالقبح في الثانية دون الاولى ، وذلك لانه في التشريعيات إذا فرضنا قيام المصلحة بالجامع بين الفعلين أو بكل منهما ولم يكن لاحدهما ترجيح على الآخر ، فحيث أن الأمر بالجامع أو أحدهما ممكن لا محذور فيه ، كما هو المفروض. فالامر بأحدهما لاوجه له ، لان المصلحة لا تختص به ، فالتخصيص قبيح.

وأما في التكوينيات فحيث أن اختيار الجامع وايجاده بلا خصوصية محال وما يوجد لا محالة يكون مع احدى الخصوصيتين فلا يكون ترجيح أحدهما قبيحا ، بداهة أن الجائع يختار أحد القرصين مع عدم مرجح لاحدهما ، ولا يعد فعله قبيحا ، بل قد يعد عدم الترجيح قبيحا ، كما لو لم يختر أحدهما حتى مات من الجوع.

قانون الوراثة

وقد يستدل للجبر بقانون الوراثة والعادة :

وتقريب الأول : انه لا اشكال ولا ريب في أن الاوصاف الجسمية والروحية للابوين لها تأثير تام في صفات الولد ، وهي تكون سببا للفعل ومؤثرة فيه بلا كلام.

٣٥٤

ولكنه يندفع : بأن قانون الوراثة لا ينكر وقد أشير إليه في كثير من الروايات ، ولذلك حدد الشارع الاقدس للتزويج حدودا من الطرفين معللة بتأثير روحيات الابوين في الولد ، الا أنه ليس تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف ، وذلك لما نرى بالوجدان أنه ربما يتولد من الابوين الخبيثين أولاد طيبون وبالعكس.

وأيضا لو كان تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف لكانت التربية لغوا.

أضف اليهما أنا نرى بالوجدان أنه قد يغير الآداب والرسوم في زمان واحد في مجتمع ، وهذا أقوى شاهد على أن الوراثة لا تقدر على اجبار الإنسان ، مع أن القوانين المجعولة للاقوام والملل تصلح شاهدة على ذلك.

الاعتياد

وتقريب الثاني : ان العادة من الغرائز الداخلية الارتكازية الموجبة بعد طى مراحلها الثلاث ، لصيرورة الفعل غير اختياري ، وقالوا : ان العادة طبيعة ثانوية ، وان العادة توجب كون الفعل غير ارادي.

وفيه : ان العادة لا تصلح مانعة عن تسلط الحقيقة الآنية ونظارتها على الغرائز الداخلية والاعضاء الظاهرية. وصيرورة الفعل غير اختياري فانها وان كانت توجب عدم التوجه حين الاتيان بالفعل بخصوصياته وعدم تعلق الإرادة التفصيلية المستقلة بكل جزء من أجزائه ، ولكنها لا تصير سببا لعدم التمكن

٣٥٥

من ترك الفعل ، وليس معنى اختيارية الفعل الا ذلك.

الندامة واحساس المسئولية

وبعد ما عرفت من عدم تمامية ما استدل به على الجبر من حيث العوامل الطبيعية ، يمكن أن يستدل للاختيار من تلك الناحية بوجوه :

منها : أنا نرى بالوجدان الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة اليد الإرادية ، فالاولى جبرية ، والثانية اختيارية ، ولا برهان أصدق من الوجدان.

ومنها انه لا اشكال في أن كل فرد من أفراد الإنسان يجد في نفسه حالة الندامة وفي غيره آثارها مع التقصير في بعض الأفعال الموجب لتوجه ضرر إليه أو إلى غيره أو سلب نفع عنه ، ولا يجدها مع عدم التقصير ، كما لو وجد ذلك الفعل من غير اختيار ، وليس ذلك الا من جهة كون الأول اختياريا دون الثاني.

مثلا : إذا لم يقم لمن يلزم احترامه وانطبق عليه عنوان الهتك والاهانة ، فان كان ذلك عن تقصير تحصل الندامة ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا لم يتوجه إلى وروده ، وهكذا في سائر الأفعال. وهذه آية قطعية على اختيارية بعض الأفعال.

ومنها ان الإنسان يحس بالمسئولية أمام القانون أعم من الالهى أو الحكومي ، ولو لم يكن هناك اختيار لما كان لذلك وجه ، لان العمل غير الاختياري لا يصح المؤاخذة عليه عقلا.

٣٥٦

فان قيل : ان احساس المسئولية انما هو من جهة جعل الجزاء على العمل ، وهو انما يكون من جهة تأثيره في تبديل العمل.

وبعبارة أوضح : ان جعل ذلك انما هو اضافة عامل داخلي آخر إلى العوامل الداخلية المؤثرة في الإرادة والاختيار جبرا ، فلا يكون ذلك آية كون الاختيار اختياريا.

قلنا : ان فرض تأثير هذا الجعل في تغيير مصير الإرادة فرض اختيارية الإرادة ، إذ لو لا كونها اختيارية لم يكن يؤثر هذا الجعل في تغييرها.

الاستدلال للجبر بمبدئية الله سبحانه

القسم الثاني ما استدل به للجبر من ناحية ما وراء الطبيعة ، وهو أمور :

أحدها : أنه قد ثبت في محله أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات وانه مبدأ الكل ولا مؤثر في الوجود الا هو ، ومن جملة الاشياء أفعالنا الاختيارية ، فهي مخلوقة لله سبحانه ابداعا وإحداثا ، قال الله عزوجل (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاإِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١) ، وقال سبحانه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢) وقال تعالى (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ١٠١ من سورة الأنعام.

٣٥٧

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(١) فكل ما يصدق عليه اسم شيء ـ ومن ذلك الأفعال الاختيارية ـ فهو مخلوق لله تعالى منسوب إليه.

أقول : انه كما لا تنافى بين تأثير العلل والاسباب الطبيعية في المعلولات والمسببات نظير تأثير النار في الحرارة وما شاكل ، وبين مبدئيته تعالى بعد كون زمام أمر العلل والاسباب بيده سبحانه ، ولذلك قد يسند القرآن الأفعال الطبيعية إلى فواعلها ، وقد يسند الجميع إلى الله سبحانه. كذلك لا تنافى بين كون الفعل الاختياري منسوبا إلى الإنسان وبين استناده إلى الله تعالى بعد كون أصل وجوده وحياته وقدرته حدوثا وبقاءً بافاضة من الله.

ولذلك نرى أنه قد جمع في كثير من الآيات بين الاثباتين جميعا ، فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(٢) ، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى ، وقوله عزوجل (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣) فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إليه تعالى.

مع أن الآيات المشار إليها انما هي في غير الأفعال الاختيارية ، بل فيما يجعل شريكا لله تعالى من الجن والشمس والقمر وما شاكل ذلك وتدل على أنها

__________________

(١) الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

(٢) الآية ٩٦ من سورة الصافات.

(٣) الآية ١٧ من سورة الأنفال.

٣٥٨

بأجمعها مخلوقة له.

أضف إلى ذلك أن غاية ما هناك دلالة الآيات على كون جميع الاشياء مخلوقة لله تعالى ، ومنها الأفعال الاختيارية ، فيخصص عمومها بالآيات الكثيرة المتضمنة لنسبة الأفعال الاختيارية إلى العباد البالغة مائة آية ، كقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(١) وقوله سبحانه : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(٢) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

بل لو تدبرنا في القرآن الكريم نجد أنه تعالى نسب في ما يقرب من ثلاثمائة آية العمل والفعل إلى الإنسان ، وعليه فلا شك في تخصيص الآية الشريفة بها.

الاستدلال للجبر بانتهاء الأفعال إلى إرادة الله تعالى

ثانيها : ان أفعال العباد اما أن تكون متعلقة لمشيئة الله وارادته الازلية.

واما أن لا تكون كذلك.

وعلى الأول يجب وجودها وإلا لزم تخلف المراد عن إرادته.

وعلى الثاني يمتنع وجودها ، إذ بما أن أفعال العباد من الممكنات وكل ممكن

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة المدثر

(٢) الآية ٨ ١٠ من سورة الشمس.

٣٥٩

لا بد وأن يوجد بارادته وإلا لزم التصرف في سلطان المولى ، فيمتنع وجودها ان لم تكن إرادته تعالى متعلقة بها ، فجميع أفعال العباد انما توجد بارادة الله فيجب وجودها وليس للعبد اختيار في الفعل.

توضيح كلام المحقق الخراساني

وأجاب عنه المحقق الخراسان (ره) في الكفاية (١) ـ بعد ما وجه تكليف العصاة بأن إرادته تعالى هو العلم بالصلاح ، فان كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلى فنفس هذا العلم من دون حالة منتظرة علة للتكوين ، وان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض الاشخاص لا بحسب النظام التام فهو علة لاعلام ذلك الشخص بما هو صلاحه ، وفيه المصلحة والمفسدة ، وما لا محيص عنه في الأفعال الاختيارية المتعلقة للتكاليف هو الثاني دون الأول.

نعم إذا توافقا لا بد من الاطاعة والايمان ، وان تخالفا لا محيص عن اختيار الكفر والعصيان.

وأورد على نفسه : بأنه إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بارادة الله تعالى التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا. بما حاصله بتوضيح منا :

ان إرادة الله تعالى لو كانت متعلقة بفعل العبد وان لم يرد لكان ذلك

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٦٧ (إشكال ودفع).

٣٦٠