زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

الجبر والاختيار

من المسائل المهمة مسألة" الجبر والاختيار" ، وهي من أقدم الابحاث العلمية ، اشتغل بها المتفكرون والفلاسفة ، والآراء فيها كثيرة سنذكر عمدتها.

وقد عرفت أن أشهر المتفكرين السابقين المتعرضين للمسألة هو" أرسطو" وقد تعرض للمسألة في كتاب" الاخلاق إلى نيقوماخوس".

وأساس الآراء والعقائد" الجبر" (١) و" التفويض" (٢) و" الامر بين الامرين" (٣) ، لان أفعال الإنسان دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور ثلاثة :

__________________

(١) وهو مذهب الاشاعرة كما صار معروفا.

(٢) وهو مذهب المعتزلة بصورة عامة ..

(٣) وهو مذهب العدلية (الامامية) أعلى الله مقامهم لقول الإمام الصادق (ع) (لا جَبْرَ وَلا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ، قَالَ قُلْتُ : وَمَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَالَ مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَتَرَكْتَهُ فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَهُ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ) ، الكافي ج ١ ص ١٦٠ باب الجبر والتقدير والامر بين الامرين.

وما عن عيون اخبار الرضا (ع) (عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي ابن موسى الرضا (ع) بمرو ، فقلت : له يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر ابن محمد (ع) أنه قال : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال : من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله عزوجل

٣٢١

الأول : أن لا يكون لقدرته وارادته دخل فيها.

الثاني : أن لا يكون المؤثر فيها سوى قدرته وارادته.

الثالث : أن يكون حصول الفعل مستندا إليه نفسه وإلى الله تعالى. فالاول هو" الجبر" والثانى" التفويض" والثالث" الامر بين الامرين".

أقوال الجبريين

أما الجبريون فلهم مسالك شتى عمدتها مسلكان :

__________________

فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، فقلت له يا ابن رسول الله : فما أمر بين أمرين؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ، فقلت له فهل لله عزوجل مشية وإرادة في ذلك ، فقال أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ، قلت فلله عزوجل فيها القضاء؟ قال نعم ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء قلت فما معنى هذا القضاء قال الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. عن بحار الأنوار ج : ٥ ص ١٢. وغيرهما من الاحاديث في الدالة على هذه المعاني كثيرة جدا.

٣٢٢

أحدهما : ما عن الجبريين على الاطلاق ، منهم جهم بن صفوان (١) واتباعه ، وهو أن أفعال العباد غير اختيارية لهم وهم مقهورون في أفعالهم وليس لارادتهم دخل فيها ولا كسب. ولا فرق عندهم بين مشى زيد وحركة يد المرتعش ، ولابين الصاعد إلى السطح والساقط منه.

الثاني : ما ذهب إليه جماعة منهم أبو الحسن الاشعري (٢) وأتباعه وهم

__________________

(١) جهم بن صفوان الترمذي وقد عُرف أتباعه بالجهمية ، ويكنى أبا محرز وقد نشأ في سمرقند بخراسان وقضى فترة من حياته في ترمذ وهو مذموم السيرة ، وفي سير أعلام النبلاء ج ٧ ص ٣١١ قال : قد اطبق السلف على ذمِّه بسبب تغاليه في التنزيه وانكار صفات الله. واخرج الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد ج ٣ ص ١٦٥ عن اسحاق بن ابراهيم الحنظلي يقول : أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير يعني في البدعة والكذب : جهم بن صفوان ، وعمرو بن صبيح ، ومقاتل بن سلمان. وفي الجزء ١٣ منه ص ٣٧٣ ح ٢٤ عن الرحمن الحماني عن ابيه سمعت أبا حنيفة يقول جهم بن صفوان كافر .. الخ وقد قتل جهم في أواخر ملك بني امية ، قتله سلم بن أحوز المازني لما ظهر منه. اللباب ج ١ ص ٣١٧ او حاسية تاريخ مدينة دمشق ج ٥ ص ٣١٨ هامش رقم ١. وفي ميزان الاعتدال ج ١ ص ٤٢٦ رقم ١٥٨٤ قال جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية .. ما علمته روى شيئا ، لكنه زرع شرا عظيما وفي سير اعلام النبلاء رقم ٨ ج ٦ انه اس الضلالة وكان صاحب ذكاء وجدال .. الخ.

(٢) البصري سكن بغداد وتوفي فيها حوالي سنة ٣٢٤ كما في تاريخ بغداد ج ١١ ص ٣٤٦ وذكر عن ابي بكر بن الصيرفي أنه قال : كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله تعالى الاشعري فجحرهم في اقماع السمسم ، وعلى أي حال فهو عمدة مذهب الاشاعرة المعروف.

٣٢٣

كثيرون ، فانهم لما رأوا شناعة المذهب الأول فروا منه بما لا ينفعهم ، وقالوا : ان أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحده وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك صانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى ابداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد.

وقد ذكروا في المراد من الكسب وجوها ، أحسنها ما قاله القاضى أبو بكر الباقلانى (١) ، وهو أن الإنسان ، وان كان فعله صادرا عنه بغير تأثير منه في صدوره ، الا أن تلونه بلون حسن أو قبيح انما يكون بقدرته واختياره. مثلا : ضرب اليتيم إذا صدر منه يكون المؤثر في أصل تحققه هو الله تعالى ، الا أن قصد كونه للتربية فيكون حسنا أو الظلم فيكون قبيحا انما فوض إلى العبد ، وهذا هو المعيار للثواب والعقاب (٢).

ولكن الظاهر أنه لا ينفعهم ذلك أيضا ، إذا القصد بنفسه فعل من

__________________

(١) هو ابو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني القاضي ، أصله من البصرة وعاش في بغداد استدعاه عضد الدولة الديلمي إلى بلاطه في شيراز ، فمكث هناك مدّة ثم عاد إلى بغداد بعد وفاة عضد الدولة ويعد الباقلاني من أهم متكلمي المدرسة الاشعرية ، كان معاصرا للشيخ المفيد وكان للمفيد معه مناظرات لطيفة ونافعة اوردها (ره) في كتابه مسألة في النص على علي (ع) ج ٢ ص ٢١ تحقيق محمد رضا انصاري ، دار المفيد بيروت ، وتجد ترجمة الباقلاني في تاريخ التراث العربي ج ٤ ص ٤٨.

(٢) هذا المعنى ذكره الباقلاني في كتاب الانصاف ، كما نسبه اليه غير واحد من الاعلام ، راجع ملحقات الاحقاق ج ١ ص ٤٠٠ وج ٢ ص ٥١ لآية الله المرعشي النجفي (قدِّس سره).

٣٢٤

الأفعال ، فعلى القول بالكسب لا بد وأن يكون ذلك أيضا صادرا عن إرادة الله تعالى وقدرته ، فلا اختيار أصلا.

ولعله لذلك قال العلامة المجلسي (ره) : والمراد بكسبه اياه مقارنته لقدرته وارادته ، من غير أن يكون هناك تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلا له (١).

وقالوا نسبة الفعل إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار ايجاده له.

والالتزام بأحد هذين المذهبين مستلزم لانكار التحسين والتقبيح العقليين

بالاضافة إلى أفعال العباد ، لانهما انما يكونان على الأفعال الاختيارية.

ألا ترى أن السيف إذا وقع آلة لقتل من يحسن قتله لا يحسِّنه العقلاء.

وعلى القول بالجبر السياف والسيف متساويان في القتل وكل منهما آلة لوقوعه ، فالسياف أيضا لا يستحق التحسين.

كما ان القائلين بأحد هذين القولين" أي الجبر" وقعوا في اشكال تكليف العصاة ، لانه ان لم تكن إرادته تعالى متعلقة بالفعل فلا يكون التكليف جديا ، وان كانت إرادته متعلقة به فكيف تتخلف عن المراد.

وفي مقام الجواب عن هذه العويصة ، التزموا بأن التكليف انما يكون طلبا ، وهو غير الإرادة ، وتخلف إرادته تعالى عن المراد غير ممكن ، وأما طلبه فلا محذور

__________________

(١) ذكره آية الله العظمى السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ثم قال وهذا مذهب الشيخ ابي الحسن البصري الاشعري ، محاضرات في الأصول ج ٢ ص ٥٠ (نظرية الاشاعرة مسألة الجبر ونقدها).

٣٢٥

في تخلفه عن المطلوب.

فمع فرض عدم تعلق إرادته تعالى بالصلاة مثلا يأمر بها ، وبه يوجد الطلب ، وتخلفه عن المطلوب لا محذور فيه.

ولذلك التزموا بأن التكليف بما لا يطاق جائز ولا بأس به.

وبما ذكرناه ظهر أن توجيه المحقق الخراساني (ره) (١) ـ كلام الاشاعرة القائلين بالمغايرة بين الطلب والارادة ، بأن المراد من المغايرة مغايرة الانشائى من الطلب كما هو المنصرف إليه اطلاقه ، والحقيقي من الإرادة كما هو المراد منه غالبا حين اطلاقها ، فيكون النزاع لفظيا ـ توجيه في غير محله.

وحيث لا ريب ان الله تعالى يعاقب طائفة لاجل ترك الواجبات وفعل المحرمات ، فلا مناص لهم من انكار التحسين والتقبيح العقليين بالاضافة إليه تعالى أيضا ، والا فبناء على القول بهما لاوجه لعقابه على الفعل غير الاختياري.

ويترتب على الالتزام بأنه يعاقب على الأمور غير الاختيارية سلب العدالة عنه ، ولذا التزموا بأن له أن يعاقب أشرف الانبياء ويثيب أشقى الاشقياء ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

__________________

(١) كفاية ٠ الأصول ص ٦٦ (ثم انه يمكن مما حققناه ان يقع الصلح بين الطرفين).

٣٢٦

القول بالتفويض

وأما المفوضة (١) فحفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن أفعال العباد غير مربوطة به تعالى وتمام المؤثر فيها هو العبد (٢).

ولكن لازم هذا القول نفى السلطنة عنه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

والمثال العرفي الذي يوضح هذا المذهب : انه إذا فرضنا أن المولى أعطى

__________________

(١) المفوضة صنف من الغلاة وقولهم الذي فارقوا فيه من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك اليهم ، ودعواهم ان الله تبارك وتعالى تفرد بخلقهم خاصة وأنه فوض اليهم خلق العالم ، بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٤٥ ، تصحيح الاعتقاد ص ١٣١ ، وفي مجمع البحرين ج ٢ ص ٤٣٨ (فوض) المفوّضة قوم قالوا ان الله خلق محمدا وفوض اليه خلق الدنيا فهو الخلّاق لما فيها ، وقيل فوض ذلك إلى علي ، وفي مشارق أنوار اليقين في اسرار امير المؤمنين : ان المفوضة عشرون فرقة ثم ذكر اصنافهم فمن اراد التوسعة فاليراجع المشارق ص ٣٣٥.

(٢) وهذا يتنافى مع صريح الآية المباركة الحمد لله رب العالمين حيث أخبر سبحانه عن نفسه أنه الإله الخالق وفي نفس الامر هو الرب المدبر لشئون الخلق وارزاقهم .. وفي ذلك ابطال ايضا لما ذهبت اليه اليهود من ان الله سبحانه خلق الخلق واستراح او اوكل الامر إلى كهنتهم .. ، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن بعض أقوالهم هذه كما في سورة المائدة آية ٦٤. نعم ما ذكرنا لا يتنافى مع الاعتقاد بان يكون للانبياء أو الاوصياء القدرة على التصرف بمسائل كونية بمشيئته تعالى.

٣٢٧

لعبده كأساً من الخمر مع علمه بأنه يشربه وبعد ذلك خرج أمر الشرب عن اختياره بحيث لو شاء أن لا يقع في الخارج لما تمكن منه ، فالشرب إذا صدر منه باختياره لا يكون مستندا إلى المولى بوجه ، فانه حين صدوره عنه يكون أجنبيا عنه بالمرة.

وأكثر القائلين بالتفويض ـ وهم المعتزلة ـ قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد.

وبعضهم قال بعدم وجوب الفعل بل يصير أولى.

قال المحقق الطوسي : ذهب مشايخ المعتزلة وأبو الحسن البصري وإمام الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد له قدرة قبل الفعل وإرادة بها تتم مؤثريته فيصدر منه الفعل ، فيكون العبد مختارا إذا كان فعله بقدرته الصالحة للفعل والترك تبعا لداعيه الذي هو إرادته. والفعل يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكنا ، وبالقياس إليها مع الإرادة يصير واجبا.

وقال محمود الملاحمي وغيره من المعتزلة : ان الفعل عند وجود القدرة والارادة يصير أولى بالوجود ، حذرا من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب ، انتهى (١).

ولا يخفى ان للتفويض معنيين آخرين :

أحدهما : رفع الحظر والمنع عن أفعال العباد وان جميع أفعالهم مباحة.

__________________

(١) لم أعثر عليها فيما حضرني من كتبه.

٣٢٨

قال الشيخ المفيد (١) في شرح الاعتقادات : والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم ما شاءوا من الاعمال ، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات ، انتهى.

ثانيهما : ايكال أمر الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض العباد ، قال الامام علي ابن موسى الرضا : على ما في خبر رواه الصدوق باسناده عن يزيد بن عمير : ومن زعم أن الله عزوجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض (٢).

__________________

(١) تصحيح اعتقاد الامامية ص ٤٧ ط دار المفيد بيروت ، الطبعة الثانية.

(٢) عيون أخبار الرضا ص ٨٧ ، الوسائل ج ٢٨ باب ١٠ جملة مما يثبت به الكفر والارتداد ص ٣٣٩ ح ٣٤٩٠٧ م أهل البيت.

٣٢٩

معنى الامر بين الامرين

وأما" الامر بين الامرين" فهو أمر دقيق لا يعلمه الا العالم أو من علمه اياه العالم كما في خبر صالح بن سهل (١) ، وسر الله كما في النبوى (٢) وبمعناهما أخبار أخر.

وقد قال الفخر الرازي : حال هذه المسألة عجيبة ، فان الناس كانوا فيها مختلفين أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع فيها إليه متعارض متدافع.

ثم ذكر جملة من أدلة الطرفين ثم قال : وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملو

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٥٩ بابي الجبر والقدر ح ١٠ عن أبي عبد الله (ع) قَالَ سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ لا جَبْرَ وَلا قَدَرَ وَلَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيهَا الْحَقُّ الَّتِي بَيْنَهُمَا لا يَعْلَمُهَا إلا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاهُ الْعَالِمُ.

(٢) كما في كتاب الوافي ج ١ ص ٥٣٧ ، وعن نهج البلاغة ح ٢٨٧ ، ص ٥٢٦ وفي روضة الواعظين في باب القضاء والقدر ص ٤٠ ، عن أمير المؤمنين (ع) أنه سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ : طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فلا تَسْلُكُوهُ وَبَحْرٌ عَمِيقٌ فلا تَلِجُوهُ وَسِرُّ اللهِ فَلا تَتَكَلَّفُوهُ.

وفي الكافي ج ١ ص ١٥٩ ح ١١ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ : قَالَ لَهُ رَجُلٌ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَجْبَرَ اللهُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي فَقَالَ اللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَفَوَّضَ اللهُ إِلَى الْعِبَادِ قَالَ فَقَالَ لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ قَالَ فَقَالَ نَعَمْ أَوْسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ.

٣٣٠

مما يوهم الامرين وكذا الآثار ، وان من أمة من الامم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الاوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين ، حتى قيل ان وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر (١). انتهى.

ومثله في الاعتراف بالشك والحيرة محيى الدين بن العربي في محكى الفتوحات.

ولعلمائنا في تحقيقه مسالك :

الأول : ما ذهب إليه الشيخ المفيد (ره) في شرحه على الاعتقادات وهو أن الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبرا لهم عليها ، ولم يفوض الاعمال إليهم لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها. ثم قال : فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض (٢) ، انتهى.

وهو حسن ، ولكن لا يصح تنزيل الاخبار الكثيرة الواردة في بيان الامر بين الامرين التي ستمر عليك جملة منها على ذلك.

الثاني : أن المراد به أن الله تعالى جعل عباده مختارين في الفعل والترك مع قدرته على صرفهم عما يختارون وعلى جبرهم على فعل ما لا يفعلون.

__________________

(١) كما عن العلامة المجلسي في البحار ، نقل نص كلامه بالكامل ج ٥ ص ٨٢.

(٢) تصحيح اعتقادات الامامية ص ٤٧ (والوسط بين هذين القولين).

٣٣١

وهذا أيضا حسن ، الا أن الظاهر كون الامر بين الامرين أدق من ذلك كما سيمر عليك.

الثالث : أن المراد به أن الاسباب القربية للفعل بقدرة العبد والاسباب البعيدة كالآلات والادوات والجوارح والاعضاء والقوى بقدرة الله سبحانه ، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين.

وإليه يؤول ما نسب إلى المحقق العراقى في تقريرات بحثه ، قال بعد كلام له : ومعه يصح أن يقال لا جبر في البين ، لكون أحد مبادئ الفعل هو اختيار الإنسان المنتهي إلى ذاته ، ولا تفويض بملاحظة كون بقية مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى ، ولا مانع من أن يكون ما ذكرناه هو المقصود

بقوله عليه‌السلام" لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين" (١).

ويرده أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد يحتاج إلى نفيه.

الرابع : أن التفويض المنفى هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض العباد.

وهذا أيضا غير مربوط بما تعرضت له النصوص الكثيرة المروية عنهم عليهم‌السلام.

الخامس : أن المراد به أن فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والارادتين والتأثيرين من العبد ومن الرب سبحانه ، والعبد لا يستقل في ايجاد فعله وليس

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢١٣ (بحث في الطلب والارادة) بتصرف.

٣٣٢

قدرة العبد بحيث لا تأثير لها في فعله أصلا ، وستعرف ما فيه.

السادس : ما ذكره المحدث الكاشانى (ره) (١) في الوافي ، قال بعد كلام له : ولنذكر في بيانه ما ذكره بعض المحققين موافقا لما حققه المحقق الطوسى نصير الملة والدين في بعض رسائله المعمولة في ذلك ، قال : قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع الممكنات ولم يخرج شيء من الاشياء عن مصلحته وعمله وقدرته وايجاده والا لم يصلح لمبدئية الكل.

إلى أن قال : فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منا بذلك ولكن بتوسط أسباب وعلل من ادراكاتنا وارادتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الاسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.

__________________

(١) راجع كتاب الوافي ج ١ ص ٥٣٧ باب الجبر والتقدر والأمر بين الامرين ، إلا أنه (قدِّس سره) قبل أن ينقل كلام المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي قسّم الاقوال إلى اربعة اقسام وقال : اثنان فاسدان وهما الجبر والتفويض ، واثنان دائران حول التحقيق ومرجعهما إلى الأمر بين الامرين ، احدهما اقرب إلى الحق والنقول وأبعد عن الافهام والعقول وهو طريقة أهل الشهود العارفين بأسرار الاخبار ، والآخر بالعكس وهو طريقة أهل العقول والانظار ، وبيان الأول عسير لغموضه جداً ، فلنطويها طياً ونكتفي بيان الثاني ، وإن لم نرتضه لتضمنه اكثر ما يترتب على الجبر من المفاسد في بادئ النظر ، وعند النظر القاصر ، إلا أنه يخرج عقول الخواص من بعض أسباب الحيرة. ثم نقل كلام المحقق.

٣٣٣

إلى أن قال : ولما كان من جملة الأسباب ارادتنا وتفكرنا وتخيلنا فالفعل اختياري لنا ، فان الله تعالى أعطانا القوة والاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا مع احاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي امكانه واضطراريته لا تدافع كونه اختياريا ، كيف وانه ما وجب الا بالاختيار.

ثم أخذ في بيان عدم اختيارية الارادة إلى أن قال : فنحن اذاً في عين الاختيار مجبورون (١). فنحن إذا مجبورون على الاختيار.

وهو كما سيمر عليك ليس أمرا بين الامرين بل هو عين الجبر.

وللاصحاب تقاريب أخر له ، ولكن بعضها يرجع إلى ما تقدم وبعضها يؤول إلى الجبر.

والحق في تصويره أن يقال : ان الجبر المنفى هو قول الاشاعرة والجبرية المتقدم ، والتفويض المنفى هو قول المعتزلة أنه تعالى أوجد العباد واقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار ، فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيتهم وقدرتهم ، وليس لله تعالى في أعمالهم صنع.

وأما الامر بين الامرين فهو أن الفعل انما يصدر عن اختيار العبد وقدرته ،

__________________

(١) وفي حواشي الوافي للعلامة المجلسي واستاذه النائيني وغيرهما من الاعلام رحمهم‌الله نقلا عن كتاب الهدايا للميرزا محمد" مجذوب" التبريزي (ره) قال : قال المحقق الطوسي نصير الملة والدين في بعض رسائله المعمول لتحقيق الامر بين الامرين : «العبد مختار في الفعل والترك ، إلا أن مشيئته ليست تحت قدرته كما قال الله تعالى (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) فإذن نحن في مشيئتنا مضطرون وفي عين الاختيار مجبورون ...

٣٣٤

وله أن يفعل وأن لا يفعل ، ومع ذلك حياته وقدرته واختياره كلها متحققة بافاضة الباري تعالى ، بحيث لو لم يفض إليه واحدا منها لزم منه عدم صدور الفعل وعدم تحققه.

والمثال العرفي ـ الذي يوضح ذلك ـ انه : إذا فرضنا أن العبد لا يتمكن من تحريك اليد الا مع ايصال القوة الكهربائية ، فأوصل المولى القوة إليها آنا فآنا ، فذهب العبد باختياره إلى قتل نفس والمولى يعلم بذلك ، فالفعل بما أنه صادر من العبد باختياره فهو اختياري له ، وبما أن المولى يعطى القوة للعبد آنا فآنا فالفعل مستند إليه ، وكل من الاسنادين حقيقي بلا تكلف وعناية.

وهذا واقع" الامر بين الامرين" الذي تطابقت عليه الروايات الواردة عن المعصومين (ع).

وقد صرح بذلك المحقق النائيني (ره) (١).

وإليه يرجع ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) قال : ان العلة الفاعلية ذات المباشر بارادته وهي العلة القريبة ووجوده وقدرته علمه وارادته لها دخل في فاعلية الفاعل ، ومعطى هذه الأمور هو الواجب تعالى ، فهو الفاعل البعيد. فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض ، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر ، والناقد البصير ينبغى أن يكون ذا عينين (٢) انتهى.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٩٣.

(٢) بحوث في الأصول ج ٢ ص ٥٣ (فائدة : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين امرين) ، وفي نهاية الدراية ج ١ ص ٢٠٥ (تنبيه وتنزيه)

٣٣٥

كما أنه يمكن توجيه ما أفاده العلامة المجلسي (ره) (١) في جملة من كتبه بنحو يرجع إلى ذلك.

أدلة الجبريين لما ذهبوا إليه

الوجه الأول :

وقد استدل للقول بالجبر بقسمين من الوجوه :

أحدهما من ناحية العوامل الطبيعية.

الثاني من ناحية ما وراء الطبيعة.

أما الأول : فقد استدل له بأن الفعل يصدر عن الإرادة ومعلول لها ، والارادة اما أن تكون ارادية صادرة عن إرادة أخرى أو تكون غير ارادية ، فان كانت

__________________

(١) ومما أفاده في بحار الانوار ج ٥ ص ١٨ بعد ذكر الجبر والتفويض قال : والواسطة بين هذين القولين أن الله اقدر الخلق على افعالهم ، ومكنهم من اعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك ، ورسم لهم الرسوم ، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبراً لهم عليها ، ولم يفوض اليهم الاعمال لمنعهم من اكثرها ، ووضع الحدود لهم فيها وامرهم بحسنها وها هم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بالجبر والتفويض على ما بيناه. ثم بسط الكلام في ذلك بعد ذكر الروايات ، راجع ايضا ص ٨٣ و ٨٤ .. الخ

٣٣٦

ارادية كانت معلولة لارادة أخرى ، وينتقل الكلام إلى تلك الإرادة التي تكون علة لهذه الإرادة ، فلا بد وأن تنتهي إلى أمر غير ارادي والا لزم التسلسل.

فان انتهت إلى أمر غير اختياري ، أو التزمنا بأنها غير ارادية فلا محالة يكون الفعل غير اختياري ، وذلك لان الجبر على العلة جبر على المعلول.

وبعبارة أخرى : المعلول لامر غير اختياري خارج عن تحت الاختيار ، كما هو واضح.

جواب الحكماء ونقده

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة :

أحدها : ما عن الحكماء ، وهو أن وجوب الفعل وكونه ضروريا من ناحية إرادته لا ينافي الاختيار.

وبعبارة أخرى : ضرورية الفعل ووجوبه وعدم امكان تركه لا تنافى الاختيار ، بل الفعل الاختياري هو الفعل الذي ان شاء فعل وان شاء لم يفعل ، ولا يلزم في صدق القضية الشرطية أن يكون طرفاه ممكنين ، بل يمكن أن يكونا واجبين ويمكن أن يكونا ممتنعين.

فضرورية الفعل أو الترك لا تنافى الاختيار ، والا فلو كان وجوب الفعل موجبا لخروج الفعل عن الاختيار لزم أن لا يكون الله سبحانه فاعلا مختارا ، إذ الصادر الأول منه تعالى لا بد أن يكون ذاته تعالى علة تامة لوجوده ، إذ المفروض

٣٣٧

أنه ليس هناك شيء آخر غير ذاته ، فصدور الصادر الأول يكون واجبا ضروريا والا لزم تخلف المعلول عن علته التامة.

وفيه : ان وجوب الفعل من ناحية علته لا ينافي امكانه لكنه ينافي مع اختياريته ، وأما وجوب الصادر الأول فسيأتي الكلام فيه.

جواب المحقق العراقي ونقده

الجواب الثاني : ما عن المحقق العراقي (ره) وحاصله (١) :

إن الإرادة والاختيار من قبيل العوارض اللازمة لوجود الإنسان غير المحتاجة إلى جعل آخر وراء جعل المعروض ، كما هو الشأن في كل ما هو عارض لازم للماهية أو الوجود ، كالحرارة للنار.

فالانسان ، ولو في بعض مراتب وجوده ، مقهور بالاتصاف بصفة الاختيار ، ويكفى في تحقق صفة الاختيار للانسان تعلق الإرادة بوجود الإنسان.

ولا ريب في أن كل فعل صادر من الإنسان بارادة له مباد ، كعلم بفائدته ، وكشوق إليه وقدرة عليه.

وعليه فيكون الفعل الصادر عن الإنسان له نسبتان :

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢١٣ (بحث في الطلب والارادة) بتصرف.

٣٣٨

احداهما إليه باعتبار تعلق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقل ، والاخرى إلى الله تعالى باعتبار ايجاد سائر المبادئ ، وحينئذٍ فليس الفعل مفوضا إليه بقول مطلق ولا مستندا إليه سبحانه كذلك ليكون العبد مقهورا عليه.

وفيه : أولا : ان ما هو؟ مجعول بجعل الإنسان على فرض تسليم كونه من لوازم وجود الانسان هو قوة الاختيار ، وصيرورة تلك فعلية انما تكون تدريجية وتتجدد على النفس وتنعدم ، فيبقى السؤال عن أن فعلية تلك القوة تحتاج إلى علة تامة ، فيعود المحذور.

وثانيا : ان لازم هذا التقريب هو كون الاختيار نفسه غير اختياري ، فيبقى إشكال أن الجبر على العلة جبر على المعلول.

ما هو الحق في نقد هذا الوجه

وهناك أجوبة أخر لا يهمنا التعرض لها.

والحق في الجواب عن هذا الوجه يبتني على بيان مقدمات :

تجرد النفس عن المادة

الاولى : ان كل انسان يجد في نفسه مشاهدة أن له وراء الاعضاء وأجزاء

٣٣٩

بدنه التي يشعر بها بالحسِّ أو بنحو من الاستدلال كالاعضاء الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة والاعضاء الباطنة التي عرفها بالحسِّ والتجربة ، معنى يحكي عنه ب" أنا" ، وتارة يعبر عنه ب" الروح" ، وأخرى ب" الذات" ، وثالثة ب" النفس".

والدليل على كون تلك الحقيقة غير الاعضاء الظاهرة والغرائز والشئون الداخلية أمور :

١ ـ ان بقية الاجزاء تكون غافلة عن أنفسها ، مثلا : أعصاب اليد لا تتوجه إلى أنها أعصاب اليد وهكذا.

وهذه الحقيقة لا تغفل عن نفسها ، بل تشعر بها وبسائر الاعضاء.

٢ ـ ان هذه تحدد الغرائز وتتبارز معها ، ولا يعقل مبارزة الشيء مع نفسه.

٣ ـ انه لو كانت ـ هي : البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من خواصه الموجودة فيه ، وهي جميعا مادية ، ومن أحكام المادة الانقسام ، والتجزئ ، والتغيُّر التدريجي ـ لكانت مادية قابلة للانقسام ومتغيرة ، وليست كذلك ، فانا نجد من أنفسنا بعد المراجعة إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لانفسنا ، ونذكر ما كنا نجده من هذه المشاهدة منذ أول شعورنا بأنفسنا ، معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تغير وتعدد ، كما نجد أبداننا وأجزاءها والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة في موادها وأشكالها وسائر أحوالها وصورها ، وكذا نجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزي كما نجد البدن وأجزاءه وخواصه.

٣٤٠