زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

أما المقدمة ، ففي بيان أمور (١)

في ثبوت المبادئ الأحكامية لعلم الأصول وعدمه

الامر الأول : لا كلام في انه لكل علم ، مسائل ، ومبادئ تصورية ، وتصديقية.

أما المسائل : فهي قضايا متشتتة جمعها اشتراكها في غرض خاص.

وأما المبادئ فهي قسمان :

قسم راجع إلى حدود تلك القضايا بأطرافها ، وهي المبادئ التصورية.

وقسم يتوقف عليه التصديق بثبوت محمولات تلك القضايا لموضوعاتها ، وهي المبادئ التصديقية.

وأفاد المحقق النائيني (ره) (٢) أن لعلم الأصول قسما ثالثا من المبادئ ، وهي المبادئ الأحكامية ، وهي ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية بأقسامها ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام من كونها متضادة ،

__________________

(١) عدّها سماحة السيد (مد ظله) ستة عشر أمراً ، أما الآخوند في الكفاية فاعتبرها ثلاثة عشر أمراً ، وغيره زاد أمراً أو نقْص واحداً ، والذي زاده السيد هو الأمر الأول والثالث والرابع.

(٢) فوائد الأصول ج ١ ص ٢٧ ، موضوع علم الأصول ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

٢١

وكون الاحكام الوضعية متأصلة في الجعل أو منتزعة عن التكليف وغير ذلك من حالات الحكم.

قال : ووجهه اختصاص المبادى الاحكامية بعلم الأصول ، هو أن منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في الطريق استنباطه.

أورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) (١) بأن المبادئ الأحكامية ليست قسيما للتصورية والتصديقية.

" بل المبادئ التصورية ، تارة لغوية ، وأخرى أحكامية ، وكذا المبادئ التصديقية.

فالبحث عن المعاني الحرفية ، والخبر والإنشاء ، والحقيقية والمجاز وأشباهها من المبادئ التصورية اللغوية يعرف بها مفاد الهيئات النسبية الإنشائية ، ومعنى حقيقتها ومجازها"

والبحث عن حقيقة الحكم بما هو ، وعن التكليفي والوضعي ، والمطلق والمشروط ، وغير ذلك من تقسيمات الحكم من المبادئ التصورية الأحكامية.

" والبحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية ، والصحيح والأعم من المبادئ التصديقية اللغوية ، بها يصح حمل الصلاة مثلا على معناها المتداول شرعا ، وبها يحكم بإجمال اللفظ على الصحيح ، فلا موقع للإطلاق ، أو بالبيان الذي معه مجال له على الأعم".

__________________

(١) بحوث في الأصول أو الأصول على النهج الجديد ص ١٧.

٢٢

والبحث عن إمكان اجتماع الحكمين وامتناعه من المبادئ التصديقية الأحكامية ـ فيحكم بناء على الإمكان بعدم التعارض بين الدليلين المتكفلين للحكمين ، وعلى الامتناع بالتعارض ـ ولا بأس به.

وكيف كان فجملة من المسائل المدوَّنة في علم الأصول من قبيل المبادئ بأقسامها ، وإنما نتعرض لها من جهة عدم التعرض لها في علوم أخر ودخالتها مع الواسطة في الاستنباط.

* * *

٢٣

لزوم الموضوع للعلم وعدمه

الامر الثاني : في لزوم الموضوع للعلم وعدمه. صرح أعلام الفن ، بلزوم الموضوع للعلم.

ولذلك صرح المحقق الخراساني (ره) (١) بأنه" ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص" كما في علم الأصول ،

ومحصل ما ذكروه (٢) في وجه ذلك : أن الغرض المترتب على كل علم بما انه أمر واحد ، مثلاً : الغرض من علم الأصول القدرة على الاستنباط ، ومن علم النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال ، وهكذا سائر العلوم ، وهذا الغرض الواحد يترتب على مجموع القضايا والمسائل المتشتتة والمختلفة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨ (تعريف علم الأصول).

(٢) أكثر من واحد ممن ناقش موضوع علم الأصول لجأ إلى أن الجامع هو الغرض كالآخوند في الكفاية ص ٨ خلافا للمشهور الذي اعتبر أن المائز الموضوع ، وخلافا للبروجردي في حاشيته على الكفاية حيث ذهب إلى أن المائز المحمول وفصَّل السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ١ ص ٢٧ ، حيث ذهب إلى أن المائز هو الغرض للمدوِّن ، وقد يكون الموضوع ، لو فرض موضوع جامع ، وقد يكون المائز هو المحمول إذا كان البحث عن حالات الموضوع وما يعرض عليه.

٢٤

موضوعاً ومحمولاً.

وقد برهن في محله" أن الواحد لا يصدر إلا عن الواحد" (١) ، فلا بد وان يكون المؤثِّر فيه هو الجامع الذاتي الوحداني.

وأيضاً لا بد وان يكون ذاك هو الجامع بين موضوعات المسائل لا الجامع بين المحمولات ، لتقدم الموضوع على المحمول ، وكونه من آثار ذلك الموضوع ، ويكون ذلك الجامع الوحداني هو موضوع العلم.

وان شئت قلت انه لا بد من رجوع الموضوعات إلى موضوع جامع.

ويرد عليه :

أولا : إن ذلك الغرض الوحداني إما أن يكون واحدا شخصيا ، أو يكون واحدا نوعياً ، وعلى التقديرين لا تكشف وحدة الغرض عن وجود الجامع.

أما على الأول : فلأنه يترتب على مجموع القضايا ، وكل مسألة تكون جزءا من المؤثر ، والمؤثر هو المجموع من حيث هو ، ويكون سببية المجموع سببية واحدة

__________________

(١) هذه من القواعد العقلية الفلسفية ، والمراد من الواحد الذي لا يصدر عنه إلا واحد ، هو الواحد البسيط من جميع الجهات الذي ليس في ذاته جهة تركيبية وكثرة كما في نهاية الحكمة ص ٢١٤ ط جامعة المدرسين ، وقد بُرهن على ذلك في أغلب كتب الفلسفة منها نقد المحصّل للخواجة نصير الدين الطوسي ص ٢٣٧ ، ومشارق الإلهام للاهيجي ص ٢٠٦ ، وشرح الإشارات ج ٣ ص ١٢٢ و ١٢٧ ، وعلى هذا مذهب الحكماء والمعتزلة ، وخالفهم الأشاعرة فذهبوا إلى أن الواحد البسيط يمكن أن يصدر عنه متعدد كما في كتاب المواقف ص ١٧٢ ، والمباحث المشرقية ج ١ ص ٤٦٠ و ٤٦٨.

٢٥

شخصية ، والاستناد إليه استناد معلول واحد إلى علة واحدة شخصية لا إلى علل عديدة.

وأما على الثاني : فلان الغرض يكون كليا ذا أفراد يترتب كل فرد منه على واحدة من المسائل. مثلا يترتب على مسألة حجية خبر الواحد ، الاقتدار على استنباط جملة من المسائل ، وهو غير الاقتدار على استنباط المسائل المترتب على مسألة استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، وهما غير ما يترتب على مسألة حجية الاستصحاب.

اللهم إلا أن يقال : إن الغرض الكلي إذا كان واحدا نوعيا حقيقيا ، وذلك الواحد بالذات الجامع بين أفراده لا بد وان يكون له سنخية مع علته ، والسنخية تستدعى وحدة العلة لوحدة المعلول.

نعم إذا كان الغرض واحدا بالعنوان كما اختاره المحقق الأصفهاني (ره) (١)

__________________

(١) قال في كتابه نهاية الدراية في حاشيته على الكفاية ج ١ ص ١٣" «وقد عرفت سابقاً أيضاً أنّ أمر العلم يتمّ بتدوين جملة من القضايا المتحدة في الغرض ولا يتوقّف حقيقته على تعيين حقيقة الموضوع إلا انه لا برهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعا ومحمولاً ، إلّا أنّ الأمور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً بالسّنخ ، وأنّ وحدة الموضوع أو وحدة المحمول تقتضي وحدة الجزء الآخر ، مع أن البرهان المزبور لا يجري إلّا في الواحد بالحقيقة لا الواحد بالعنوان وما نحن فيه من قبيل الثاني ، بداهة أنّ صون اللّسان عن الخطاء في المقال في علم النحو مثلاً ليس واحداً بالحقيقة والذات بل بالعنوان فلا يكشف عن جهة وحدة ذاتية حقيقية)

٢٦

يتم هذا الجواب.

وثانيا : إن المؤثر في الغرض ليس هو القضايا بوجوداتها ، النفس الأمرية وإلا لزم حصول الغرض لكل شخص كان عنده كتاب يشتمل على تلك القضايا ، بل المؤثر فيه إنما هو العلم بتلك القضايا وثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، فلا بد من تصوير الجامع بين العلوم إذ القضايا حينئذ من قبيل الشروط ، ولم يدع أحد لزوم وحدة الشروط مع فرض وحدة المعلول ، وعلى فرض التنزل لا بد من فرض جامع بين النسب الخاصة لا الموضوعات.

وثالثا : إن موضوعات مسائل علم الفقه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينها ، إذ بعض منها أمر وجودي ، والآخر أمر عدمي ، كترك الأكل في الصوم ، وبعضها من الجواهر كالبول والمني ، وبعضها من قبيل الكيف المسموع كالقراءة ، وبعضها من قبيل مقولة الوضع كالركوع.

وقد برهن في محله : (١) انه لا يتصور الجامع بين المقولات العشر فضلا عن الوجود والعدم.

__________________

وقال أيضاً في كتابه بحوث في الأصول ص ١٧ «وإن كان بملاحظة أن تأثير القضايا المتشتتة في غرض واحد يقتضي وحدة القضايا ، ولا تكون واحدة إلّا برجوع موضوعاتها إلى موضوع جامع ومحمولاتها إلى محمول جامع ، ففيه أن الغرض الجامع واحد بالعنوان لا بالحقيقة ليجري فيه البرهان وهو استحالة تأثير الأمور المتباينة أثرا واحداً".

(١) كما في كتب الفلسفة راجع الأسفار أوائل الجزء الرابع ، نهاية الحكمة المرحلة السادسة المقولات العشر ص ١١٢. م النشر الإسلامي.

٢٧

فالمتحصل مما ذكرناه : انه لا ملزم لتصوير الجامع بين موضوعات المسائل ليكون هو موضوع العلم.

* * *

٢٨

لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه

الامر الثالث : في لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه.

قد طفحت كلمات القوم وأهل الفن بان" موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية" (١) ، مع أنهم صرحوا بان العارض للشيء بواسطة أمر أخص عارض غريب لا ذاتي. فيشكل حينئذ بان اغلب محمولات العلوم ، عارضة لأنواع موضوعاتها ، فتكون أعراضا غريبة بالنسبة إلى موضوع العلم.

وقبل الشروع في ما ذكره الأصحاب في التفصي عن هذه العويصة ، وبيان ما هو الحق عندنا لا بد من تقديم مقدمة :

وهي أن العوارض جمع العارض ، لا العَرَض ، فإن جمعه الأعراض (٢) ، وهو

__________________

(١) من أوائل من صرح بهذا التعريف في علم الأصول ممن عثرنا عليهم العلامة المحقق محمد تقي الأصفهاني في هداية المسترشدين ج ١ ص ١٤ والمتوفى ١٢٤٨ حيث نسبه إلى المشهور خلافاً لما ذهب إليه صاحب المعالم. ثم محمد حسين الأصفهاني في الفصول الغروية ص ١٠ والمتوفى ١٢٥٤. ثم المحقق الرشتي المتوفى ١٣١٢ ه‍ ق في كتابه بدائع الأفكار ص ٢٧ و ٢٩ و ٣٢. وغيرهم.

(٢) كما في مجمع البحرين ج ٤ ص ٢١٥ تعريف العرض بالتحريك. وقال في تاج العروس إن العرض جمعه أعراض ج ٥ ص ٤٧. وكذا في الصحاح ج ٣ ص ١٠٨٦ ط ٤ بيروت قال : جمع العارضة أعراض.

٢٩

المحمول على الشيء الخارج عنه ، فيشمل العرض ، المقابل في باب الكليات بالذاتي ، وهو ما يتألف منه الشيء كالجنس والفصل ، وغيره ، كما يشمل الذاتي باصطلاح الحكماء وما يقابله ، وهما ، المحمول بالضميمة ، أي ما لا يحمل على الشيء إلا بعد ضم شيء آخر إليه كالعالم ، حيث انه لا يحمل على الذات إلا بعد ضم العلم إليه ، وخارج المحمول ، أي ما يكون خارجا عن حقيقة الشيء ، المحمول عليه بعد ملاحظة نفس الذات ، وان لم ينضم إليه شيء آخر.

ثم إن أول من صرح بهذا الكلام ، أي موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، بما انه من الحكماء ، وتبعه غيره منهم ، وكان لا ينطبق ذلك على اصطلاحهم في الذاتي ، إذ اغلب المحمولات بالنسبة إلى الموضوعات تكون من المحمولات بالضميمة ، ففسَّره أهل المعقول ، بما فسَّره به صاحب الكفاية بقوله : " أي بلا واسطة في العروض" (١).

والمراد به كون العارض عارضا له حقيقة ، سواء كان بلا واسطة في الثبوت كإدراك الكليات العارضة للنفس الناطقة ، أو مع الواسطة في الثبوت كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار.

والضابط : هو أن لا يكون نسبة العرض إلى الشيء بالعناية والمسامحة ، من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه من غير فرق بين كونها جليَّة كالحركة العارضة لجالس السفينة بواسطتها ، أو خفية كالبياض المنتسب إلى الجسم ، فان المعروض

__________________

(١). كفاية الاصول ص ٧ (والمقصود إخراج القسم الثامن من العروض وهو العارض بالمجاز كما سيأتي).

٣٠

له حقيقة هو السطح.

وبذلك يظهر أن تعريف العارض الذاتي ، بما يعرض الشيء لذاته أو لجزئه المساوي وهو الفصل.

والعارض الغريب بما يعرضه ، بواسطة الجزء الأعم ، أو أمر خارجي سواء كان أخص أو اعم أو المساوي ، تام (١).

__________________

(١) وللتوضيح نذكر أنواع العروض فقد عدّ أهل المعقول العوارض ثمانية : فالأول ما كان العرض بلا واسطة في العروض سوى اقتضاء الذات ، كعروض الزوجية على الأربعة. والثاني ما كان العروض مع الواسطة في الثبوت وهي ستة : ١ ـ العارض أمر داخلي مساوي للمعروض كالتكلم للإنسان بواسطة كونه ناطقا. ٢ ـ أو أعم من المعروض ، كالمشي العارض على الإنسان بواسطة كونه حيوانا ، ولا ثالث للأمر الداخلي لأنه لا تخلو الواسطة إما أن تكون فصلا وهو المساوي أو تكون جنسا وهو الأعم. ٣ ـ العارض الخارجي وهو المساوي للمعروض كالضحك العارض على الإنسان بواسطة التعجب ، والمساواة من جهة أنّ التعجب لا يجتمع مع غير الإنسان. ٤ ـ والأخص من المعروض ، كعروض الضحك على الحيوان بواسطة كونه ناطقا فإن بعض أفراد الحيوان ناطق. ٥ ـ والأعم من المعروض كالتعب العارض على الإنسان بواسطة المشي فالمشي أعم من الإنسان. ٦ ـ والمباين للمعروض كالحرارة العارضة على الماء بواسطة النار المباينة للماء إذ أنهما لا يجتمعان أبدا. والثالث هو العروض مع الواسطة غير الحقيقية بل العرض فعلا لغيره ولكن ينسب إليه مجازا ، كعروض الجري على الميزاب فإن الجري حقيقة للماء ونسبته إلى الميزاب مجازا للعلاقة بينه وبين الماء.* فالمقصود بالعرض الذاتي هنا خروج هذا الفرد الأخير دون السبعة الأوائل.

٣١

إذا عرفت ذلك ، فاعلم انه تفصى الأصحاب عن هذه العويصة بوجوه ، ولهم فيه مذاهب :

الأول : ما أفاده صدر المحققين (١).

وأوضحه الحكيم السبزواري (٢) " ، وإليه نظر المحقق الخراساني في الكفاية (٣) وهو أن الجنس إن أخذ لا بشرط فعوارض أنواعه ذاتية له ، وان اخذ بشرط لا فعوارض أنواعه غريبة عنه ، مثلا لو اخذ الحيوان لا بشرط يكون التعجب عارضا ذاتيا له ، وان اخذ بشرط لا يكون غريبا عنه ، وعلل بان الجنس إن اخذ لا بشرط يكون نفس الأنواع ومتحدا معها ، فالعوارض لأنواعه عوارض له بلا واسطة.

وعلى ذلك فان أخذ موضوع العلم لا بشرط تكون محمولات المسائل عوارض ذاتية له.

وفيه ، إنّ كون" عوارض الأنواع عوارض غريبة للجنس" مبنى على اللابشرطية ، فاخذ الجنس لا بشرط يصحح الحمل ، إذ لو اخذ بشرط لا يكون

__________________

(١) الشواهد الربوبية ص ٢٠.

(٢) في حاشيته على الشواهد الربوبية ص ٤١٠.

(٣) الكفاية ص ٦ ، عند ما عرّف موضوع علم الأصول" بأنه ما يبحث عن عوارضه الذاتية بلا واسطة في العروض" ، وعدم الواسطة لا يكون للموضوع الجامع إلا بلا بشرط ويوضّح ذلك قوله : " هو نفس موضوعات مسائله عينا" ، وخالف في ذلك المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية كما سيأتي.

٣٢

مبايناً لمعروض ذلك العارض ، والمباينة منافية للحمل ، وموجبة لعدم صحته ، فان أُخذ الجنس لا بشرط ، صح الحمل وكان العارض غريبا عنه لا ذاتيا ، إذ لو كان من عوارضه الذاتية لزم كونه عارضا له في ضمن أي نوع تحقق ولو غير ذلك النوع ، وحيث انه بديهي البطلان فيستكشف من ذلك انه إنما يعرضه بالعناية والمسامحة ، وان كان بنظر العرف منسوبا إليه بالحقيقة ، مع انه لا يرتفع التهافت بين كلمات القوم بذلك ، فإنهم صرحوا (١) بان العارض بواسطة أمر أخص ، عارض غريب ، مع انه من الواضح أن مرادهم هو صورة أخذه لا بشرط.

وبما ذكرناه ظهر ضعف ما نسب إلى المحقق الرشتي (ره) (٢) : من أن الملاك في كون العارض ذاتيا كون الواسطة وذي الواسطة متحدين في الوجود حتى يكون العارض عارضا لكليهما. ولذا التزم بكون عوارض النوع عوارض ذاتية للجنس ، ولم يبال بمخالفة القوم ، قائلا : إن الاشتباه من غير المعصوم غير عزيز.

الثاني : ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) في تعليقته (٣) : وهو أن موضوع كل

__________________

(١) كما في بحوث في علم الأصول ، ج ١ ص ٥٠ ، (ما يبحث عنه في مسائل العلم).

(٢) الناسب إلى المحقق الرشتي (قدِّس سره هو المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ١ ص ٢ ، وأما ما أفاده المحقق الرشتي ففي كتابه بدائع الأفكار ص ٣١ في مناقشته لما ورد في تحديد موضوعات العلوم ، ط مؤسسة أهل البيت ١٣١٣ ه‍.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٦ عند قوله (ويمكن الجواب عن موضوعات سائر العلوم) .. الخ.

٣٣

علم متحيث بحيثية خاصة ، ولا يبحث في العلم عن جميع أحواله ، مثلا ، موضوع علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ولا يبحث فيه عن جميع ما يعرض له ككونه مخلوقا لله تعالى أو الناس مثلا أو غير ذلك ، بل يبحث فيه عن فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير ، وكذا ، موضوع علم النحو ليس هو الكلمة والكلام بما هما ، بل من حيث الإعراب والبناء ، وكذا سائر العلوم. والحيثيات المذكورة ليست عبارة عن الحيثيات اللاحقة لموضوعات المسائل أي الحيثيات الفعلية ككون الكلمة معربة أو مبنية ، لان اخذ مبدأ المحمول في الموضوع مستلزم لعروض الشيء لنفسه ، بل المراد الحيثيات السابقة ، أي الحيثيات الاستعدادية ، ككون الكلمة مثلا مستعدة لعروض الإعراب أو البناء عليها ، فهذه الحيثيات المتقدمة عناوين منتزعه من موضوعات المسائل ، فالكلمة من حيث الفاعلية مستعدة لعروض الرفع عليها ، وفعل المكلف من حيث انه الصلاة مستعدة لعروض الوجوب عليه ، وهكذا وحيث أن الأمر الانتزاعي لا وجود له ، ولا تحمل عليه المحمولات ، وإنما هي تحمل على مناشئ انتزاعه ، فليس موضوع العلم كليا متخصصا في مراتب تنزله بخصوصيات تكون واسطة في عروض اللواحق له ، بل هي تحمل على المعنونات بلا توسط شيء في اللحوق والصدق.

وفيه : انه إن كان مراده أن الموضوع هو الأمر الانتزاعي بما انه مشير إلى موضوعات المسائل ومرآة إليها ومعرِّف لها ولا نظر إليه أصلاً ، فهو في الحقيقة إنكار لوجود الموضوع.

وان كان مراده أخذ الأمر الانتزاعي بما هو موضوعا ، فلا ريب في أنَ

٣٤

عوارض منشأ انتزاعه عوارض غريبة له ، وبعبارة أخرى حاله أسوأ من الكلي الحقيقي الجامع بين موضوعات المسائل ، حيث أن الكلي متحد في الوجود مع أفراده ، بخلاف الأمر الانتزاعي الذي لا موطن له إلا الذهن ، ولا يكون متحدا مع منشأ انتزاعه ، فإذا كان عوارض الفرد عوارض غريبة للكلي فعوارض منشأ الانتزاع أولى بان تكون عوارض غريبة للأمر الانتزاعي.

وأما ما أورده الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) (١) عليه : من أن اقتضاء الموضوع لحمل المحمول عليه ، لا يكون إلا في الفقه ، بناء على مذهب العدليَّة القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وإلا فلا يتم ذلك في سائر العلوم ، إذ الكلمة مثلا من حيث الفاعلية غير مقتضية لعروض الرفع عليها ، ولا اقتضاء فيها للحوقه ، بل إنما هو قانون مجعول.

فغير تام إذ مراده من الحيثيات ، هي الحيثيات الاستعدادية ، أي استعداد الموضوع وقابليته لعروض المحمول عليه ، وهذه الحيثيات عناوين انتزاعية لموضوعات المسائل ، مثلا الكلمة المتحيثة بحيثية الإعراب والبناء عنوان انتزاعي من الفاعل والمفعول وغيرهما. ومرجع ذلك إلى دعوى أن موضوع علم النحو مثلا هو الكلمة من حيث الفاعلية والمفعولية وما شاكل ذلك ، وليس في كلامه (قدِّس سره) من الاقتضاء بالمعنى الذي هو أساس الإيراد عين ولا اثر.

__________________

(١) بعد التتبع يظهر أن هذا الإيراد غير موجود في محاضرات السيد الخوئي (قدِّس سره) ولا في حاشيته على أستاذه النائيني (قدِّس سره) في أجود التقريرات ، بل الظاهر أنه نقله المصنف حفظه المولى من مجلس درسه كما أفادنا بعد مراجعته ..

٣٥

الثالث : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) ، وتوضيحه يبتنى على بيان مقدمات :

الاولى : إن موضوع العلم ليس هو الذات بما هو ، بل مقيدا بحيثية خاصة ، مثلا موضوع علم النحو ، ليس هي الكلمة من حيث هي ، بل من حيث لحوق الإعراب والبناء لها ، كما إنّ موضوعات المسائل ، ليست هي الذوات ، بل مقيدة بحيثيات خاصة ، مثلا الموضوع في" كل فاعل مرفوع" ، إنما هو الفاعل من حيث قابلية عروض الرفع عليه وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليه ، قال : وهذه الحيثية من الأمور الاعتبارية ، مراده أنها من الأمور الانتزاعية.

الثانية : إن المراد بهذه الحيثية في الموردين ، هي الحيثية السابقة التي بها يستحق الإعراب الفعلي ، لا الحيثية اللاحقة الإعرابية ، حتى يقال : إن الكلمة المعربة يستحيل عروض الإعراب عليها.

الثالثة : إن الأمور الانتزاعية والاعتبارية ، ليست من قبيل الجواهر التي تنحل في الخارج إلى جزءين : مادة وصورة ، ولذا قد تنعدم الصورة وتبقى المادة المشتركة متصورة بصورة أخرى ، ولا من قبيل الأعراض المنحلَّة بتعمّل من العقل إلى جزءين ، وان كانت في الخارج بسيطة ، بل هي من سنخ الوجود الذي هو بسيط من جميع الجهات ، ويكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

إذا عرفت هذه الأمور ، تبيَّن لك أن موضوع العلم إنما يكون منطبقا على موضوعات المسائل بنحو العينية ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسألة أخرى ، هو عين ما به يشتركان ، فيكون عوارض موضوعات

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٨.

٣٦

المسائل عوارض ذاتية لموضوع العلم.

ويتوجه عليه ، أن خصوصيات موضوعات المسائل المنوعة ، أو المصنفة لها الموجبة لصيرورتها أنواعاً أو أصنافاً ، تكون دخيلة في الموضوع ، لا أنها حيثيات تعليلية ، مثلا الموضوع في قولنا ، " كل فاعل مرفوع" ، هو الفاعل بما هو فاعل ، وفي قولنا ، " الصلاة واجبة" هي الصلاة بما هي صلاة وهكذا ..

وعليه فان ادعى أن موضوع العلم هي نفس تلك الحيثية الانتزاعية بما أنها تشير إلى موضوعات المسائل ، فمرجع ذلك إلى إنكار وجود الموضوع.

وان ادعى أن الموضوع هي نفس تلك الحيثية بما هي ، فتكون المحمولات عوارض غريبة لها ، لكونها تعرضها بواسطة موضوعات المسائل التي غير ذلك الأمر الانتزاعي.

وان ادعى أن الموضوع هو الكلي الجامع بين موضوعات المسائل مقيدا بالحيثية المذكورة ، فيعود المحذور ، ويضاف إليه أنّ المقيّد بالأمر الانتزاعي لا يكون من البسائط.

وبما ذكرناه ظهر أنّ ما أفاده بعض الأساطين (ره) (١) في دفع العويصة ـ

من أنَّ خصوصيات موضوعات المسائل ، جهات تعليلية لترتب المحمولات على الذات." مثل : الرفع والنصب وغيرهما من العوارض ، إنما تعرض على ذات الكلمة لا على أنواع خاصة" فان الفاعلية والمفعولية وغيرهما من

__________________

(١) وهو المحقق الأصولي ضياء الدين العراقي في كتابه مقالات الأصول ج ١ ص ٤٥.

٣٧

الخصوصيات المنوِّعة ، " بل هي جهات تعليلية لعروض العوارض المزبورة على الذات ، نظير المجاورة للنار بالنسبة إلى حرارة الماء" وعلى ذلك فليس موضوع العلم إلا عين موضوعات المسائل ، وليست بالنسبة إليه من قبيل الأنواع إلى جنسها ـ.

غير تام ، إذ الخصوصيات دخيلة في الموضوع ، وتكون جهات تقييدية في عروض العوارض. وذلك في المسائل الفقهية واضح فان الصلاة بما هي صلاة ، واجبة لا بما هي فعل المكلف الجامع بينها وبين شرب الخمر. وأما في غيرها ، فلان المحمول في قولنا : " الفاعل مرفوع" مثلا ، إنما هو جعل الرفع له ، ومن البديهي ، أن الجاعل إنما جعل لكل نوع حركة خاصة ليمتاز كل من الأنواع عن الأخر.

فتحصل أن شيئا مما قيل في دفع هذه العويصة لا يفيد.

فالحق هو الالتزام بالإشكال ، وتعين رفع اليد عن أحد المبنيين ، والبناء :

إما على انه لا يلزم أن تكون المحمولات عوارض ذاتية لموضوع العلم ، كما هو الصحيح ـ إذ لو ترتب غرض على البحث عن العوارض الغريبة لموضوعات المسائل ، فضلا عن موضوع العلم ، صح تدوين علم خاص ، وقد التزم به الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) (١).

__________________

(١) السيد الخوئي في كتاب محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦ قال : «وأما التمايز في المقام الثاني (أي غرض التدوين) فالفرض .. الخ».

٣٨

وإما أن العارض بواسطة أمر أخص كالنوع ، لا يكون عارضا غريبا للأعم كالجنس.

بما ذكرناه تندفع الشبهة الناشئة من أعميَّة موضوعات مسائل علم الأصول عن موضوع العلم.

* * *

٣٩

ما به تمايز العلوم

الامر الرابع : فيما به تمايز العلوم.

قال المحقق الخرساني (١) : " وقد انقدح بما ذكرناه ، أن تمايز العلوم ، إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين" انتهى.

وأورد عليه : بأنه لم يذكر ما يظهر منه ذلك ، ولكنه ناشئ عن عدم التدبُّر في كلماته فانه ذكر.

أولاً : إن موضوع العلم ، هو الجامع بين موضوعات المسائل ، وأقام البرهان عليه ، بان موضوع العلم ، ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وحيث أنّ ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، هو موضوعات المسائل ، فيكون موضوع العلم هو موضوعات المسائل ، ومحمولاتها لواحقه ، ونتيجة ذلك ، كون العلم عبارة عن جملة مسائل جمعها المدون وسماه باسم واحد.

وثانيا : أنّ الذي أوجب جمع المسائل المتشتتة وجعلها واحدا اعتباريا ،

هو اشتراكها في الدخل في الغرض ، الذي لأجله دون هذا العلم ، فيكون نتيجة ذلك كله ، أن تمايز العلوم إنما يكون باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين.

ولكن يرد على ما اختاره في ما به التمايز في مقابل المشهور القائلين ، بان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨.

٤٠