زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

فما عن بعض (١) من الاستدلال للفساد : بان انتفاء جزء الفرد موجب لعدم تحقق الطبيعي إذ لا يعقل وجوده من دون الفرد. وهمٌ غريب : فانه خلط بين جزء الفرد في المركب الاعتباري وجزء الفرد في المركب الحقيقي.

نعم ، ما ذكرناه إنما هو مقتضى القاعدة الأولية ، وأما مقتضى القاعدة الثانوية المستفادة من قوله (ع) " من زاد في صلاته (٢) الخ" فالكلام فيه موكول إلى محله.

وأوضح من هذا القسم في عدم الدخل في المسمّى وعدم موجبية فساده لفساد المركب ، ما يكون المركب ظرفا لمطلوبيته بلا دخل له في العبادة أصلا كما لو نذر ان يدعو لزيد في صلاته.

* * *

__________________

(١) كما قد يظهر ذلك من بدائع الأفكار ص ١٣٨. بعد أن نقل كلمات المحقق القمّي رحمه‌الله حيث قال (فقد يكون انتفاء الجزء سببا لسلب اسم الكلّ وقد لا يكون) أجاب : وفيه أنّ انتفاء الكلّ بانتفاء الجزء قضية عقلية لا يمكن القول بخلافها عقلا ولا شرعا ولا عرفا لأنّ القواعد العقلية محكمة لا يتطرق إليها فتور بوجه من الوجوه وهذا نظير القول باقتضاء النّهي في العبادات الفساد عرفا لا عقلا في الخلوّ عن التّحصيل نعم ربّما يتسامح عرفا في ألفاظ المركبات فتطلق على ناقصة الأجزاء توسعا ولكنّه مبني على النّحو من المسامحة والتنزيل.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣٥٥ ح ٥ (من زاد في صلاته فعليه الإعادة). ورواه التهذيب والاستبصار.

٢٢١

الاشتراك

الأمر الخامس عشر : في الاشتراك ، وتنقيح القول فيه ، بالبحث في مقامات :

الأول : في أن الاشتراك ، محال ، أو واجب ، أو ممكن؟.

الثاني : في أن الاشتراك واقع ، أم لا؟.

الثالث : في استعماله في الكتاب المجيد.

أما المقام الأول : فقبل شروع الكلام فيه لا بد من التنبيه على أمر وهو أن المراد من الوجوب والاستحالة ، ليس هو الذاتي منهما : إذ بديهي أن ملاحظة الاشتراك لا تقتضي ضرورة الوجود حتى يكون واجب الوجود ، وليس تصور مفهومه مقتضيا ضرورة العدم ، بل المراد انه هل يلزم من فرض وقوعه محال حتى يكون ممتنعا ، أم يلزم المحال من فرض عدمه فيكون واجبا ، أم لا يلزم شيء منهما فهو ممكن ، فالمراد هو الوقوعي منهما.

فقد استدل للاستحالة بوجوه.

الوجه الأول : منافاته لحكمة الوضع وهي التفهم والتفهيم إذ الاشتراك موجب لعدم حصول تفهيم المعنى الأول ، ولا الثاني الذين هما الموضوع لهما.

وأجاب عن ذلك المحقق الخراساني بجوابين (١) :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٥.

٢٢٢

الأول : إمكان الاتكال في تفهيم المعنى على القرائن الواضحة.

وفيه : أن هذا الجواب غير مربوط بالاستدلال : فان تقريب الاستدلال إن الغرض من الوضع ليس هو عدم تفهيم المعنى لأنه محقق قبله ولا أمور أخر كإيقاظ النائم لعدم ترتبها على الوضع ، بل الغرض منه هو تفهيم المعنى ، والاشتراك يوجب عدم ترتبه كما عرفت ، وما ذكره المحقق الخراساني غير مرتبط بذلك ، بل هو جواب عما أدرجه هو في الاستدلال ، وهو أن تفهيم المعنى بواسطة القرائن غير صحيح : فانه كثيرا ما تختفي القرائن.

الثاني : انه قد يتعلق الغرض بالإجمال.

وفيه : ما تقدم من أن الإجمال وعدم التفهيم ليس غرضا من الوضع.

فالصحيح في الجواب عنه أن يقال : إن الانتقال في الجملة بمعنى الصرف عن بقية المعاني ثابت مع الاشتراك ، فهو ليس منافيا لحكمة الوضع رأسا ، مع أن الوضع إنما يكون مقتضيا للانتقال إلى المعنى لا علة تامة له ولذا عند نصب القرينة لا ينتقل إليه ، فكما أن القرينة تمنع من ذلك ، كذلك الوضع الثاني ، فلو علمنا من الخارج أو من قرينة انه لم يرد أحد المعنيين لا محالة ينتقل إلى الآخر ، وبهذا يمتاز عن الحقيقة والمجاز : فان عدم إرادة الحقيقة لا يكفي في الانتقال إلى المعنى المجازى فيتوقف الانتقال إليه الى ما يدل على إرادته ، وهذا بخلاف المشترك ، وهذا هو المراد مما اشتهر من أن إرادة أحد المعنيين في المشترك تتوقف على القرينة الصارفة ، وأما المجاز فإرادته تتوقف على القرينة المعينة.

الوجه الثاني : أن لازم الاشتراك الانتقال إلى معنيين في آن واحد وهو غير ممكن.

٢٢٣

وفيه : أن المراد بالانتقال إن كان هو الانتقال التصوري فهو مما لا محذور فيه لان اجتماع شيئين في آن واحد في النفس التي هي من المجردات لا مانع عنه ، بل هو واقع كثيرا ، ولذا يحكم على الوجود والعدم بأنهما نقيضان ، ولو لا انهما يتصوران في آن واحد لما صح الحمل للزوم تصور الموضوع حين الحمل.

ومنه يظهر أن ذلك جار في جميع القضايا ، فان صحة الحمل تتوقف على تصور الموضوع والمحمول في آن واحد.

وان أريد الانتقال التصديقي بمعنى انه يحكم بان المتكلم أرادهما معا ، فان بنينا على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد كما هو الحق وستعرفه فلا محذور فيه ، وإلا فلازمه الإجمال كما هو واضح.

الوجه الثالث : وهو يختص بما بنينا عليه من أن حقيقة الوضع هو التعهد ، بذكر اللفظ عند إرادة المعنى ، وحاصله أن التعهد الثاني ينافي التعهد الأول ومناقض له ولا يمكن بقائه معه ، ألا ترى انه لو تعهد زيد بأنه لو لبس الثوب الأبيض فهو مريد للكوفة ، ثم تعهد ثانيا : بأنه لو لبسه فهو مريد المشي إلى مكة ، يكون التعهد الثاني منافيا للأول.

وفيه : أولاً : سيأتي انه يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وعليه فلازم هذين التعهدين انه عند ذكر اللفظ مريد لتفهيم معنيين ، ولازم ذلك انه عند عدم نصب القرنية يحمل على إرادتهما معا.

وثانيا : أن الواضع إنما يتعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، لا انه يتعهد إرادة المعنى عند ذكر اللفظ والفرق بين التعهدين واضح لا يخفى.

٢٢٤

فتحصل انه لا دليل على الاستحالة.

وقد استدل لوجوبه بان الألفاظ متناهية لتألفها من حروف الهجاء التي هي متناهية ، والمركب من المتناهي متناه ، والمعاني غير متناهية فلا بد من الاشتراك فيها.

وأجاب عنه صاحب الكفاية بأربعة أجوبة (١) :

الأول : أن الوضع لجميع المعاني غير المتناهية يستدعي الأوضاع غير المتناهية.

وفيه : أن الوضع بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص أمر ممكن كما تقدم فكون المعاني غير متناهية لا يوجب عدم تناهى الأوضاع لإمكان أن يكون بهذا النحو.

الثاني : انه لو سلّم ذلك لا يجدي إلا في مقدار متناه ، لاستدعاء استعمال الألفاظ في جميع الاستعمالات غير متناهية.

وفيه : أن المراد من عدم التناهي في هذا المقام عدم التناهي العرفي ، وإلا فالعالم بأجمعها يكون متناهيا ، وعليه فالاستعمالات غير المتناهية بالنسبة إلى شخص واحد ، وان امتنع إلا انه بالنسبة إلى جميع أفراد البشر لا امتناع فيه كما لا يخفى.

الثالث : أن المجاز باب واسع.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٥ بتصرف.

٢٢٥

وفيه : أن الاستعمال المجازى يتوقف على ذكر القرينة اللفظية غالبا لتعذر القرائن الحالية بحسب الغالب.

وبذلك يظهر الجواب عن جوابه الرابع.

وهو عدم لزوم الوضع للجزئيات بل يوضع الألفاظ للكليات وهي متناهية.

فالصحيح في الجواب عنه عدم تناهي الألفاظ كالمعاني.

وذلك : فإنه إذا لاحظنا أن المركب الثنائي من حروف الهجاء يحصل منه ألفاظ كثيرة جدا ، حيث أن كل واحد منها يمكن تركبه مع نفسه ومع أحد الحروف الأخر فيتولد من ذلك سبعمائة كلمة مثلا ، ثم إن هذه الكلمة الثنائية ، تارة يكون أولها مفتوحا ، وأخرى مضموما ، وثالثة مكسورا.

وثانيها أيضا قد يكون مكسورا ، وأخرى مفتوحا ، وثالثة مضموما ، ورابعة ساكنا ، فلازم ذلك إمكان تحقق ما يقرب من ثمان مائة ألف كلمة ثنائية ، وحينئذٍ نقطع بعدم تناهي الألفاظ أيضا.

فتحصّل أن الاشتراك ممكن لا واجب ولا ممتنع.

وأما المقام الثاني : فالأظهر وقوعه كما نشاهد ذلك في الأعلام الشخصية وفي غيرها كالقُرء الموضوع للحيض ، والطهر ، وما شاكل.

وما ذكره بعض الأعلام من إنكار وقوع الاشتراك في غير الأعلام الشخصية ، وإرجاع كل مورد مما ظاهره الاشتراك إلى وجود جامع بين المعاني

٢٢٦

المتشتتة ، وانه الموضوع له ، تكليف بارد كما صرح به المحقق العراقي (ره) (١).

وأما المقام الثالث : فقد يتوهم انه يمتنع استعمال المشترك في القرآن المجيد ، لان الله تعالى.

إما أن لا يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل.

وإما أن يعتمد على شيء فيلزم الإهمال والإجمال وكلاهما غير لائقين بكلامه تعالى.

ويُردّ الأول : انه إذا كان الاتكال على القرينة الحالية فلا يلزم التطويل ، وإذا كان الاتكال على القرينة المقالية أتى بها لغرض آخر زائدا على بيان المراد لا يكون بلا طائل.

ويُردّ الثاني : منع كون الإجمال غير لائق بكلامه ، إذ الغرض ربما يتعلق بالإجمال وقد اخبر الله تعالى بوقوعه في كلامه فقال عزوجل : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات)(٢) والمتشابه هو المجمل.

ثم انه لا يهمنا البحث في أن منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينيا أو تعينيا.

__________________

(١) انظر مقالات الأصول ج ١ ص ١٥٩ (المقالة الحادية عشر في استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى).

(٢) سورة آل عمران الآية ٧.

٢٢٧

أمَّا ما نقله المحقق النائيني (ره) ـ عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين ، من أن حصول الاشتراك في اللغات حصل من خلط اللغات بعضها ببعض ، فان العرب مثلا كانوا على طوائف فكل طائفة قد وضعت لفظا خاصا لمعنى مخصوص غير اللفظ الذي وضعته طائفة أخرى له ، ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة حدث الاشتراك ـ. (١).

فان تحقيقه لا يترتب عليه ثمرة.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

المهم هو البحث في انه هل يصح استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، أم لا؟

ملخص القول فيه : انه بعد ما ثبت إمكان الاشتراك ووقوعه.

لا إشكال في جواز استعماله في كل واحد من المعنيين أو المعاني لوضعه له.

كما لا ينبغي التوقف في جواز استعماله في الجامع ، غاية الأمر يكون مجازا.

كما لا إشكال في جواز استعماله في المجموع.

__________________

(١) حكاه السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ١ ص ٢٠٤ ، عن أستاذه النائيني (ره) ولم نجد من التزم بهذا الوجه إلى ما يظهر من بعض من تأخر عن النائيني ، ولم يستبعده صاحب أصول الفقه الشيخ المظفر (ره) ج ١ ص ٣١ ، وغيره.

٢٢٨

إنما الكلام والإشكال في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستقلال ، بان يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل إلا فيه ، ففي الحقيقة يكون الاستعمال متعددا بلفظ واحد.

وبذلك يظهر أن ما ذكره صاحب المعالم (ره) (١) في عنوان المسألة من قوله ، بان يستعمل في معنيين يكون كل واحد مناطا للإثبات والنفي ومتعلقا لحكم واحد.

غير جيد : إذ تعلق الحكم إنما يكون في مرتبة لاحقة للاستعمال ، والنسبة بين ما ذكره وما ذكرناه. عموم من وجه.

وقد اختلفت كلماتهم فيه على أقوال :

القول الاول : ما ذهب إليه أكثر المحققين وهو عدم الجواز عقلا.

وقد استدل له بوجوه :

الوجه الأول : ما عن المحقق النائيني (قدِّس سره) من أن لازم الاستعمال في معنيين تعلق اللحاظ الاستعمالي في آن واحد بمعنيين ، ولازمه الجمع بين اللحاظين وهو ممتنع عقلا (٢).

وفيه : أن الجمع بين اللحاظين في آن واحد مع كون الملحوظ متعددا لا استحالة فيه : فان معنى لحاظ الشيء إحاطة النفس به وحيث أنها من المجردات

__________________

(١) راجع معالم الدين ص ٣٩ (أصل) م. النشر الإسلامي ، قم المقدسة.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٥١ (الأمر السابع) ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٧٦.

٢٢٩

فلا مانع من إحاطتها بشيئين في آن واحد ، وان شئت قلت أن الذهن يكون كالخارج كما انه في الخارج يمكن أن يجتمع شيئان في الوجود كذلك في الذهن ، بل هو واقع كثيرا. ألا ترى انه كثيرا ما يصدر عن الإنسان فعلان اختياريان كأن يمشي ويتكلم ، مع أن كلاً منهما يتوقف تحققه على تصوره ولحاظه.

الوجه الثاني : ما في الكفاية وحاصله (١) : أن اجتماع اللحاظين في آن واحد وان كان لا محذور فيه إذا كان الملحوظ متعددا ، إلا انه ممتنع إذا كان الملحوظ واحدا ، وعليه فالاستعمال في أكثر من معنى وان كان لا محذور فيه من حيث لحاظ المعنيين في آن واحد ، إلا انه ممتنع من ناحية المستعمل ، إذ حقيقة الاستعمال جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى بل بوجه نفسه كأنه الملقى ، وعلى ذلك فاستعمال اللفظ في معنى يستلزم لحاظ اللفظ فانيا فيه أي لحاظه آلة للحاظه. ولا يعقل أن يكون في هذه الحالة ملحوظا بلحاظ آخر آليا أم استقلاليا ، فاستعماله في معنى آخر لا يجوز ، لاستلزامه اجتماع اللحاظين الآليين في شيء واحد.

وفيه : انه قد تقدم منافي الوضع ان الوضع عبارة عن التعهد والالتزام بالتلفظ بلفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى مخصوص ، فحقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، وعليه فلا مانع من جعل اللفظ علامة لمعنيين لعدم استلزامه تعدد اللحاظين ، كما نشاهد ذلك بالوجدان في التعهدات الخارجية. وعلى ذلك ، فالاستعمال في معنيين كالاستعمال في معنى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦ (الثاني عشر)

٢٣٠

واحد لا يلاحظ اللفظ فيه إلا بلحاظ واحد استقلالي ، غاية الأمر تارة يكون الداعي له هو تفهيم معنى واحد ، وأخرى يكون تفهيم معنيين.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) في حاشيته على الكفاية (١).

وحاصله : أن وجود اللفظ في الخارج وجود لطبيعي اللفظ بالذات ، ووجود لطبيعي المعنى بالتنزيل والمواضعة ، وحيث أن الموجود بالذات واحد فلا محالة يكون ذلك الوجود وجودا تنزيليا واحدا ولا يعقل أن يكون وجودين تنزليين لمعنيين إذ كما أن الوجود الواحد لا يمكن أن يكون وجود الماهيتين بالذات كذلك لا يعقل أن يكون وجودين تنزليين لمعنيين ، وليس الاستعمال إلا إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجا ، وقد مر أن الإيجاد والوجود متحدان بالذات ، وحيث أن الوجود واحد فكذا الإيجاد ، ثم قال (قدِّس سره) أن الاستعمال لو فرض محالا تحققه بلا لحاظ لكان محالا.

وفيه أولاً : ما مر من أن حقيقة الوضع ليست إلا التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وليس الاستعمال إلا فعليّة ذلك ، فحديث الوجود التنزيلي مما لا يرجع إلى محصل.

وثانيا : لازم ما ذكره (قدِّس سره) الالتزام باستحالة الاشتراك إذ بعد ما صار وجود طبيعي اللفظ الذي هو الموضوع له وجودا تنزيليا لمعنى خاص كيف يمكن صيرورته وجودا تنزيليا لآخر.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ١٠٣ ـ ١٠٤ قوله والتحقيق .. الخ.

٢٣١

وبعبارة أخرى حيث أن الاستعمال ليس إلا فعلية الوضع ويكون هو بنحو الذي وضع ، فان التزم هو في الوضع بالوجود التنزيلي فليس له الالتزام بإمكان الاشتراك وإلا فليس له الالتزام بذلك في مقام الاستعمال.

وثالثا : انه لا محذور في صيرورة الوجود الحقيقي الواحد وجودين تنزليين لشيئين إذ الوجود التنزيلي إنما يتحقق بالوضع والاعتبار وهو خفيف المئونة ، ألا ترى في عكس المسألة قد يكون المنزل عليه واحدا كالأسد والمنزل متعددا كزيد ، وعمرو ، وغيرهما من أفراد الإنسان.

والحل في ذلك ما ذكرناه من أن الوجود التنزيلي أمر اعتباري يحصل بالوضع وهو خفيف المئونة.

فتحصل انه لا دليل على الاستحالة.

القول الثاني : إمكانه ثم أن القائلين بهذا القول اختلفوا على أقوال :

الأول : انه مجاز مطلقا : واستدل له صاحب تشريح الأصول ، بان كل وضع مستقل ولا يكون ناظرا إلى الآخر ومتمما له ، فالواضع حين وضع اللفظ لكل من المعنيين أو المعاني لم يتصور إلا المعنى الواحد ، فيجب أن يكون الاستعمال على وفق الوضع بان يتصور أحد المعنيين أو المعاني وإلا لزم الخروج عن طريقة الواضع.

وفيه : أن متابعة الواضع لازمة في الخصوصيات الراجعة إلى الموضوع ، والموضوع له ، والوضع ، وأما في غير ذلك فلا يعتبر مثلا من وضع لفظا لمعنى أو علما لشخص ، وكان في تلك الحالة متعمما فهل يتوهم أحد لزوم كون

٢٣٢

المستعمل حين الاستعمال كذلك (١) ، مع انه لا قطع بذلك ، ويحتمل أن يكون وضع المشترك لجميع ما هو موضوع له في آن واحد.

الثاني : انه مجاز في المفرد وحقيقة في التثنية والجمع.

وهذه الدعوى مركبة من أمرين :

الأول : كونه مجازا في المفرد ، واستدل له : بأن قيد الوحدة مأخوذة في الموضوع له ، فلو استعمل اللفظ في معنيين لزم استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء وهو ذات المعنى بلا قيد الوحدة :

وأجاب عنه المحقق الخراساني (٢) بان لازم ذلك عدم جواز الاستعمال فان الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا.

وفيه : أن المستعمل فيه إن كان هو الأكثر بقيد الانضمام كان ما ذكره تاما ، ولكنه خلاف الفرض وهو الاستعمال في كل واحد مستقلا فالمستعمل فيه هو ذات المعنى بلا قيد ولا ريب في كونه جزء الموضوع له على هذا القول.

فالصحيح في الجواب منع اخذ قيد الوحدة في الموضوع له.

الثاني : كونه حقيقة في التثنية والجمع ، والمراد بذلك ليس استعمال التثنية

__________________

(١) فإنه لا يتوهم احد ان الهيئة التي كان عليها الواضع من التعمم او اللباس المخصوص او غير ذلك لها دخل في في الاستعمال بوجه من الوجوه ، وهذا اوضح من ان يخفى.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦ (الثاني عشر) أظهرها عدم جواز الاستعمال مطلقاً.

٢٣٣

مثلا في أربعة أفراد فردين من طبيعة وفردين من طبيعة أخرى ، ولا استعمال التثنية في فردين من طبيعة واحدة فان ذلك هو الموضوع له ، بل المراد استعمالها في فردين من طبيعتين.

واستدل لجوازه بنحو الحقيقة بأن التثنية في قوة التكرار فكما انه لو كرر اللفظ المفرد مرتين وأريد منه في كل مرة فردا من طبيعة يكون كلا الاستعمالين من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، كذلك لو ثنَّى وأطلق وأريد منه فردان من طبيعتين.

والحق في الجواب يقتضي تقديم مقدمه.

وهي : انه في المركبات قد تقدم أن المادة موضوعة بوضع خاص والهيئة موضوعة أيضا كذلك ، ولم يوضع كل مركب بوضع خاص ، مثلا : رجلان وضع المادة للطبيعة الخاصة ، والهيئة لإفادة فردين من مدخولها ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك.

وعليه فإذا استعملت التثنية في فردين من طبيعتين لا يخلو الأمر من أمرين :

إما بإرادتهما من المادة وتكون الهيئة أي الألف والنون ، قرينة على إرادة ذلك فهذا مجاز على هذا القول فان المادة استعملت في معنيين فهو كاستعمال المفرد ، بل هو هو ، مع انه خلاف وضع الأداة.

وإما بان يراد من المدخول فردا ومن الهيئة فردا آخر وهو أيضا بيِّن الفساد وحينئذٍ ، فلا محيص عن استعمال المادة في الطبيعة الموضوعة لها ، والألف والنون في إرادة فردين منها ، وعليه فلا يمكن إرادة فردين من طبيعتين بنحو الحقيقة.

٢٣٤

وأما ما في الكفاية (١) من أن التثنية والجمع ، إنما هما بتأويل المفرد إلى المسمّى به.

ففيه أن مفهوم المسمّى به ليس موضوعا له ، ومصداقه هو الموجود الخارجي.

فالصحيح أن يقال أن اللفظ فيهما إنما يستعمل في اللفظ الفاني في المعنى وهو الذي يثنى أو يجمع.

وبما ذكرناه ظهر مدرك القول بامتناع الاستعمال في المفرد وجوازه في التثنية والجمع ، والجواب عنه.

الثالث : انه ممكن وحقيقة في المفرد وغيره وستعرف ما في هذا القول عند بيان المختار.

وهو أن استعمال المفرد في أكثر من معنى ممكن وحقيقة.

أما الأول : فلما مرَّ من بطلان ما استدل به على عدم الإمكان ، وان شئت جعلت النظر في المقام إلى المسببات التوليدية حيث انه لا محذور في تولد مسببين من سبب كإكرام زيد وإهانة عمرو الناشئين من قيام واحد أو حركة خاصة مع القصد إليهما فيكون استعمال اللفظ في أكثر من معنى كذلك.

وأما الثاني : فلان الاستعمال في كل منهما استعمال فيما وضع له فيكون حقيقة.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٧ (ثم لو تنزلنا)

٢٣٥

وأما التثنية والجمع فاستعمالهما في فردين ، أو أفراد ، من طبيعتين أو طبائع قد مر انه لا يصح ، وأما استعمالهما في فردين أو أفراد من طبيعتين أو طبائع ، بان يراد من كل طبيعة فردان ، أو أفراد ، وان كان ممكنا عقلا باستعمال الهيئة فيما وضعت له والمادة في معنيين أو أكثر ، إلا أنه لا يبعد دعوى وضع الهيئة فيهما للدلالة على إرادة المتعدد من أفراد طبيعة واحدة.

فتدبر فان هذه الدعوى قابلة للمنع.

بقي الكلام في ثمرة هذا البحث

وهي انه لو قلنا بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على نحو الحقيقة ، فإن تردد الأمر بينه وبين استعماله في معنى خاص ، فقد يدَّعى الظهور العرفي في إرادة الواحد ، وقيل هذا العرف والعقلاء ببابك ، فاختبر ذلك منهم فيما لو أمر المولى العرفي عبده بإتيان ما له معان متعددة كالعين ، فإنهم لا يحكمون بلزوم إتيان جميع معانيه.

فلو تمت هذه الدعوى ، وإلا فمقتضى الإطلاق الحكم بإرادة الجميع.

ولو دار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين ، أو جميعهما بنحو التعدد في الاستعمال ، فلا بد من الحمل على إرادة المعنيين بالنحو الثاني ، إذ الاستعمال على الأول مجاز دون الثاني ، وأصالة الحقيقة تُثبت الثاني.

وأما لو قلنا بعدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى ، فسواء تردد الأمر بينه وبين إرادة أحد المعنيين ، أو مجموعهما لا سبيل إلى الالتزام به كما هو

٢٣٦

واضح ، وأما إن قلنا بأنه ممكن ، ولكنه مجاز فان دار الأمر بين إرادتهما ذلك ، أو أحدهما يحمل على الثاني لأصالة الحقيقة ، وان دار بين إرادتهما كذلك ، أو إرادة مجموع المعنيين فحيث أن كلا منهما مجاز فلا اصل يعيِّن أحدهما فلا بد من الانتهاء إلى الأصول العملية.

ثم انه قال المحقق الخراساني (ره) بعد ما منع عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد : وهم ودفع لعلك تتوهم أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه ، ولكنك غفلت عن انه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ فلعلها كانت بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها (١) انتهى.

ويرد على ما أفاده : أن إرادة المعنى ، بمعنى تصوره حين استعمال اللفظ في غيره ، لا توجب كون ذلك المتصور بطنا للقرآن ومعنى له بل كانت شيئا أجنبيا عنه أريدت حال التكلم بألفاظه ، مع أن ذلك لا يوجب عظمة القرآن على غيره وفضيلته على سائر المحاورات لامكان أن يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ غير القرآن بل بالمهملات.

نعم ما أفاده ثانيا من كون المراد بالبطون لوازم معناه وملزوماته التي لم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨.

٢٣٧

تصل إلى إدراكها أفهامنا القاصرة ، تام.

ومن المحتمل أن يكون المراد من هذه الأخبار انه لألفاظ القرآن معان جامعة بين ما نفهمه ونراه ظاهرا ، وبين غيره ونظيره فيما نفهمه لفظ الميزان ، حيث أن معناه الظاهر عندنا أحد مصاديق معناه الجامع ، والمصداق الآخر ، إمام المتقين عليه‌السلام.

* * *

٢٣٨

المشتق

الأمر السادس عشر : في المشتق ، لا إشكال ولا كلام في انه يصح إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا ، وعلى من انقضى عنه المبدأ ، وعلى من سيتلبس به في المستقبل.

ولا خلاف في أن إطلاقه على المتلبس بالمبدإ فعلا إطلاق حقيقي ويكون المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ به في الحال ، كما لا خلاف في أن إطلاقه على من سيتلبس بالمبدإ في المستقبل إطلاق مجازى ، ويكون مجازا فيه.

وإنما الخلاف في أن إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة؟

فان قلنا بوضع المشتق لخصوص المتلبس فيكون مجازا فيه.

وان قلنا بوضعه للأعم فيكون إطلاقه عليه حقيقة.

وذهب إلى كل من القولين جماعة.

وقبل تحقيق الحال في المقام ينبغي تقديم أمور :

أحدها : أن المعاني على أقسام :

منها : ما هو متأصل في الوجود ويوجد في الخارج لا في الموضوع وهي الذي يعبر عنه بالجوهر كالإنسان.

ومنها : ما له ما بإزاء في عالم العين إلا انه لا بد وان يتحقق في الموضوع ، وهو

٢٣٩

الذي يعبر عنه بالعرض كالبياض.

ومنها : ما يتحقق في عالم الاعتبار ، وهو الأمر الاعتباري كالملكية والزوجية.

ومنها : ما ليس له ما بإزاء في الخارج ، لا في عالم العين ، ولا في عالم الاعتبار ، وإنما يكون منتزعا من الذات أو بلحاظ ذاته كالإمكان أو من جهة مقايسته بشيء آخر كالفوقية ، وهو الأمر الانتزاعي.

ومنها : النسب المتحققة بين أحد الأقسام الأخيرة والقسم الأول ، وهي المعاني الحرفية على التفصيل المتقدم.

وبازاء هذه الطوائف الخمس من الألفاظ موضوعة لها وكل هذه الأقسام خارجة عن محل الكلام كما لا يخفى وجهه.

وهناك طائفتان أخريان من الألفاظ موضوعتان للمركب من الذات والصفة والنسبة.

الأولى : ما وضعت للذات المتصفة بإحدى تلك الصفات الذاتية والحقيقة والاعتبارية والانتزاعية بقسميها.

والثانية : ما وضعت للأحداث المنتسبة إلى الذات لا المصادر والأفعال ، ومحل الكلام هي الطائفة الأولى ، ومحصل البحث أن الذات إذا اتصفت بإحدى تلك الصفات وعرت عنها بعد ذلك هل يصح حمل المشتق عليها أم لا؟

وهذه الطائفة على أقسام :

الأول : ما يحمل على جزء الذات المتصف بالجزء الآخر كالناطق.

٢٤٠