زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

ومنها : ما ذكره غير واحد ، وهو استعمال الصلاة ، وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة ، وحيث انه بلا قرينة فيكون علامة الحقيقة.

وهذا الوجه بعد تصحيحه بإطلاق الصلاة وغيرها على الفاسدة ، إذ الأعمّي يدّعي الوضع للجامع بين الصحيحة والفاسدة لا لخصوص الفاسدة ، ومعلوم أن استعمال اللفظ الموضوع للجامع في نوع منه مجاز.

متين لا إيراد عليه ، فان اغلب هذه الأخبار واردة في النواقض والمبطلات وهي كثيرة ، والالتزام بان جميع تلك الاستعمالات من قبيل المجاز ومع القرينة الحالية بعيد. غاية الأمر أنها آية لكون الموضوع له هو الجامع.

وبذلك يندفع الإيراد عليه بان الاستعمال اعم من الحقيقة.

ومنها : قوله عليه الصلاة والسلام." بنى الإسلام على الخمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية ، فاخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة" (١) فان الأخذ بالأربع لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية إلا إذا كانت أسامٍ للأعم.

وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين (٢) :

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٨ باب دعائم الإسلام ح ٥ ، المحاسن ج ١ ص ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، والبحار عن الكافي ج ٦٥ ص ٣٣٢ ح ١٠ ، وقد نقل المصنف منه محل الحاجة.

(٢) كفاية الأصول ص ٣١.

٢٠١

أحدهما : أن المراد هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بنى عليها الإسلام.

وفيه : أن موضع الاستدلال قوله" فأخذ الناس بالأربع" وتقريب الاستدلال به انه (ع) استعمل الأربع وهي الصلاة وإخوتها المذكورة في الصدر في الفاسدة.

ثانيهما : انه لعل أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة ، وذلك لا يمقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم.

وفيه : انه لا يصح استناد فعل إلى شخص مع عدم استناده إليه حتى لو كان نفسه معتقدا ذلك ، مثلا : لو كان شخص معتقدا انه اعلم الناس وكان الشخص الآخر عالما بخلافه ، لا يصح له أن يقول انه اعلم الناس ، وهكذا سائر الأفعال فلو لم تكن ما فعلوها تلك العبادات لما صح استنادها إليهم.

وأجيب عنه بوجهين آخرين.

أحدهما : أن الاستعمال اعم من الحقيقة ، وقد تقدم الكلام في ذلك.

ثانيهما : أن لفظة الأربع في الخبر لم تستعمل في ألفاظ تلك العبادات ، وهي في معانيها ، بل استعملت هي ابتداء في معانيها ، وعليه فلم تستعمل ألفاظ الصلاة ، والصوم ، وأخواتهما ، في الفاسدة كي يستدل بها.

وفيه : أن لفظة الأربع استعملت في معاني تلك الألفاظ لا في غيرها ، أي الأعمال التي تشبهها فيستكشف من ذلك أن معانيها اعم من الصحيحة والفاسدة إذ المفروض فسادها في الفرض.

٢٠٢

فالصحيح أن يجاب عنه : أن لفظة" الأربع" إن كانت مصدَّرة بالألف واللام كانت تدل على ذلك ، فإنها حينئذ تكون إشارة إلى ما ذكرت في الصدر وهي الصلاة وأخواتها ، وان لم تكن مصدّرة بهما ، لم تكن إشارة إلى ما ذكر في الصدر ، بل مفاد الخبر حينئذ أخذ الناس بأربعة أشياء غير معينة ، القابلة لان يراد بها تلك الحقائق التي بُني الإسلام عليها ، أو حقائق تشبهها ولا يدل الخبر على شيء منهما فلا يدل على المدّعى ، وحيث أن النسخ مختلفة فلا يصح الاستدلال بتلك الأخبار.

فان قيل : انه يمكن أن يستدل له بما في ذيل تلكم الأخبار من قولهم عليهم‌السلام ، فلو أن أحدا صام نهاره .. الخ. فانه استعمل ألفاظ العبادات في الفاسدة.

توجه عليه : أن الاستعمال أعم من الحقيقة ، فلا يرجع إليها لتشخيص الموضوع له بعد معلومية المراد ، هذا بناء على أن المراد من عدم القبول الفساد ، وإلا فلا يصح الاستدلال بهذه الرواية على كل تقدير.

ومنها قوله (ع): " دعي الصلاة أيام أقرائك" (١) ضرورة انه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (٢) بان النهي في هذا الخبر للإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة وإلا كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة بل بما

__________________

(١) الكافي ج ٣ باب جامع في الحائض والمستحاضة ص ٨٣ و ٨٨ ح ١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣١.

٢٠٣

يسمى في العرف بها ولو أخل بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا وان لم تقصد به القربة ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية.

وقد أورد عليه بعض الأكابر من المحققين : بأنه كما يعتبر في صحة النهي المولوي كون متعلقه مقدورا كذلك يعتبر القدرة في متعلق النهي الإرشادي إذ الإرشاد إلى ترك المنهي عنه يستدعي قابليته لان ينهى عنه (١).

وفيه : انه لا يعتبر القدرة في متعلق النهي الإرشادي ، بل ربما يكون النهي إرشادا إلى عدم القدرة على ما تعلق به ، وذلك فيما إذا لم يكن عدم القدرة على المنهي عنه مما يعلمه من توجه إليه الخطاب ، وذلك واقع في المحاورات العرفية ألا ترى انه لو لم يعلم الإنسان عدم قدرته على المشي إلى السوق لمانع

__________________

(١) الظاهر أنه لمعاصره المحقق الرشتي في بدائع الأفكار ص ١٥٠ (الكلام في أدلة مذهب الأعم) عند قوله : «قلت وهذان الجوابان ممّا لا كرامة فيهما في المقام ، أمّا الأوّل فلأنّ النّهي الإرشادي أيضا يستدعي محلّا قابلا كالنّهي الشرعي إذ الإرشاد إنشاء من المرشد متعلّق بترك المنهيّ عنه ولذا يقبح أن يقال للأعمى لا تبصر ولو على وجه الإرشاد وإن أريد بالإرشاد النّهي الغيري فمع منافاته لظاهر التنظير بالنواهي الواردة في أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ممّا لاوجه له أيضا في المقام لأنّ نهي الحائض عن الصّلاة مثلا ليس نهيا مقدميا للتوصّل إلى الغير وما أكثر اشتباه الحال عليه رحمه‌الله واختلاط المقامات نعم لو حمل النّهي على صرف الإخبار وكان معنى قوله لا تصل أنّ صلاتك فاسدة ثمّ ما ذكره فيستقيم حمل الصّلاة المنهي عنها على الصّحيحة ولكنّك خبير بأن مجيء النّهي للإخبار أمر منكر لم يوجد له شاهد إلى الآن في كلام متكلّم فضلا عن فصيح أو حكيم.

٢٠٤

في الطريق يصح لغيره أن ينهاه عن ذلك ويكون هذا النهي إرشادا إلى عدم القدرة.

وعلى ذلك فلو سلّم ظهور النهي المتعلق بالعبادة في حال كالحيض أو مع شيء في كونه إرشادا إلى مانعية تلك الحالة أو ذاك الشيء يتم جواب المحقق الخراساني إذ حينئذ كما يمكن أن يكون النهي إرشادا إلى مانعيتها عن المأمور به ، يمكن أن يكون إرشادا إلى مانعيتها عن تحقق المسمّى ، وعدم القدرة على المسمّى في تلك الحالة.

والمحقق الخراساني يدّعي أن المستفاد من فتوى الأصحاب بعدم حرمة ما يسمّى بالصلاة مطلقا بل يعتبر في الحرام جميع ما هو يعتبر في الصلاة ما عدى الطهارة من حدث الحيض ، ان النهي عن الصلاة أيام الحيض إرشادي إلى عدم القدرة على الصلاة الصحيحة. فيتم جوابه.

ومنها : أنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها وهذه علامة الوضع للأعم ، وهذا الوجه ينحل إلى أمرين :

أحدهما : أن انعقاد النذر يتوقف على القدرة على المنذور في ظرفه كما هو شرط في صحة كل تكليف.

وعليه : فان كانت الصلاة موضوعة للأعم يصح نذر من نذر أن لا يصلي في الحمام مثلا للقدرة عليها في ظرفها ، وان كانت موضوعة للصحيحة لا ينعقد لعدم القدرة على الصلاة الصحيحة على فرض انعقاد النذر الموجب لفساد الصلاة ، بل هو موجب للمحال فانه يلزم من وجوده عدمه ، وحيث أن الفقهاء

٢٠٥

أطبقوا على صحة هذا النذر فيستكشف من ذلك وضعها للأعم.

ثانيهما : أن الحنث لا يحصل بإتيان الصلاة الفاسدة على فرض كونها موضوعة للصحيحة ، فالصلاة في تلك الموضع إذا نذر تركها بما أنها فاسدة على الفرض لا يحصل بها الحنث ، وإذا لم يحصل به الحنث صحت ، وعلى فرض الصحة يحصل بها الحنث ، وما يلزم من وجوده عدمه ، محال.

والجواب عن هذا الاستدلال هو ما ذكرناه في أول هذا المبحث من المراد من الوضع للصحيح هو الوضع للصحيح من غير ناحية الأمر أو النهي المتعلق به بعناوين أخرى فراجع ، فالصلاة صحيحة بهذا المعنى حتى مع انعقاد النذر وفساد الصلاة.

مع انه يمكن أن يقال إن متعلق النذر إن كان ترك الصلاة في تلك المواضع فلا ينعقد هذا النذر بناءً على ما هو المسلّم عندهم من اعتبار رجحان المنذور ، فان ترك الصلاة لا رجحان فيه ، إذ فعله أرجح كما سيأتي في العبادات المكروهة ، فصحة النذر بترك الصلاة في المكان الذي يكره الصلاة فيه تتوقف على أن يكون المنذور ترك الخصوصية أي إيقاع الصلاة في ذلك المكان ، وعليه فيسقط هذا الدليل رأسا كما لا يخفى. هذا كله في العبادات.

المقام الثاني في المعاملات

وتنقيح القول فيه بالبحث في موضعين :

الأول : في أن ألفاظ المعاملات كلفظ البيع ، والصلح ، والإجارة وما شاكل ،

٢٠٦

هل هي أسامٍ للصحيحة أو الأعم؟

الثاني : في التمسك بإطلاقات أدلة الإمضاء عند الشك في اعتبار شيء فيها.

أما الأول : فقد نص الشهيد الثاني في كتاب اليمين من المسالك على أن عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح (١) وتبعه غيره (٢).

وقد ذهب جملة من المحققين منهم المحقق الخراساني ، إلى أن أسام المعاملات إن كانت موضوعة للمسببات ، فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم : لعدم اتصافها بهما ، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، وأما إن كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال (٣).

ثم إن المحقق الخراساني نفى البعد عن كونها موضوعة للصحيحة أيضا (٤).

وقد يوجه ما أفاده من عدم جريان النزاع على القول بالوضع للمسببات بان للصحة معنيين :

أحدهما : ترتب الأثر على الشيء في مقابل ما لا يترتب عليه الأثر.

__________________

(١) راجع مسالك الأفهام ج ١١ ص ٢٦٣ قال : «عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد لوجود خواص الحقيقة والمجاز فيهما». واستدل لذلك بالتبادر وعدم صحة السلب .. الخ.

(٢) كصاحب تتمة الحدائق الناضرة ج ٢ ص ٢٢٧ ،

(٣) كفاية الأصول ص ٣٢.

(٤) كفاية الأصول ص ٣٣.

٢٠٧

ثانيهما : استجماع الشيء لجميع الأجزاء والشرائط ، والمسبب في المعاملات لا يتصف بشيء منهما.

أما الأول فلأنه لا يكون مؤثرا في أمر ، بل هو نفسه اثر.

وأما الثاني فلأنه بسيط من جميع الجهات وليس له أجزاء وشرائط فهو إنما يتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، لا بالصحة والفساد.

وقد أورد على القول بأنه لا مجال للنزاع على القول بالوضع للمسببات بإيراد.

وعلى القول بأنها موضوعة للصحيحة بإيرادين :

أما الأول : فأورد المحقق العراقي (١) على ما أفيد بان المسبب إن كان أمرا واقعيا متحققا عند تحقق بعض أسبابه ، ويكون نهي الشارع عنه تخطئة للعرف فيما يراه سببا كان ما ذكر تاما.

وأما إن كان أمرا واقعيا متحققا بنحوين من الأسباب والشارع اشترط في ثبوت أحكامه أن يتحقق بسبب خاص ، أو كان هو بنظر العرف والشرع اعتباريا وشيئا واحدا إلا أن مصاديقه تختلف باختلاف الاعتبار ، فللنزاع في أن أسام المعاملات مع وضعها للمسببات موضوعة للصحيحة أو الأعم مجال ، إذ الصحيحي يدّعي وضعها للمعاملات التي يترتب عليها أثارها وأحكامها إما للاشتراط أو للاختلاف في الاعتبار ، والأعمّي يدّعي وضعها للمسببات ترتب

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ١ ص ٩٧ (الكلام في ألفاظ المعاملات).

٢٠٨

عليها الآثار أم لا؟

وأما ما أورد على القول بوضعها للصحيحة فأمران :

أحدهما : أن لازم ذلك الالتزام بالحقيقة الشرعية في المعاملات مع انه بالبداهة ليس كذلك ، كيف وقد كان الشارع الأقدس يستعمل أساميها فيما كان يستعملها فيه أهل العرف ولم يصرح في مورد يكون مراده غير ما يفهمه العرف.

ثانيهما : أن لازم ذلك عدم جواز التمسك بإطلاقات أدلة العقود لنفي ما يشك في اعتباره فيها لإجمال المعاني حينئذ مع أن سيرة علماء الإسلام على التمسك بها في هذه المقامات.

وأجاب الشيخ الأعظم (١) عن الإيراد الأول على وضعها للصحيحة : بان البيع مثلا إذا استعمل في المسبب لا يستعمل إلا فيما هو مؤثر وصحيح ولو في نظرهم ، ثم إذا كان مؤثرا عند الشارع كان بيعا عنده وإلا كان صورة بيع ، فالموضوع له هو الصحيح المفيد للأثر ، ولا اختلاف في هذا المفهوم بين العرف والشرع ، وإنما الاختلاف في المصداق.

فان أهل العرف يرون بعض البيوع مفيدا مؤثرا والشارع لا يراه كذلك ، وان شئت قلت : إن أهل العرف ربما يعتقدون وجود المصلحة فيعتبرون الملكية عند البيع الخاص ، والشارع المقدّس يخطئهم في ذلك فالتخطئة إنما تكون في

__________________

(١) المكاسب المحرمة كتاب البيع ص ٨٠ ـ ٨١.

٢٠٩

منشأ الاعتبار.

وأجاب عن الإيراد الثاني (١) بان البيع مثلا وان كان موضوعا للصحيح المؤثر ، إلا أن المخاطب بالخطابات الشرعية بما انه أهل العرف فيحمل دليل إمضاء البيع على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف ، ولو كان مراده خلاف ما عليه العرف ، لزم عليه نصب القرينة فمع عدمه يكون الموضوع هو البيع الصحيح عند العرف.

وتنقيح القول في المقام بالبحث.

أولا : في انه إذا كانت أسام المعاملات أسام للمسببات هل يصح النزاع في أنها أسامٍ للصحيحة أو الأعم أم لا؟

وثانيا : في أنها أسامٍ للأعم أو الصحيحة.

وأما مسألة التمسك بالإطلاق فسيأتي البحث فيه مفصلا في الموضع الثاني.

أما الجهة الأولى : فملخص القول فيها أن الصحة والفساد لا يتصف بهما إلا الموجود الخارجي : لان الاتصاف بهما إنما يكون بلحاظ انطباقه على ما اخذ طرفا للحكم أو الاعتبار الشرعي وعدمه ، وعليه فالمسببات أيضا تتصف بهما ، وذلك لأنه في باب المعاملات كالبيع ، أمور أربعة :

١ ـ اعتبار المتعاملين الملكية.

__________________

(١) وهو ظاهر كلامه في مطارح الانظار ص ٥ ، بتصرف.

٢١٠

٢ ـ اعتبار العقلاء وإمضائهم لذلك ، فإنهم ربما يعتبرون الملكية لمن اعتبرها المتعاملان ، وربما لا يعتبرونها كمعاملة السفيه.

٣ ـ اعتبار الشارع إياها ، فانه أيضا قد يمضى ما أمضاه العقلاء وقد لا يمضى.

٤ ـ إظهار ذلك الأمر النفساني بمظهر خارجي.

أما الاعتبار القائم بالعقلاء والاعتبار الشرعي ، فلم يوضع البيع مثلا لهما ، لأنه وسائر أسام المعاملات أسماء لأفعال المتعاملين ، ولا يطلق على العقلاء ولا على الشارع الأقدس عنوان البائع ، فعلى فرض كونه اسما للمسبب لا محيص عن كونه موضوعا للاعتبار القائم بالبائع ، وحيث أن الشارع الأقدس لم يعتبر الملكية في كل مورد اعتبر المتعاملان الملكية ، بل في بعض مواردها كما إذا كان مظهرا بمظهر خارجي ، من لفظ أو غيره ، وكان المعتبر غير محجور عليه ، وغير ذلك من الخصوصيات ، فكل اعتبار شخصي خارجي ، إن كان منطبقا على ما هو موضوع للاعتبار الشرعي وطرفا له ، فهو صحيح وإلا فهو فاسد ، فالمعاملات وان كانت أساميها أسامٍ للمسببات فهي تتصف بالصحة والفساد ، وان كانت أسامٍ للأسباب فالأمر أوضح.

وقد حقق في محله أنها أسامٍ للمسببات.

وأما الجهة الثانية : فالظاهر أنها موضوعة للأعم لا لخصوص الصحيحة بالمعنى المتقدم : لما عرفت من أن الصحة إنما تنتزع من مطابقة المأتي به لما هو طرف الاعتبار ، فهي متأخرة عن الإمضاء فكيف يمكن أخذها في المرتبة السابقة عليه فتدبر.

٢١١

فانه يمكن أن يقال بوضعها للحصص الخاصة الملازمة للإمضاء الشرعي.

مع أن المعاملات أمور عرفية أمضاها الشارع المقدّس ، وضروري انه لم يتصرف في وضعها ، ولم يستعملها في غير ما وضعت تلك الألفاظ له في العرف ، بل استعملها في معانيها ، غاية الأمر اعتبر في إمضائها قيودا.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

نعم دعوى وضعها لخصوص الصحيحة عند العرف أي الممضاة عند العرف والعقلاء ممكنة ، لكنها خلاف الظاهر أيضا.

جواز التمسك بالإطلاق في المعاملات

وأما الموضع الثاني : فالمشهور جواز التمسك بالإطلاق في المعاملات على كلا القولين (١) ، ولا يختص الجواز باختيار القول بالأعم.

وربما يقال انه بناء على كون أسام المعاملات أسام للمسببات ، لا يجوز التمسك على القولين سواء كانت موضوعة للصحيحة أم للأعم ، أما على الأول فواضح ، وأما على الثاني : فلان دليل الإمضاء إنما يدل على إمضاء المسببات ، ولا يدل على إمضاء الأسباب العرفية إذ السبب والمسبب موجودان متغايران لا ربط لإمضاء أحدهما بإمضاء الآخر.

__________________

(١) كما في المحاضرات نسبة إلى المشهور ج ١ ص ١٨٤.

٢١٢

وأجاب عن ذلك الأستاذ الأعظم (١) ، بان هذا لو تم فإنما هو على مسلك القوم من كون نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى المسببات.

وأما بناء على ما هو الحق من كون الصيغ مظهرة للأمور الاعتبارية ، فلا يتم ذلك : فان مقتضى إطلاق دليل الإمضاء إمضاء تلك الاعتبارات بأي نحو أظهرت.

وفيه : أن هذا الإشكال على هذا المسلك أولى بالورود : إذ أن الاعتبار القائم بالمتعاقدين ـ ما لم يظهر بمظهر لا يترتب عليه الأثر عند العرف والشارع ـ مما لا ريب فيه ، فإذا شك في ترتب الآثار شرعا إذا ابرز بمظهر خاص كالعقد الفارسي لا يمكن التمسك بالإطلاق الأفرادي لدليل إمضاء ذلك الأمر النفساني لرفع هذا الشك والالتزام بترتبها.

فالصحيح أن يقال ، بناء على مسلك المشهور مقتضى إطلاق دليل المسبب الأفرادي إمضاء كل فرد من أفراد المسبب في نظر المتعاقدين ، ولازمه إمضاء كل سبب يتسبب به إليه ، وإلا كان إطلاق دليل المسبب مقيدا بغير ما حصل من ذلك السبب الذي يشك في إمضائه.

وأما بناء على المسلك الحق فلا يصح التمسك بالإطلاق الأفرادي لما تقدم لكنه يمكن التمسك بالإطلاق الاحوالي.

توضيح ذلك : أن أدلة إمضاء المعاملات ـ مثل احل الله البيع ، كما أن لكل

__________________

(١) راجع محاضرات في الأصول ج ١ ص ١٩٢ ـ ١٩٣ (النتيجة).

٢١٣

واحد منها إطلاقا أفراديا فيدل على إمضاء كل فرد من أفراد البيع مثلا ، كذلك له إطلاق أحوالي. فمقتضى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١). إمضاء كل فرد من أفراد البيع في جميع حالاته أي سواء ابرز بالفارسية أو بالعربية أو بغيرهما ، ولازم ذلك إمضاء كل مظهر.

وقد أجاب المحقق النائيني (ره) (٢) عن الإشكال بان نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات حتى يكونا موجودين خارجيين فيرد المحذور المذكور ، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والإرادة متعلقة بنفس المعاملة ابتداء ، فليس هناك موجودان حتى لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل الموجود واحد غاية الأمر انه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده بنوع خاص يستكشف عمومه لجيمع الأنواع.

وفيه : مضافا إلى ضعف المبنى كما حققناه في مبحث الإنشاء والإخبار (٣) ، إن وجود الآلة مغاير مع وجود ذي الآلة كما يشهد له الوجدان والضرورة ، والإرادة وان تعلقت حين البيع بذي الآلة ابتداء وبالآلة تتعلق تبعا ، إلا انه في مقام الجعل لا بد من لحاظ الآلة مستقلا كي يرى صلاحية كل آلة أو آلة خاصة ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٥٠ (المقام الثاني في المعاملات) ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٣) زبدة الأصول ج ١ ص ٤٦ من الطبعة الاولى.

٢١٤

وعليه : فإذا كان الإطلاق مسوقا لبيان ذي الآلة لا الآلة لا يصح الاستدلال بالإطلاق لصلاحية كل آلة لذلك إلا بالنحو الذي قربناه ، وعليه : فلا فرق بين كونها من قبيل الأسباب والمسببات ، أم من قبيل الآلة وذي الآلة.

هذا كله بناء على وضعها للمسببات.

وأما بناء على وضعها للأسباب أي المظهر لتلك الاعتبارات النفسانية فالتمسك بالإطلاق لإمضاء كل مظهر أو سبب أو آلة على اختلاف المسالك أوضح من أن يبين.

ثم لو أغمضنا عن ما ذكرناه وبنينا على دخل شيء آخر غير الاعتبار القائم بالمتعاقدين في المعاملات وانه لا تصدق أسمائها بمجرد تلك الاعتبارات ، فلا يخلو الأمر من أمور :

١ ـ اعتبار إمضاء العقلاء والعرف ، بمعنى أن كل معاملة واقعة بين المتعاملين ممضاة عند العقلاء فهي بيع أو معاملة أخرى ، وإلا فلا.

٢ ـ اعتبار إمضاء الشارع فيها.

٣ ـ اعتبار وجود المصلحة والمناسبة الواقعية ، فالتمليك بعوض إن كان عن المصلحة والمناسبة الواقعية فهو بيع وهكذا سائر المعاملات ، وإلا فلا.

٤ ـ أن يكون البيع مثلا موضوعا لأمر واقعي ، ويكون نظر العرف والشرع طريقا إليه ، وعليه فيكون النهي تخطئة للعرف في المصداق.

فلو كان المعتبر هو الأمر الأول ، لو شك في دخالة شيء في إمضاء العرف والعقلاء لا يصح التمسك بالإطلاق.

٢١٥

وأما لو أحرز ذلك وشك في دخالته في الإمضاء الشرعي يتمسك بالإطلاق لنفيه.

ولو كان هو الثاني لا يصح التمسك بالإطلاق اللفظي إذ كل ما شك في دخالته في الإمضاء الشرعي يحتمل دخالته في المسمّى فمع عدمه لا يحرز صدق المسمّى ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق.

نعم ، يمكن التمسك بالإطلاق المقامي بتقريب أن الدليل إذا كان في مقام البيان ، ولم يبين فيه اختلاف الشارع ، والعقلاء في البيع ، فلا محالة يستكشف ، أن كل بيع عرفي بيع شرعي ، وإلا لزم الإجمال ونقض الغرض فتأمل.

فإن ذلك يتم إذا لم يكن هناك قدر متيقن ، ودار الأمر بين أمور متباينة ، وأما إذا كان فرد متيقن ، كما هو متحقق في المعاملات الرائجة ، فلا يتم ذلك ، فانه يمكن أن يعتمد الشارع المقدّس عليه.

وبما ذكرناه ظهر أن مراد صاحب الكفاية (قدِّس سره) (١) حيث أفاد تبعا للمشهور من صحة التمسك بالإطلاق في المعاملات وان كانت موضوعة للصحيح ، لا بد وان يكون أحد أمرين ، إما انه يصح التمسك بالإطلاق الكلامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر العرف ، أو انه يتمسك بالإطلاق المقامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر الشرع.

ولو كانت المعاملات أسماء للأمور الواقعية ، ونظر العرف والشرع طريق

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٣ (الثاني).

٢١٦

إليها ، أو كانت أسماء للاعتبارات ولكن مقيدة بما إذا كانت عن المصالح والمناسبات الواقعية ، يمكن التمسك بالإطلاق لنفي ما شك في اعتباره شرعا ، بتقريب : انه بما أن للشارع المقدّس جهتين :

الأولى : كونه مشرعا وجاعلا للأحكام.

الثانية : كونه من العرف والعقلاء ، بل هو رئيسهم ، فإذا ، قال احل الله البيع ، ولم يعين البيع الشرعي لا محالة يحمل على إرادة إمضاء البيع العرفي ، كما هو الشأن في جميع المفاهيم الواقعة في الأدلة الشرعية ، وعليه فيتمسك بالإطلاق لنفي ما شك في اعتباره شرعا.

فتحصل مما ذكرناه انه يصح التمسك بالإطلاق على جميع الوجوه والأقوال ، إلا بناءً على كونها موضوعة للصحيح عند الشارع.

ومع عدم الإطلاق لا بد من الرجوع إلى أصالة الفساد أي عدم تحقق ذلك الأمر الاعتباري ، لو شك في دخالة شيء في تحققه ، من غير فرق بين الوضع للصحيح ، أو للأعم.

أقسام دخل الشيء في المأمور به

بقي أمر وهو انه قسّم جماعة ، ما يكون دخيلا في المأمور به وجودا أو عدما ، إلى قسمين :

ما يعتبر في حقيقة المأمور به وماهيته.

٢١٧

وما يعتبر في تشخصه وتحققه ، وقالوا ، انه كما يكون لما يعتبر في المركب الحقيقي قسمان : ما يعتبر في الماهية ، وما يعتبر في الفرد. كذلك لما يعتبر في المركب الاعتباري قسمان.

وتنقيح القول في المقام يتوقف على بيان مقدمة.

وهي : أن الجزء ، والشرط ، والمانع المصطلح عليها في باب العلل والمعلولات التكوينية ، غير ما هو مصطلح في الأحكام :

فان الجزء في باب العلل ، عبارة عن بعض ما يترشح منه المعلول ، والشرط عبارة عن ما يوجب تأثير المقتضي فعلا ولايت رشح منه الأثر ، بل هو إما متمم لفاعلية الفاعل ، أو متمم لقابلية القابل ، والمانع عبارة عمّا يزاحم المقتضي في التأثير.

وأما الجزء في متعلقات الأحكام فهو عبارة عما يكون دخيلا فيه قيدا وتقيدا ، والشرط هو ما يعتبر التقيد به في المأمور به دون القيد ، والمانع عبارة عما اخذ عدمه في المأمور به ، والشرط على قسمين :

الأول : ما يعتبر في جميع الأجزاء والأكوان.

الثاني : ما يعتبر في الأجزاء خاصة.

ودعوى انه يمكن أن يقال بان المراد بها في البابين واحد بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فان الجزء هو بعض ما يؤثر في ما المصلحة ، والشرط ما يوجب تأثير الأجزاء فيها والمانع ما يزاحم تأثيرها فيها.

مندفعة بان المصالح غير معلومة عندنا كما أن كيفية ترتبها مجهولة ، والذي

٢١٨

هو معلوم عندنا ترتبها على مجموع الأجزاء والشرائط وعدم المانع ، فلا سبيل إلى الدعوى المذكورة.

ومما يؤيد ذلك عدم تسمية ما سمّي عند الفقهاء بالجزء والشرط في النصوص بهما.

وبعد بيان هذه المقدمة يقع الكلام فيما انعقد له هذا الأمر ، وهو بيان الفرق بين ما هو دخيل في الماهية ، وما يكون دخيلا في الفرد.

والكلام فيه في موردين :

المورد الأول : في المركب الحقيقي.

المورد الثاني : في المركب الاعتباري.

أما المورد الأول : فالموجود الخارجي ، كزيد له طبيعة موجودة بوجوده ، وهي في المثال طبيعة الإنسان ، المؤلفة من الجنس والفصل ومشخصات لتلك الطبيعة التي هي من لوازم وجودها في الخارج ، وعليه فما كان من الأمور التي تتألف منها الطبيعة ، كالحيوان والناطق ، يسمى بجزء الطبيعة ، وما كان من لوازم وجود الطبيعة في الخارج ، يسمى بجزء الفرد.

وأما المورد الثاني : فالمراد من الجزء للطبيعة ، والجزء للفرد ، ليس هو جزء الطبيعة والفرد بهذا المعنى ، فان المركب الاعتباري كالصلاة المركبة من مقولات متعددة ، وان كان لكل جزء منها كالتكبيرة مثلا لوازم الوجود ، إلا أن محل الكلام ثبوت الجزء لفرد هذا المركب الاعتباري بما هو مركب.

وعليه فجزء الفرد بهذا المعنى مما لا معنى معقول له ، بل المراد بهما ، جزء

٢١٩

اصل الطبيعة ، وجزء الطبيعة الفاضلة.

توضيح ذلك أن بعض الأمور يكون دخيلا في حصول الغرض الملزم كالتكبيرة بالنسبة إلى مصلحة الصلاة ، فهو جزء الطبيعة ، وبعض آخر لا يكون دخيلا في ذلك بل إنما يكون دخيلا في حصول الغرض الأكمل.

وبعبارة أخرى ما يكون دخيلا في حصول المزيّة غير لازمة التحصيل فهو جزء للفرد كالقنوت وكما أن القسم الأول قد يكون دخيلا في حصول الغرض قيدا وتقيدا ، وقد يكون دخيلا فيه تقيدا لا قيدا ، وقد يكون عدمه دخيلا كذلك ، وبهذا الاعتبار ينقسم إلى الجزء والشرط والمانع.

كذلك القسم الثاني ، فالأول كالقنوت ، والثاني كإيقاع الصلاة في المسجد ، والثالث كالصلاة في الحمام.

ثم أن دخالة القسم الأول بأقسامه في المسمّى على الصحيح أو الأعم تقدم الكلام فيها.

وأما الثاني فهو لا يكون دخيلا فيه على كلا القولين لفرض عدم دخالته في صحة العبادة.

ومقتضى القاعدة هو عدم فساد الصلاة بفساد الجزء بالمعنى الثاني : فان غاية ما يلزم منه عدم تحقق الطبيعة الفاضلة.

٢٢٠