زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

تحقيق القول في المقام يقتضى البحث في مقامين :

المقام الأول : في صحة الحمل وملخص القول فيها : ان الحمل على قسمين :

القسم الأول : حمل الاولى الذاتي ، وهو عبارة عن حمل احد المفهومين على الآخر لما بينهما من الاتحاد الماهوي لا المفهومي ، سواء كان احد المفهومين مجملا والآخر مفصلا ، كقولنا : " الانسان حيوان ناطق" أم كان كل منهما مجملا ، " كقولنا الانسان بشر".

فقد يقال ان صحة هذا الحمل علامة الحقيقة ، فلو علم المستعلم عن معنى لفظ بشر ، معنى الانسان تفصيلا ، جعله موضوعا ، وحمل عليه لفظ البشر بما له من المعنى الارتكازي في نفسه ، فإذا صح الحمل كشف ذلك عن اتحاد المعنيين وان اللفظ المشكوك وضعه لذلك المعنى موضوع له ، من غير فرق بين القسمين ، إذ كما انه يستكشف من صحة الحمل في المجملين اتحاد المعنيين ، كذلك يستكشف في المجمل والمفصل اتحاد المعنيين ذاتا وماهية ، ومجرد اختلافهما مفهوما لكون احدهما مركبا مفصلا ، والآخر بسيطا مجملا ، لا يضر باستكشاف الاتحاد.

فما عن المحقق العراقى (ره) (١) من عدم تسليم كونها علامة الحقيقة في القسم الثاني ، في غير محله.

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ج ١ ص ٦٧ ـ ٦٨ الأمر السابع في الحقيقة والمجاز عند قوله نعم هنا إشكال آخر.

١٤١

ولكن يمكن ان يقال ان غاية ما يدل عليه صحة الحمل اتحاد المعنيين ، واما كون اللفظ حقيقة في احد المعنيين فهو امر آخر غير مربوط بصحة الحمل ، وبعبارة اخرى ان هذا المعنى للفظ الذي جعل موضوعا في القضية سواء كان معناً حقيقيا للفظ ام مجازيا يصح حمل المعنى الآخر عليه ، فلا يمكن اثبات كونه حقيقة بصحة الحمل ، فليست هذه علامة الحقيقة ، وان تمسك بانسباقه إلى الذهن منه ، فهو استدلال بالتبادر ، والكلام في كون صحة الحمل بنفسها علامة للحقيقة.

القسم الثاني : حمل الشائع الصناعي وهو حمل احد المتحدين في الوجود الذهني أو الخارجي على الآخر وهو على اقسام : إذ تارة يكون حمل الطبيعي على الفرد كزيد انسان ، واخرى يكون حمل احد الكليين على الآخر مع كونهما متساويين مثل" الانسان ضاحك" ، وثالثة يكون حمل الكلى الاعم على الاخص مثل" الانسان حيوان" ، وعلى كل تقدير ، قد يكون الوجود المفروض وجودا لهما بالذات كما في حمل الطبيعي على مصداقه أو الكلى الاخص منه مع كونه جهة جامعة له ولغيره ، وقد يكون وجودا لهما بالعرض مثل" الضاحك متعجب" ، وثالثة يكون وجودا بالذات لاحدهما وبالعرض للآخر مثل" الانسان ضاحك".

اما إذا كان وجودا بالذات لهما ، فغاية ما يمكن ان يقال في وجه استكشاف الوضع منه في جميع الاقسام انه مثلا في الطبيعي والفرد إذا اراد المستعلم ان يعلم تفصيلا معنى الانسان وكان عالما بالطبيعي الذي يكون زيد احد افراده جعل ـ زيدا ـ موضوعا وحمل الانسان عليه بما له المعنى الارتكازي في نفسه ،

١٤٢

فإذا صح هذا الحمل انكشف كون معنى الانسان هو الجهة الجامعة بين زيد وغيره من افراد الحيوان الناطق ، وهكذا في المتساويين مثل" الانسان ناطق" إذا كان النظر إلى المميز لهذا النوع من غيره ، وفي الاعم والاخص ، مثل" الانسان حيوان" إذا كان النظر إلى المعنى الموجود في ضمن النوع.

ولكنه غير تام : فان ما ذكر غاية ما يستكشف منه كون المستعمل فيه كذلك لا الموضوع له ، ومع الاغماض عن ذلك وتسليم ما ذكر فانما هو فيما إذا كان وجودا لهما بالذات. واما في غير ذلك من موارد الحمل الشائع حتى في الفرد والكلى مثل" زيد ضاحك" ، فلا يمكن استكشاف الوضع به ، الا إذا رجع إليه كما في المثال ، فانه ان علم معنى الهيئة ، ولم يعلم تفصيلا معنى المادة واراد تشخيص معناها جعل الضاحك محمولا وحمله على زيد بلحاظ الصفة القائمة به ، فمن صحة الحمل وان استكشف معنى المادة الا انه من جهة ان كل ما بالعرض لا بد وان ينتهى إلى ما بالذات ، فلا محالة ينتهى الامر إلى الحمل على تلك الصفة القائمة بالجسم وهو من حمل الكلي على فرده ، وبتبعه يستكشف ان الضاحك معناه ما له تلك الصفة المسماة بالضحك ، وكذلك ان علم معنى المادة تفصيلا ، واراد ان يعلم معنى الهيئة تفصيلا وانها موضوعة لاى نحو من انحاء النسبة فانه من صحة حمل الضاحك على زيد يستكشف وضعها للنسبة الجامعة بين قيام الضحك بزيد وما ماثله.

ومما ذكرناه ظهر حكم حمل أحد العامين من وجه على الآخر ، وانما لم نذكره في العنوان لاجل انه لا يعقل كون النسبة عموما من وجه ويوجدان بوجود واحد مع كونه وجودا لهما بالذات كما لا يخفى ، هذا هو القول الفصل في

١٤٣

المقام ، ومنه يظهر ما في كلمات المحققين من الخلط والاضطراب.

المقام الثاني : في صحة السلب.

فملخص القول فيه : ان السلب ايضا على قسمين :

القسم الأول ، نفى الاتحاد الماهوي.

والقسم الثاني ، نفس الاتحاد وجودا.

اما صحة السلب بالمعنى الأول : فهى ليست امارة المجاز بقول مطلق فانها لا تدل على عدم كون المسلوب عنه من افراد المسلوب كي لا يصح إطلاقه عليه. نعم ، هي امارة المجاز بمعنى كون استعماله فيه مجازا.

واما صحة السلب بالمعنى الثاني ، فعن جماعة من الاساطين (١) كونها امارة المجاز بقول مطلق إذ لازم صحة السلب عدم الاتحاد ماهية ولا وجودا فيكون المسلوب عنه اجنبيا عن المسلوب لا معناه الحقيقي ولا فردا من افراده ، فلا يصح استعماله فيه ولا اطلاقه عليه.

ولكن : هذا انما يتم بناء على عدم اعتبار كون الموضوع متحدا مع المحمول ماهية في الحمل الشائع ، والا فلا يتم إذ صحة السلب بالمعنى المذكور على هذا المعنى ، لا تلازم تغايرهما ماهية ، فلا تكون امارة كون المسلوب اجنبيا عن المسلوب عنه.

__________________

(١) راجع نهاية النهاية في تعليقه على الكفاية ج ١ ص ٢٥ / ٢٦ بعد قوله والتفصيل إن عدم صحة السلب عنه.

١٤٤

الإطراد علامة الحقيقة

ومنها الإطراد ، وقد جعله جماعة من الاصحاب علامة للحقيقة (١) ،.

وملخص القول فيه : انه ان كان المراد منه كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص ، فهو حاصل في المجاز لانه إذا صح استعمال لفظ في معنى مرة صح استعماله فيه مرارا بعين ذلك الملاك. هذا من حيث صحة الاستعمال ، واما من حيث نفسه فربما يكون الاستعمال في المعنى المجازى كثيرا ، كما انه ربما يكون في المعنى الحقيقي قليلا لقلة الابتلاء به.

وكذلك ان كان المراد منه صدق المعنى على تمام افراده في الخارج. وبعبارة اخرى. اريد من الإطراد التكرار في التطبيق لا الاستعمال.

فانه وان توهم المحقق الأصفهاني (٢) ان ذلك يختص بالمعنى الحقيقي فانه الذي يصح استعماله في جميع موارد وجود ذلك المعنى كالانسان الذي يطلق على زيد بلحاظ كونه حيوانا ناطقا فانه يصح اطلاقه على جميع افراد الحيوان

__________________

(١) كما في هداية المسترشدين ص ٥٢ / تقريرات المجدد الشيرازي ج ١ ص ١٢٥ / بدائع الأفكار ص ٨٤.

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٥١ (الإطراد وعدمه) إلى أن قال : فإذا وجد صحة الإطلاق مطرداً باعتبار ذلك الكلي كشف من كونه من المعاني الحقيقية فنفس الإطراد دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة ... الخ.

١٤٥

الناطق بخلاف المعنى المجازى كالبدر الذي يطلق على زيد بلحاظ جماله ، فانه لا يصح اطلاقه على كل جميل حتى النخلة الجملية.

لكنه غير تام إذ صدق المعنى المستعمل فيه اللفظ على مصاديقه قهرى عقلي سواء كان الاستعمال مجازيا ام حقيقيا.

نعم يمكن اخذ خصوصية فيه لا يصدق لاجل ذلك على فاقد الخصوصية ، فان هذا يمكن في المعنى الحقيقي ايضا ، وهذا هو السر في عدم صدق البدر على الجميل غير الانسان.

وان كان المراد من كون الإطراد علامة الحقيقة انه إذا استعمل لفظ في معناه الموضوع له المردد عندنا بين معان فيه يميز الموضوع له عن غيره ـ مثلا إذا رأينا انه يطلق الانسان على زيد حقيقة ـ ولكنه لم نعرف انه من جهة قيام الضحك به ، أو كونه حيوانا ناطقا أو غير ذلك فبالاطراد ـ وكثرة اطلاقه على موارده ومصاديقه يستكشف انه موضوع للحيوان الناطق.

فيرد عليه انه يجرى في المعنى المجازى ايضا ـ مثلا إذا رأينا صدق الاسد على زيد بما له من المعنى المجازى ولم نعرف انه بلحاظ شجاعته ، أو غيرها من الصفات ، فبالاطراد يستكشف انه انما يكون بلحاظ تلك الصفة.

مع انه ربما لا يجرى في المعنى الحقيقي وهو ما لو احتمل ان يكون استعمال الانسان وإرادة زيد بلحاظ ما هو من لوازم هذا النوع كالكتابة بالقوة كما لا يخفى.

أقول : يمكن ان يكون المراد من الإطراد ، صحة استعمال اللفظ في معناه في

١٤٦

جميع موارد جعله أو فرد من افراده موضوعا على اختلاف القضايا وتعدد المحمولات ـ مثلا ـ الانسان يصح استعماله في معناه من دون فرق بين انواع المحمولات المنتسبة إليه ، وهذا بخلاف المعنى المجازي فانه لا يصح استعماله فيه وجعله موضوعا في جميع القضايا ـ مثلا إذا اردت اظهار الكراهة ممن هو في الجمال كالبدر لا يحسن ان تقول انى اكره البدر ، وجعل الإطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز بهذا المعنى لا بأس به.

وبعبارة اخرى : المراد من الإطراد هو الإطراد في التراكيب المختلفة الكلامية مع حفظ وحدة المستعمل فيه ، فان صح التعبير عنه بهذا اللفظ في أي تركيب من التراكيب المختلفة باختلاف الفعل المنسوب إليه كاستعمال لفظ الاسد في الحيوان المفترس ، فهو علامة الحقيقة ، وان لم يصح كما في لفظ الاسد في الرجل الشجاع فانه وان صح قولنا جاءني اسد ، ولا يصح تزوج اسد ، نام اسد وغيرهما من الافعال غير المناسبة لاظهار الشجاعة ، فيكون مجازا.

بقى الكلام في ثمرة هذا البحث وانه ، يترتب على هذا النزاع اثر ام لا؟

قد يقال كما عن بعض الاجلة (١) انه لا يترتب ثمرة على تشخيص المعنى الحقيقي إذ الظاهر حجة ، فان احرز ظهور اللفظ في معنى يكون ذلك حجة سواء كان ذلك معناه الحقيقي أم كان هو المعنى المجازي ، وان لم يكن ظاهرا فيه

__________________

(١) يمكن استظهار هذا المعنى في كلام السيد الأعظم الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ١٢٦ بعد قوله : تذيل

كما قد يظهر من المحقق الأصفهاني صاحب هداية المسترشدين ج ١ ص ٤٣ أيضاً.

١٤٧

فلا يفيد تشخيص كونه معنى حقيقيا إذ على أي تقدير لا يكون حجة.

وفيه : ان ثمرة ذلك بناء على كون اصالة الحقيقة من الاصول العقلائية التعبدية ظاهرة لا تخفى.

واما بناء على عدم كونها منها ودوران الحجية مدار الظهور الفعلي : فلان تشخيص المعنى الحقيقي من مقدمات انعقاد الظهور الفعلي ، فانه إذا علم ذلك واستعمل اللفظ وشك في ارادة معناه الحقيقي المحرز منه ، أو معناه المجازى من جهة احتمال وجود القرينة تجري اصالة عدم القرينة ، ويحرز بها ارادة المعنى الحقيقي ويثبت بها الظهور الفعلي.

نعم فيما إذا احرز الظهور الفعلي في معنى أو عدمه كما في اختفاف الكلام بما يصلح للقرينية لا يترتب ثمرة على تشخيص المعنى الحقيقي ، لكنه يكفي ثمرة لهذا النزاع ما ذكرناه ، وهي ثمرة مهمة مترتبة على تمييز المعاني الحقيقة عن المعاني المجازية.

تعارض الاحوال

ثم ان الاصحاب ذكروا للفظ احوالا ، التخصيص ، التقييد ، الاشتراك ، المجاز ، الاضمار.

وذكروا لتقديم كل واحد منها في صورة المعارضة وجوها.

وتنقيح القول في المقام انه ان دار الامر بين المعنى الحقيقي وغيره :

١٤٨

فان كان المراد معلوما فلا كلام إذ لا يترتب على النزاع في ان المراد هو المعنى الحقيقي أو غيره مستندا.

وان لم يكن معلوما ، فان كان احتمال ارادة غير المعنى الحقيقي مستندا إلى وجود ما يصلح للقرينة يحكم بالاجمال لعدم انعقاد الظهور معه.

وان كان مستندا إلى احتمال وجود القرينة ، فيما إذا دار الامر بينه وبين المجاز ، أو التخصيص ، والاضمار ، فيما إذا دار الامر بينه وبين الاضمار ، والنقل ، أو الوضع الثاني مع بقاء الأول ، فيما دار الامر بينه وبين الاشتراك أو النقل ، يبنى على ان المراد هو المعنى الحقيقي الأول لاصالة الحقيقة في الثلاث الأول.

وبعبارة اخرى اصالة عدم القرينة ، وعدم التقدير والاضمار توجبان الحمل على المعنى الحقيقي ، كما ان اصالة عدم النقل وعدم الوضع الثاني اللتين من الاصول التي عليها بناء العقلاء تعينان ارادة المعنى الأول.

نعم فيما ثبت النقل أو الاشتراك وشك في ان الاستعمال كان قبل ذلك أو بعده ، فيه كلام ، سيأتي تنقيح القول فيه في المسألة الآتية فانتظر.

وان دار الامر بين بعضها مع بعض آخر مع القطع بان المعنى الحقيقي الأول غير مراد ، فان كان اللفظ مع الصارف عن المعنى الحقيقي ظاهرا في احدها ، يحمل عليه لحجية الظهور ، والا فيحكم بالاجمال.

وما قيل في وجه التقديم من الوجوه الاعتبارية الاستحسانية مثل كون بعضها اقرب إلى المعنى الحقيقي ونحوه ، مما لا يعتمد عليه.

١٤٩

نعم فيما إذا كان منشأ العلم بعدم ارادة المعنى الحقيقي هو تعارض الدليلين ، لا بد من الرجوع إلى ما يقتضيه قواعد ذلك الباب من تقديم ما يكون دلالته بالعموم على غيره ، وما يكون اطلاقه شموليا وغير ذلك من القواعد المقتضية لتقديم احد الدليلين على الآخر.

* * *

١٥٠

الحقيقة الشرعية

الأمر الثالث عشر : في الحقيقة الشرعية والكلام فيها في جهات.

الجهة الاولى : في محل النزاع ، والظاهر انه اللفظ المستعمل في الماهية المخترعة من الشارع بحيث لا يعرفها اهل العرف كالصلاة وغيرها.

ويظهر من القوانين (١) اعميته من ذلك ، ومن سبب الموضوع العرفي كالبيع.

الجهة الثانية : ان الوضع التعييني كما مر في مبحث الوضع على قسمين :

١ ـ تصريح الواضع بانشائه.

٢ ـ استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له. وقد مر الاشكال في معقولية القسم الثاني ونقده.

وقد يقال : ان هذا الاستعمال أي الاستعمال بداعي الوضع لكونه بعد التعهد النفساني يكون حقيقة.

ولكن يمكن ان يوجه عليه بما تقدَّم في مبحث الإخبار والانشاء انه في

__________________

(١) ويظهر من القوانين ج ١ ص ٣٦ ، حيث قال : وأما ثبوت الحقيقة الشرعية ففيه خلاف والمشهور بينهم أن النزاع في الثبوت مطلقاً والنفي مطلقاً ، والحق كما يظهر من بعض المتأخرين التفصيل ، وتحرير محل النزاع هو أن كثيراً من الألفاظ المتداولة على لسان المتشرعة ، أعني بهم من يتشرع بشرعنا فقيهاً كان أو عامّياً صارت حقائق في المعاني الجديدة التي استمدتها من الشارع ولم يكن يعرفها أهل اللغة.

١٥١

امثال هذا الامر ، العقلاء لا يرتبون الاثر عليه ما لم يبرز ، فالتعهد النفساني وحده لا يفيد.

فما افاده المحقق الخراساني (١) من ان هذا الاستعمال ليس بحقيقة ، تام.

كما ان ما افاده من عدم كونه مجازا ، ايضا تام ، لعدم كونه في غير ما وضع له.

الجهة الثالثة : الظاهر ثبوت الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني بالمعنى الثاني.

ويمكن ان يستدل له بوجوه :

الأول : انه وان سلم عدم التصريح من الشارع بالوضع ، والا لوصل الينا لعدم كونه مما توافر الدواعي لاخفائه بل توفر الدواعي لنقله ، الا ان بناء العقلاء دليل وضعه إذ لا ريب في ثبوت بنائهم على ان كل من اخترع شيئا يسميه باسم خاص لا سيما مع كونه مورد الابتلاء ، والظاهر ان الشارع المقدّس لم يتخط عن هذه الطريقة المألوفة ، وعليه فهو ايضا وضع الفاظا لمخترعاته ، غاية الامر ، بما انه نعلم بعدم الوضع بالتصريح ، لا مناص عن الالتزام بالوضع بنحو الاستعمال.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢١ ، قال : «وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له ، بلا مراعات ما اعتبر في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز ، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره.

١٥٢

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني (١) قال ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ، ويؤيد ذلك انه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية فأيُّ علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء انتهى.

واورد عليه : بان التبادر الفعلي لا يفيد إذ ثبوت الحقيقة المتشرعية ليس محل الكلام والخلاف ، وهو لا يدل الا عليه ، واما التبادر في زمان الشارع بمعنى انسباق ذهن اهل ذلك الزمان من تلك الألفاظ المتداولة إلى المعاني الشرعية فمما لا طريق لنا إلى اثباته.

نعم لا يبعد دعوى ثبوت الحقيقة في زمان الصادقين بل قبله.

ولكن الظاهر ان مراده هو التبادر في محاورات الشارع وفي ذلك الزمان.

بتقريب ان العرب المتدينين لما سمعوا الآيات المتضمنة للامر بتلك الألفاظ :

إما انهم لم يفهموا شيئا من تلكم المفاهيم والمعاني المعروفة.

أو فهموها بالقرينة.

أو فهموها من حاق اللفظ ولا رابع ، والاولان واضحان البطلان ، فيتعين الثالث ، وهو علامة الحقيقة.

وبما ذكرنا يظهر تمامية الاستدلال له بالآيات مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) (٢) وقوله تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢١ (التاسع).

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٣.

١٥٣

بِالْحَجِ) (١) وقوله تعالى (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (٢) إلى غير ذلك فانها بضميمة ما ذكرناه في تقريب الاستدلال بالتبادر تدل على ذلك.

ولا يرد عليه ما ذكره بعضهم (٣) بقوله ، ويرد عليه : اولا : ان صلاة الامم السابقة كما نشاهد الآن ليست الا دعاء محضا ، وكذلك الحج والزكاة ، وثانيا ان غاية ما يستفاد من هذه الآيات ثبوت هذه الماهيات المخترعة في الشرائع السابقة ، ولا تدل على انها كانت مسماة بهذه الأسماء ، بل دعوى القطع بالعدم قريبة جدا ، إذ لغات الشرائع السابقة غير عربية وهذه الفاظ عربية ، مع ان قوله تعالى في الآية الاولى" كما كتب الخ" الضمير فيه يرجع إلى معنى الصوم لا إلى لفظه كي يستدل به.

الجهة الرابعة في الثمرة بين القولين :

قال جماعة منهم المحقق الخراساني (٤) بانه يظهر الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة بلا قرينة على المعاني اللغوية مع عدم الثبوت وعلى معانيها الشرعية مع الثبوت إذا علم تاريخ الاستعمال.

__________________

(١) سورة الحج الآية ٢٧.

(٢) سورة مريم الآية ٣١.

(٣) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣٤ ، ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٥٠. وهذان الإيرادان اللذين نقلهما المصنف حفظه المولى بتصرف أوردهما المحقق النائيني على الآخوند الذي اعتبر أن ثبوت الحقيقة الشرعية فرع كون هذه المعاني مستحدثة.

(٤) كفاية الأصول ص ٢٢.

١٥٤

ويرد عليه : انه لا بد من تقييد ذلك بعدم صيرورتها مجازات مشهورة في ذلك الزمان في المعاني الشرعية إذ الشهرة مانعة عن انعقاد الظهور في المعنى الحقيقي.

بل ربما توجب انعقاد الظهور في المعنى المجازى ، بل يمكن ان يدّعى انه إذا احتمل صيرورتها كذلك في زمانه (ص) لا بد من التوقف والحكم بالاجمال فيما لم يعلم تقدم الاستعمال على ذلك.

فان اصالة عدم وصولها إلى حد الشهرة إلى حين الاستعمال لو سلم جريانها ، تعارض استصحاب وصولها إلى هذا الحد بنحو القهقرى إلى حين الاستعمال فتدبر.

كما انه : يرد على ما ذكره من حملها على المعاني الشرعية على تقدير ثبوتها انه لا بد وان يقيد ذلك بما إذا نقلت تلك الألفاظ عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية.

واما إذا كان ثبوتها لا بهذا النحو بل بنحو الاشتراك فلا يتم ذلك بل يحكم بالاجمال.

ولا يبعد دعوى كونها بنحو النقل على تقدير الثبوت. هذا كله إذا علم تاريخ الاستعمال.

واما إذا جهل التاريخ : فتارة يكون زمان الاستعمال معلوما وزمان النقل مجهولا ، واخرى يكونان بالعكس ، وثالثة يكون كلا الزمانين مجهولين.

اما في الصورة الاولى : فقد يتوهم انه يحمل اللفظ على المعنى اللغوى ،

١٥٥

لاصالة عدم النقل إلى حين الاستعمال ، ولا يرد عليه ما قيل من انها ليست اصلا عقلائيا.

فانه يمكن دفعه بان بناء العقلاء على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية مع احتمال ان يكون المستعمل نقلها إلى معان اخر.

بل لان ذلك انما يتم في ما إذا لم يحرز النقل والا فمع إحرازه والشك في تقدم الاستعمال وتاخره ، يعارض هذا الاصل مع اصالة عدم النقل إلى حين الاستعمال بنحو القهقرى التي هي ايضا في نفسها من الاصول العقلائية ، إذ لا ريب في ان العقلاء إذا رأوا لفظا مستعملا في كلمات القدماء وله ظهور فعلا في معنى يحملونه عليه ، مع احتمال ان يكون الظهور الفعلي لنقله عمَّا كان موضوعا عليه حين الاستعمال ، فتتساقطان ويحكم بالاجمال.

وبذلك ظهر وجه الحكم بالاجمال في الصورتين الاخيرتين.

ولكن الذي يهون الخطب ، عدم ورود رواية متضمنة لهذه الألفاظ مع عدم القرينة على ارادة المعاني اللغوية أو الشرعية ، وهذا البحث مما لا يترتب عليه ثمرة عملية.

* * *

١٥٦

الصحيح والاعم

الامر الرابع عشر : في الصحيح والاعم.

وقد وقع الخلاف في ان الفاظ العبادات والمعاملات ، هل تكون اسام للصحيحة ، أو الاعم.

وقبل ذلك ينبغى التنبيه على جهات :

الاولى : لا شبهة في تأتى الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، واما على القول بعدم الثبوت ففيه اشكال.

وقد ذكر في وجه جريان النزاع على هذا القول وجوه :

منها : ما نقله في الكفاية (١) من ان النزاع وقع على هذا : في ان الاصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم ، بمعنى ان ايهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة اخرى معينة.

وهو غير صحيح : إذ المعنى المجازى الثاني ان كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة صح الاستعمال ، ولكنه ليس سبك المجاز من المجاز ، والا لما صح الاستعمال وان كان بينه وبين المعنى المجازى الأول مناسبة.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٣ (العاشر).

١٥٧

ثم ان كان مراد المحقق الخراساني ممن نقل عنه هذا الكلام هو الشيخ الاعظم ، فالظاهر انه لم يحرر النزاع بهذا النحو ، بل بنحو آخر.

وحاصله : ان اللفظ قد استعمل مجازا عند الصحيحي ، في الصحيح دائما لعلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، واستعماله في الفاسد انما يكون من جهة التصرف في امر عقلي وهو تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، فدائما يكون المستعمل فيه عنده الصحيحي ، إما واقعا أو ادعاء.

واما الاعمِّي فهو يدَّعي ان اللفظ دائما يستعمل في الجامع بين الصحيح والفاسد مجازا وهو الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، وإفادة خصوصية الصحة انما تكون بدال آخر.

وعلى هذا فاللفظ يحمل على الصحيح إذ استعمل في كلامه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ـ عند الصحيحي ـ ما لم ينصب قرينة على التصرف في امر عقلي ، كما انه عند الاعمي يحمل على الجامع مع عدم الدليل على خصوصية الصحة.

وبهذا التقريب يندفع ما اورده في الكفاية (١) على الشيخ من الوجهين وهما : انه لا يكاد يصح هذا إلا إذا علم ان العلاقة انما اعتبرت كذلك وان بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة اخرى على ارادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة اخرى وانى لهم باثبات ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٣.

١٥٨

أما ما ذكره اولا : فلأن الدليل على ذلك هو الدليل على الحقيقة المتشرعيّة إذ منشأ ثبوت تلك ، استعمال اللفظ في ذلك المعنى مجازا في لسان الشارع وتابعيه حتى صار حقيقة فيه.

واما ما ذكره ثانيا : فلأن كلاً من الصحيحي والأعمّي يدَّعي ان المستعمل فيه دائما شيء واحد فمع عدم نصب القرينة على التصرف في امر عقلي ، أو على ارادة الصحيح يحكم بارادة المستعمل فيه منه كما هو الشأن في جميع الموارد.

ولكن يرد على ما أفاده الشيخ الأعظم من التصرف في أمر عقلي على القول بالأعم ، انه لا يتم في موردين :

الأول : فيما إذا أريد منه الفاسد وجعل موضوعا في قضية محمولها فاسد أو باطل ، مثل : الصلاة بلا سورة فاسدة.

الثاني : فيما إذا أريد منه الجامع بين الصحيح والفاسد كما لا يخفى.

ويمكن تصوير النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بوجه آخر ، وهو أن هذه الألفاظ المتداولة التي صارت حقائق في المعاني الشرعية عند المتشرعة ، وتلك معانيها المجازية في لسان الشارع ، هل لوحظت العلاقة المصححة للاستعمال بين معانيها الحقيقية وخصوص الصحيحة من المعاني الشرعية ، أو لوحظت بينها وبين الأعم بنحو يكون كلامه (ص) مع القرينة على عدم إرادة المعاني اللغوية ظاهرا فيما لوحظت العلاقة بينها وبين المعاني الحقيقية ، إما لاستقرار ديدنه على ارادتها من تلك الألفاظ ، أو لكثرة استعمال الشارع الألفاظ فيها فتدبر.

١٥٩

ومنها : ما نسب إلى الباقلانى (١) وهو ان يكون النزاع في ان قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها الا بالاخرى الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الاجزاء والشرائط أو هما في الجملة.

وفيه : ان الدال على بقية الاجزاء والشرائط المعتبرة في موضوع الامر لا في المستعمل فيه ان كان لفظا واحدا يستعمل فيها دائما صح هذا النزاع بالتقريب المذكور ولكن الباقلانى لا يدّعي ذلك بل يدّعي ان الدال عليها انما هي الألفاظ الموضوعة لغة لكل واحد منها وعليه فلا مجال لهذا النزاع.

الجهة الثانية في معنى الصحّة : قال في الكفاية (٢) الظاهر ان الصحّة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية وتفسيرها ، باسقاط القضاء كما عن الفقهاء ، أو بموافقة الشريعة كما عن المتكلمين ، أو غير ذلك انما هو بالمهم من لوازمها.

إلى ان قال : ومنه ينقدح ان الصحة والفساد امران اضافيان فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب اخرى.

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

احدهما : انه ما المراد من التمامية وان الصحيحي هل يدعي الوضع للتام من أي جهة ، وان المراد هو التمامية من جميع ما يعتبر في المأمور به ، أو تكون

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ، ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٤.

١٦٠