زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

واما المورد الثاني ، فالظاهر ان اطلاق اللفظ وإرادة صنفه أو مثله ، انما يكون من قبيل القاء المعنى بنفسه ، وليس من باب الاستعمال.

وبعبارة اخرى يكون الطبيعي ، ملقى إلى السامع بنفسه بلا وساطة الحاكى عنه. وحيث ان الغرض تعلق بافادة حصة خاصة منه ، فلا بد من جعل الدال على ذلك. لاحظ. قولنا : زيد ، في (ضرب زيد) ، فاعل. ولا مجال لتوهم استعمال الطبيعي في الصنف ، أو المثل ، أو الشخص. ويكون الدال الآخر قرينة على ذلك. كما يظهر من ملاحظة موارد استعمال اللفظ في معناه وإرادة حصة خاصة منه ، كقولنا : الصلاة في المسجد ، افضل من الصلاة في الدار. فانه في هذه الموارد ، لا تستعمل الصلاة في الحصة الخاصة من تلك الطبيعة. بل استعملت في نفس الطبيعة. وانما تستفاد الحصة ، بتعدد الدال. كما حقق في مبحث المطلق والمقيد. فان هذا الكلام بعينه. يجرى في صورة القاء المعنى بنفسه واحضاره في ذهن السامع ، بلا تفاوت.

اطلاق اللفظ وإرادة شخصه

واما المورد الثالث ، فقال صاحب الفصول : واما لو اطلق واريد به شخص نفسه ، كقولك : زيد لفظ. إدا اردت به شخصه ، ففي صحته بدون تأويل ، نظر. لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ، أو تركب القضية من جزءين مع عدم مساعدة

١٢١

الاستعمال عليه (١). انتهى.

ووجهه المحقق الخراساني بقوله : لان القضية اللفظية على هذا ، انما تكون حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع. فتكون القضية المحكية بها ، مركبة من جزءين مع امتناع التركب الا من الثلاثة. ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين (٢). انتهى.

واجاب عنه المحقق الخراساني بوجهين :

أحدهما (٣) : ان اشكال تركب القضية من جزءين ، يبتنى على ان يكون الموضوع في القضية الحقيقية ، محتاجا في حضوره ووجوده في الذهن إلى واسطة كاللفظ بالاضافة إلى المعنى. فانه واسطة لذلك. وليس هو بنفسه ، موضوعا للقضية. بل هو ، لفظ الموضوع ، وحاك عنه. فموضوعية اللفظ ، انما هي باعتبار انه الواسطة لاحضار ما هو موضوع فيها حقيقة.

نعم هو ، موضوع في القضية اللفظية ، وإذا فرضنا ان الموضوع في القضية الحقيقية لا يحتاج في وجوده وحضوره في الذهن إلى الواسطة ، فلا يلزم محذور تركب القضية من جزءين. ومقامنا من هذا القبيل. فان الموضوع في قولنا : زيد لفظ أو ثلاثى ، إذا اريد به شخصه ، شخص ذلك اللفظ الذي هو من مقولة الكيف لا انه لفظ ـ وبديهى ان اللفظ ، لا يحتاج في حضوره في الذهن إلى أي

__________________

(١) الفصول الغروية ج ١ ص ٣٤.

(٢) كفاية الأصول ص ١٤ الرابع لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه.

(٣) كفاية الأصول ص ١٤ (قلت يمكن أن يقال) وما أفاده المصنف حفظه المولى نقله بالمعنى.

١٢٢

واسطة ، لامكان ايجاده على ما هو عليه واثبات المحمول له ـ فعليه فالقضية ، مركبة من اجزاء ثلاثة : الموضوع ، وهو ذات اللفظ وشخصه ، والمحمول ، وهو لفظ ، أو ثلاثى مع النسبة بينهما.

واورد عليه (١) بان القضية حينئذ ، لا تكون لفظية ، لعدم الحاكى عن الموضوع.

وفيه : ان القضية ، هي ما تكون مركبة من مسند ومسند اليه في عالم اللفظ. ولا يعتبر في صدقها ، تغاير الموضوع فيها مع الموضوع في القضية المحكية. مع انه ، لا ضرر في عدم صدقها ، فانه لا مشاحة في الاصطلاح.

ثانيهما (٢) : ان اتحاد الدال والمدلول ذاتا ، مع تعددهما اعتبارا لا يضر. فمن حيث انه لفظ صادر عن لافظه ، كان دالا. ومن حيث انه نفسه وشخصه مراده ، كان مدلولا.

وفيه : ان التعدد الاعتباري ، غير مجد في المقام ، إذ الدلالة ، عبارة عن العلم بشيء من العلم بشيء آخر ، فهى تتوقف على حصول علمين ، المتوقف على ثبوت معلومين ، فمع كون المعلوم واحدا ، لا يعقل تعدد العلم ، والتعدد الاعتباري لا يجدى في تكثر العلم ، وكون أحد العلمين ، معلولا لآخر.

وان شئت قلت : ان استعمال شيء في شيء ، عبارة عن احضاره في ذهن

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٥ قال (غاية الأمر أنه نفس الموضوع لا الحاكي عنه.

(٢) نفس المصدر في الحاشيتين السابقتين.

١٢٣

السامع ، لينتقل ذهنه إلى المستعمل فيه. وفي المقام ، لا مورد للانتقال الثاني. فلا يكون من الاستعمال في شيء مع ان الدال ، انما هو ذات الشيء لا بقيد انه لفظ صادر.

وبعبارة اخرى : هذه الحيثية الاعتبارية ليست دخيلة في الدلالة كي توجب التعدد.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني (ره) (١) في وجه تصحيح كلام المحقق الخراساني وجها دقيقا لا يخلو ايراده عن فائدة ، وحاصله يتوقف على مقدمات :

الاولى : ان الشوق ، يستحيل تحققه مطلقا وبلا متعلق. ولا بد في تحققه من تعلقه بمتعلق. ولا يعقل تعلقه بالموجود الخارجي. إذ الخارج عن افق النفس ، لا يعقل ان يكون مقوما لما في النفس. ولا الموجود الذهني. إذ الشوق والعلم ، صفتان متباينتان وفعليتان ، ويستحيل تقوم فعلية بفعلي آخر.

فان كل فعليَّة تأبى عن فعليَّة اخرى ، مع ان الشوق ليس متعلقا بالموجود الذهني بالوجدان. فلا بد وان يتعلق بالماهية المعراة عن الوجود الخارجي والموجود الذهني. وبتعلق الشوق بها ، تكون الماهية موجودة بالوجود الشوقي. كما توجد في الخارج بالوجود الخارجي ، وفي الذهن بالوجود الذهني.

الثانية : ان استعمال كل لفظ في معناه ، يتقوم بارادتين :

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٧ (في صحة اطلاق اللفظ وإرادة شخصه) نقله المصنف حفظه المولى بتصرف.

١٢٤

احداهما ، تتعلق بايجاد المعنى باللفظ وابرازه به.

ثانيتهما ، تتعلق بايجاد اللفظ تكوينا. وهذه الارادة ربما تنفك عن الاولى. كما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاستعمال والحكاية عن الواقع.

الثالثة : ان عوارض الألفاظ ومحمولاتها ككون لفظ زيد ثلاثيا ـ كما تكون اوصافا للماهية الشخصية الموجودة الخارجية ، كذلك تكون اوصافا للماهية الموجودة بالوجود الشوقي ، لانها ، اوصاف لماهية الكيف المسموع على الفرض. وهي اينما تحققت تترتب عليها هذه الاوصاف.

إذا عرفت هذه المقدمات ، فاعلم. ان المتكلم إذا قال : زيد ثلاثى ، واراد منه شخص نفسه ، تكون هذه الماهية الشخصية بوجودها الخارجي ، دالة على الموجودة بالوجود الشوقي.

وبعبارة اخرى ، يجعل اللفظ بوجوده الخارجي ، فانيا في اللفظ بوجوده الشوقي. ولا ينافي ذلك ، ارادة شخص نفسه ، لأن المراد بالذات والمصادر : ماهية شخصية من غير جهة الارادة في قبال ما إذا اريد افناء اللفظ في الطبيعة. كما ان فرض ارادة اخرى مصححة للدلالة ، لا ينافي فرض ارادة شخصية وعدم اراءة غيره. إذ المرئي حينئذ ، نفس الماهية الشخصية. غاية الامر ، ثبوتها في وعاء دال على ثبوتها في وعاء آخر.

وفيه : اولا : ان الوجود ، مساوق للتشخص ، ففرض ثبوتين ، ملازم لفرض شخصين.

فيكون الحاكي شخصا ، غير المحكى ، فهو من استعمال اللفظ في مثله لا

١٢٥

شخصه.

وان شئت قلت : ان الماهية الشخصية الثابتة بالثبوت الشوقي ، غير الماهية الموجودة بالوجود الخارجي.

وثانيا : ان الشوق وان لم يكن متقوما بالوجود الخارجي ، لا لما ذكره (ره) من البرهان ، لانه يرد عليه ما حققناه في محله من امكان تعلق العلم بنفس الموجود الخارجي ، بل من جهة عدم الثبوت الخارجي حين وجود الشوق.

بل ربما لا يوجد إلى الابد. ولا بالموجود الذهني بما هو هو ، ولكن لا نسلم تعلقه بالماهية وثبوتها به.

فان الشوق من الصفات ، والاعراض ذات الاضافة فهو بنفسه له ماهية خاصة موجودة بوجوده ، كما هو الشأن في جميع الكيفيات النفسانية.

وعليه ، فلو كان متعلقه الماهية الثابتة بثبوته ، لزم اتحاد الماهيتين المختلفتين ، وتحققهما بوجود واحد ، وهو محال ، بل المتعلق ، هو الموجود الذهني بما انه فانٍ في الخارج ، وآلة لملاحظة الموجود الحقيقي.

وبالجملة ان الوجود ، منحصر بالوجود الخارجي والذهني على ما هو المسلم عند ارباب المعقول ، وليس من الوجود الشوقي في كلماتهم عين ولا اثر.

وصدور مثل هذا الكلام من مثل هذا المحقق النحرير ، ليس الا من باب ان الجواد قد يكبو ، ويؤيده ما ذكره في مسألة تعلق الامر بالطبيعة : ان طبيعة الشوق ، من الطبائع التي لا تتعلق إلا بما له جهة فقدان وجهة وجدان.

١٢٦

تبعية الدلالة للارادة

الأمر العاشر : في تبعية الدلالة للارادة.

قال في الفصول : فصل ، هل الألفاظ ، موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها وجهان (١). انتهى.

قبل البحث فى ذلك ، لا بد من التنبيه على امرين :

أحدهما : ان منشأ هذا البحث ، ما حكى عن العلمين : الشيخ الرئيس (٢) ،

والمحقق الطوسى (٣) ، من مصيرهما إلى ان الدلالة ، تتبع الارادة (٤).

ثانيهما : ان الدلالة ـ أي دلالة الألفاظ على المقاصد ـ على اقسام ثلاثة :

__________________

(١) الفصول الغروية ص ١٧.

(٢) وهو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور ولد سنة ٣٧٠؟ ـ ق. تفصيل حياته وفيات أعيان الشيعة ج ٢ ص ١٥٧ رقم ١٩٠.

(٣) وهو الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم الفيلسوف ولد سنة ٥٩٧؟ ـ ق. راجع أعيان الشيعة ج ٩ ص ٤١٤.

(٤) الشفاء قسم المنطق ص ٤٢ المقالة الأولى من الفن الأول الفصل الثامن قوله (وذلك لأن معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد)

والجوهر النضيد في شرح التجريد للعلامة الحلي ص ٤ حيث حكى عن استاذه المحقق الطوسي قوله : (بأن اللفظ لا يدل بذاته على معناه بل باعتبار الارادة والقصد).

١٢٧

القسم الأول : الدلالة التصورية. وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ، وهذه الدلالة قهرية بعد العلم بالوضع أو الانس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في المعنى ، وهي غير مربوط بالدلالة الوضعية. بل لو فرض صدور اللفظ من غير اختيار أو اصطكاك حجر على حجر ، ينتقل الذهن إلى المعنى.

القسم الثاني : الدلالة التفهيمية : ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال ، وهذه الدلالة ، تتوقف زائدا على العلم بالوضع ، على احراز ان المتكلم في مقام التفهيم ، ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف.

القسم الثالث : الدلالة التصديقية فيما اراد. وهي ، الدلالة على مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي. وهي ثابتة ببناء العقلاء.

وبعد ذلك نقول : ان مراد العلمين مما افاداه ، ليس اخذ الارادة قيدا للموضوع له أو المستعمل فيه ، ـ كما توهم صاحب الفصول (١) ـ حتى يرد عليه :

__________________

(١) راجع الفصول الغروية ص ١٨ ـ ١٩ فصل القول في الدلالات ، حيث قال : «ثم إن قلنا بأنها موضوعة للمعاني من حيث كونها مرادة سواء اعتبرناها شرطا أو شطرا اتجه أن لا يكون للألفاظ معان حقيقية عند عدم إرادتها ضرورة أن الكل عدم عند عدم جزئه والمقيد من حيث كونه مقيّدا عدم عند عدم قيده والظاهر أنّ ما حكي عن الشيخ الرئيس والمحقق الطّوسي من مصيرهما إلى أنّ الدّلالة تتبع الإرادة ناظر إلى هذا.

ثم قال : إن بنى على أن اللفظ موضوع للمعنى من حيث كونه مرادا كانت حيثية الإرادة معتبرة في المعنى الموضوع له وهو واحد طرفي النسبة ، فلا بد من الانتقال إليها قبل تذكر الوضع أيضا على ما يقتضيه التعليل فيكون الانتقال إلى المعنى قبل تذكر الوضع

١٢٨

١ ـ استحالة أخذ ما هو من مقومات الاستعمال المتأخر بالطبع عن المستعمل فيه في الموضوع له أو المستعمل فيه. وإلا لزم تقدم ما هو متاخر.

٢ ـ لزوم التجريد عند ارادة الحمل. إذ المحمول على زيد ـ في زيد قائم مثلا ـ نفس القيام لا بما هو مراد. وكذا الموضوع. فانه ، نفس زيد لا بما هو مراد.

٣ ـ لازمه كون وضع عامة الألفاظ ، عاما والموضوع له خاصا. لمكان اعتبار خصوص ارادة اللافظين فيما وضع له اللفظ.

ولا ما افاده المحقق الخراساني (١) ، من حمل الدلالة في كلامهما ، على الدلالة التصديقية فيما اراد غير الوضعية فان تبعيتها للارادة في الواقع ونفس الامر واضحة لا مجال للكلام فيها اصلا.

بل مرادهما أنَّ العلقة الوضعية ، مختصة بصورة تعلق الارادة بتفهيم المعنى. وان الدلالة الوضعية ، مختصة بالدلالة التصديقية فيما قال كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات للارادة بتبعية مقام الاثبات للثبوت لاحظ كلامهما.

قال العلامة الطوسى في محكى شرح منطق الاشارات (٢) ، في دفع

__________________

كالانتقال إليه بعده في كونه مأخوذا من حيث الإرادة فيكون دلالة على ظاهر ما اعترف به حيث فسّرها بالانتقال إلى المعنى من حيث كونه مرادا فيعود الإشكال.

(١) كفاية الأصول ص ١٧.

(٢) شرح منطق الاشارات ص ٣٢ سطر ٤ ـ ٨ (المفرد والمركب) نشر البلاغة ، قم المقدسة ١٣٧٥ ه‍. ق وكذلك في الطبعة الحيدرية ، طهران.

١٢٩

انتقاض تعريف المفرد والمركب : دلالة اللفظ لما كانت وضعية ، كانت متعلقة بارادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع فما يتلفظ به ويراد منه معنى ما ، ويفهم عنه ذلك المعنى : يقال : انه دال على ذلك المعنى وما سوى ذلك المعنى ، مما لا تتعلق به ارادة المتلفظ. وان كان ذلك اللفظ ، أو جزء منه بحسب تلك اللغة أو لغة اخرى أو بارادة اخرى ، يصلح لان يدل عليه. فلا يقال : انه ، دال عليه. ونحوه ، ما ذكره في محكى شرح حكمة الاشراق (١) في باب الدلالات الثلاث.

قال الشيخ الرئيس في محكي الشفاء (٢) ان اللفظ بنفسه ، لا يدل البتة. ولو لا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه ، بل انما يدل بارادة اللافظ.

وعلى ذلك ، فما افاده العلمان متين جدا.

وذلك على المختار في حقيقة الوضع من كونه بمعنى الالتزام والتعهد ، واضح.

فان متعلق التعهد والالتزام ، لا بد وان يكون امرا اختياريا. والامر غير الاختياري ، لا يعقل ان يكون طرف الالتزام. وعليه ، فلا محالة يكون التعهد ، مختصا بصورة تفهيم المعنى وارادته من اللفظ. وليس بين ذات المعنى واللفظ مع عدم الإرادة ، علقة وربط.

__________________

(١) شرح حكمة الإشراق لقطب الدين الشيرازي ص ٣٦ باب الدلالات (الدلالة الوضعية تتعلق بإرادة اللافظ الجارية على قانون الوضع ...)

(٢) حكاه عن الشفاء السيد الحكيم (قدِّس سره) في حقائق الأصول ج ١ ص ٣٨ ـ ٣٩.

١٣٠

واما على القول : بان الوضع ، عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، أو اعتبار وضع اللفظ على المعنى ، فلانه وان امكن ثبوت العلقة مع عدم الارادة والقصد.

الا انه من جهة اختصاص فائدة الوضع ، وهي الافادة والاستفادة بصورة قصد التفهيم ، فلا محالة تكون العلقة الوضعية ، مختصة بتلك الحالة مع فرض كون الموضوع له هو طبيعي المعنى من دون تقييده بقيد. وما يرى من انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من التكلم بلا اختيار ، فانما هو من جهة الانس لا من جهة العلقة الوضعية.

* * *

١٣١

وضع المركبات

الأمر الحادي عشر : في وضع المركبات.

في انه ، هل يحتاج المركب إلى وضعه ثانيا بعد وضع مفرداته أولا ، ومنها الهيئة التركيبية ، ام لا؟

قولان (١) : وقبل الشروع في البحث فيه ، لا بد وان يعلم ان محل الكلام في المقام ـ كما افاده صاحب الفصول ـ في وضع المركب بما هو مركب ، أي وضعه بمجموع اجزائه من الهيئة والمادة. مثلا في قولنا : زيد قائم ، قد وضعت كلمة" زيد" لمعنى خاص ، وكلمة" قائم" لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث.

وهذا كله ، لا اشكال فيه.

انما الكلام في انه هل يكون لمجموع المركب من هذه المواد وضع على حدة ام لا؟

__________________

(١) قول : بعدم صحة الوضع للمركبات كما قال العضدي من أن المركبات لا وضع لها فلا يتطرق التجوز إليها لأنه من توابع الوضع.

وقول : بأن للمركبات وضع كوضع المفردات واختار صاحب الفصول التفصيل فقال : «بأن للمركبات وضع إلا أنه ليس مغاير لوضع مفرداتها». راجع الفصول الغروية ص ٢٧ بعد قوله (تتمة).

١٣٢

فما افاده المحقق النائيني (ره) (١) : من ان المراد ليس ذلك ، فانه لا يمكن ان ينسب إلى احد من العقلاء ، فضلا عن العلماء. بل النزاع في ان الموضوع للربط الكلامي في الكلام العربي ـ كزيد قائم ـ هل هو الاعراب كما ذهب إليه بعض ، أو انه هو الضمير المقدر ـ أي لفظه هو ـ كما افاده جماعة من اهل الميزان ، أو انه الهيئة التركيبية كما هو المختار للمحققين؟

. غير تام ، فان هذا النزاع ، انما حدث بين المتأخرين. واما النزاع الواقع بين القدماء ، فهو النزاع الأول.

وكيف كان فالحق في النزاع الأول ، عدم الوضع للمركبات.

لا لما في الكفاية ، من عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى :

تارة بملاحظة وضع نفسها ، واخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

فانه يمكن الجواب عن الايراد الأول ، بان الفائدة المترتبة على الوضع ليست الا امكان وقوعه مقدمة للتفهيم والتفهم. ولا ريب في امكان وقوع وضع المركبات ، مقدمة لهما ، ولو في مورد عدم العلم بوضع المفردات.

وعن الثاني ، بانه ، لا محذور في ذلك. إذ معاني المفردات ، لوحظت بنحو الانفراد. ومعنى المركب ملحوظ بنحو الجمع. نظير الدار بالاضافة إلى البيت والجدران والسقف وغيرها. فلكل منهما ، مدلول مستقل غير مربوط بالآخر.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢ (الأمر الثالث) ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٧.

١٣٣

فلا يلزم اجتماع السببين على مسبب واحد ، مع انه لو سلم لزوم ذلك ، فليكن من قبيل اجتماع العلتين على معلول واحد. فلا يكون مدلولان ودلالتان. بل مدلول واحد ودلالة واحدة مستندة إلى مجموع العلتين.

بل الصحيح ان يستدل لعدم وضعها ، بعدم الدليل عليه.

وبان الانتقال إلى المعنى مرتين بالنحو الذي ذكرناه وان ممكنا الا انه غير واقع وهو آية عدم الوضع والا لترتب عليه الانتقال لا محالة.

واما النزاع الثاني فقد اورد على القول بان الموضوع للربط الكلامي هو الاعراب ، بان الاعراب مشترك بين هذا النحو من التركيب وبقية التراكيب. وعلى القول بانه هو الضمير المقدر أي لفظة هو ، بانه موضوع لمفهوم استقلالي اسمى فلا يكون مقيدا للمعنى الحرفى ، فلا محالة يكون هو الهيئة التركيبية.

وافاد المحقق النائيني (ره) (١) ان ذلك انما هو في الهيئة التركيبية الاسمية ، واما الجمل الأخر ، كضرب زيد ، أو كان زيد قائما ، فالمفيد للربط فيها هي هيئة الفعل بانواعها وقد يكون الدال على الربط احد الافعال الناقصة كلفظة كان مثلا ولو كان للهيئة التركيبية في الجمل الفعلية وضع على حدة لزم افادة المعنى الواحد مرتين وهو غير معقول.

ويرد عليه امور :

الأول : ان هيئة الفعل انما تدل على قيام الحدث بمحل ما وتشخيص ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٧.

١٣٤

المحل لا دليل عليه سوى الهيئة التركيبية ـ مثلا ـ ضرب انما يدل على حركة هذا المعنى من عالم المفهومية إلى عالم التحقق والثبوت ، واما تشخيص الفاعل فهو لا يدل عليه وذكر لفظ زيد بعده لا يفيد ذلك فيتعين الالتزام بوضع هيئة الجملة لذلك.

الثاني : ان هناك مزايا اخر غير ما وضع له هيئة الفعل وان سلم دلالتها على تشخيص الفاعل ، كالحصر والاستمرار ونحوهما ، لا تدل هيئة الفعل عليها ، فلا دال عليها سوى الهيئة الكلامية.

الثالث : انه بناء على مسلكه (ره) من وضع الهيئة لإيجاد الربط الكلامي ، لا بد له من الالتزام بوضع المركبات لدلالة الجملة على الربط الخارجي ، والمفروض عدم وضع المفردات حتى الهيئة له فلا بد من القول بوضع المركب لذلك الربط الخاص القائم بالطرفين ، ونحن في فسحة من ذلك حيث التزمنا بان الهيئة وضعت لابراز ارادة تفهيم الربط الخارجي.

ويظهر مما ذكرناه أن ما ذكره أهل الادب من تقسيم المجاز إلى المجاز في الفرد والمجاز في المركب.

غير تام : لان الاستعمال المجازى فرع وجود الموضوع له وقد عرفت ان المركب لم يوضع لشيء ومعه لا يتصور المجاز فيه.

نعم يجوز التشبيه فيه بان يشبه المركب بالمركب كما في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ

١٣٥

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً)(١) كما يجوز الكناية فيه كما في قولهم" اراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى" ، فانه كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.

* * *

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٧.

١٣٦

التبادر من علامات الحقيقة

الأمر الثاني عشر : في علامات الحقيقة والمجاز.

وقد ذكر الاصحاب للحقيقة علائم :

منها التبادر ، وغاية ما قيل في وجه كونه علامة الحقيقة ، ان الانسباق إلى الذهن وخطور المعنى فيه والانتقال من اللفظ إلى المعنى ، اما ان يكون ناشئا من العلقة الوضعية ، أو من جهة المناسبة الذاتية ، أو من جهة قرينة خارجية ولو كانت هي الاطلاق ، وحيث ان المفروض عدم الثالث ، وبطلان الثاني ، فلا بد وان يكون الانتقال مستندا إلى الوضع ، وكون اللفظ موضوعا له.

وفيه : انه قد يكون التبادر ناشئا عن الممارسة في كلمات اللغويين والمراجعة إليها فان ذلك ايضا يوجب الانتقال إلى المعنى ، وليس ذلك آية كونه موضوعا له إذ هو لا يزيد على اصله ومنشئه ، وهو قول اللغوي الذي لا يكون دليلا على الحقيقة ، فالتبادر لا يكون علامة للحقيقة بقول مطلق ، بل إذا كان منشأ الانتقال ، وهو الارتكاز النفساني ، غير ناشئ عن الممارسة في كلمات اللغويين فالعلامة الحصة الخاصة من التبادر ، وهو فهم المعنى من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية وهي كاشفة عن الوضع لا محالة.

وربما يورد على ذلك ، باستلزامه الدور إذ من المعلوم بالضرورة ان الوضع بنفسه لا يوجب التبادر ، بل الموجب هو العلم بالوضع ، فلو انتفى العلم به انتفى التبادر ، ولو كان التبادر موجبا للعلم بالوضع لزم الدور.

١٣٧

واجاب عنه المحقق العراقي (١) على ما نسب إليه ، بان الموقوف فرد من العلم والموقوف عليه فرد آخر منه ، فلا دور حتى مع توقف التبادر على العلم التفصيلي.

وفيه : انه مع فرض وحدة المعلوم كيف يعقل تعدد العلم.

فالصحيح هو الجواب عنه بما هو معروف وهو ان العلم بالوضع تفصيلا يتوقف على التبادر الاجمالي الارتكازي.

توضيح ذلك : ان كل فرد من افراد اهل المحاورة يستعمل الألفاظ الدارجة في معان مخصوصة عند الابتلاء إليها وهو عالم بتلك المعاني بالارتكاز ، ولكنه غافل عن خصوصيات معلوماته ، كغيرها من معلومات الانسان التي يغفل الانسان عن خصوصياتها مع كونها مرتكزة في ذهنه بالاجمال ، فإذا كان في مقام معرفة معنى لفظ خاص يرجع إلى ذهنه ويفتش عن ما في ضميره فان رأى تبادر معنى عند اطلاق لفظ خاص من دون استناد إلى القرينة فيكشف له ان ذلك معنى ذلك اللفظ.

ويظهر مما ذكرناه من توقف التبادر على العلم الارتكازي ، ان عدم التبادر ليس علامة المجاز إذ ليس كل واحد عالما بمعاني جميع ما يستعملها اهل المحاورة حتى ما هو خارج عن محل ابتلائه.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ١ ص ٦٧ حيث قال : لو أريد بالتبادر تبادر المعنى عند أهل المحاورة ... إذ عليه يكون ما يتوقف على التبادر هو علم المستعمل الجاهل بالأوضاع ، وما يتوقف التبادر عليه هو علم أهل المحاورة ، فيكون الموقوف عليه غير الموقوف عليه.

١٣٨

كما ان تبادر معنى لا يكون علامة كون غيره مجازا لاحتمال الوضع له ايضا مع عدم علمه به.

ثم انه لو كان لفظ ظاهرا في معنى ، بمعنى انه كان يتبادر منه عند الاطلاق ، ولكن شك في ان هذا التبادر ، هل يكون من حاق اللفظ فيكون ذلك المعنى موضوعا له ، ام يكون بواسطة القرينة فلا يكون موضوعا له.

فان كانت القرينة المحتملة عامة موجودة في جميع موارد استعمال اللفظ ، لا يترتب ثمرة على النزاع في جريان اصالة عدم القرينة.

واما ان لم تكن كذلك فقد يقال انه يجرى اصالة عدم القرينة ويثبت بها ان

هذا المعنى موضوع له ، فيحمل عليه عند اطلاقه مجردا عن تلك القرينة.

واورد عليه (١) : تارة بمعارضتها مع اصالة عدم الوضع لذلك المعنى.

واخرى ، بان اصالة عدم القرينة لا تجرى في المقام ، سواء كان مدرك اصالة القرينة بناء العقلاء ، أو اخبار الاستصحاب.

اما على الأول فلان بناء العقلاء وان كان على عدم القرينة عند الشك فيها ، الا انه انما يكون في مورد الشك في المراد مع احراز المعنى الحقيقي ، لا في مثل المقام مما احرز المراد وشك في المعنى الحقيقي لان بنائهم مطلقا عملي يستكشف من العمل ، واما إذا كان مدركها الاخبار أي ادلة الاستصحاب ،

__________________

(١) يحسن مراجعة بدائع الأفكار للمحقق الميرزا الرشتي فإنه أورد عدّة إشكالات وأجاب عنها مفصلاً ص ٦٨.

١٣٩

فلان احراز المراد من الآثار غير الشرعية ، فلا يثبت بتلك الادلة.

وفيهما نظر :

اما الأول : فلأن اصالة عدم الوضع للمعنى المراد معارضة مع اصالة عدم الوضع لغيره للعلم اجمالا بوضعه لمعنى من المعاني.

واما الثاني : فلأنَّا نختار ان مدرك هذا الاصل بناء العقلاء ، ولا ندَّعي ثبوت بنائهم في مورد احراز المراد ، بل المدَّعى انه إذا استعمل لفظ مرارا واريد منه معنى خاصا ثم بعد ذلك استعمل مرة اخرى وشك في المراد منه من جهة انه يحتمل ان يكون فهمه ذلك المعنى في تلك الموارد من جهة القرينة لا من حاق اللفظ وبناء العقلاء على كون ذلك المعنى هو المراد ، وان شئت فاختبر ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فانه ، إذا امر المولى عبده مرارا باتيان الماء وكان العبد يفهم منه ارادة الجسم السيّال المخصوص ، وبعد ذلك امره باتيانه ، وشك في ان فهم ذلك المعنى في تلك الموارد كان من جهة القرينة غير الموجودة ، ام من حاق اللفظ وصار ذلك سبباً للشك في المراد ، فان احدا لا يشك في انه موظف باتيان ذلك الجسم في نظر العقلاء وليس له الاعتذار عن عدم الامتثال بعدم كشف المراد.

عدم صحة السلب من علامات الحقيقة

ومنها : عدم صحة السلب وقد يعبر عنه بصحة الحمل ، وقالوا كما انه علامة الحقيقة كذلك تكون صحة السلب علامة المجاز.

١٤٠