زبدة الأصول - ج ١

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-34-9
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥٤٣

نقول : إنَّ" في" وضعت لإفادة النسبة الظرفية التي بين الظرف كان هو الدار أو غيره ـ والمظروف ـ كان هو زيد أو غيره ـ وهذا المعنى من العموم والخصوص يتصور في النسبة.

وأما المورد الثاني : فالظاهر هو الوضع للعام ، لما نرى من استعمال الحروف في الجهات العامة بلا عناية ، كما في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة. فانه لا ريب في إن كلمة" من" و" إلى" إنما استعملتا في طبيعي معناهما ، وعلى الجملة ، المنساق إلى الذهن ، هو كون الموضوع له عاما.

فالمتحصل مما ذكرناه كون الموضوع له عاما.

وبما ذكرناه ظهر مدرك كونه خاصا ، ونقده.

تحقيق الإنشاء والأخبار

قال المحقق الخراساني ، بعد ما اختار من أن المعنى الاسمي والحرفي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي وقد بينا مراده : لا يبعد ان يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته ، وان اتفقا فيما استعملا فيه انتهى (١).

توضيح ذلك : إن الصيغ المشتركة ـ كصيغة بعتُ ـ تستعمل في معنى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢.

١٠١

واحد مادة وهيئة في مقامي الإنشاء والإخبار.

أما بحسب المادة فلأنها وضعت للطبيعة المهملة ، وهي تستعمل فيها دائما.

وأما بحسب الهيئة فلأنها تستعمل في نسبة ثبوت المادة إلى المتكلم في كلا المقامين ، غاية الأمر العلقة الوضعية في كل منهما غير العلقة الوضعية في الآخر. فإنها في الجملة الإنشائية تختص بما إذا قصد المتكلم ثبوت المعنى في الخارج ، وفي الجملة الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه.

وتبعه في ذلك جمع من المحققين.

وأورد عليه الأستاذ (١) : بأنه لو كان الأمر كذلك لصح استعمال الجملة الاسمية في مقام الطلب ، كالجملة الفعلية مع انه لا يصح ، فيكشف ذلك عن خصوصية في الأفعال.

وفيه : إن استعمال الجملة الاسمية في مقام إنشاء الطلب كثير. لاحظ" أني طالب لقيامك" وفي مقام الإنشاء في غير الطلب أكثر ، كقولنا : " هذا لزيد بعد وفاتي" ، و" زوجتي طالق" ، و" عبدي حر".

وبالجملة فإن استعمال الجملة الاسمية في مقام إنشاء الطلب وغيره غير عزيز. وعدم صحة استعمال بعض الجمل الاسمية في مقام إنشاء الطلب كعدم صحة استعمال الفعل الماضي في مقام إنشاء الطلب ، واستعمال المضارع في مقام إنشاء البيع ، إنما هو لخصوصية في المعنى. مثلا" زيد قائم" ، لا يصح

__________________

(١) محاضرات في الأصول ج ١ ص ٨٩ (الإنشاء والإخبار).

١٠٢

استعماله في مقام طلب القيام من زيد ، من جهة أن هيئة هذه الجملة وضعت لتفهيم ثبوت النسبة بين القيام وزيد.

ثم انه (دام ظله) (١) أفاد في مقام الفرق بينهما :

أن الإنشاء حقيقته ، هو إبراز أمر نفساني باللفظ ، غير قصد الحكاية ، فالمتكلم بمقتضى تعهده والتزامه يكون اللفظ الصادر منه مبرز الاعتبار من الاعتبارات القائمة بنفسه ، وانه هو الداعي لإيجاده ، مثلا هيئة" افعل" بمقتضى التعهد المزبور تكون مبرزة لاعتبار الوجوب ، وكون المادة على عهدة المخاطب.

والإخبار حقيقته إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه في الجملة الاسمية ، وإبراز قصد الحكاية عن تحقق المبدأ سابقا على التكلم في الفعل الماضي ، وإبراز قصد الحكاية عن تلبس الذات بالمبدإ في حال التكلم أو بعده في المضارع.

واستدل لما اختاره : بان حقيقة الإنشاء ، ليست عبارة عن إيجاد معنى كالطلب وغيره باللفظ. فان الوجودات الحقيقية للمعاني ، لا يمكن إيجادها إلّا بأسبابها الخارجية ، واللفظ ليس منها بالضرورة. وأما الوجودات الاعتبارية ، فاعتبار نفس المتكلم ، قائم بنفسه من غير دخل للفظ فيه. وأما الاعتبارات

__________________

(١) محاضرات في الأصول ج ١ ص ٨١ (والصحيح على ما سيأتي بيانه) ثم فصَّل ذلك ص ٨٥ عند ذكر المقامين عند قوله : فالصحيح هو أن الجملة الخبرية موضوعه للدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن الثبوت أو النفي ... الخ. وقد نقله المصنف حفظه المولى بتصرف.

١٠٣

العقلائية ، فالانشاءات وان كانت موضوعات لتلك الاعتبارات ، إلّا أنها مترتبة على قصد المعاني بها. والكلام فعلا في بيان ذلك ، فلا مناص عن الالتزام بما ذكرناه في الإنشاء.

وأما الإخبار ، مثلا الجملة الاسمية ، فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية ، كما هو المعروف ، لعدم وجودها في كثير من الجمل الاسمية. مع انه لا كاشفية لها من حيث هي عن تحقق النسبة في الخارج ولو ظنا. فما معنى كونها موضوعة لها؟ فلا محالة تكون موضوعة لما ذكرناه.

أقول : ما ذكره في الإخبار ، من انه موضوع لقصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ، أو لقصد الحكاية عن انتساب المبدأ بالذات بالنسبة التحققية ، أو التلبسية ، تام.

ولا ينافي ما ذكرناه تبعا لجماعة من المحققين ، من أن هذه الهيئات موضوعة كسائر الهيئات والحروف للنسب الخاصة. إذ مرادنا ، هو ذلك لأجل أن الوضع بما انه هو التعهد ـ كما عرفت ـ فلا بد وان يتعلق بأمر اختياري. وهو التكلم بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيم معنى خاص. فالمراد من وضع الهيئة للنسبة ، هو انه إذا تعلق القصد بتفهيم النسبة ، يجعل مبرزها الهيئة. فتكون الجملة بنفسها ، مصداقا للحكاية.

فهذا الذي ذكره ، يؤيد ما اخترناه في وضع الحروف.

١٠٤

وأما ما أفاده (١) : من أن الإنشاء ليس عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، وان ما اشتهر من أن الإنشاء ، هو قصد تحقق المعنى باللفظ مجرد لقلقة اللسان ، فهو على فرض الأخذ بما هو ظاهر هذا الكلام في بادئ النظر ، حق ومتين.

ولكن يمكن أن يقال : إن مراد المشهور ، كون الإنشاء موجبا لوجود المعنى في عالم الاعتبار ، أي اعتبار العقلاء.

وعليه فهو حق لا سترة عليه ، إذ لا ريب في انه إذا اعتبر المتبايعان مثلا : ملكية شيء للمشترى بإزاء ملكية الثمن ، تتحقق الملكية في اعتبارهما ، وتتحقق في اعتبار العقلاء. وإذا ابرز هذا الاعتبار النفساني باللفظ ، أو الفعل فبمقتضى البناء الارتكازي العقلائي الكلي تتحقق الملكيَّة في عالم الاعتبار العقلائي. وليس المراد من إيجادية الإنشاء ، سوى ذلك.

ولذا يقول المحقق الخراساني في فوائده (٢) : انه بالإنشاء يوجد الملكية في الوعاء المناسب لها ، بالنحو الذي توجد بالحيازة ، والسبب الاضطراري ، كموت المورث.

وهذا أمر متين لا سترة عليه.

وأما ما أفاده : من أن الإنشاء إبراز أمر نفساني باللفظ ، غير قصد الحكاية ، فلا يتم.

__________________

(١) السيد الخوئي (قدِّس سره) في دراسات في علم الأصول ج ١ ص ٥٣.

(٢) فوائد الأصول ص ١٧ فائدة في صيغة الأمر والنهي وغيرهما.

١٠٥

إذ البرهان الذي ذكره لعدم كون الجملة الخبرية مبرزة للنسبة الخارجية ، من انه لا كاشفية لها من حيث هي ، عنها ، وإنها وضعت لإبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، بعينه يجري في الإنشاء ، ويقتضي عدم كون الإنشاء ، مبرزا للاعتبار النفساني ، وانه مبرز لقصد تفهيم ذلك الاعتبار.

نعم لو كانت دلالة الإنشاء على الاعتبار الخاص بالطبع ، كان ما ذكر تاما ، ولكن بما أنها أيضاً تكون بالوضع ، فيجرى في الإنشاء ما يجري في الإخبار ، من ، أن الواضع تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم ثبوت ذلك الاعتبار النفساني ، يجعل مبرزه الجملة الإنشائية.

وعليه فالموضوع له والمستعمل فيه ، فيهما واحد ، وهو قصد تفهيم انتساب البيع إلى البائع مثلا ، والاختلاف بينهما إنما يكون من ناحية الدواعي بالنحو الذي ستعرفه.

والمنسوب إلى المحقق العراقي (ره) (١) القول : بان الإخبار والإنشاء يشتركان

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ١ ص ٨٥ عند الحديث عن شرح معاني الهيئات قال : «فالتحقيق في الفرق والميز بينهما (أي الإخبار والإنشاء) هو أن يفرق بينهما من جهة المحكي من حيث كونه في الأخبار عبارة عن وقوع النسبة وثبوتها وفي الإنشاء إيقاعها الّذي هو خروجها من العدم إلى الوجود ، وذلك إنما هو من جهة ما هو قضية الارتكاز والوجدان من قولك بعتك إخبارا حيث كان المتبادر منه هو الحكاية عن نسبة ثابتة محفوظة قبال كونه إنشاء المتبادر منه الحكاية عن نسبة إيقاعية ، وحينئذٍ فإذا استعمل المستعمل الجملة في إيقاع نسبة كلامية حاكيا بها عن واقع ثابت تكون الجملة إخبارية وإذا استعملها فيها حاكيا

١٠٦

في المحكي عنه بالذات ، وهو نفس المفهوم الذي يتصوره النفس عند تصور الجملة الحاكية ، وإنما يفترقان في المحكي عنه بالعرض. فانه في الإخبار ، يكون المحكي عنه بالعرض ، هو الطبيعي المنطبق على أمر جزئي خارجي مفروغ الوجود ، موضوعا كان أو محمولا ، أو نسبة ، يريد المتكلم ـ بكلامه ـ الكشف عنها وإعلام السامع بها.

وفي الإنشاء ، الجملة بهيئتها ومادة المسند فيها ، تحكى عن طبيعي النسبة وطبيعي المسند ، الحاكيان عن إيقاع المادة ونسبتها غير المفروغ وقوعهما. بل يرى وجودهما ، معلولين لنفس هذا الإنشاء ، فوجود البيع الجزئي ، ونسبته الجزئية في الخارج ، يكون نتيجة الإنشاء ، بقول : بعت.

ويرد على ما ظاهره ما تقدم من أن القول بان حقيقة الإنشاء إيجاد معنى باللفظ ، صرف لقلقة اللسان وفي الإنشاء أيضاً ، لا يوجد المسند والنسبة باللفظ. وإنما هما يتحققان قبله بالاعتبار النفساني.

ولكنه يمكن توجيهه بما ذكرناه ، بان يكون مراده إيجاد المعنى في عالم الاعتبار

__________________

بها عن نسبة إيقاعية توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها تكون جملة إنشائية فيكون كل من الإخبار والإنشاء حينئذ مشتركا في جهة الحكاية في نحو قوله بعت إخبارا أو إنشاء إلا أن الفرق بينهما كان من جهة المحكي فتأمّل. ثم أن ذلك كله بحسب مقام الثبوت. وأما بحسب مقام الإثبات فحيث أن طبع مثل هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحتاج في إحراز كونها إنشاء من قيام قرينة في البين توجب صرفها عن الإخبارية والحكاية عن الواقع الثابت وإلا فطبعها كان على الإخبار.

١٠٧

العقلائي.

وبذلك كله يظهر أن ما اختاره جماعة من المحققين ، من أن الفرق بينهما إنما يكون باختلاف الدواعي ، وانه قد يكون الداعي وهو الإيجاد فهو الإنشاء ، وقد يكون الحكاية فهو الإخبار ، متين جدا.

وخلاصة القول في المقام : أن الموضوع له ، والمستعمل فيه ، في هيئة الصيغة المشتركة ـ مثل بعت ـ شيء واحد ، وهي النسبة المحققة بين المسند ـ وهو الاعتبار النفساني ـ والمسند إليه ـ وهو المتكلم ـ إذ في كلا المقامين يكون الاعتبار ـ أي اعتبار المتكلم ـ متحققا قبل الاستعمال.

وإنما يفترقان في الداعي ، فانه في الإنشاء الداعي للاستعمال في المعنى ، وإعلام انتساب الاعتبار النفساني بالمتكلم ، وهو إيجاد الملكية.

مثلا في عالم الاعتبار ، أي اعتبار العقلاء والشارع. حيث أن بناء العقلاء والشارع ، على عدم اعتبار الملكية في البيع ـ مثلا ـ إلّا مع اعتبار المتعاملين بقيد الإعلام به. فالإعلام إنما يكون بهذا الداعي.

وهذا بخلاف الإخبار ، فان الداعي للإعلام فيه غير ذلك.

ولا فرق بينهما من غير هذه الجهة ، وبهذا الاعتبار صح تسمية الإنشاء إيجادا ، بمعنى أنه بضميمة الاعتبار النفساني ، موضوع لاعتبار العقلاء والشارع.

فتدبر في أطراف ما ذكرناه حتى لا تبادر بالإشكال.

هذا في الصيغ المشتركة.

وأما الصيغ المختصة ، فالكلام فيها موكول إلى محل آخر.

١٠٨

أسماء الإشارة والضمائر

قال في الكفاية : يمكن أن يقال : أن المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما ، أيضاً عام. وان تشخصه إنما جاء من قبل طور استعمالها ، حيث أن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا بعض الضمائر. وبعضها ليخاطب به المعنى.

والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخيص ، كما لا يخفى.

فدعوى إن المستعمل فيه في مثل" هذا ، وهو ، وإياك" ، إنما هو المفرد المذكر. وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه. فان الإشارة والتخاطب لا يكاد يكون إلّا إلى الشخص أو معه غير مجازفة (١) انتهى.

والكلام فيها :

تارة فيما هو الموضوع له.

وأخرى في أنه عام أو خاص. أما الأول ، فعمدة الأقوال فيه ثلاثة :

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني (٢) : وهو أن اسم الإشارة ، مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) وضع للمفرد المذكر ليشار به إليه. بمعنى أن الإشارة الموجبة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢.

(٢) كفاية الأصول ص ١٣.

١٠٩

للشخص ، تكون من مقومات الاستعمال ، لا الموضوع له ، أو المستعمل فيه.

وفيه : أن الإشارة باللفظ إلى المعنى ، إن كان باستعماله فيه ، فجميع الألفاظ موضوعة لذلك. وان كان بغير ذلك ، فهو مما لا نتعقله.

وان كان مراده الإشارة إليه بالإشارة الخارجية ، فيرد عليه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر كلامه ـ انه كثيرا ما يستعمل في معان يمتنع الإشارة إليها خارجا.

وان كان مراده ، انه وضع ليستعمل مقرونة بالإشارة الذهنية إلى المعنى ، ففيه : أنّا لا نتعقل للإشارة الذهنية معنى غير توجه النفس إلى المعنى وتصوره المشترك فيه استعمال جميع الألفاظ في معانيها. مع أن الله تبارك وتعالى يستعمل هذه الأسماء ، ولا يمكن الالتزام بذلك فيه.

وبذلك ظهر ما في القول أيضا.

الثاني : الذي اختاره المحقق الأصفهاني (ره) (١) وهو أن أسماء الإشارة موضوعة للمعنى إذا صار مشارا إليه بالاشارة الخارجية ، بمثل اليد أو العين ، أو الذهنية ـ فلا نعيد.

الثالث : أن اسم الإشارة موضوع لإيجاد الإشارة به ، فيكون فردا جعلياً وضعيا لآلة الإشارة.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٦ قال : «بل التحقيق أن أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجاً أو ذهناً بنحو من الأنحاء فقولك هذا لا يصدق على (زيد) إلا إذا صار مشاراً إليه باليد أو بالعين مثلاً.

١١٠

وبعبارة أخرى : أن لفظة" ذا" مثلا بتعهد الواضع جعلت مكان اليد في كونها آلة للإشارة ، وموجدها ، ولكن لا مطلقا ، بل فيما كان المشار إليه المفرد المذكر ، أي مصداقه ، لا مفهومه. وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله : بذا لمفرد مذكر أشر (١).

وأورد عليه :

تارة بان لازم ذلك كون أسماء الإشارة من الحروف ، لكونها إيجادية.

وأخرى ، بان لازمه عدم صحة قولنا : هذا زيد : لان هذا المحمول ، لا يصح حمله على ما هو آلة للإشارة. وفيهما نظر.

أما الأول : فلما عرفت من عدم كون معاني الحروف إيجادية.

وأما الثاني : فلان اسم الإشارة وان كان يوجد الإشارة ، إلا انه نظير الآلة الخارجية ، في أن الإشارة الموجودة به ، طريق للانتقال إلى المشار إليه ليتوجه المخاطب إليه ويحكم عليه بشيء ، أو به على شيء آخر.

وعليه ، فالموضوع في القضية الواقعية المحكى عنها بالقضية اللفظية ـ في مثل هذا زيد ـ هو المشار إليه الخارجي ، لا الإشارة ولا آلتها ، فان الآلة ، هي نفس اللفظ لا معناه. والإشارة ، إنما تكون طريقا لإحضار المشار إليه. ولم يقم برهان على لزوم كون الموضوع في القضية اللفظية ، وجودا لفظيا للمعنى ، بمعنى كونه موضوعا له. بل لا بد من إحضار المعنى في ذهن السامع باللفظ ، إما

__________________

(١) ألفيّة ابن مالك باب اسم الإشارة ج ١ ص ١٣٠ انتشارات ناصرخسرو ، قم المقدسة.

١١١

باستعماله فيه ، أو بنحو آخر ، مثل الإشارة إليه.

بل الأظهر ، عدم اعتبار كون الموجب لإحضاره اللفظ ، كما سيمر عليك.

وبذلك كله يظهر الحال في الضمائر والموصولات.

وأما الكلام في المورد الثاني ، فهو الكلام في وضع الحروف.

فالأظهر كونه عاما ، لأنه كثيرا ما يكون المشار إليه معان كلية كما لا يخفى ، وعليه فالتشخص الجائي من قبل الإشارة ، ليس هو التشخص الخارجي كي يتوهم انه داخل في الموضوع له. بل هو من جهة إضافتها إلى المشير والمشار إليه.

وقد ظهر مما ذكرناه في الحروف : خروجه عن الموضوع له.

* * *

١١٢

استعمال اللفظ في المعنى المجازي

الامر الثامن : في استعمال اللفظ في المعنى المجازى.

اختلفوا في أن استعمال اللفظ في المعنى المجازى ما هو ملاك صحته؟

فقد ذهب جماعة ، منهم المحقق الخراساني ، إلى انه يصح بالطبع.

والآخرون (١) ، إلى انه بالوضع أي ترخيص الواضع في الاستعمال ، وبدونه لا يصح.

وأفاد صاحب الكفاية (٢) ـ في وجه ما اختاره ، بشهادة الوجدان ـ بحسن الاستعمال فيه ولو منع الواضع عنه. وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ، ولو مع ترخيصه. ولا معنى لصحته إلا حسنه.

وليس مراده ـ مما أفاده ـ انه في الاستعمالات المجازية يكون دلالة اللفظ على ما يستعمل فيه بالطبع ابتداءً ، حتى يورد عليه ، بان هذا عين الالتزام بالدلالة الذاتية ، أو ما يقرب من ذلك.

بل المراد ، أن الألفاظ الموضوعة للمعاني الحقيقية بعد وضعها لها ، يصح استعمالها في المعاني المناسبة لتلك المعاني الموجبة لادعاء العينية بينهما.

__________________

(١) وهو" مذهب المشهور" كما أفاده السيد الأعظم الخوئي في المحاضرات ج ١ ص ٩٢.

(٢) كفاية الأصول ص ١٣ (الثالث)

١١٣

ففي الحقيقة يدّعى ، إن جواز هذا الاستعمال ، إنما يكون من شئون الوضع الأول بواسطة الطبع الذي يجول في ميدان المعاني ، ويلحق بعضها ببعض.

وعليه ، فيشهد له ـ مضافا إلى ما ذكره المحقق الخراساني ـ تقارب

المعاني المجازية في اللغات المتعددة. فان استعمال الأسد وما يرادفه من سائر اللغات في الرجل الشجاع يصح. فهل اتفق الواضعون على الترخيص فيه وفي غيره من المجازات الشائعة؟

وفي المقام أمران ، كل منهما يكفي في عدم الموضوع لهذا البحث.

أحدهما : ما نسب إلى السكاكي ، من أن اللفظ في جميع الموارد ، يستعمل في المعنى الموضوع له (١). غاية الأمر أن التطبيق ، قد يكون مبنياً على التنزيل والادعاء. يعنى أن المستعمل ، ينزل معنى من المعاني منزلة المعنى الحقيقي ،

__________________

(١) فالسكاكي على مبناه تصرف في مفهوم كلمة" أسد" ووسع دائرته ليشمل حقيقة الرجل الشجاع. وهذا التصرف كان محلاً للإشكالات ، إلا أن صاحب وقاية الأذهان بعد نقل قول السكاكي ومناقشاته اعتبر أن اللفظ المجازي باقي على ما هو عليه حقيقة ، وأن استعمال لفظ" الأسد" في الرجل الشجاع مثلاً استعمال حقيقي تصوري فقط دون التصديق والإرادة الجدية ، ولذا احتاج إلى القرينة لصرف المراد الجدّي عن المتصور إلى غيره ، فلو تلفظ بالمجاز دون نصب القرينة على خلاف الإرادة الجدّية كان كاذباً ، فالاستعمال الحقيقي والمجازي عنده واحد إلا أن الثاني يحتاج إلى قرينة لتعاند الإرادة الجدّية. راجع وقاية الأذهان ص ١٠٨ ـ ١٠٩. ثم أن نسبة ذلك للسكاكي قالها غير واحد منهم ، أوثق الوسائل ص ٥٣٣ / مقالات الأصول المقالة الرابعة عشر ص ٢٢٣ / وتعرض لكلامه في أجود التقريرات في المقدمة الخامسة ج ١ ص ٥٩ وابطله.

١١٤

ويعتبره هو ، فيستعمل اللفظ فيه ، فيكون الاستعمال حقيقيا.

ونظير ذلك ، ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، من أن كلمة" لا" الموضوعة لنفى الحقيقة ، تستعمل دائما فيه ، حتى في مورد نفى الكمال. غاية الأمر في ذلك المورد ، يكون استعمالها فيه على نحو الادعاء والمبالغة ، ولا تستعمل في نفى الكمال. ولا بعد في ذلك. فان فيه ، المبالغة في الكلام الجارية على مقتضى الحال. ولذلك نرى بالوجدان ، الفرق بين قولنا : زيد شجاع ، وقولنا : زيد اسد. ولو لا ذلك لما كان بينهما فرق. وهو واضح.

ثانيهما : ان الواضع لا يتعين في شخص ، كي يبحث عن اذنه وعدمه. بل كل مستعمل واضع حقيقة ، كما مر تفصيل ذلك في مبحث الوضع.

* * *

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨١ ، حيث تعرض لهذا البحث بالعرض في باب قاعدة لا ضرر بعد بيانه للرواية قال : كما أن الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاء كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل) : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (و) : يا أشباه الرجال ولا رجال (فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى. ونفي الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

١١٥

استعمال اللفظ في نوعه

الامر التاسع : في استعمال اللفظ في نوعه ، ومثله ، وصنفه ، وشخصه.

قال في الكفاية : لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه ، كما إذا قيل : (ضرب) ، مثلا فعل ماض ، أو صنفه ، كما إذا قيل : (زيد) ، في (ضرب زيد) فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو مثله ، (كضرب) في المثال إذا قصد (١). انتهى.

وتنقيح القول في المقام ، بالبحث في موارد :

الأول : في اطلاق اللفظ وإرادة نوعه.

الثاني : في اطلاقه وإرادة صنفه ، أو مثله.

الثالث : في اطلاقه وإرادة شخصه.

اما المورد الأول ، ففى صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه خلاف ، ذهب جماعة من المحققين ، منهم الخراساني (٢) والنائيني إلى الأول ، واختار جماعة الثاني.

ثم ان القائلين بالصحة. اختلفوا في انه ، هل يكون ذلك من باب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٤. والظاهر أن لفظ (كضرب) كما وردت في متن الكفاية خطأ في الطباعة ، والصحيح أن تكون (كزيد) في المثال إذا قصد.

(٢) كفاية الأصول ص ١٤.

١١٦

الاستعمال ، كما عن المحقق النائيني (ره) (١) ام يكون من باب القاء المعنى بنفسه ، كما اختاره الاستاذ الاعظم (٢) ، ام يكون بغير ذلك؟ وقد ذكر المحقق النائيني في تقريب ما ذهب إليه : ان استعمال اللفظ في المقام ، كاستعماله في سائر المعاني. فان المتكلم يلتفت إلى طبيعة لفظ ضرب اولا ، ثم حين الاستعمال يكون اللفظ الصادر منه ، الذي هو من افرادها مغفولا عنه بحيث لا يرى الا الطبيعة. ولا يلقى في الخارج الا اياها ، كالاستعمال في المعاني. نعم بينه وبين الاستعمال في سائر المعاني فرق من جهتين :

الاولى : ان المعنى في سائر الاستعمالات أمور متغايرة لطبيعة الألفاظ ، وفيما نحن فيه من سنخها.

الثانية : ان المصحح للاستعمال في سائر الموارد ، اما الوضع ، أو المناسبة بين المعنى الحقيقي ، وما استعمل اللفظ فيه. وفي المقام كون اللفظ الملقى بنفسه متحدا مع المعنى فيه خارجا ، والارتباط بينهما اشد من الارتباط الجعلى.

واورد عليه المحقق العراقي (ره) (٣) : بان اللفظ المستعمل ، اما ان يكون هو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٠ الامر الاول : «بقي هناك أمور ..» الخ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٣٠ حاشية ١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٤٤.

(٣) نهاية الافكار ج ١ ص ٦١ ، بعد الحديث عن حقيقة الاستعمال الذي هو الفناء في المعنى قال : وعليه يستحيل إطلاق اللفظ وإرادة شخصه منه بنحو كان اللفظ حاكيا عن شخص نفسه كحكايته عن معناه عند استعماله فيه ، ضرورة استلزامه حينئذ لاجتماع

١١٧

طبيعي اللفظ ، أو شخصه ، فعلى الأول يلزم اتحاد الدال والمدلول ، وعلى الثاني يلزم عدم صحة الاستعمال ، لعدم المسانخة بين المستعمل ، وهو الطبيعي والخصوصية المشخصة اي المستعمل فيه ، إذ المركب من المباين وغيره مباين.

وفيه : ان له ان يختار شقا آخر ، وهو كون المستعمل ، الحصة من الطبيعي التوأمة مع الخصوصية.

وهذا الجواب وان كان محل تأمل بناء على المختار من وجود الكلى الطبيعي في الخارج ، الا ان هذا المورد على مسلكه ليس له هذا الايراد.

وحق القول في المقام بنحو يظهر ما في كلمات القوم ايضا ، يبتني على بيان مقدمتين:

الاولى : انه إذا وجد فرد من الطبيعي في الخارج ، فكما ان الماهية الشخصية ، موجودة في الخارج بتبع تحقق الوجود ، كذلك يكون الطبيعي موجودا بوجوده.

وبعبارة اخرى ان الوجود الخارجي بناء على اصالة الوجود ، له حد مختص به. ولا يشترك فيه غيره ، وهو المنشأ لانتزاع الماهية الشخصية ، وله حد آخر مشترك فيه مع غيره ، وهو المنشأ لانتزاع الماهية النوعية.

__________________

النّظر فيه : أحدهما النّظر العُبوري الآلي ، والآخر النّظر الاستقلالي ، حيث انه باعتبار كونه حاكيا يكون منظورا فيه بالنظر الآلي وباعتبار كون شخصه أيضا محكيا يكون منظورا بالنظر الاستقلالي وهو كما ترى كونه من المستحيل.

١١٨

وبتعبير ثالث ، انه كما يكون الماهية الشخصية معروض الوجود في التحليل العقلي ، وفي مرحلة التصور ، وعينه في الخارج كذلك يكون الطبيعي معروضه تصورا ، وعينه خارجا. فاضافة الوجود إلى الماهية الشخصية ، كاضافته إلى الطبيعي من دون كون وجود الفرد واسطة لعروض الوجود على الطبيعي. ولذا يصح اطلاق الطبيعي ـ كالانسان ـ على كل فرد من الافراد بما له من المعنى المشترك بين الجميع.

الثانية : ان استعمال اللفظ ، انما هو بإيجاد الطبيعي في الخارج فانيا في معناه. بمعنى ان الفناء صفة للطبيعي لا الفرد الخارجي. ضرورة ان الشخص يكون بالوجود وفي مرحلة الاستعمال. فلا يعقل ان يكون هو المستعمل ، وإلا لزم تأخر ما هو متقدم والواضع انما وضع الطبيعي لا الفرد.

إذا عرفت هاتين المقدمتين ، تعرف انه لا يصح استعمال اللفظ في نوعه ، إذ يلزم اتحاد الدال والمدلول. وهو محال.

وما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) (١) من عدم استحالة ذلك ، واستدل له بقوله : " يا من دل على ذاته بذاته" (٢). وقوله : " انت دللتني عليك" (٣).

غريب إذ الدلالة في المقام ، عبارة عن ابراز المعنى باللفظ ، وكونه علامة له.

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٣٦ ـ ٣٧ ، في صحة اطلاق اللفظ وإرادة شخصه.

(٢) من دعاء الصباح لأمير المؤمنين ، في أغلب كتب الأدعية.

(٣) من دعاء الإمام زين العابدين وقت السحر الإقبال ص ٦٨.

١١٩

فكيف تقاس بدلالة الذات على نفسه التي هي إما بمعنى كون الذات دالا بخلقته ، كما هو مقتضى قوله تعالى : كنت كنزا مخفيا فاحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق لكي اعرف (١). أو بمعنى كونه ، هو الظاهر بنفسه وظهور غيره لا بد وان ينتهى إليه. كما يشير إليه قوله : ألغيرك من الظهور ، ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك (٢)؟ ولكن مع ذلك يصح اطلاق اللفظ وإرادة نوعه ، لا من باب الاستعمال بل من باب احضار الموضوع في القضية الحقيقية بنفسه ، وإلقائه على السامع من دون وساطة ما يستعمل فيه. فيكون الموضوع في القضية اللفظية متحدا مع ما هو الموضوع في القضية الخارجية. ولا محذور في ذلك.

وقد يقال : ان المثال الذي ذكره المحقق الخراساني ـ ضرب فعل ماض ـ إذا لم يقصد به شخص القول ليس من استعمال اللفظ في نوعه. لعدم كون الحاكى فعلا ماضيا.

وعليه ، فهو من باب الاستعمال في غيره.

وفيه : ان الفعل الماضي ، ما يكون بوضعه دالا على تحقق الحدث في الخارج. ولا يعتبر فيه الدلالة الفعلية ، فانها غير ثابتة قبل الاستعمال. فلفظ ضرب استعمل في معناه ام لم يستعمل فيه ، فعل ماض. أي ما من شانه انه لو استعمل فيما وضع له يكون دالا على الحدث.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٤ ص ١٩٩ ذكره في بيان شرح قنوت يوم الجمعة (تم نورك فهديت).

(٢) دعاء عرفة لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين.

١٢٠