الإكليل في استنباط التنزيل

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الإكليل في استنباط التنزيل

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: سيف الدين عبدالقادر الكاتب
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١١

مقدّمة

قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسمائة آية ، وقال بعضهم مائة وخمسون ، وقيل لعل مرادهم المصرح به فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام. قال الشيخ عز الدين بن عبد السّلام في كتاب الإمام : إنما ضرب الله الأمثال في كتابه تذكيرا ووعظا فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل أو على مدح أو ذم أو نحوه فإنه يدل على الأحكام ، ثم قال : ومعظم آي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلة ، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام ، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط إما بلا ضمّ إلى آية أخرى كاستنباط تحريم الاستمناء من قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الى قوله : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ)(١) الآية. وصحة أنكحة الكفار من قوله : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(٢) ، وصحة صوم الجنب من قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ)(٣) الآية. وإما به كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٤) ، مع قوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ)(٥) ، قال الشيخ عز الدين : ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر وتارة بالإخبار مثل (أُحِلَّ لَكُمْ)(٦) ، (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(٧) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٨) ، وتارة بما رتب عليها في العاجل أو الآجل من خير أو شر أو نفع أو ضر.

__________________

(١) سورة (المؤمنون) : الآيتان ٦ ـ ٧.

(٢) سورة المسد : ٤.

(٣) سورة البقرة : ١٨٧.

(٤) سورة الأحقاف : ١٥.

(٥) سورة لقمان : ١٤.

(٦) سورة البقرة : ١٨٧.

(٧) سورة المائدة : ٣.

(٨) سورة البقرة : ١٨٣.

٢١

وقد نوع الشارع ذلك أنواعا كثيرة ترغيبا للعباد ، وترهيبا وتقريبا الى أفهامهم فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله ، أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله ، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب أو أقسم به أو بفاعله كالأقسام بالشفع والوتر وبخيل المجاهدين ، وبالنفس اللوامة. أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته أو للثواب عاجلا أو آجلا ، أو لشكره له أو لهدايته إياه ، أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئآته ، أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارته ، أو وصف فاعله بالطيب أو وصف الفعل بكونه معروفا ، أو نفي الحزن أو الخوف عن فاعله ، أو وعده بالأمن أو نصبه سببا لولايته ، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله أو وصفه بكون قربة ، أو بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء ، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب.

وكل فعل طلب الشارع تركه ، أو ذمه أو ذم فاعله أو عتب عليه ، أو مقت فاعله أو لعنه أو نفى محبته أو محبة فاعله أو الرضا به أو عن فاعله ، أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين ، أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول أو وصفه بسوء أو كراهة ، أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه ، أو جعله سببا لنفي الفلاح ، أو لعذاب آجل أو عاجل ، أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية ، أو وصف بخبث أو رجس أو نجس ، أو بكونه فسقا أو إثما أو سببا لإثم أو رجس ، أو لعن أو غضب أو زوال نعمة أو حلول نقمة أو حدّ من الحدود أو قسوة أو خزي أو ارتهان نفس ، أو لعداوة الله ومحاربته أو لاستهزائه أو سخريته ، أو جعله الله سببا لنسيانه فاعله ، أو وصف نفسه بالصبر عليه أو بالحلم أو بالصفح عنه أو دعا الى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو احتقار أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه أو تولي الشيطان لفاعله ، أو وصف بصفة ذم ككونه ظلما أو بغيا ، أو عدوانا ، أو إثما ، أو مرضا ، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله أو شكوا إلى الله من فعله أو جاهروا فاعله بالعدواة أو نهوا عن الأسى والحزن عليه ، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا ، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها ، أو وصف فاعله بأنه عدو الله أو بأن الله عدوه ، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله ، أو حمّل فاعله إثم غيره ، أو قيل فيه لا ينبغي هذا. أو لا يكون ، أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه ، أو أمر بفعل مضاده ، أو بهجر فاعله ، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة ، أو تبرأ بعضهم من بعض ، أو دعا بعضهم على بعض ، أو وصف فاعله بالضلالة ، أو انه ليس من الله في شيء ، أو ليس من الرسول وأصحابه. أو جعل اجتنابه سببا للفلاح ، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، أو قيل هل أنت منته ، أو نهى الانبياء عن الدعاء لفاعله أو

٢٢

رتب عليه إبعادا أو طردا أو لفظة ، قتل من فعله ، أو قاتله الله ، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر اليه ولا يزكيه ولا يصلح عمله ولا يهدي كيده أو لا يفلح ، أو قيض له الشيطان أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل ، فهو دليل المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة.

وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفي الجناح والحرام والإثم والمؤاخذة ، ومن الإذن فيه والعفو عنه ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع. ومن السكوت عن التحريم ، ومن الإنكار على من حرم الشيء ، ومن الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا ، والاخبار عن فعل من قبلنا غير ذام لهم عليه ، فإن اقترن بالإخبار مدح دل على مشروعيته وجوابا أو استحبابا. انتهى.

٢٣
٢٤

ـ ١ ـ

سورة فاتحة الكتاب

٢ ـ قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فيه إثبات الصانع وحدوث العالم واستدل بالافتتاح بها من قال أنها أبلغ صيغ الحمد خلافا لمن ادعى أن الجملة الفعلية أبلغ ، قال البلقيني : اجلّ صيغ الحمد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لأنها فاتحة الكتاب وخاتمة دعوى اهل الجنة فتتعين في بر : ليحمدن الله بأجل التحاميد ، خلافا لما في «الروضة» وأصلها عن المتولي : أن أجلها الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده.

٣ ـ قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فيه اثبات الصفات الذاتية.

٤ ـ قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه اثبات المعاد.

٥ ـ قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه الإرشاد الى تقديم الخضوع والتذلل على طلب الحاجة. قال أبو طالب الثعلبي في تفسيره : وقد جمع في هذه الآية إبطال الجبر والقدر معا لأنه وصف عباده بأنهم يعبدون فأثبت لهم كسبا وعلمهم الاستعانة ولو كان العبد مستطيعا قبل الإعانة لما احتاج الى الاستعانة فنفى عنهم القدرة فهو كقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)(١) نفى الخلق وأثبت الكسب ، قال وسائر آيات السور على مناقضة قواعد المعتزلة لأنه بدأ بالتسمية وان جعل الاسم زائدا فمعناه : بالله كانت الكائنات أولا ، لأن العبد إذا كان خالقا لكسبه مستطيعا له لم يكن للاستعانة بالاسم معنى ثم عليهم حمده وقد قبح سيرة من أحب أن يحمد بما لم يفعل ، فدل على أنه الفعال لكل شيء ، ثم أمرهم بالاستعانة وسؤال الهداية ، وعلى زعمهم لا حاجة إليها وإلى الهدى لأنه قد هداهم بالدعوة وبيان الأدلة وليس الهدى على زعمهم خلق المعرفة ، ففاتحة الكتاب شاهدة عليهم. وقال القاضي البيضاوي : الضمير المستكن في نعبد ونستعين

__________________

(١) سورة الأنفال : ١٧.

٢٥

للقاريء ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ويجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة.

٧ ـ قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فيه الإشارة إلى الاقتداء بالسلف الصالح.

٢٦

ـ ٢ ـ

سورة البقرة

٣ ـ قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال الرازي : يتضمن الأمر بالصلاة والزكاة.

٨ ـ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية : قال الرازي : يدل على أن الايمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد لأن الله قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم اسمه بقوله (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قال هو وغيره ويحتج بهذه الآيات وأشباهها على استتابة الزنديق الذي ظهر منه الكفر لأنه تعالى أخبر عنهم بذلك ولم يأمر بقتلهم ، ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال.

٢٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فيه دلالة على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. قال محمود بن حمزة الكرماني : استدل أكثر المفسرين بالآية على شكل الأرض بسيط ليس بكروي.

٢٩ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) استدل به على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه.

٢٣ ـ قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) استدل به من قال : إنه لا يتعلق الإعجاز بأقل من سورة ، ورد به على من قال من المعتزلة بأنه يتعلق بجميع القرآن.

قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) استدل به على أن النار مخلوقة الآن.

٢٦ ـ قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) الآية ، فيه دلالة لمذهب أهل السنة أن الهدى والضلالة من الله.

٣٠ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) الآية ، فيه إرشاد عباده إلى المشاورة وأن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره وإن كان فيه نوع شر وانه لا رأي مع وجود النص وهو أصل في المسائل التعبدية.

٢٧

٣١ ـ قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) استدل به من قال إن اللغات توقيفية وضعها الله بالوحي وعلمها.

٣٣ ـ قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ) استدل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن آدم مكلم. روى أحمد وغيره عن أبي أمامة : أن أبا ذر قال يا نبي الله أي الأنبياء كان أول؟ قال : «آدم» ، قال : أو نبيا كان آدم؟ قال نعم مكلّم ، خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم قال يا آدم قيلا وفي بقية الآية دليل على مزية العلم وأنه شرط في الخلافة وفضل آدم على الملائكة قال الإمام : لما أراد الله إظهار فضل آدم لم يظهره إلا بالعلم فلو كان في الإمكان شيء أفضل من العلم كان إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم وكذلك أمر الملائكة بالسجود له لأجل فضيلة العلم.

قلت : ويؤخذ من هذا استحباب القيام للعالم. وقال الطيبي : أفادت هذه الآية أن علم اللغة فوق التحلي بالعبادة فكيف علم الشريعة.

٣٤ ـ قوله : (أَبى)(١) رد على الجبرية إذ لا يوصف بالإباء من هو غير قادر على المطلوب.

٣٥ ـ قوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) إلى آخر القصة فيها دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) قال ابن الفرس هذا أصل جيد في سد الذرائع لأنه تعالى لما أراد النهي عن الأكل منها نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب.

٤٠ ـ قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) يستدل به على دخول اولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) الآية. قال ابن الفرس فيه دليل على أن لله على الكفار نعمة خلافا لمن قال لا نعمة لله عليه وإنما النعمة على المؤمنين.

٤٣ ـ قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قال الرازي : يفيد إثبات فرض الركوع في الصلاة.

٤٥ ـ قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فيه استحباب الصلاة عند المصيبة وأنها تعين صاحبها ، أخرج سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس أنه كان في

__________________

(١) قوله : أبى. الضمير عائد على إبليس. وسياق الآية : وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى ...

٢٨

مسير فنعى إليه ابن له فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع وقال فعلنا كما أمرنا الله : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.

٤٧ ـ قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال ابن الفرس فيه ورود العام المراد به الخصوص لأن المراد عالم زمانهم.

٥٠ ـ قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناكُمْ)(١) الآيات في العجائب للكرماني استدل بها بعض من يقول بالتناسخ وقالوا : إن القوم كانوا هم بأعيانهم فلما تطاولت عليهم مدة التلاشي والبلى نسوا فذكّروا ، قال وهذا محال وجهل بكلام العرب فإن العرب تخاطب بمثل هذا وتعني الجد الأعلى والأب الأبعد.

٥٧ ـ قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) استدل به على أن الضيف لا يملك ما قدم له وأنه لن يتصرف فيه إلا بإذن ، ذكره صاحب التحرير.

٥٩ ـ قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) قال الكيا : يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها وأنه يتعين اتباعها ، وقال الرازي : يحتج به فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال وأنه غير جائز تغييرها ، وربما احتجّ به علينا المخالف في تجويز تحريمه الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ، وفي تجويز القراءة بالفارسية وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة وما جرى مجرى ذلك.

٦٧ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إلى آخر القصة فيها أحكام.

الأول استدل بقوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ان الآمر لا يدخل في عموم الأمر فإن موسى لم يدخل في عموم الأمر بدليل قوله (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ولا يظن بموسى ذلك ذكره الزركشي في شرح جمع الجوامع.

الثاني استدل به بكر بن العلاء على أن السنة في البقرة الذبح.

الثالث استدل به على جواز ورود الأمر مجملا وتأخير بيانه.

الرابع استدل بقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) وبقوله : (مُسَلَّمَةٌ) على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام لأن ذلك لا يعلم إلا من الاجتهاد.

__________________

(١) في الطبعات المتداولة : (وأنجيناكم). وما أثبتناه هو النصّ القرآني ، وسياق الآية : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ..)

٢٩

الخامس استدل به على أن المستهزيء يستحق سمة الجهل ، ذكر محمد بن مسعود أن عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي مازحه فقال له : لا تجهل ، قال : وأنى وجدت المزاح جهلا فتلا عليه : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

السادس فيها الإرشاد إلى الاستثناء في الأمور في قوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

السابع فيها دليل لأهل السنة على المعتزلة أن الأمر لا يستلزم المشيئة ، قاله الماتريدي.

الثامن استدل بالآية على حصر الحيوان بالوصف وجواز السلم فيه.

التاسع قال المهدوي : في قوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) دليل على أن الامر على الفور ، قال ابن الفرس ويدل على ذلك أنه استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمرهم به وقال فذبحوها وما كادوا يفعلون.

٧٩ ـ قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) الآية استدل به النخعي على كراهة كتابة المصاحف بالأجرة.

٨١ ـ قوله تعالى (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) استدل به على أن المعلّق على شرطين لا يتنجز (١) بأحدهما.

١٠٢ ـ قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الآية ، استدل بها على أن السحر كفر حيث قال : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ، وقال (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) قال بكر بن العلاء وفي الآية أن الساحر يقتل ، ووجهه أنه قال : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باعوا أنفسهم للقتل بالسحر الذي فعلوه كما قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ـ إلى أن قال ـ (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)(٢).

١٠٤ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) قال ابن الفرس استدل بها على سد الذرائع في الأحكام ، لأن المؤمنين منعوا من قول : راعنا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يجد اليهود بذلك السبيل إلى سبّه.

١٠٦ ـ قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) فيها وقوع

__________________

(١) لا يتنجّز : لا يمكن إنجازه.

(٢) سورة التوبة : ١١١.

٣٠

النسخ في هذه الملة واستدل بقوله نأت بخير منها أو مثلها من قال إن النسخ إلى غير بدل لا يجوز ومن قال إنه لا يجوز إلى بدل أغلظ ومن قال إنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة.

١١٤ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) إلى قوله : (خائِفِينَ). قال الرازي : فيه دليل على منع دخول أهل الذمة المساجد ، وقال الكيا : يدل أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها ولو لا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.

١١٥ ـ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). الآية. روى مسلم عن ابن عمر أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة في السفر ، وروى الترمذي وابن ماجة والدارقطني وغيرهم من حديث عامر بن ربيعة وجابر أنها نزلت فيمن صلى بالاجتهاد الى القبلة ثم تبين له الخطأ. قال الرازي : لا يمتنع أن تكون نزلت في الأمرين معا بأن وقعا في وقت واحد وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما ، فأنزل الله الآية مريدا بها حكم جميع ذلك.

١١٦ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) الآية تدل على امتناع اجتماع الملك والولادة.

١٢٤ ـ قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) أخرج ابن المنذر من طريق التيمي عن ابن عباس أنها مناسك الحج ، وأخرج الحاكم وغيره من طريق طاوس عنه أنها قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وتقليم الأظافر ، وحلق العانة والختان ، ونتف الأبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء واخرج ابن أبي حاتم من طريق حنش الصنعاني عنه أنها المذكورات والمناسك وزاد فيها غسل يوم الجمعة ، ففي الآية مشروعية جميع ذلك.

قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟) قال ابن الفرس : يؤخذ من هذا إباحة السعي في منافع الذرية والقرابة وسؤال ذلك من بيده ذلك.

قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال الرازي فسر السدّي العهد بالنبوة. وعن مجاهد أنه أراد أن الظالم لا يكون إماما ، وعن ابن عباس أنه قال لا يلزم الوفاء لعهد الظالم فإذا عقد عليك في ظلم فانقضه قال وجميع ذلك يحتمله اللفظ وجائز أن يكون جميعه مرادا لله وهو محمول على ذلك عندنا فلا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة نبي ، ولا قاضيا ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين ، من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرا ، فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان محل الائتمام به في أمور الدين

٣١

العدالة والصلاح ، قال : وهذا يدل أيضا على أن شرط أئمة الصلاة أن يكونوا صالحين غير فسّاق ولا ظالمين.

١٢٥ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). يحتج به في كون الحرم مأمنا. قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). فيه مشروعية ركعتي الطواف واستحبابهما خلف المقام واستدل الرازي بظاهر الأمر على وجوبهما. قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فيه أن الأعمال المتعلقة بالبيت ثلاثة : الطواف والاعتكاف والصلاة. أخرج ابن ابي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس قال إذا كان قائما فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركّع السجود. وأخرج أيضا من طريق حماد بن سلمة عن ثابت قال قلت لعبد الله ابن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلّم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون ، قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون. وفي الآية مشروعية طهارة المكان للطواف والصلاة. قال الرازي والكيا : وفيها دلالة على أن الطواف للغرباء أفضل والصلاة للمقيم أفضل. قلت : ولم يظهر لي وجه ذلك ، قالا وفيها دلالة على جواز الصلاة في نفس الكعبة حيث قال : بيتي ، خلافا لمالك. قلت : يرده قوله : للطائفين ، والطواف لا يكون في نفس الكعبة ، قال الرازي : وفيها دلالة على أن الطواف قبل الصلاة. قلت : قد استدل بذلك ابن عباس ، فأخرج الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال أبدأ بالصفا قبل المروة وأصلي قبل أن أطوف أو أطوف قبل أو أحلق قبل أن أذبح أو أذبح قبل أن أحلق؟ فقال ابن عباس : ذلك من كتاب الله فإنه أجدر أن يحفظ قال الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(١) فالصفا قبل المروة. وقال : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)(٢) فالذبح قبل الحلق ، وقال : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فالطواف قبل الصلاة ، وقال الحاكم صحيح الإسناد قال الرازي وفيها دلالة على جواز المجاورة بمكة لأن قوله : والعاكفين ، يحتمله مع أن عطاء وغيره قد تأولوه على المجاورين.

١٢٧ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٨.

(٢) سورة البقرة : ١٩٦.

٣٢

مِنَّا) ، قال الرازي فيه أن بناء المساجد قربة. قلت : وفيه استحباب الدعاء بقبول الأعمال.

١٣٠ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(١) فيه دلالة على لزوم اتباع ملته فيما لم يثبت نسخه ، ذكره الكيا وغيره.

١٣٣ ـ قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ)(٢) الآية استدل به ابن عباس على أن الجد بمنزلة الأب وعلى توريثه دون الأخوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال سمعت ابن عباس يقول الجد أب ويتلو ابن عباس : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الآية ، ورد عليه من الآية بذكر إسماعيل فسمى العم أبا ولا يقوم مقامه إجماعا.

١٤١ ـ قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) الآية. قال الرازي : يدل على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ، ولا يعذبون على ذنوبهم ، وفيه ابطال مذهب من يجيز تعذيب اولاد المشركين تبعا لآبائهم ، قال ابن الفرس : وفي قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) إثبات الكسب للعبد.

١٤٢ ـ قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) الآية (٣) ، فيه الرد على من أنكر النسخ ودلالة على جواز نسخ السنة بالقرآن لأن استقبال بيت المقدس كان ثابتا بالسنة الفعلية لا بالقرآن.

١٤٣ ـ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) يستدل به على تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم ، قوله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) قيل : أي لتكونوا حجة فيما تشهدون كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد بمعنى حجة. قال : ففيه دلالة على حجية إجماع الأمة. قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، استدل به على أن الايمان قول وعمل.

__________________

(١) سفه نفسه : حملها على السّفه ، وهو الجهل والخفة والطيش.

(٢) جاءت العبارة في سياق قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ : ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ : إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً ...)

وموضع الشاهد فيها قوله : آبائك. فإنّ العرب تسمّي الجدّ أبا ، وإبراهيم هو جدّ يعقوب عليهما‌السلام.

وفيها : أن العمّ يسمّى أبا كذلك ، فإنّ اسماعيل هو عمّ يعقوب عليهما‌السلام.

(٣) موضع الشاهد في الآية قوله : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ...) فإنّ فيه تحويل القبلة إلى البيت الحرام ، ونسخ الصلاة إلى بيت المقدس.

٣٣

١٤٤ ـ قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فيه ايجاب استقبال الكعبة في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا ، في كل مكان حضرا أو سفرا ، وهو مخصوص بالآية المتقدمة في نافلة السفر على الراحلة ، وبالآية الآتية في حالة المسابقة. قال الرازي : والخطاب لمن كان معاينا للكعبة وغائبا عنها ، والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ، ولمن كان غائبا عنها النحو الذي عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه دون العين يقينا ، إذ لا سبيل إلى ذلك وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد ، وقد يستدل بقوله : شطره ، على أن الفرض للغائب إصابة الجهة لا العين وهو أحد قولي الشافعي. وقد أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس أنه كان يقول : شطره : نحوه ، وأخرج الحاكم عن عليّ قال : شطره : قبله ، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود عن رفيع قال : شطره : تلقاءه ، وأخرج عن البراء قال : شطره : وسطه. وهذا صريح في إرادة العين لا الجهة.

١٤٨ ـ قوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها.

١٥٤ ـ قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، فيها دلالة على حياة الشهداء بعد الموت.

١٥٥ ـ قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الآية ، فيه استحباب الاسترجاع عند المصيبة ، وإن قلت كما أشار اليه تنكير مصيبة وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال انقطع قبال (١) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسترجع ، فقالوا : مصيبة يا رسول الله؟ فقال : (ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة) وله شواهد أوردتها في التفسير المسند.

١٥٨ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية فهم منها جماعة عدم وجوب السعي ، وبه قال الثوري واسحق. قال اللخمي ورد القرآن باباحته بقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) وتضمنت الآية الندب بقوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) وقوله : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قال ابن الفرس : وفيه نظر حيث جعله مباحا مندوبا في آية واحدة ، وقال قوم : من شعائر الله دليل على الوجوب لأنه خبر بمعنى الأمر ولا دليل على سقوطه في قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) لأنه ورد لرفع ما وقع في نفوسهم كما ثبت في سبب نزولها. وهذا ما ردّت به عائشة على عروة في فهمه ذلك ، وقالت : لو كانت على ما أوّلتها عليه كانت فلا

__________________

(١) القبال من النعل : الحزام الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها.

٣٤

جناح عليه ألا يطوف بهما الحديث ، أخرجه الشيخان. وقد فهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآية الوجوب حيث قال «إن الله كتب عليكم السعي» رواه أحمد والطبراني ، واستدل بتقديم الصفافي الآية على وجوب الابتداء به حيث قال : «ابدأ بما بدأ الله به» رواه مسلم وفي لفظ «نبدأ»» رواه الترمذي وفي لفظ «ابدءوا» رواه النسائي وابن خزيمة. قال ابن الفرس : واستدل بعموم الآية على صحة طواف الراكب والمحدث.

١٥٩ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) الآية ، فيه وجوب إظهار العلم وتبيينه وتحريم كتمانه ، قال الكيا والرازي : وعمّ ذلك المنصوص والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع. قال الكيا : فيه دليل على وجوب قبول قول الواحد ، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، قلت : ويستدل بالآية على عدم وجوب ذلك على النّساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.

١٦٠ ـ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) يدل على أنه لا يكتفى في صحة التوبة بالندم على ما سلف ، بل لا بد من تدارك ما فات في المستقبل حيث قال :

وبيّنوا ذكره الرازي والكيا.

١٦١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا) الآية استدل به على جواز لعن الكافر (١) بعد موته خلافا لمن قال إنه لا فائدة.

١٦٣ ـ قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) فيه إثبات الوحدانية له تعالى في ذاته وصفاته.

١٦٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية فيه إثبات الاستدلال بالحجج العقلية واستدل بقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) على جواز ركوب البحر تاجرا وغيره ، وقد سئل بعض الأكابر عن قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(٢) ، فأين الفلفل وكذا وكذا؟ فقال في قوله (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ).

١٦٨ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يدل على أن من حرم طعاما أو ثوبا أو غيره فهو لاغ ولا يحرم

__________________

(١) حيث أن الشاهد فيها قوله تعالى : (.. وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(٢) سورة الأنعام. ٣٨.

٣٥

عليه. أخرج ابن أبي حاتم عن ابي مسعود أن رجلا قال له : إني حرمت أن آكل ضرعا (١) أبدا فقال : هذا من خطوات الشيطان اطعم وكفّر عن يمينك ، وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال : خطوات الشيطان النذور في المعاصي.

١٧٠ ـ قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) الآية فيه ابطال التقليد.

١٧٣ ـ قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) ، عام في جميع أجزائها حتى الدهن واللبن والإنفحة (٢) خلافا لمن خالف في ذلك ، واستدل بعمومه على تحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية ، واستدل به أيضا من حرم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، وعليه أكثر المالكية ، والأجنّة ، وعليه أبو حنيفة.

قوله تعالى : (وَالدَّمَ) قيده في سورة الأنعام بالمسفوح (٣) وسيأتي ، واستدل بعمومه على تحريمه ونجاسة دم الحوت وما لا نفس له سائلة. قوله ، ولحم الخنزير ، استدل بعمومه من حرم خنزير البحر.

قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ)(٤) استدل به من حرم ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم وعلى اسم المسيح.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ)(٥) الآية فيه إباحة المذكورات للمضطر بشرط أن لا يكون باغيا ولا عاديا فلا يحل تأوّلها للباغي والعادي كالعاصي بسفره. أخرج سعيد بن منصور في سننه عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (فَمَنِ

__________________

(١) الضّرع : ثدي الشاة أو الناقة ونحوهما ، وهو هنا كناية عنها ، فقائل ذلك يعني أنه قد حرّم على نفسه ما أحلّ الله من السوائم ، ونحو هذا ما كان عليه شاعر المعرّة (أبو العلاء) ، وهذا من دين البراهمة الوثني ، يزعمون أنّ تحريمهم أكلها ضرب من الرفق بها. وهذا من الضلال المركب ، ولذلك كان جواب ابن مسعود رضي الله عنه بأن ذلك من خطوات الشيطان.

(٢) الإنفحة : جزء من معدة صغار العجول والجداء ونحوهما. ومادة خاصة تستخرج من الجزء الباطني من معدة الرضيع من العجول والجداء أو نحوهما ، بها خميرة تجبّن اللبن.

(٣) في قوله تعالى : [الأنعام : ١٤٥] : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً).

(٤) في الطبعات المتداولة ورد مكان آية سورة البقرة هذه ، آية [المائدة : ٣.] وهي قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

(٥) المراد بالبغي والعدوان : تجاوز حدّ الضرورة وقدرها.

٣٦

اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال غير باغ على المسلمين. ولا معتد عليهم ، من خرج لقطع الرحم أو لقطع السبيل ، أو يفسد في الأرض فاضطر إلى الميتة لم تحلّ له. ومن أباح ذلك قال : غير باغ ولا عاد في الأكل. أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ولا عاد في الأكل. أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال : من أكل شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج ومن أكله غير مضطر فقد بغى واعتدى. وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عن ابن عباس قال غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل ، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك.

١٧٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية فيه تحريم أخذ الأجرة على الإفتاء.

١٧٧ ـ قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ)(١) فيها من شعب الإيمان الايمان بالله واليوم الآخر ، والملائكة والكتب والأنبياء وصلة الأرحام والأيتام والمساكين وابن السبيل والسائلين ولو أغنياء والعتق وفك الأسرى واقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر على الفقر والضر والجهاد وفي قوله : (عَلى حُبِّهِ) دليل على أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة كما فسره ابن مسعود بقوله : «تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر» أخرجه الحاكم وغيره.

١٧٨ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) الآية : فيه مشروعية القصاص ، واستدل به الليث على أن الرجل لا يقتصّ منه لامرأة كما استدل به غيره على أن الحر لا يقتل بالعبد.

قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) الآية فيه مشروعية العفو على الدّية والمطالبة برفق والأداء من غير مطل (٢) ، وفي ذكر (أَخِيهِ) ترقيق مرغعفو وفي تنكير (شي) إشارة إلى سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ، قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) فيه أن العافي إذا قتل بعد العفو يقتص منه وأخذ جماعة من الآية تحتم قتله وأنه لا يصح العفو عنه.

__________________

(١) الشاهد فيها سياق الآية بتمامها : (.. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ...)

(٢) يقال : مطل فلانا حقّه وبحقّه ، مطلا : إذا أجلّ موعد الوفاء به مرّة بعد الأخرى. فهو مطول ومطّال.

٣٧

١٨٠ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هذا منسوخ كما تبين في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وقيل محكم خاص بمن لا يرث من الوالدين كالكفار والأقربين المحجوبين ، واختلف أصحاب هذا القول هل الوصية لهم واجبة لقوله : (كُتِبَ) و (حَقًّا) ، أو مندوبة لقوله (بِالْمَعْرُوفِ) ، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه.

١٨١ ـ قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) الآية ، قال الكيا : يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ، فإن إثم التبديل لا يلحقه وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة ، وأن ترك الوصيّ والوارث قضاءه ، قال ابن الفرس : ومن أحكام الآية أن الموصى إليه بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره خلافا لأبي حنيفة ، والحجة عليه : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وهذا من أعظم التبديل.

١٨٢ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ)(١) الآية ، قال الكيا وغيره : أفادت الآية أن على الوصيّ والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة العمد أو الخطأ ردها إلى العدل ، وأن قوله : (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) خاص بالوصية العادلة دون الجائرة وفيها الدلالة على جواز الاجتهاد والعمل بغالب الظن لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف ، وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد ما يكون ذلك بتراضيهم قال ابن الفرس ويؤخذ من الآية أيضا أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأنه تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الإصلاح.

١٨٣ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) فيه فرض الصوم.

١٨٤ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) استدل به من أباح الفطر بمجرد المرض وائن كان يسيرا أو بمجرد السفر وإن كان قصيرا أو غير طاعة أو غير مباح واستدل به داود على أنه لا يصح صوم المريض والمسافر لأنه تعالى جعل الواجب عليه أياما أخر فكان صائما قبل الوقت ، واستدل به الكرخي على أن الواجب أيام أخر ورمضان عليهما غير واجب فإن قدمه صح وكان معجلا كتعجيل الزكاة واستدل بقوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن شاء تابع وإن شاء فرق ، لأن الله تعالى يقول :

__________________

(١) الشاهد في الآية تمام سياقها ، وهو قوله تعالى بعد هذا : (جَنَفاً أَوْ إِثْماً). والجنف : الميل والجور في الوصية.

٣٨

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، واستدل به على أنه ليس على الفور ، خلافا لداود على أن من أفطر رمضان كله قضى أياما بعدده فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص ، أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين ، قال ابن القصار : ويحتج به لمذهب مالك والشافعي في أن المسافر إذا أقام ، أو شفي المريض أثناء النهار ، لا يلزمهم الإمساك بقيته لأنه تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر ، وهؤلاء قد أفطروا ، فحكم الإفطار لهم باق ومن حكمه أن لا يجب عليه أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه ، ويستدل بالآية على أنه يجزيء صوم يوم قصير مكان يوم طويل ولا أعلم فيه خلافا وعلى أنه لا فدية مع القضاء.

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) هذا منسوخ وقيل لا ؛ والمراد لمن لا يطيق الصوم لهرم أو لمرض أو نحوه ، إما بتقدير لا النافية أو أن يطيقونه بمعنى يتكلفونه كما قريء يطوقونه ، وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس لأنه قرأ : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال يكلّفونه وهو الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يطعمون كل يوم مسكينا ولا يقضون وله طرق كثيرة عنه ، وأخرج الدار قطني عنه أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت من الذين لا يطيقون الصيام عليك الجزاء وليس عليك القضاء.

قال الشافعي : ظاهر الآية أن الذين يطيقون الصوم إذ لم يصوموا أطعموا ونسخ في غيره حق الحامل والمرضع وبقي في حقهما ، فالحاصل أنا إن جعلناها منسوخة فهي في الحامل والمرضع محكمة وإن جعلناها محكمة ففيها دليل على إباحة الإفطار لمن لا يطيق لعذر لا يرجى برؤه وأن عليه فدية بدل الصوم وأنها عن كل يوم قدر لطعام مسكين وهو مدّ (١) من حبّ ، وأن من زاد على ذلك فهو أفضل وأن مصرفها طائفة المساكين بخلاف غيرهم من أهل الزكاة ، وقد يستدل بالآية على أن الصوم لا يقبل النيابة وإلا لذكرها واستدل بها ابن عباس على أن الحامل والمرضع يفديان ولا قضاء عليهما قال أبو عبيد اختلف الناس في الحامل والمرضع فقيل عليهما الفدية دون القضاء وقيل القضاء دون الفدية وقيل الأمران وكلّ تأوّل الآية ؛ من قال بالفدية فقط رأى أنهما ممن لا يطيق وليستا من أهل السفر ولا المرض ، وأهل هذا الوصف هم أهل الفدية ، ومن رأى القضاء فقط رأى الحمل والرضاع علّتين من العلل كالمرض ، ومن أوجبهما قال إن الله حكم في تارك الصوم بعذر بحكمين القضاء في آية والفدية في أخرى فلما لم يجد لهما ذكرا في واحد منهما

__________________

(١) المدّ : مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره ، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز ، وعند أهل العراق رطلان. يجمع على : أمداد ، ومداد.

٣٩

جمعهما عليهما أخذا بالأحوط ، واستدل بالآية على أن المسافر والمريض يفديان ولا يقضيان أخذا من عموم اللفظ ، وردّ لأن قوله تعالى أولا في حقهما : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يمنع دلالة : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ، عليهما لأن ما عطف على الشيء غيره لا محالة ، وفي الآية ردّ على من قال بإسقاط الصوم عن الشيخ ونحوه بلا فدية ، وعلى من جوّز الفدية فيه بالعتق.

قوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) قال ابن الفرس يحتج بها على جواز التطوع بصوم يوم الشك لعموم قوله خيرا قوله تعالى : وأن تصوموا خير لكم. قال ابن الفرس يحتج بها على أن الصوم لمن أبيح له الفطر أفضل ما لم يجهده.

١٨٥ ـ قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ) استدل به من كره أن يقال رمضان ، قوله تعالى (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) يستدل به مع قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) على أن ليلة القدر في رمضان ليست في غيره خلافا لمن زعم أنها ليلة النصف من شعبان.

قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) استدل به من قال من الأصوليين بوجوب الصوم على المسافر والمريض والحائض ، لأنهم شهدوا الشهر. واستدل به من قال لا قضاء على من مر عليه رمضان وهو مجنون بناء على انّ شهد بمعنى : علم. واستدل به من قال لا يقضي ، وفسّر : شهد ، بمعنى : أدرك ، قلت : واستدل به ابو حنيفة على أن من شهد بعض الشهر لزمه صوم كله وإن سافر لم يبح له الفطر ، ووجهه أنه لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر ، لأنه لا يكون شاهدا لجميعه إلا بعد مضيه كله ويستحيل أن يكون مضيه كلية شرطا للزوم صومه كله لأن الماضي من الوقت يستحيل إيقاع الصوم فيه فعلم أنه لم ير شهود جميعه فالتقدير من شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهد منه. وقد أخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر في قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد لزمه الصوم لأن الله تعالى يقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد لزمه الصوم لأن الله تعالى يقول (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال هو إهلاله بالدار واستدل بالآية على إجزاء صوم الأسير إذا صام بالاجتهاد ووافق رمضان خلافا للحسن بن صالح وعدمه إذا صادف ما قبله وعلى أن من رأى الهلال وحده لزمه الصوم بنفسه خلافا لمن قال لا

__________________

(١) سورة القدر : ١.

٤٠