وقعة صفّين

نصر بن مزاحم المنقري

وقعة صفّين

المؤلف:

نصر بن مزاحم المنقري


المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩

واحد منهما صاحبه (١).

وكان مع عمرو ابن عم له فتي شاب ، وكان داهيا حليما (٢) ، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتي وقال : ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش؟ أعطيت دينك ومنيت دنيا غيرك. أترى أهل مصر ـ وهم قتلة عثمان ـ يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب؟ فقال عمرو : يا ابن الأخ ، إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى في ذلك شعرا :

ألا يا هند أخت بني زياد

دهى عمرو بداهية البلاد (٣)

رمى عمرو بأعور عبشمي

بعيد القعر مخشى الكياد (٤)

له خدع يحار العقل فيها

مزخرفة صوائد للفؤاد

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد ( ١ : ١٣٨ ) : « تفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب على ألا ينتقض شرط طاعة ، يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشيء. وهذه مكايدة له ، لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصرا ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصرا ، لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء كانت مصر مسلمة إليه أو لا. فلما انتبه عمرو على هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك وقال : بل اكتب : على أن لا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه. وهذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية ، ومنع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر ».

(٢) الحليم : ذو الأناة والعقل. وفي ح : « وكان لعمرو بن العاص ابن عم من بني سهم أريب ». وفي الإمامة والسياسة : « وكان مع عمرو بن العاص ابن أخ له جاءه من مصر ». وانظر ما سيأتي في س ٥ هذه الصفحة من قوله : « يا ابن الأخ » وما سيأتي بعد القصيدة في الصفحة التالية.

(٣) أراد : دهي ، فسكن آخره للشعر. وفي ح : « رمى » وكلاهما بالبناء للمفعول.

(٤) في الأصح وح : « محش الكباد » ، وإنما يريد أنه يخشى كيده.

٤١

فشرط في الكتاب عليه حرفا

يناديه بخدعته المنادي

وأثبت مثله عمرو عليه

كلا المرأين حية بطن واد

ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا

وما ملت الغداة إلى الرشاد

وبعت الدين بالدنيا خسارا

فأنت بذاك من شر العباد

فلو كنت الغداة أخذت مصرا

ولكن دونها خرط القتاد

وفدت إلى معاوية بن حرب

فكنت بها كوافد قوم عاد

وأعطيت الذي أعطيت منه

بطرس فيه نضح من مداد

ألم تعرف أبا حسن عليا

وما نالت يداه من الأعادي

عدلت به معاوية بن حرب

فيا بعد البياض من السواد

ويا بعد الأصابع من سهيل

ويا بعد الصلاح من الفساد

أتأمن أن تراه على خدب

يحث الخيل بالأسل الحداد (١)

ينادي بالنزال وأنت منه

بعيد فانظرن من ذا تعادي

فقال عمرو : يا ابن أخي ، لو كنت مع علي وسعني بيتي ، ولكني الآن مع معاوية (٢). فقال له الفتى : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنك تريد دنياه و [ هو ] يريد دينك. وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو ومعاوية. قال : فسر ذلك عليا وقر به. قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أشتري كما اشترى عمرو؟ قال : فقال له معاوية : إنما تبتاع الرجال لك. قال : فلما بلغ عليا ما صنعه معاوية وعمرو قال :

__________________

(١) الخدب : الضخم من كل شيء.

(٢) ح : « لو كنت عند علي لوسعني ، ولكني الآن عنده ».

٤٢

يا عجبا لقد سمعت منكرا

كذبا على الله يشيب الشعرا

يسترق السمع ويغشى البصرا

ما كان يرضى أحمد لو خبرا

أن يقرنوا وصيه والأبترا

شاني الرسول واللعين الأخزرا (١)

كلاهما في جنده قد عسكرا

قد باع هذا دينه فأفجرا (٢)

من ذا بدنيا بيعه قد خسرا

بملك مصر أن أصاب الظفرا (٣)

إني إذا الموت دنا وحضرا

شمرت ثوبي ودعوت قنبرا (٤)

قدم لوائي لا تؤخر حذرا

لن يدفع الحذار ما قد قدرا (٥)

لما رأيت الموت موتا أحمرا

عبأت همدان وعبوا حميرا

حي يمان يعظمون الخطرا

قرن إذا ناطح قرنا كسرا

قل لابن حرب لا تدب الخمرا (٦)

أرود قليلا أبد منك الضجرا

لا تحسبني يا ابن حرب غمرا (٧)

وسل بنا بدرا معا وخيبرا

__________________

(١) يعني بالأبتر العاص بن وائل ، والد عمرو بن العاص ، وفيه نزل قول الله : ( إن شانئك هو الأبتر ). وبالأخزر عمرو بن العاص ، وكأنه كان أخزر ينظر بمؤخر عينيه.

(٢) أفجر : كذب ، أو عصى ، أو كفر. ومثله فجر.

(٣) ح : « بيعة قد خسرا ».

(٤) قنبر بفتح القاف والباء : مولى علي. وإليه ينسب المحدثان العباس بن الحسن وأحمد ابن بشر القنبريان.

(٥) الحذار : الحذر. وفي الأصل : « لن ينفع » صوابه في ح.

(٦) الخمر ، بفتح الخاء المعجمة والميم : ما واراك من الشجر والجبال ونحوها. والدبيب : المشى على هينة. يقال للرجل إذا ختل صاحبه : هو يدب له الضراء ، ويمشي له الخمر. وفي الأصل : « لا ندب الحمرا » والكلمتان محرفتان ، والصواب في ح. والإرواد : الإمهال.

(٧) الغمر ، بتثليث أوله وبفتح أوله وثانيه : من لم يجرب الأمور. وفي الأصل : « عمرا » محرف.

٤٣

كانت قريش يوم بدر جزرا (١)

إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا

لو أن عندي يابن حرب جعفرا

أو حمزة القرم الهمام الأزهرا

رأت قريش نجم ليل ظهرا

نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتابا وقال : ما ترى؟ قال : أمض الرأي الأول. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب [ محمد ] بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه. ثم قال : ما ترى في علي؟ قال : أرى فيه خيرا ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدو لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل ؛ فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا (٢).

فكتب إلى شرحبيل : « إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي ابن أبي طالب بأمر فظيع ، فاقدم ». ودعا معاوية يزيد بن أسد ، وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث الزبيدي ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ـ وهؤلاء رءوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصته ـ وبني عم شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان. فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل

__________________

(١) الجزر بفتحتين : اللحم الذي تأكله السباع ، يقال تركوهم جزرا إذا قتلوهم.

(٢) في الأصل : « وإن تعلق يقلبه لم يخرجه شيء أبدا » ، وأثبت الصواب من ح.

٤٤

اليمن فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي ، وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه (١) ، وكان أفقه أهل الشام ، فقال : يا شرحبيل بن السمط ، إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنه لا ينقطع المزيد من الله حت ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد ألقى إلينا قتل عثمان ، وأن عليا قتل عثمان (٢) ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه؟ لا تهلك نفسك وقومك. فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك (٣). فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي (٤) ، وكان ناسكا :

يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ

بود علي ما تريد من الأمر (٥)

ويا شرح إن الشام شامك ما بها

سواك فدع قول المظل من فهر

فإن ابن حرب ناصب لك خدعة

تكون علينا مثل راغية البكر (٦)

__________________

(١) عبد الرحمن بن غنم ، أحد الرجال المختلف في صحبتهم للرسول. ومات سنة ٧٨. انظر الإصابة ٥١٧٣ و ٦٣٧١. في الأصل : « وحنثه » وإنما هي « وختنه » كما جاء في ح.

(٢) بدلها في ح : « إنه قد ألقى إلى معاوية أن عليا قتل عثمان ، ولهذا يريدك ».

(٣) ح : « عن شامك وقومك ».

(٤) الثمالي : نسبة إلى ثمالة ، بطن من بطونهم. وفي الأصل : « اليماني » صوابه في ح ومعجم المرزباني ٢٦٩. قال المرزباني : « شامي. يقول لشرحبيل بن السمط لما بويع معاوية ... » وأنشد بعض أبيات القصيدة التالية.

(٥) شرح : مرخم شرحبيل ، وهذا بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء ، ولكنه سكن الراء للشعر. وفي الأصل : « شرخ » بالخاء صوابه في ح.

(٦) الراغية : الرغاء. والبكر ، بالفتح : ولد الناقة. انظر أمثال الميداني ( ٢ : ٧٨ ). وهذا مثل يضرب في التشاؤم ، يشار به إلى ما كان من رغاء بكر ثمود حين عقر قدار ناقة صالح فأصاب ثمود ما أصاب. انظر ثمار الفلوب ٢٨٢ والمفضليات ( ٢ : ١٩٥ طبع المعارف ).

٤٥

فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا

هنيئا له ، والحرب قاصمة الظهر

فلا تبغين حرب العراق فإنها

تحرم أطهار النساء من الذعر

وإن عليا خير من وطئ الحصى

من الهاشميين المداريك للوتر (١)

له في رقاب الناس عهد وذمة

كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر

فبايع ولا ترجع على العقب كافرا

أعيذك بالله العزيز من الكفر (٢)

ولا تسمعن قول الطغام فإنما

يريدون أن يلقوك في لجة البحر

وماذا عليهم أن تطاعن دونهم

عليا بأطراف المثقفة السمر

فإن غلبوا كانوا علينا أئمة

وكنا بحمد الله من ولد الظهر (٣)

وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا

وكان على حربنا آخر الدهر

يهون على عليا لؤي بن غالب

دماء بني قحطان في ملكهم تجري

فدع عنك عثمان بن عفان إننا ،

لك الخير ، لا ندري وإنك لا تدري

على أي حال كان مصرع جنبه

فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو

نصر بن مزاحم ، في حديث محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة علي ، وعلى خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، و [ قد ] حبست نفسي

__________________

(١) المداريك : المدركون ، جمع مدراك. والوتر ، بالكسر : الثأر والذحل.

(٢) على العقب ، فيه إشارة إلى قول الله : ( يردوكم على أعقابكم ). وفي الأصل : « العقد » بالدال ، صوابه في ح.

(٣) يقال فلان من ولد الظهر ، بالفتح : أي ليس منها. وقيل معناه أنه لا يلتفت إليه ، قال أرطاة بن سهية :

فمن مبلغ أبناء مرة أننا

وجدنا بني البرصاء من ولد الظهر

٤٦

عليك ، وإنما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا. فقال شرحبيل : أخرج فانظر. فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطؤون له ، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان. فخرج مغضبا إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان ، ووالله لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك. قال معاوية : ما كنت لأخالف عليكم ، وما أنا إلا رجل من أهل الشام. قال : فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا. قال : فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل (١). فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير فقال : ابعث إلى جرير [ فليأتنا ]. فبعث إليه حصين : أن زرنا ، فإن عندنا شرحبيل بن السمط. فاجتمعا عنده ، فتكلم شرحبيل فقال : يا جرير ، أتيتنا بأمر ملفف (٢) لنلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطرأت عليا (٣) وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عما قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال : يا شرحبيل ، أما قولك إني جئت بأمر ملفف فكيف يكون أمرا ملففا (٤) وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل على رده طلحة والزبير. وأما قولك إني ألقيتك في لهوات الأسد ففي لهواتها ألقيت نفسك. وأما خلط العراق بالشام فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. وأما قولك إن عليا قتل عثمان فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف

__________________

(١) إلى هنا ينتهي اقتباس ح في ( ١ : ١٤٠ ) وينتقل إلى ( ١ : ٢٤٩ ).

(٢) في اللسان : « اللفف : ما لففوا من ها هنا وها هنا ، كما يلفف الرجل شهادة الزور ». وفي اللسان أيضا : « أحاديث ملففة : أي أكاذيب مزخرفة ». ح : « ملفق » بالقاف في آخره ، وهما وجهان صالحان كما رأيت.

(٣) قال ابن منظور : « أطرأ القوم : مدحهم ، نادرة ، والأعرف بالياء » ، ح : « أطريت » بالياء.

(٤) ح : « ملفقا » بقاف بعد الفاء ، وانظر الحاشية الثانية من هذه الصفحة.

٤٧

بالغيب من مكان بعيد (١) ، ولكنك ملت إلي الدنيا ، وشئ كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص.

فبلغ معاوية قول الرجلين ، فبعث إلى جرير فزجره (٢) ولم يدر ما أجابه أهل الشام ، وكتب جرير إلى شرحبيل (٣) :

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى

فما لك في الدنيا من الدين من بدل

وقل لابن حرب مالك اليوم حرمة

تروم بها ما رمت ، فاقطع له الأمل (٤)

شرحبيل إن الحق قد جد جده

وإنك مأمون الأديم من النغل

فأرود ولا تفرط بشئ نخافه

عليك ، ولا تعجل فلا خير في العجل (٥)

ولا تك كالمجرى إلى شر غاية

فقد خرق السربال واستنوق الجمل

وقال ابن هند في علي عضيهة

ولله في صدر ابن أبي طالب أجل

وما لعلي في ابن عفان سقطة

بأمر ، ولا جلب عليه ، ولا قتل (٦)

__________________

(١) انظر الآية ٥٣ من سورة سبأ وأقوال أصحاب التفسير فيها.

(٢) في الأصل : « فزجوه » صوابه في ح.

(٣) ح : « وكتب كتاب لا يعرف كاتبه إلى شرحبيل يقول ».

(٤) ح : « مالك اليوم ... فاقطع ».

(٥) الإرواد : الإمهال. والفرط : السبق.

(٦) خ : « ولا مالا عليه ولا قتل ». والممالاة : المساعدة والمعاونة.

٤٨

وما كان إلا لازما قعر بيته

إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل

فمن قال قولا غير هذا فحسبه

من الزور والبهتان قول الذي احتمل (١)

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه الأولى به يضرب المثل (٢)

فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر ، وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. [ و ] لا والله لا أعجل في هذا الأمر بشئ وفي نفسي منه حاجة. فاستتر له القوم ، ولفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليا ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ، وبلغ ذلك قومه فبعث ابن أخت له من بارق ـ وكان يرأى رأي علي بن أبي طالب فبايعه بعد ، وكان ممن لحق من أهل الشام ، وكان ناسكا ـ فقال :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

ولفف قوما يسحبون ذيولهم

جميعا وأولى الناس بالذنب فاعله

فألفى يمانيا ضعيفا نخاعه

إلى كل ما يهوون تحدي رواحله

فطاطا لها لما رموه بثقلها

ولا يرزق التقوى من الله خاذله

ليأكل دنيا لابن هند بدينه(٣)

ألا وابن هند قبل ذلك آكله

__________________

(١) أي الذي احتمله. ح : « بعض الذي احتمل ».

(٢) ح : « ومن باسمه في فضله يضرب المثل ».

(٣) في الأصل : « ليأكل به دنيا ابن هند ».

٤٩

وقالوا علي في ابن عفان ، خدعة

ودبت إليه بالشنان غوائله (١)

ولا والذي أرسى ثبيرا مكانه

لقد كف عنه كفه ووسائله

وما كان إلا من صحاب محمد

وكلهم تغلي عليه مراجله

فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال : هذا بعيث الشيطان ، الآن امتحن الله قلبي. والله لأسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنني. فهرب الفتى إلى الكوفة وكان ـ أصله منها ـ وكاد أهل الشام أن يرتابوا.

نصر : محمد بن عبيد الله ، وعمر بن سعد بإسناده قال : وبعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط فقال : « إنه كان من إجابتك الحق ، وما وقع فيه أجرك على الله وقبله عنك صلحاء الناس ، ما علمت ، وإن هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتم إلا برضا العامة ، فسر في مدائن الشام ، وناد فيهم بأن عليا قتل عثمان ، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه ». فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيبا ، وكان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها ، فقال : « يا أيها الناس ، إن عليا قتل عثمان بن عفان ، وقد غضب له قوم فقتلهم ، وهزم الجميع وغلب على الأرض فلم يبق إلا الشام. وهو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض به غمار الموت (٢) حتى يأتيكم (٣) أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدوا [ وانهضوا ] ». فأجابه الناس إلا نساك أهل حمص (٤) ، فإنهم قاموا إليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى. وجعل

__________________

(١) الشنان ، كسحاب : لغة في الشنآن ، وهو البغض. وأنشد للأحوص :

وما العيش إلا ما تلذ وتشتهى

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

(٢) ح : « غمرات الموت ».

(٣) في الأصل : « بيكم » وإعجامه وإكماله من ح.

(٤) ح : « إلا نساكا من أهل حمص ».

٥٠

شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (١) ، وكان صديقا له :

شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا

ولكن لبغض المالكي جرير

وشحناء دبت بين سعد وبينه

فأصبحت كالحادي بغير بعير

وما أنت ، إذ كانت بجيلة عاتبت

قريشا فيالله بعد نصير

أتفصل أمرا غبت عنه بشبهة

وقد حار فيها عقل كل بصير

بقول رجال لم يكونوا أئمة

ولا للتي لقوكها بحضور (٢)

وما قول قوم غائبين تقاذفوا

من الغيب ما دلاهم بغرور

وتترك أن الناس أعطوا عهودهم

عليا على أنس به وسرور

إذا قيل هاتوا واحدا تقتدونه

نظيرا له لم يفصحوا بنظير (٣)

لعلك أن تشقى الغداة بحربه

شرحبيل ما ما جئته بصغير (٤)

نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي ، أن شرحبيل ابن السمط بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك

__________________

(١) وكذا ورد في ح. والمعروف في شعرائهم النجاشي الحارثي ، واسمه قيس بن عمرو ابن مالك ، من بني الحارث بن كعب. وهو ممن حده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لشربه الخمر. انظر الشعراء ٦٨ والخزانة ( ٤ : ٣٦٨ ).

(٢) في الأصل : « ولا بالتي لقوكها » ، والصواب من ح ( ١ : ٢٥٠ ).

(٣) تقتدونه ، المعروف تعديته بالباء ، فقد عداه بتضمينه معنى تتبعونه ، وفي ح : « يقتدي به ».

(٤) أي ليس الذي جئته بصغير. وفي ح : « فليس الذي قد جئته بصغير ».

٥١

ممن نريد ، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك. فقال جرير : يا شرحبيل ، مهلا فإن الله قد حقن الدماء ، ولم الشعث ، وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس ، وأمسك عن هذا القول قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع رده. قال : لا والله لا أسره أبدا. ثم قام فتكلم ، فقال الناس : صدق صدق ، القول ما قال ، والرأي ما رأى. فأيس جرير عند ذلك عن معاوية وعن عوام أهل الشام.

نصر ، عن محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : كان معاوية أتى جريرا في منزله فقال : يا جرير ، إني قد رأيت رأيا. قال : هاته. قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي ، وأسلم له هذا الأمر ، وأكتب إليه بالخلافة. فقال جرير : اكتب بما أردت ، وأكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي إلى جرير :

« أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام ، وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار على أن أستعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا. فإن بايعك الرجل ، وإلا فأقبل ».

وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة :

معاوي إن الشام شامك فاعتصم

بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

وحام عليها بالقنابل والقنا

ولا تك محشوش الذراعين وانيا (١)

__________________

(١) حام : أمر من المحاماة. والقنابل : الجماعة من الناس ، الواحدة قنبلة وقنبل بفتح

٥٢

وإن عليا ناظر ما تجيبه

فأهد له حربا تشيب النواصيا

وإلا فسلم إن في السلم راحة

لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتابا يا ابن حرب كتبته

على طمع ، يزجى إليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لن تناله

ولو نلته لم يبق إلا لياليا

وسوف ترى منه الذي ليس بعده

بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

أمثل علي تعتريه بخدعة

وقد كان ما جربت من قبل كافيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرة

حذاك ، ابن هند ، منه ما كنت حاذيا (١)

قال : وكتب إليه أيضا :

معاوي إن الملك قد جب غاربه

وأنت بما في كفك اليوم صاحبه

أتاك كتاب من علي بخطة

هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه

ولا ترج عند الواترين مودة

ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه

فحاربه إن حاربت حرب ابن حرة

وإلا فسلم لا تدب عقاربه (٢)

فإن عليا غير ساحب ذيله

على خدعة ما سوغ الماء شاربه (٣)

ولا قابل ما لا يريد وهذه

يقوم بها يوما عليك نوادبه

__________________

القاف والباء فيهما. ح : « بالصوارم ». محشوش ، في اللسان : « حشت اليد وأحشت وهي محش : يبست ، وأكثر ذلك في الشلل. وحكى عن يونس حشت على صيغة ما لم يسم فاعله ». وفي ح : « موهون الذراعين ».

(١) حذاه حذوا : أعطاه. والبيت لم يرو في ح. وفي الأصل : « حداك » و « حاديا » بالدال المهملة ، تحريف.

(٢) في الأصل وح : « حربن حرة ».

(٣) يقال ساغ الطعام والشراب وأساغه : إذا ألفاه سائغا سهل المدخل في الحلق. ولم أجد هذه الصيغة من التضعيف في المعاجم.

٥٣

ولا تدعن الملك والأمر مقبل

وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه

فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه

فقبح ممليه وقبح كاتبه

فألق إلى الحي اليمانين كلمة

تنال بها الأمر الذي أنت طالبه

تقول : أمير المؤمنين أصابه

عدو ومالاهم عليه أقاربه (١)

أفانين منهم قاتل ومحضض

بلا ترة كانت وآخر سالبه

وكنت أميرا قبل بالشام فيكم

فحسبي وإياكم من الحق واجبه (٢)

فجيئوا ، ومن أرسى ثبيرا مكانه

ندافع بحرا لا تردد غواربه (٣)

فأقلل وأكثر مالها اليوم صاحب

سواك فصرح لست ممن تواربه

قال : فخرج جرير يتجسس الأخبار ، فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له وهو يقول :

حكيم وعمار الشجا ومحمد

وأشترو المكشوح جروا الدواهيا (٤)

وقد كان فيها للزبير عجاجة

وصاحبه الأدنى أشاب النواصيا (٥)

__________________

(١) الممالاة : المعاونة والمساعدة. ويعني بأمير المؤمنين عثمان.

(٢) في الأصل : « فحبلي » صوابه في ح.

(٣) في الأصل وح : « تجيبوا » تحريف. والغوارب : أعالي الموج. يستحلفهم بمن أرسى جبل ثبير في مكانه أن ينهضوا لمعاونته على عدوه لكثير العدد.

(٤) حكيم ، بهيئة التصغير ، هو ابن جبلة بن حصن العبدي ، وكان من عمال عثمان على السند ثم البصرة. انظر مروج الذهب ( ١ : ٤٤٠ ) والإصابة ١٩٩١. وعمار ، هو عمار ابن ياسر الصحابي. ومحمد ، هو ان أبي بكر الصديق. انظر مروج الذهب ( ١ : ٤٤٠ ـ ٤٤٢ ). والأشتر : لقب مالك بن الحارث الشاعر التابعي ، وكان قد قدم في نفر من أهل الكوفة. انظر المعارف ٨٤. والمكشوح ، هو المرادي. وقد اختلف في اسمه. انظر الإصابة ٧٣٠٧.

(٥) يعني بصاحبه الأدنى « الزبير بن العوام ». وقد قتل طلحة والزبير يوم الجمل.

٥٤

فأما علي فاستغاث ببيته

فلا آمر فيها ولم يك ناهيا

وقل في جميع الناس ما شئت بعده

وإن قلت أخطا الناس لم تك خاطيا

وإن قلت عم القوم فيه بفتنة

فحسبك من ذاك الذي كان كافيا

فقولا لأصحاب النبي محمد

وخصا الرجال الأقربين المواليا

أيقتل عثمان بن عفان وسطكم

على غير شيء ليس إلا تماديا (١)

فلا نوم حتى نستبيح حريمكم

ونخضب من أهل الشنان العواليا (٢)

قال جرير : يا ابن أخي ، من أنت؟ قال : أنا غلام من قريش وأصلى من ثقيف ، أنا ابن المغيرة بن الأخنس [ بن شريق ] ، قتل أبي مع عثمان يوم الدار. فعجب جرير من قوله وكتب بشعره إلى علي (٣) ، فقال علي : والله ما أخطأ الغلام شيئا.

وفي حديث صالح بن صدقة قال : أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس وقال علي : وقت لرسولي وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا! وأبطأ على علي حتى أيس منه.

وفي حديث محمد وصالح بن صدقة قالا : وكتب علي إلى جرير بعد ذلك :

« أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، ثم خيره بين حرب مجلية ، أو سلم محظية (٤). فإن اختار الحرب فانبذ له (٥) ، وإن اختار السلم فخذ بيعته ».

__________________

(١) ح : « إلا تعاميا ».

(٢) الشان لغة في الشنآن وهو البغض. انظر ما سبق في ص ٥٠. والعوالي : عوالي الرماح.

(٣) ح : « من شعره وقوله وكتب بذلك إلى على عليه‌السلام ».

(٤) ح : « مخزبة ».

(٥) انظر التنبيه الثالث من ص ٢٨.

٥٥

فلما انته الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب ، فقال : [ له ] يا معاوية ، إنه لا يطبع علي قلب إلا بذنب ، ولا يشرح [ صدر ] إلا بتوبة (١) ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعا. أراك قد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك ». فقال معاوية : « ألقاك بالفيصل أول مجلس إن شاء الله ». فلما بايع معاوية أهل الشام وذاقهم قال : « يا جرير الحق بصاحبك ». وكتب إليه بالحرب (٢) ، وكتب في أسفل كتابه بقول كعب بن جعيل :

أرى الشام تكره ملك العراق

وأهل العراق لها كارهونا (٣)

وكل لصاحبه مبغض

يرى كل ما كان من ذاك دينا

__________________

(١) في الأصل : « ولا ينشرح إلا بتوبة » وأثبت ما في ح.

(٢) لم يذكر لنا نصر نص رسالة معاوية ، وهي كما جاءت في كامل المبرد ١٨٤ : « بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف. وقد أبي أهل الشام إلا قتالك حت تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجتك على كحجتك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك. وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام. وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه ». وقد روى هذه الرسالة صاحب الإمامة والسياسة ( ١ : ٨٧ ) وزاد بعد قوله : « كانت شورى بين المسلمين » هذا الكلام : « وقد كان أهل الحجاز أعلى الناس وفي أيديهم الحق ، فلما تركوه صار الحق في أيدى أهل الشام ». وهذه العبارة الأخيرة توضح لنا السر في ارتياب ابن أبي الحديد في آخر الصفحة ٢٥٢ من الجزء الأول ، في تمام الرواية التي رواها المبرد. وقال في أول ٢٥٣ : « وما وجدنا هذا الكلام في كتابه ». وما هو ذا الكلام بتمامه بين يدي القارئ.

(٣) ح ( ١ : ١٥٨ ) : « تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم ». وفي كامل المبرد ١٨٤ : « تكره ملك العراق * وأهل العراق لهم ».

٥٦

إذا ما رمونا رميناهم

ودناهم مثل ما يقرضونا (١)

وقالوا علي إمام لنا

فقلنا رضينا ابن هند رضينا

وقلنا نري أن تدينوا لنا

فقالوا لنا لا نري (٢)

أن ندينا ومن دون ذلك خرط القتاد

وضرب وطعن يقر العيونا (٣)

وكل يسر بما عنده

يرى غث ما في يديه سمينا

وما في علي لمستعتب

مقال سوى ضمه المحدثينا

وإيثاره اليوم أهل الذنوب

ورفع القصاص عن القاتلينا

إذا سيل عنه حدا شبهة

وعمى الجواب على السائلينا (٤)

فليس براض ولا ساخط

ولا في النهاة ولا الآمرينا

ولا هو ساء ولا سره

ولا بد من بعض ذا أن يكونا

قال : فكتب إليه :

« من علي إلى معاوية بن صخر. أما بعد فقد أتاني كتاب امرئ ليس له نظر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده فاتبعه. زعمت أنه أفسد عليك بيعة خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا. وما كان الله ليجمعهم

__________________

(١) دناهم ، من الدين ، وهو القرض ، وفي قول الحماسي : « دناهم كما دانوا ». يقرضونا ، من الإقراض. وقد حذف نون الرفع ، وهو وجه جائز في العربية. انظر التنبيه رقم ٢ ص ٤. وفي الأصل : « يعرضونا » صوابه في ح والكامل.

(٢) ح : « ألا لا نرى ».

(٣) قال المبرد : « وأحسن الروايتين : يفض الشؤونا. وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أمكنا عن ذكره ».

(٤) سيل : سئل. حدا شبهة : ساقها في الأصل : « عن السائلينا » صوابه في ح.

٥٧

على ضلالة ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرت (١) فيلزمني خطيئة الآمر ، ولا قتلت فيجب على القصاص. وأما قولك أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة. فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار ، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز. وأما قولك : ادفع إلينا قتلة عثمان ، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على المحجة. وأما تمييزك بين الشام والبصرة وبين طلحة والزبير فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا واحد (٢) ؛ لأنها بيعة عامة لا يثني فيها النظر ، ولا يستأنف فيها الخيار (٣). وأما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان ، ولا يقين الخبر (٤). وأما فضلى في الإسلام وقرابتي من النبي صلى الله عليه وسلم وشرفي في قريش فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته ».

وأمر النجاشي فاجابه في الشعر فقال (٥) :

دعن يا معاوى ما لن يكونا

فقد حقق الله ما تحذرونا

أتاكم علي بأهل الحجاز

وأهل العراق فما تصنعونا (٦)

__________________

(١) ح : « وما ألبت ». والتأليب : التحريض.

(٢) ح والكامل : « إلا سواء ». وما في ح هنا نقل عن الكامل لا عن كتاب نصر.

(٣) ح والكامل : « لأنها بيعة شاملة لا يستثني فيها الخيار ولا يستأنف فيها النظر ».

(٤) الخبر : العلم ، والاختبار. وفي الأصل : « ولا بعين الخير » والصواب من ح.

(٥) ح والكامل : « ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له : إن ابن جعيل شاعر أهل الشام ، وأنت شاعر أهل العراق ، فأجب الرجل. فقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعني قوله. قال : إذا أسمعك شعر شاعر. فقال النجاشي يجيبه ».

(٦) روي المبرد هذين البيتين ، وقال في إثرهما : « وبعد هذا ما نمسك عنه ».

٥٨

علي كل جرداء خيفانة

وأشعث نهد يسر العيونا (١)

عليها فوارس مخشية (٢)

كأسد العرين حمين العرينا

يرون الطعان خلال العجاج

وضرب الفوارس في النقع دينا

هم هزموا الجمع جمع الزبير

وطلحة والمعشر الناكثينا

وقالوا يمينا علي حلفة

لنهدي إلى الشام حربا زبونا (٣)

تشيب النواصي قبل المشيب

وتلقى الحوامل منها الجنينا (٤)

فإن تكرهوا الملك ملك العراق

فقد رضي القوم ما تكرهونا

فقل للمضلل من وائل

ومن جعل الغث يوما سمينا

جعلتم عليا وأشياعه

نظير ابن هند ألا تستحونا

إلى أول الناس بعد الرسول

وصنو الرسول من العالمينا

وصهر الرسول ومن مثله

إذا كان يوم يشيب القرونا (٥)

نصر : صالح بن صدقة بإسناده قال : لما رجع جرير إلي على كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية ، فاجتمع جرير والأشتر عند علي فقال الأشتر : أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه ، وأقام [ عنده ] ، حتى لم يدع بابا يرجو

__________________

(١) الجرداء : الفرس القصيرة الشعر. والخيفانة : الخفيفة الوثابة. والنهد ، من الخيل : الجسيم المشرف.

(٢) مخشية : مخوفة. وفي الأصل : « تحسبهم » ، صوابه في ح ( ١ : ٢٥٢ ).

(٣) ح : « آلوا » ، أي حلفوا.

(٤) ح : « تشيب النواهد ».

(٥) قال ابن أبي الحديد : « أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات ، وأخبث مقصدا وأدمى وأحسن ».

٥٩

روحه إلا فتحه (١) ، أو يخاف غمه إلا سده. فقال جرير : « والله لو أتيتهم لقتلوك ـ وخوفه بعمرو ، وذي الكلاع ، وحوشب ذي ظليم (٢) ـ وقد زعموا أنك من قتلة عثمان ».

فقال الأشتر : « لو أتيته والله يا جرير لم يعيني جوابها ، ولم يثقل على محملها ، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر ». قال : فائتهم إذا. قال : الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر؟

نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي قال : اجتمع جرير والأشتر عند علي فقال الأشتر : أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا ، وأخبرتك بعداوته وغشه؟ وأقبل الأشتر يشتمه ويقول : يا أخا بجيلة ، إن عثمان اشتري منك دينك بهمدان. والله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا (٣). إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم. وأنت والله منهم ، ولا أري سعيك إلا لهم ، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه ، ، حتى تستبين هذه الأمور ويهلك الله الظالمين.

قال جرير : وددت والله أنك كنت مكاني بعثت ، إذا والله لم ترجع. قال : فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا ، ولحق به أناس من قسر من قومه (٤) ، ولم يشهد صفين من قسر (٥) غير تسعة عشر ، ولكن

__________________

(١) روحه ، أي ما فيه من روح. والروح ، بالفتح : الراحة. وفي ح ( ١ : ٢٦٠ ) : « يرجو فتحه ».

(٢) ظليم ، بهيئة التصغير ، كما في القاموس. وهو حوشب بن طخمة.

(٣) ح : « بأهل أن تترك تمشى فوق الأرض ».

(٤) قسر ، بفتح القاف ، هم بنو بجيلة رهط جرير بن عبد الله البجلي. وفي الأصل : « ولحق به أناس من قيس فسر من قومه » ، صوابه في ح.

(٥) في الأصل : « قيس » والكلام يقتضي ما أثبت من ح.

٦٠