وقعة صفّين

نصر بن مزاحم المنقري

وقعة صفّين

المؤلف:

نصر بن مزاحم المنقري


المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩

لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. قال : وجاء الأحنف بن قيس التميمي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميت بحجر الأرض (١) ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام (٢) ، وإني قد عجمت هذا الرجل ـ يعني أبا موسى ـ وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر. وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، فإن تجعلني حكما فاجعلني ، وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا (٣) ، فإنه لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدة إلا عقدتها وعقدت لك أخرى أشد منها. فعرض ذلك على الناس فأبوه وقالوا : لا يكون إلا أبا موسى.

نصر : وفي حديث عمر قال : قام الأحنف بن قيس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني وأكف عنك بني سعد ، فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا (٤) فأقمت بأمرك. وإن عبد الله بن قيس (٥) رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية ، وهو رجل يمان وقومه مع معاوية. وقد رميت بحجر الأرض وبمن حارب الله ورسوله ، وإن صاحب القوم من ينأي حتى يكون مع النجم ، ويدنو حتى يكون في أكفهم. فابعثني ووالله لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها

__________________

(١) في اللسان : « يقال رمى فلان بحجر الأرض ، إذا رمى بداهية من الرجال ». وروى صاحب اللسان حديث الأحنف في ( ٣ : ٢٣٧ ).

(٢) أي في أول الإسلام.

(٣) في الأصل : « فإن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا » ، وصوابه وتكملته من الطبري.

(٤) في الأصل : « نصرا » وأثبت ما في ح.

(٥) عبد الله بن قيس ، هو أبو موسى الأشعري. توفى سنة ٤٢ أو ٤٣ وهو ابن نيف وستين سنة.

٥٠١

فإن قلت : إني لست من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ، فابعث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه غير عبد الله بن قيس (١) ، وابعثني معه. فقال علي : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا ، فقالوا (٢) : ابعث هذا ، فقد رضينا به ، والله بالغ أمره.

وذكروا أن ابن الكواء قام إلى علي فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه ، وصاحب مقاسم أبي بكر (٣) ، وعامل عمر ، وقد [ رضى به القوم. و ] عرضنا على القوم عبد الله بن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ، ظنون في أمرك (٤).

فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خريم الأسدي ، وهو معتزل لمعاوية ، هذه الأبيات ، وكان هواه أن يكون هذا الأمر لأهل العراق فقال :

لو كان للقوم رأي يعصمـون به

مـن الضلال رموكم بابـن عباس (٥)

لله در أبيه أيما رجل

ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر مـا ضرب أخماس لأسداس

إن يخل عمرو به يقذفه فـي لجج

يهوى بـه النجم تيسا بين أتياس

أبلغ لديك عليا غير عاتبه (٦)

قول امرئ لا يرى بالحق مـن باس

ما الأشعري ، بمأمون ، أبـا حسن ،

فاعلم هديت وليس العجـز كـالراس

فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهـم

إن ابن عمك عباس هو الآسى

__________________

(١) « غير عبد الله بن قيس » ليست في ح.

(٢) في الأصل : « فقال » صوابه في ح.

(٣) صاحب المقاسم : الذي يتولى أمر قسمة المغانم ونحوها.

(٤) الظنون كالظنين : المتهم.

(٥) في الأصل : « يعظمون به * بعد الخطار » صوابه في ح.

(٦) في الأصل : « غير عائبه » وأثبت ما في ح ( ١ : ١٩٠ ).

٥٠٢

قال : فلما بلغ الناس قول أيمن طارت أهواء قوم من أولياء علي عليه‌السلام وشيعته (١) إلى عبد الله بن عباس ، وأبت القراء إلا أبا موسى.

وفي حديث عمر بن سعد قال : قال بسر بن أرطاة : لقد رضى معاوية بهذه المدة ، ولئن أطاعني لينقصن هذه المدة.

قال أيمن بن خريم بن فاتك ، وكان قد اعتزل عليا ومعاوية ثم قارب أهل الشام ولم يبسط بدا :

أما والذي أرسى ثبيرا مكانه

وأنزل ذا الفرقان في ليلة القدر

لئن عطفت خيل العـراق عليكم

ولله لا للناس عاقبة الأمر

تقحمها قدما عدي بن حاتـم

والاشتر يهدى الخيل في وضح الفجـر

وطاعنكم فيهـا شريح بن هانئ

وزحر بـن قيس بالمثقفة السمر

وشمر فيها الأشعث اليوم ذيلـه

تشبهه (٢) بالحارث بن أبي شمـر

لتعرفه يابسر يوما عصبصبـا

يحرم أطهار النسـاء من الذعـر (٣)

يشيب وليد الحي قبل مشيبـه

وفي بعض ما أعطـوك راغية البكـر (٤)

وعهدك يابسر بن أرطاة والقنا

رواء من أهل الشام أظماؤها تجـري

وعمرو بن سفيان على شر آلة

بمعترك حام أحر من الجمـر (٥)

قال : فلما سمع القوم الذين كرهوا المدة قول أيمن بن خريم كفوا عن الحرب وكان أيمن رجلا عابدا مجتهدا ، قد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي (٦) ، فبعث إليه أيمن :

__________________

(١) بدلها في الأصل : « طارت أهواؤهم » وما هنا من ح.

(٢) في الأصل : « يشبهه » والمقطوعة لم ترد في ح.

(٣) انظر ص ٤٦ س ٢.

(٤) انظر ص ٤٥ السطر الأخير.

(٥) الآلة : الحالة. قال : * قد أركب الآلة بعد الآله *

(٦) في الأصل : « على أن يبايعه على قتل علي » ، وأثبت ما في ح.

٥٠٣

ولست مقاتـلا رجـلا يصلـي

على سلطان آخر من قريش

له سلطانـه وعلي إثمي

معاذ الله من سفه وطيش

أأقتل مسلما فـي غير جرم

فليس بنافعي ما عشت عيشي

قال : وبعث [ بسر (١) ] إلى أهل الشام : « أما والله إن من رأيى إن دفعتم هذه الموادعة أن ألحق بأهل العراق فأكون يدا من أيديها عليكم ، وما كففت عن الجمعين إلا طلبا للسلامة ». قال معاوية : يا بسر ، أتريد أن تمن علينا بخير؟! قال : فرضى أهل الشام ببعث الحكمين. فلما رضى أهل الشام بعمرو بن العاص ، ورضى أهل العراق بأبي موسى ، أخذوا في كتاب الموادعة ، ورضوا بالحكم حكم القرآن.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن زيد بن حسن قال عمرو : قال جابر : سمعت زيد بن حسن ـ وذكر كتاب الحكمين فزاد فيه شيئا على ما ذكره محمد بن علي الشعبي ، في كثرة الشهود وفي زيادة في الحروف ونقصان ، أملاها علي من كتاب عنده فقال ـ : هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه ، قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، [ وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ]. إنا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك. وإنا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات (٢). على ذلك تقاضيا ، وبه تراضيا. وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله

__________________

(١) تكملة يقتضيها السياق.

(٢) ح ( ١ : ١٩١ ) : « نحيى ما أحيا القرآن ونميت ما أماته ».

٥٠٤

ابن قيس (١) ناظرا ومحاكما ، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما. على أنهما (٢) أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ، ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورا. وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله صلى الله عليه الجامعة ، لا يتعمدان لهما خلافا ، ولا يتبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة. وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص علي على ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق ، رضى بذلك راض أو أنكره منكر ، وأن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل. فإن توفى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لا يألون عن أهل المعدلة والإقساط ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وله مثل شرط صاحبه. وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله. وقد وقعت القضية ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة. وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألا يألوا اجتهادا ، ولا يتعمدا جورا ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن لم يفعلا برئت الأمة ( سقط من كتاب بن عقبة ) من حكمهما ، ولا عهد لهما ولا ذمة. وقد وجبت القضية على ما قد سمى في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين

__________________

(١) عبد الله بن قيس ، هو أبو موسى الأشعري.

(٢) في الأصل : « أنهم » وأثبت ما في ح.

٥٠٥

والله أقرب شهيدا ، وأدنى حفيظا. والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل ، والسلاح موضوع ، والسبل مخلاة ، والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن. وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشام ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا ، عن ملأ منهما وتراض وإن المسلمين قد أجلوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها ، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإن ذلك إليهما. فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب. ولا شرط بين واحد من الفريقين. وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام ، والوفاء بما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما ، أو حاول له نقضا. وشهد بما في الكتاب من أصحاب علي (١) عبد الله بن عباس ، والأشعث بن قيس ، والأشتر مالك بن الحارث ، وسعيد بن قيس الهمداني ، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن المطلب ، وأبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري (٢) ، وخباب بن الأرت ، وسهل بن حنيف ، وأبو اليسر بن عمرو الأنصاري (٣) ، ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري ، وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي ،

__________________

(١) ح ( ١ : ١٩٢ ) : « وشهد فيه من أصحاب علي عشرة ، ومن أصحاب معاوية عشرة ». وقد فصل الطبري في ( ٦ : ١٣٠ ) فذكر هؤلاء العشرة وهؤلاء العشرة. لكن ما في الأصل هنا يربى على هذا العدد كثيرا.

(٢) هو أبو أسيد ، بهيئة التصغير ، مالك بن ربيعة بن البدن بن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي. وكان معه راية بني ساعدة يوم الفتح ، اختلف في وفاته ما بين سنة ثلاثين إلى ثمانين. انظر الإصابة ٧٦٢٢. وفي الأصل : « ربيعة بن مالك » تحريف.

(٣) هو أبو اليسر ، بفتحتين ، الأنصاري ، واسمه كعب بن عمرو بن عباد. شهد بدرا والمشاهد ، وهو الذي أسر العباس. ومات بالمدينة سنة خمس وخمسين. الإصابة ( ٧ : ٢١٨ ). وفي الأصل : « أبو اليسير » تحريف.

٥٠٦

وبريدة الأسلمي (١) ، وعقبة بن عامر الجهني ، ورافع بن خديج الأنصاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، والحسن والحسين ابنا علي ، وعبد الله بن جعفر الهاشمي ، والنعمان بن عجلان الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، وورقاء بن مالك بن كعب الهمداني ، وربيعة بن شرحبيل ، وأبو صفرة ابن يزيد ، والحارث بن مالك الهمداني ، وحجر بن يزيد ، وعقبة بن حجية ، ( إلى هنا السقط ). ومن أصحاب معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وأبو الأعور بن سفيان السلمي (٢) ، وبسر بن أرطاة القرشي ، ومعاوية بن خديج الكندي ، والمخارق بن الحارث الحميري ، ورعبل بن عمرو السكسكي ، وعبد الرحمن ابن خالد المخزومي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، وسبيع بن يزيد الهمداني ، ويزيد بن الحر الثقفي ، ومسروق بن حرملة العكي (٣) ، ونمير بن يزيد الحميري ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلقمة بن يزيد الكلبي ، وخالد ابن المعرض السكسكي ، وعلقمة بن يزيد الجرمي ، وعبد الله بن عامر القرشي ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة القرشي ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومحمد بن أبي سفيان ، ومحمد بن عمرو بن العاص ، ويزيد بن عمر الجذامي ، وعمار ابن الأحوص الكلبي ، ومسعدة بن عمرو التجيبي ، والحارث بن زياد القيني ، وعاصم بن المنتشر الجذامي ، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع الحميري ، والقباح بن جلهمة الحميري (٤) ، وثمامة بن حوشب ، وعلقمة بن حكيم ، وحمزة بن مالك. وإن بيننا على ما في هذه الصحيفة عهد الله وميثاقه. وكتب عمر يوم الأربعاء

__________________

(١) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج الأسلمي ، ينتمي إلى أسلم بن أفصي. مات سنة ثلاث وستين. الإصابة ٦٢٩. وفي الأصل : ( السلمي ) تحريف.

(٢) هو أبو الأعور عمرو بن سفيان بن عبد شمس ، وهو ممن قدم مصر مع مروان سنة خمس وستين. انظر الإصابة ٥٨٤٦.

(٣) ذكره ابن حجر في الإصابة ٧٩٣٨ ولم يعرف اسم والده.

(٤) لم أعثر له على ترجمة ، والمعروف في أعلامهم مما يقاربه « القباع ».

٥٠٧

لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.

قال نصر : وفي كتاب عمر بن سعد : « هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ». فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته. وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، وأما أميرنا فلا. فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك ، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا ، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا. فأبى مليا من النهار أن يمحوها ، ثم إن الأشعث بن قيس جاء فقال : امح هذا الإسم. فقال علي : لا إله إلا الله والله أكبر ، سنة بسنة ، أما والله لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية ، حين كتبت الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه : « هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسهيل بن عمرو » ، فقال سهيل : لا أجيبك إلى كتاب تسمى [ فيه ] رسول الله صلى الله عليه ، ولو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ، إني إذا ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ، ولكن اكتب : « محمد بن عبد الله » أجبك. فقال محمد صلى الله عليه : « يا علي إني لرسول الله ، وإني لمحمد بن عبد الله ، ولن يمحو عني الرسالة كتابي إليهم من محمد بن عبد الله ، فاكتب : محمد بن عبد الله ». فراجعني المشركون في هذا (١) إلى مدة. فاليوم أكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله صلى الله عليه إلى آبائهم سنة ومثلا. فقال عمرو بن العاص : سبحان الله ، ومثل هذا شبهتنا بالكفار ونحن مؤمنون؟ فقال له علي : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا ، وهل تشبه إلا أمك التي وضعت بك (٢). فقام عمرو فقال : والله لا يجمع بيني وبينك

__________________

(١) في الأصل : « في عهد ».

(٢) هذه العبارة بعينها في الطبري ( ٦ : ٢٩ ).

٥٠٨

مجلس أبدا بعد هذا اليوم. فقال علي : والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك. قال : وجاءت عصابة قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت. فقال لهم ابن حنيف : أيها الناس اتهموا رأيكم فوالله لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا. وذلك في الصلح الذي صالح عليه النبي صلى الله عليه.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن بريدة الأسلمي (١) ـ يعني ابن سفيان ـ عن محمد بن كعب القرظي ، عن علقمة بن قيس النخعي قال : لما كتب علي الصلح يوم صالح معاوية فدعا الأشتر ليكتب ، قال قائل : أكتب بينك وبين معاوية. فقال (٢) : إني والله لأنا كتبت الكتاب بيدي يوم الحديبية ، وكتبت « بسم الله الرحمن الرحيم » ، فقال سهيل : لا أرضى ، اكتب « باسمك اللهم » فكتب : « هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو » ، فقال. لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك. قال علي : فغضبت فقلت : بلى والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتب ما يأمرك ، إن لك مثلها ، ستعطيها وأنت مضطهد ».

نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثني أبو إسحاق الشيباني قال : قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة ، في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها. في خاتم علي : « محمد رسول الله » وفي خاتم معاوية : « محمد رسول الله ». فقيل لعلي حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام : أتقر أنهم مؤمنون مسلمون؟ فقال علي : ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب

__________________

(١) هذا غير بريدة الأسلمي ، المترجم في ص ٥٠٧. وقد ترجم لبريدة بن سفيان. في تهذيب التهذيب.

(٢) أي علي عليه‌السلام.

٥٠٩

معاوية ما شاء ، ويقر بما شاء لنفسه وأصحابه ، ويسمى نفسه وأصحابه ما شاء. فكتبوا : « بسم الله الرحمن الرحيم ». هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. قاضى علي بن أبي طالب على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين : إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ، والا يجمع بيننا إلا إياه ، وأن كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته : نحيى ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن. فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه ، وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة ، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص. وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليقضيا بما وجدا في كتاب الله ، فإن لم يجدا في كتاب الله فالسنة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين ـ مما هما عليه من أمر الناس بما يرضيان به من العهد والميثاق والثقة من الناس ـ أنهما آمنان على أموالهما وأهليهما. والأمة لهما أنصار على الذي يقضيان به عليهما (١). وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيها عهد الله أنا على ما في هذه الصحيفة ، ولنقومن عليه ، وإنا عليه لأنصار. وإنها قد وجبت القضية بين المؤمنين بالأمن والإستقامة ووضع السلاح ، أينما ساروا ، على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأرضيهم ، وشاهدهم وغائبهم وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكمان بين الأمة بالحق ، ولا يردانها في فرقة ولا بحرب حتى يقضيا. وأجل القضية إلى شهر رمضان فإن أحبا أن يعجلا عجلا. وإن توفى واحد من الحكمين فإن أمير شيعته يختار مكانه رجلا لا يألو عن المعدلة والقسط ، وإن ميعاد قضائهما الذي

__________________

(١) في الأصل : « عليه ».

٥١٠

يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الشام وأهل الكوفة ، فإن رضيا مكانا غيره فحيث رضيا لا يحضرهما فيه إلا من أرادا. وأن يأخذ الحكمان من شاءا من الشهود ثم يكتبوا شهادتهم على ما في الصحيفة. ونحن براء من حكم بغير ما أنزل الله. اللهم إنا نستعينك على من ترك ما في هذه الصحيفة ، وأراد فيها إلحادا وظلما. وشهد علي ما في الصحيفة عبد الله بن عباس ، والأشعث ابن قيس ، وسعيد بن قيس ، وورقاء بن سمى (١) ، وعبد الله بن الطفيل ، وحجر ابن يزيد ، وعبد الله بن جمل ، وعقبة بن جارية ، ويزيد بن حجية ، وأبو الأعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة ، والمخارق بن الحارث ، وزمل بن عمرو (٢) ، وحمزة ابن مالك ، وعبد الرحمن بن خالد ، وسبيع بن يزيد (٣) وعلقمة بن مرثد ، وعتبة ابن أبي سفيان ، ويزيد بن الحر. وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.

واتعد الحكمان أذرح (٤) ، وأن يجيء على بأربعمائة من أصحابه ، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة.

نصر ، عن عمر بن سعد ، قال أبو جناب (٥) ، عن عمارة بن ربيعة الجرمي قال : لما كتبت الصحيفة دعى لها الأشتر فقال : لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة. أو لست على بينة من ربي ، ويقين من ضلالة عدوي؟! أو لستم قد رأيتم

__________________

(١) الطبري ( ٦ : ٣٠ ) : « ووفاء بن سمى ».

(٢) زمل ، بالكسر ، بن عمرو بن عنز العذري ، عقد له النبي صلى الله عليه لواء ، وشهد بهذا اللواء صفين مع معاوية ، وقتل بمرج راهط مع مروان سنة أربع وستين. انظر الإصابة ٢٨١٠. وفي الأصل : « زامل » تحريف ، صوابه في الإصابة والطبري.

(٣) في الأصل : « سمع بن زيد » وأثبت ما في الطبري ( ٦ : ٣٠ ).

(٤) أذرح ، بضم الراء : بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الحجاز.

(٥) هو أبو جناب الكلبي ، كما في الطبري ( ٦ : ٣٠ ) وفي الأصل « أبو خباب ».

٥١١

الظفر إن لم تجمعوا على الخور؟! فقال له رجل من الناس : إنك والله رأيت ظفرا ولا خورا ، هلم فأشهد على نفسك ، وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة بك عن الناس. قال : بلى والله ، إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة. ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دما. فقال عمار بن ربيعة : فنظرت إلى ذلك الرجل وكأنما قصع على أنفه الحمم (١) ، وهو الأشعث بن قيس. ثم قال : ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ، ودخلت فيما دخل فيه ، وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا يدخل إلا في هدى وصواب.

نصر ، عن عمر ، عن أبي جناب ، عن إسماعيل بن سميع (٢) ، عن شقيق بن سلمة (٣) وغيره ، أن الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ، ويعرضه عليهم ويمر به على صفوف أهل الشام وراياتهم فرضوا بذلك ، ثم مر به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مر برايات عنزة وكان مع علي من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف (٤) ـ فلما مربهم الأشعث فقرأه عليهم قال فتيان منهم : لا حكم إلا لله. ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما [ فقاتلا ] حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أول من حكم (٥) واسماهما معدان وجعد ، أخوان. ثم مر بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

__________________

(١) القصع : الضرب والدلك. والحمم : الرماد والفحم وكل ما احترق من النار ، واحدته حمة. وفي ح ( ١ : ١٩٢ ) : « الحميم ». وما أثبت من الأصل يطابق ما في الطبري.

(٢) ح : « شفيع ».

(٣) ح : « سفيان بن سلمة ».

(٤) المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يجلل به الفرس من سلاح وآلة تقية الجراحة.

(٥) في اللسان : « والخوارج يسمون المحكمة ، لإنكارهم أمر الحكمين وقولهم لا حكم إلا لله ».

٥١٢

ما لعلي في الدماء قـد حكـم

لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم

لا حكم إلا لله ولو كره المشركون. ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقالوا : لا حكم إلا لله ، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله. ثم مر على رايات بني تميم (١) فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لا حكم إلا لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين. فقال رجل منهم لآخر : أما هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي فقال : أتحكمون الرجال في أمر الله ، لا حكم إلا لله ، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابته ضربة خفيفة ، فاندفع به الدابة وصاح به الناس أن أمسك يدك. فكف ورجع الأشعث إلى قومه ، فأتاه ناس كثير من أهل اليمن ، فمشى إليه الأحنف بن قيس ، ومعقل بن قيس ، ومسعر بن فدكي ، ورجال من بني تميم ، فتنصلوا إليه واعتذروا ، فقبل منهم الأشعث فتركهم وانطلق إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، قد عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام وأهل العراق ، فقالوا جميعا : قد رضينا. حتى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم (٢) ، فقالوا : لا نرضى ، لا حكم إلا لله. فلنحمل بأهل العراق وأهل الشام عليهم فنقتلهم. فقال علي : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس؟ قال : بلى (٣). قال : دعهم. قال : فظن علي عليه‌السلام أنهم قليلون لا يعبأ بهم. فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة وفي كل ناحية : لا حكم إلا لله ، الحكم لله يا علي لا لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه ، أن يقتلوا

__________________

(١) ح ( ١ : ١٩٢ ) : « رايات تميم ».

(٢) النبذ ، بالفتح : الشئ القليل ، وجمعه أنباذ.

(٣) في الأصل وح ( ١ : ١٩٣ ) : « لا ».

٥١٣

أو يدخلوا في حكمنا عليهم (١). وقد كانت منازلة حين رضينا بالحكمين ، فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا ، وتب إلى الله كما تبنا ، وإلا برئنا منك. فقال علي : ويحكم ، أبعد الرضا [ والميثاق ] العهد نرجع. أو ليس الله الله تعالى قال : ( أوفوا بالعقود (٢) ) ، وقال : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ). فأبى على أن يرجع ، وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه ، وبرئت من علي عليه‌السلام ، وبرئ منهم ، وقام خطيب أهل الشام حمل بن مالك بين الصفين فقال : أنشدكم الله يا أهل العراق إلا أخبرتمونا لم فارقتمونا؟ قالوا : فارقناكم لأن الله عز وجل أحل البراءة ممن حكم بغير ما أنزل الله ، فتوليتم الحاكم بغير ما أنزل الله ، وقد أحل عداوته وأحل دمه إن لم يرجع إلى التوبة ويبؤ بالدين (٣). وزعمتم أنتم خلاف حكم الله فتوليتم الحاكم بغير ما أنزل الله وقد أمر الله بعداوته ، وحرمتم دمه وقد أمر الله بسفكه ، فعاديناكم لأنكم حرمتم ما أحل الله ، وحللتم ما حرم الله ، وعطلتم أحكام الله واتبعتم هواكم بغير هدى من الله. قال الشامي حمل بن مالك (٤) : قتلتم أخانا وخليفتنا ونحن غيب عنه ، بعد أن استتبتموه فتاب ، فعجلتم عليه فقتلتموه ، فنذكركم الله لما أنصفتم الغائب (٥) المتهم لكم ، فإن قتله لو كان عن ملأ من الناس ومشورة كما كانت إمرته ، لم يحل لنا الطلب بدمه ، وإن أطيب التوبة والخير في العاقبة أن يعرف من لا حجة له الحجة عليه

__________________

(١) ح : « تحت حكمنا عليهم ».

(٢) من الآية الأولى في سورة المائدة. وفي الأصل : « بالعهود » تحريف.

(٣) يبوء : يقر ويعترف. وفي الأصل : « ويبوء بالدين ».

(٤) في الأصل : « حمزة بن مالك ».

(٥) لما ، هنا ، بمعنى إلا ، كما في قول الله : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ).

٥١٤

وذلك أقطع للبغي ، وأقرب للمناصحة. وقد رضينا أن تعرضوا ذنوبه على كتاب الله أولها وآخرها ، فإن أحل الكتاب دمه برئنا منه وممن تولاه ومن يطلب دمه ، وكنتم قد أجرتم في أول يوم وآخره. وإن كان كتاب الله يمنع دمه ويحرمه تبتم إلى الله ربكم ، وأعطيتم الحق من أنفسكم في سفك دم بغير حله بعقل أو قود ، أو براءة ممن فعل ذلك وهو ظالم. ونحن قوم نقرأ القرآن وليس يخفى علينا منه شئ ، فأفهمونا الأمر الذي استحللتم عليه دماءنا. قالوا : نعم ، قد بعثنا منا رجلا ومنكم رجلا يقرآن القرآن كله ويتدارسان ما فيه ، وينزلان عند حكمه علينا وعليكم. وإنا قد بعثنا منا من هو عندنا مثل أنفسنا ، وجعلنا لهما أن ينتهيا إليه ، وأن يكون أمرهما على تؤدة ، ونسأل عما يجتمعان عليه وما يتفرقان عنه ، فإنما فارقناكم في تفسيره ولم نفارقكم في تنزيله. ونحن وأنتم نشهد أنه من عند الله ، فإنما نريد أن نسأل عنه مما تفسرون ، مما جهلنا (١) نحن تفسيره ، فنسأل عنه أهل العلم (٢) منا ومنكم ، فأعطيناكم على هذا الأمر ما سألتم من شأن الحكمين. وإنما بعثا ليحكما بكتاب الله ، يحييان ما أحيا الكتاب ويميتان ما أمات الكتاب ، فأما ما لم يجدا في الكتاب فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. ولم يبعثا ليحكما بغير الكتاب. ولو أرادا اللبس على أمة محمد لبرئت منهما الذمة (٣) وليس لهما على أمة محمد حكم. فلما سمع المسلمون قولهم علموا أن على كل مخاصم إنصاف خصيمه وقبول الحق منه وإن كان قد منعه فقاتل عليه ، لأنهم إلى الحق دعوا أول يوم ، وبه عملوا يقينا غير شك ، ومن الباطل استعتبوا ، وعلى عماية قتلوا من قتلوا. ونظر القوم في أمرهم ، وشاوروا قائدهم ، وقالوا : قد قبلنا من عثمان بن عفان حين

__________________

(١) في الأصل : « ما جعلنا ».

(٢) في الأصل : « السلم ».

(٣) في الأصل : « فبرئت منهما الذمة ».

٥١٥

دعى إلى الله والتوبة من بغيه وظلمه ، وقد كان منا عنه كف حين أعطانا أنه تائب حتى جرى علينا حكمه بعد تعريفه ذنوبه ، فلما لم يتم التوبة وخالف بفعله عن توبته قلنا اعتزلنا ونولي أمير المؤمنين رجلا يكفيك ويكفينا ، فإنه لا يحل لنا أن نولي أمر المؤمنين رجلا نتهمه في دمائنا وأموالنا ، فأبى ذلك وأصر ، فلما أن رأينا ذلك منه قتلناه ومن تولاه بعد قتلنا إياه ، وهم يعرضون كتاب الله بيننا وبينهم ، ويسألونا حجتنا عليهم ، وإنما هم صادقون أو كاذبون في نيتهم ، وليس لنا عذر في إنصافهم والموادعة والكف عنهم حتى يرجعوا بتوبة أو مناصحة بعد أن نقررهم ونعرفهم ظلمهم وبغيهم ، أو يصروا فيغلبنا عليهم ما غلبنا على قائدهم فنقتلهم ، فإنما نطلب الحجة بعد العذر ، ولا عذر إلا ببينة ، ولا بينة إلا بقرآن أو سنة (١). وهم خلطاء في الدين ، ومقرون بالكتاب والنبي صلى الله عليه ، ليسوا بمنزلة أحد ممن حارب المسلمين ، أهل بغى أمر الله أن يقاتلوا حتى يفيئوا من بغيهم إلى أمر الله ، وبرئوا ببغيهم من الإيمان. قال الله عز وجل على لسان نبيه داود : ( وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ). هؤلاء منافقون ، لأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وقتالهم عليه ، ولا تباعهم ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. بذلك تفنى حسناتهم ، وذلك أنه كانت لهم حسنات لم تنفعهم حين عاداهم. فقبل أمير المؤمنين مناصفتهم في المنازعة عند الحكمين بالدين بأن يحكم بكتاب الله ويرد المحق والمبطل إلى أمره ، و [ ما (٢) ] يرضى به ، وفيما نزل بهم أمر ليس فيه قرآن يعرفونه فالسنة الجامعة العادلة غير المفرقة ،

__________________

(١) في الأصل : « وسنة ».

(٢) ليست في الأصل.

٥١٦

فلم يكن يسع أحدا من الفريقين ترك كتاب الله والسنة بعد قول الله عزوجل في صفة عدوه ومن يرغب عن كتابه وهو مقر بتنزيله ، حامل لميثاقه : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ). وقال الله تعالى يعيرهم بذلك : ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ). وما أولئك بالمؤمنين ، إنهم لو كانوا مؤمنين رضوا بكتابي ورسولي. ثم أنزل : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ). يعني أنهم أصابوا حقائق الإيمان والصلح. فلم يسع عليا أمير المؤمنين إلا الكف بعد توكيدهم الميثاق ، وضربهم الأجل ، والرضا بأن يحكم بينهم رجلان بكتاب الله ـ فيما تنازع فيه عباد الله ـ بما أنزل الله وسنة رسوله ، ليبلغ الشاهد الغائب منهم سبيل المحق من المبطل ، ألا يغير بمؤمن غائب برضا غوى (١) أو عم (٢) غير مهتد ، فيسمى أمير المؤمنين من كل باسمه حتى يقره الكتاب (٣) على منزلته.

قال : فنادت الخوارج أيضا في كل ناحية : لا حكم إلا الله ، لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين الله ، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين ، وقد تبنا إلى ربنا ورجعنا عن ذلك ، فارجع كما رجعنا ، وإلا فنحن منك براء. فقال علي : ويحكم ، بعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟ أو ليس الله يقول : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها

__________________

(١) كذا وردت هذه العبارة.

(٢) في الأصل : « عمى ».

(٣) في الأصل : « يفرده الكتاب ».

٥١٧

وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ). فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك ، وبرئ علي منهم.

نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثني أبو عبد الله يزيد الأودي أن رجلا منهم كان يقال له عمرو بن أوس ، قاتل مع علي يوم صفين وأسره معاوية في أسرى كثيرة ، فقال له عمرو بن العاص : اقتلهم. قال عمرو بن أوس لمعاوية : إنك خالي فلا تقتلني. فقامت إليه بنو أود (١) فقالوا : هب لنا أخانا. فقال : دعوه فلعمري لئن كان صادقا ليستغنين عن شفاعتكم ، وإن كان كاذبا فإن شفاعتكم لمن ورائه. فقال له معاوية : من أين أنا خالك؟ فما بيننا وبين أود من مصاهرة. فقال : فإذا أخبرتك فعرفت فهو أماني عندك؟ قال : نعم. قال : ألست تعلم أن أم حبيبة (٢) ابنة أبي سفيان زوجة النبي صلى الله عليه هي أم المؤمنين؟ قال : بلى. قال : فأنا ابنها وأنت أخوها ، فأنت خالي. فقال معاوية : ما له لله أبوه ، ما كان (٣) في هؤلاء الأسرى أحد يفصن لها غيره. وقال : خلوا سبيله.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن الشعبي قال : أسر علي أسرى يوم صفين ، فخلى سبيلهم فأتوا معاوية ، وقد كان عمرو بن العاص يقول لأسرى أسرهم معاوية : اقتلهم. فما شعروا إلا بأسراهم قد خلى سبيلهم علي فقال

__________________

(١) أود ، بالفتح. وهم من بني معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان.

(٢) أم حبيبة كنية لها. واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس. وقيل بل اسمها هند. وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية. وقد تزوجها رسول الله وهي في الحبشة ، زوجه إياها سعيد بن العاص ، وأصدقها النجاشي عن رسول الله أربعمائة. دينار ، وعمل النجاشي لذلك طعاما. وقد دخل بها الرسول قبل إسلام أبيها. وماتت بالمدينة سنة ٤٤. انظر الإصابة ( قسم النساء ) والروض الأنف ( ٢ : ٣٦٨ ). وفي الأصل : « أن حبيبة » صوابه « أن أم حبيبة ».

(٣) ح ( ١ : ١٩٣ ) : « أما كان ».

٥١٨

معاوية : يا عمرو ، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر. ألا تراه (١) قد خلى سبيل أسرانا. فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي. وكان علي إذا أخذ أسيرا من أهل الشام خلى سبيله ، إلا أن يكون قد قتل أحدا من أصحابه فيقتله به ، فإذا خلى سبيله فإن عاد الثانية قتله ولم يخل سبيله. وكان علي لا يجهز على الجرحى (٢) ولا علي من أدبر بصفين ، لمكان معاوية.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن الصقعب بن زهير ، عن عون بن أبي جحيفة (٣) قال : أتى سليمان بن صرد عليا أمير المؤمنين بعد الصحيفة ، ووجهه مضروب بالسيف ، فلما نظر إليه علي قال : ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ). فأنت ممن ينتظر وممن لم يبدل. فقال : يا أمير المؤمنين ، أما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة أبدا. أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت أحدا عنده خير إلا قليلا.

وقام إلى علي محرز بن جريش (٤) بن ضليع فقال : يا أمير المؤمنين ، ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل ، فو الله إني لأخاف أن يورث ذلا. فقال علي : أبعد أن كتبناه ننقضه (٥) ، إن هذا لا يحل. وكان محرز يدعى « مخضخضا » وذاك أنه أخذ عنزة بصفين (٦) ، وأخذ معه إداوة من ماء ، فإذا وجد رجلا من أصحاب علي جريحا سقاه من الماء ، وإذا وجد رجلا من أصحاب معاوية خضخضه بالعنزة حتى يقتله.

__________________

(١) في الأصل : « ألا ترى ».

(٢) أجهز على الجريح : أسرع قتله. وفي اللسان : « ومنه حديث علي رضوان الله عليه : « لا يجهز علي جريحهم ». وفي الأصل : « لا يجبر » تحريف.

(٣) عون بن أبي جحيفة ، بتقديم الجيم وبهيئة التصغير ، السوائي ، بضم السين ، الكوفي. ثقة من الرابعة. مات سنه ١١٦. تقريب التهذيب.

(٤) ح ( ١ : ١٩٣ ) : « محمد بن جريش ».

(٥) في الأصل : « أما بعد » بإقحام « ما » ، صوابه في ح.

(٦) العنزة ، بالتحريك : رميح صغير.

٥١٩

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن أبي الوداك قال : لما تداعى الناس إلى الصلح بعد رفع المصاحف ـ قال ـ قال علي : إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم الخور والفشل ـ هما الضعف ـ فجمع سعيد بن قيس قومه ، ثم جاء في رجراجة (١) من همدان كأنها ركن حصير (٢) ـ يعني جبلا باليمن ـ فيهم عبد الرحمن (٣) ، غلام له ذؤابة ، فقال سعيد : هأنذا وقومي ، لا نرادك ولا نرد عليك (٤) ، فمرنا بما شئت. قال : أما لو كان هذا قبل رفع المصاحف (٥) لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك ، ولكن انصرفوا راشدين ، فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن إسحاق بن يزيد ، عن الشعبي ، أن عليا قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح : إن هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق (٦) ، ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر ، وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم ، وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله ، وحرصا على لقاء الله. ولقد كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا

__________________

(١) كلمة : « في » ليست في الأصل.

(٢) حصير : حصن باليمن من أبنية ملوكهم القدماء ، عن ياقوت. وفي الأصل وح : « حصين » تحريف.

(٣) هو عبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، كما في ح.

(٤) بدلهما في ح : « لا نرد أمرك ».

(٥) بدلها في ح : « قبل سطر الصحيفة » أي كتابتها.

(٦) ح : « لينيبوا إلى الحق » وهما بمعنى.

٥٢٠