وقعة صفّين

نصر بن مزاحم المنقري

وقعة صفّين

المؤلف:

نصر بن مزاحم المنقري


المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩

فقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله (١).

قال : فقال أبو زبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما. قال : وخرج عمار [ بن ياسر ] وهو يقول :

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي

سيروا فخير الناس اتباع علي

هذا أوان طاب سل المشرفي

وقودنا الخيل وهز السمهري

عمر بن سعد عن أبي روق قال : دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدة (٢) ، وأكثر الناس أهل قوة (٣) ومن ليس بمضعف وليس به علة. فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ، ولا من إذا أمكنه الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غد وبعد غد.

فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة

__________________

(١) عدو ، يقال للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحدا ، ويقال أيضا عدوة وعدوان وأعداء.

(٢) الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر والغازي. ح : « أولو جهاز وعدة ».

(٣) أي أصحاب قوة. وفي الأصل : « القوة » وأثبت ما في ح ( ١ : ٢٨١ ).

١٠١

مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقدم (١) في الإسلام ، والقرابة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.

ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا. ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة (٢) ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلي إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها أباءهم وإخوانهم (٣) ».

ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد. والله ما أظن أن يفعلوا (٤) ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران (٥) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين.

نصر : عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ، عن الحارث بن حصيرة (٦) ،

__________________

(١) القدم ، بفتحتين : السبق والتقدم في الإسلام.

(٢) الأسوة ، ها هنا : التسوية بين المسلمين في قسمة المال. انظر ح ( ٣ : ٤ ).

(٣) ح : « وأعوانهم ».

(٤) ح : « ما أظنهم يفعلون ».

(٥) تقصد : تكسر. والمران : الرماح الصلبة اللينة. والمران أيضا : نبات الرماح. ح : « دون أن تقصف فيهم قنا؟؟ المران ».

(٦) ح : « حصين » وانظر ما سبق في ص ٣.

١٠٢

عن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ؛ ألسنا محقين؟ قال : بلى. [ قالا : أو ليسوا مبطلين؟ قال : بلى ]. قالا : فلم منعتنا من شتمهم؟ قال : « كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرءون. ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر. و [ لو (١) ] قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلى وخيرا لكم ». فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك. وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكرى به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد. فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح (٢) البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك.

فقال أمير المؤمنين علي : اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط

__________________

(١) ليست في الأصل ولا في ح ، وبها يلتئم الكلام.

(٢) في الأصل : « وأنزح » صوابه في ح ( ١ : ٢٨١ ).

١٠٣

مستقيم (١) ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك.

ثم قال حجر فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها (٢) ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ؛ فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه. فقال علي : « أكل قومك يرى مثل رأيك؟ » قال : « ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة ، وبحسن الإجابة ». فقال له علي خيرا.

قال نصر : وفي حديث عمر بن سعد قال : وكتب علي إلى عماله ، فكتب إلى مخنف بن سليم :

سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمي والضلال اختيارا له ـ فريضة على العارفين. إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه. وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف. وقديما ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين. فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف علي عملك

__________________

(١) ح : « صراطك المستقيم ».

(٢) في اللسان ( ٨ : ٤٢٤ ) : « وضارست الأمور : جربتها وعرفتها ».

١٠٤

أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ؛ فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد. وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين.

فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ـ وكلاهما من قومه ـ وأقبل حتى شهد مع علي صفين.

وكان علي قد استخلف ابن عباس على البصرة ، فكتب عبد الله بن عباس إلى علي يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه علي :

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله. أما بعد (١) فقد قدم على رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي (٢) وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها (٣). فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ؛ وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم (٤) إلا قليل منهم. وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله. والسلام. وكتب عبد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين.

__________________

(١) كذا جاءت « أما بعد » مكررة .. وأول الرسالة في ح : « أما بعد فقد قدم على رسولك » بإهمال ما قبلها من الكلام.

(٢) ح : « وقرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم ».

(٣) ح : « أو خائف من عقوبة يخشاها ».

(٤) كذا في الأصل وح. ولعلها : « عصم » جمع عصام ، وهو الحبل يشد به.

١٠٥

وكتب : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة. أما بعد فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر (١) ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة. فاعتبر بما مضى تحذر ما بقى ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه (٢) ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقا ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح. والسلام.

وكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر. أما بعد فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض. ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان. فلا تفتحن على يد أحد منهم بابا لا نطيق سده نحن ولا أنت. والسلام.

وكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا. والسلام.

__________________

(١) في اللسان : الغابر : الباقي. قال : وقد يقال للماضي غابر.

(٢) الطلاء ، بالكسر : ما طبخ من عصير العنب.

١٠٦

وكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد. فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك. ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا. وليكن همك فيما بعد الموت. والسلام (١).

وكتب إلى أمراء الجنود :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين. أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم. ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي عنكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر حقا لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئا ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء. فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة. فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم. فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة. فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم. والسلام.

__________________

(١) انظر مجالس ثعلب ١٨٦.

١٠٧

وكتب إلى أمراء الخراج :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج (١). أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها. ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين. ألا وأن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه. فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد. وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير. ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه مالا عذر لأحد بترك طلبته (٢) فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية. لا تتخذن حجابا ، ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتى ينهيها إليكم. ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم. والسلام.

وكتب إلى معاوية :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقى من الدنيا ما أصاب

__________________

(١) في نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ( ٤ : ١١٥ ) : « أصحاب الخراج ».

(٢) الطلبة ، بالكسر : الطلب.

١٠٨

العباد الصادقون فيما مضى. ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا. واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية (١) ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها (٢) وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها. فاقعس عن هذا الأمر (٣) ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن (٤). ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم. فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان. فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء. وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك (٥) ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه

__________________

(١) انظر ما سبق في التنبيه الأول ص ١٠٢.

(٢) في اللسان : « أبهجت الأرض : بهج نباتها ». وفي الأصل : « انتهت » تحريف. وفي ح ( ٣ : ٤١٠ ) : « تبهجت » قال ابن أبي الحديد : « وتبهجت بزينتها : صارت. ذات بهجة ». ولم أجد هذه الصيغة في المعاجم.

(٣) القعس : التأخر والرجوع إلى الخلف ، كما في اللسان. وفي الأصل : « فايس من هذا الأمر » صوابه في ح ( ٣ : ٤٠٩ ).

(٤) رواه ح : « ما لا ينجيك منه منج » ، وقال : « ويروى : ولا ينجيك مجن. وهو الترس : والرواية الأولى أصح ».

(٥) ح : « ما أغفلت ».

١٠٩

قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق. لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة. اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين.

فكتب معاوية :

بسم الله الرحمن الرحيم

من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه (١) ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك. ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ؛ لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق. فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد.

وكتب إلى عمرو بن العاص :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص. أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها (٢) ، لم يصب منها شيئا قط إلا فتحت له حرصا ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره. فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله (٣) فإن معاوية غمص الناس

__________________

(١) حق الرجل وأحقه : إذا غلبه على الحق.

(٢) ح ( ٤ : ١١٤ ) : « وصاحبها منهوم عليها ».

(٣) ح : « ولا تشرك معاوية في باطله ».

١١٠

وسفه الحق (١). [ والسلام (٢) ].

وكتب إليه عمرو بن العاص :

من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق (٣) ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى (٤). فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة. والسلام.

فجاء الكتاب إلى علي قبل أن يرتحل من النخيلة.

نصر : عمر بن سعد ، عن أبي روق قال : قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب (٥) ، صادق النية ، رابط الجأش. وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال (٦). قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك. فقال علي : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع. إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له. فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته.

__________________

(١) غمص الناس : احتقرهم ولم يرهم شيئا. وسفه الحق ، مختلف في تأويله ، قيل معناه سفه الحق تسفيها. وقال الزجاج : سفه في معنى جهل. وهو اقتباس من حديث لرسول الله رواه ابن منظور في اللسان « غمص ».

(٢) زاد ان أبي الحديد بعد هذه الكلمة : « قال نصر : وهذا أول كتاب كتبه علي عليه‌السلام إلى عمرو بن العاص ».

(٣) أناب : رجع.

(٤) ح : « إلى ما ندعوكم إليه من الشورى ».

(٥) المشيع القلب : الشجاع.

(٦) الرذل ، والرذال ، والرذيل ، والأرذل : الدون الخسيس.

١١١

فلما سمع هاشم بن عتبة (١) مقالتهم [ قام (٢) ] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سربنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان (٣) ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا. وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه رحما ، وأفضل الناس سبقة وقدما. وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا. ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين. فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك (٤) جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك. والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك.

فقال علي : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم إن عليا صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم قال :

إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ؛ فانصبوا أنفسكم في أداء

__________________

(١) هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. وكان معه لواء علي رضي الله عنه يوم صفين ، وقتل في آخر أيامها. انظر الإصابة ٨٩١٣ والاشتقاق ٩٦.

(٢) ليست في الأصل. وفي ح : « ... ما قالاه أتى عليا عليه‌السلام فقال : سر بنا ».

(٣) كذا في الأصل. وفي ح ( ١ : ٢٨٢ ) : « واستهوى بهم الشيطان » وظني بها « استهواهم ».

(٤) في الأصل : « بنورك » ، صوابها في ح.

١١٢

حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة. وقد حملت أمر أسودها وأحمرها (١) ، ولا قوة إلا بالله. ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره (٢). وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى. فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم. ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما. وانتظروا النصر العاجل من الله إن شاء الله.

ثم قام الحسن بن علي خطيبا فقال :

الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله.

ثم قال :

إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه (٣) صفة ولا قول. ونحن إنما غضبنا

__________________

(١) يعني العرب والعجم ، ولغالب على ألوان العرب السمرة والأدمة ، وعلى ألوان العجم البياض والحمرة. في الأصل : « أمركم أسودها وأحمرها » ، صوابه في ح.

(٢) أي يوقعهم فيما أراد من تغريره. وفي الكتاب : ( فدلاهما بغرور ).

(٣) في الأصل : « تبلغها » ، والوجه ما أثبت من ح.

١١٣

لله ولكم ؛ فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا (١) يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ؛ فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ؛ فإنه قد حضر. ولا تخاذلوا ؛ فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ؛ وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ؛ لأنه لم يمتنع (٢) قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة (٣) ، وهداهم إلى معالم الملة.

والصلح تأخذ منه ما رضيت [ به ]

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (٤)

ثم قام الحسين بن علي خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء ، [ و ] الشعار دون الدثار ؛ جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم (٥).

__________________

(١) في الأصل : « قوك ». والكلام بعد : « إنما غضبنا لله ولكم » إلى : « ولا يبيد » لم يرد في ح.

(٢) الامتناع : العزة والقوة. وفي القاموس : « والممتنع الأسد القوي العزيز في نفسه ». ح : « يتمنع ». وفي اللسان : « منع الشيء مناعة : اعتز وتعسر. وقد تمنع ».

(٣) الجوائح : الدواهي والشدائد ، واحدتها جائحة. وفي الأصل : « حوائج » ، والوجه ما أثبت من ح.

(٤) البيت للعباس بن مرداس السلمي ، كما في الخزانة ( ٢ : ٨٢ ) والرواية. المعروفة : « السلم تأخذ منها ». ويستشهد بهذه الرواية اللغويون على أن « السلم » تؤنث. قال التبريزي : « الجرع : جمع جرعة ، وهي ملء الفم. يخبره أن السلم هو فيها وادع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن لذاته وشغلته بنفسه ». وهو تحريض على الصلح. وأنفاس الحرب ، أراد بها أوائلها.

(٥) ليست في ح. وذاع : انتشر وتفرق. وفي الأصل : « أذاع ».

١١٤

ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها. ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه : و [ أن ] يهلك نفسه. نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته (١).

ثم نزل. فأجاب عليا إلى السير (٢) والجهاد جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني (٣) وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه. فقال علي : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو جائر خائن. وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خشيم (٤) وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به (٥) تم نقاتل عن أهله. فوجهه علي (٦) على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خثيم.

__________________

(١) ح : « بالفيئة ».

(٢) في الأصل : « فأجابه إلى السير » ، والوجه ما أثبت من ح.

(٣) عبيدة ، بفتح أوله. وهو عبيدة بن عمرو ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني ، بفتح السين المهملة وسكون اللام ، نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد. أسلم قبل وفاة النبي بسنتين ولم يلقه. روى عن ابن مسعود وعلي ، وروى عنه محمد بن سيرين ، وأبو إسحاق السبيعي ، وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال ابن نمير : كان شريح إذا أشكل عليه شئ كتب إلى عبيدة. توفى سنة ٧٢ وقيل ثلاث ، وقيل أربع. الإصابة ٦٤٠١ والمعارف ١٨٨ وتقريب التهذيب ، ومختلف القبائل ومؤتلفها لمحمد بن حبيب ص ٣٠.

(٤) خثيم ، بهيئة التصغير. انظر الاشتقاق ١١٢ وشرح الحيوان ( ٤ : ٢٩٢ ).

(٥) ح ( ١ : ٢٨٣ ) : « نكمن به ».

(٦) ح : « فوجه علي عليه‌السلام بالربيع بن خثيم ».

١١٥

نصر : عمر بن سعد ، عن ليث بن سليم قال : دعا علي باهلة فقال : يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم. وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزد عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر ، أن عليا لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة ، وكان كتب علي إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة :

« أما بعد فأشخص إلي من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل ».

فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ؛ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ؛ الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر (١).

__________________

(١) ح : « نحتسب في ذلك الأجر ، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب ».

١١٦

وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي (١) فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا.

وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي (٢) ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون. فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا.

وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدئلي ، وخرج حتى قدم على على ومعه رءوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي (٣) على الأزد ، والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية. فقدموا على علي عليه‌السلام بالنخيلة. وأمر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضر موت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم

__________________

(١) ترجم له في الإصابة ٢٣١٧ فيمن له إدراك.

(٢) مرجوم ، بالجيم ، كان من أشراف عبد القيس ورؤسائها في الجاهلية ، وقد مدحه المسيب بن عباس. وكان ابنه عمرو سيدا شريفا في الإسلام. ذكره ابن حجر في الصحابة. انظر الإصابة ٥٩٥٤.

(٣) في الأصل : « سيمان » صوابه بالشين كما في الاشتقاق ٢٩٩.

١١٧

الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم.

وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية.

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر. سلام على أهل طاعة الله ممن. هو مسلم لأهل ولاية الله. أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت (١) ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا ، وغويا ورشيدا ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، وذليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدق ووافق ، وأسلم وسلم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه (٢) فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات ، الأزل (٣) ومقامات الروع ، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله. وقد رأيتك تساميه وأنت أنت. وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاما ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم. وأنت اللعين ابن

__________________

(١) العنت : المشقة.

(٢) الحرب : العدو المحارب. والسلم : المسلم.

(٣) الأزل : الضيق والشدة.

١١٨

اللعين. ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل. على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم ، من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا ، وآخرهم به عهدا ، يخبره بسره ويشركه في أمره ؛ وأنت عدوه وابن عدوه؟! فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهي. وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك [ إنما ] تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه. وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتبع الهدى.

فكتب إليه معاوية :

بسم الله الرحمن الرحيم

من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. سلام على أهل طاعة الله. أما بعد فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيه (١) ، مع كلام ألفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ،

__________________

(١) أصفاه بالشيء : آثره به. وفي الكتاب : ( أفأصفاكم ربكم بالبنين ) وفي الأصل : « وما اصطفاه به نبيه » ، صوابه في ح ( ١ : ٢٨٤ ).

١١٩

ولأبيك فيه تعنيف. ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه ، ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك علي بفضل غيرك لا بفضلك. فاحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك. وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا صلى الله عليه ـ نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجته. قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه. على ذلك اتفقا واتسقا (١) ، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما. ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان ، يهتدي بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، وبطنتما له وأظهرتما (٢) ، [ وكشفتما ] عداوتكما وغلكما ، حتى بلغتما منه منا كما. فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك. وقس شبرك بفترك (٣) تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ، [ و ] لا تلين على قسر قناته (٤) ، ولا يدرك ذو مدى أناته. أبوك مهد مهاده ، وبني ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يك جورا فأبوك أسسه (٥). ونحن شركاؤه ، وبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا.

__________________

(١) في الأصل : « وانشقا » وأثبت ما في ح.

(٢) ح ( ١ : ٢٨٤ ) : « وظهرتما ».

(٣) الشبر ، بالكسر : ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر. والفتر ، بالكسر أيضا : ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحهما.

(٤) القسر : القهر والإ كراه. وفي الأصل « قصر » ، صوابه في ح.

(٥) الأسس ، بالتحريك : الأساس ، ومثلها الأس ، بالضم. ح : « أسه ».

١٢٠