تتميم كتاب أصول الفقه

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني

تتميم كتاب أصول الفقه

المؤلف:

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-173-8
الصفحات: ٩٢

بل الأقلّ هو القدر المتيقن فيه الامتثال ، والأكثر هو المشكوك فيه خارج عن مجرى الاشتغال وعن بحث الشكّ في المكلف به ، وداخل في الشك في التكليف.

وأمّا القسم الثاني ففيما يعلم بورود الطلب على مركّب عرفيّ كمعجون مختلط من عدّة أشياء يصدق إطلاق اسمه على طرف الأقل ، ويشكّ في دخالة خليط زائد آخر في تتميمه أو تحسينه يكتفى في مقام طلب مولويّ بتقديم الأقلّ ؛ لأنّه القدر المتيقّن من مطرح الخطاب ، وليس الشكّ المتعلق بالزائد من قبيل الشكّ في المحصّل لقناعة العرف بالمسمّى اذا صدق على الأقلّ.

وهذا كمقام إثبات يكشف ثبوتا عن أنّ الآمر عند أمره بالأقلّ لاحظه مطلقا ، لا مقيدا بأمر زائد آخر.

نعم ، لو لم تكن التسمية صادقة على الأقلّ فنفس هذا شاهد على أنّ مطلوب المولى بعد على عهدة المكلف ، فاذا شكّ فيما يحتمل كونه متمّما فهو شكّ في المحصّل يجب الإتيان به كي يخرج عن عهدة المطلوب.

وفيما يعلم بورود الطلب على مركّب شرعيّ تردّد أمره ووضعه بين الأقلّ والأكثر ، كإزالة الخبث عن الثوب للصلاة بغسلتين أو ثلاث غسلات ، وهذا الفرض كسابقه طابق النعل بالنعل ، فإنّه اذا شكّ في سببيّة الغسلة الثالثة لحصول الطهارة فهو شكّ في دخالة أمر زائد خارج عن بيان المولى فيما يهتمّ به من غرضه ، فالزائد يكون لا محالة مجرى لأصالة البراءة.

وهي وإن لا تثبت كون الأقلّ هو المكلّف به معيّنا ـ كاستصحاب عدم

٨١

وجوب الاكثر ، الّا على القول بالأصل المثبت ـ غير أنّ في ترك الأكثر لا بأس من القطع بالعقاب أو الخوف منه ، وهذا بعكس الأقلّ فإنّه متيقّن الوجوب إمّا نفسا واستقلالا ، أو ضمنا وغيريا فهو لا يترك ، وإلّا يقطع بالعقاب أو يخاف منه.

هذا في التوصّليات ، وهكذا الحال في التعبّديات ، فإن كان الأقلّ والأكثر تعبّديّين لا إشكال ولا توقّف في جريان ما ذكر فيهما ، إلّا في كيفية قصد القربة مع تردّد وجوب الأقلّ بين النفسيّ والضمنيّ المقدّمي.

ولكن ينبغي أن يقال : إنّه من هذه الجهة أيضا بلا إشكال ، إذ يكفي فيها الإتيان بالأقلّ قاصدا للتخلّص عن العقاب امتثالا لأمر يضاف وينسب الى مشيئة ربّ الأرباب ، فإنّ هذا وإن كان بحسب المرتبة أدنى المراتب للتقرّب إلّا أنّها من الغايات المعتبرة المعدودة للعبادات كما عليه الشيخ الأعظم في فرائده (١) ، وغيره في المباحث الفقهية.

هكذا الحال في جميع صور الدوران في الأجزاء والشرائط والموانع ، فإنّ الحقّ في الجميع جواز الأخذ بطرف الأقل وإجراء البراءة عن الأكثر.

نعم ، هناك حالة من حالات الدوران ليست من الأقلّ والأكثر ، وإنّما هي من المتباينين ، ومع ذلك لا يتنجّز فيها العلم الإجمالي ، وهي حالة :

__________________

(١) في أواسط بحث الأقلّ والأكثر.

٨٢

دوران الواجب بين التعيين والتخيير

من دون فرق بين أن يكون التخيير الممكن عقليا أو شرعيا (١).

ويتوضّح ذلك بذكر مثال للتخيير العقلي :

وهو أن يعلم إجمالا إمّا بوجوب إكرام زيد مطلقا وعلى أيّ نحو كان ، وإمّا بوجوب إكرامه على نحو خاصّ معيّن ، وهو إعطاء رداء له.

ومثال آخر للتخيير الشرعي : وهو أن يعلم إجمالا بأنّ الواجب في خصال الكفّارة ، إمّا خصوص العتق معيّنا ، وإمّا العتق أو الإطعام أو الصيام تخييرا.

وبما أنّ لحاظ الخصوصيّة والتعيينيّة فيه ضيق ومشقّة من غير نصّ في لسان المولى عليه (٢) فيكون المورد من موارد جريان البراءة عنها ، ويبقى التخيير

__________________

(١) لقد وضّح الشيخ الاستاذ قدس‌سره في الجزء ١ : ٩١ (الواجب التخييريّ والتعييني) الفرق بينهما : بأنّ أطراف الواجب التخييريّ إن كان بينها جامع يمكن توجّه الطلب نحوه فهو عقلي ، وإلّا فهو شرعي ، وإن شئت فراجع.

(٢) ما أوردناه في الأبحاث الراجعة الى الشكّ كلّيا لا يفرق فيه بين أن ينشأ الشكّ من عدم النصّ المعتبر ، أو إجماله ، أو تعارض النصّين ، وإنّما لم نكرّر ذلك ؛ لأنّ التّكرار ينافي البلاغة والاقتصار على اللازم. كما أنّ فرض نشوء الشكّ من أمر من الامور الخارجية الذي يشكّل الشبهة الموضوعية صفحنا عن بحثه في كلّ مورد مورد ؛ لأنّه خارج عن المباحث الاصولية ، وداخل في المباحث الفقهية ، وإنّما يذكر في بعض الافق أحيانا من باب الاستطراد ، كما أنّ عدّة من القواعد. ـ كقاعدة الميسور ، قاعدة الفراغ والتجاوز ، قاعدة حسن الاحتياط ، قاعدة التسامح في أدلة السنن ، قاعدة لا ضرر ، قاعدة القرعة ، وغيرها من القواعد ـ محلّ أخذها ومعرفتها وموضع

٨٣

ملحوظا واسعا يجري المكلّف عليه.

الى هنا كان الكلام فيما أمكن الاحتياط ، وفيما لا يمكن فيه الاحتياط لأجل الدوران بين المحذورين من جهة كون الواقعة الواحدة مردّدة بين الوجوب والحرمة ، فهو مجرى أصالة التخيير.

__________________

تحقيقها هو الكتب المعدّة لها المصنّفة المطبوعة ينظر فيها الطالب في فرصة مناسبة أعلائيّة ليس هنا مجال صرف القدرة اليها.

٨٤

أصالة التخيير

في حالة الدوران بين المحذورين

٨٥
٨٦

اصالة التخيير في حالة الدوران بين المحذورين

قد يتعلق العلم الإجماليّ بوجوب شيء أو حرمته ، فجنس الإلزام وإن كان معلوما لكنّه بخطاب الوجوبيّ يقتضي الفعل ، وبخطاب التحريميّ يستدعي الترك ، ولا يمكن الجمع بين النوعين. وهذا المورد أحد الموانع التي يسقط فيها العلم الإجماليّ عن التنجيز لطرفيه معا أو واحد منهما معينا ، وهما : الفعل ، والترك ، فلا يمكن الاحتياط فيه ؛ لعدم إمكان الأول تكوينا ؛ نظرا الى عدم خلو الإنسان في الأكوان (١) عن الفعل والترك ، واستلزام الثاني الترجيح بلا مرجّح المستحيل عقلا.

ومع هذا الوصف يختلف حال المسألة حكما باختلاف المسالك في جريان التخيير العقليّ وأصالة الإباحة الشرعية ، أو التخيير الشرعي ، أو البراءة العقلية والشرعية ، أو كليهما بإضافة استصحاب عدم التكليف ، أو تقديم

__________________

(١) أي الأكوان الأربعة : الافتراق ، الاجتماع ، الحركة ، السكون.

٨٧

الأخذ بالحرمة ، أو عدم جريان أيّ واحد منها والرجوع الى التوقف ، والأخير هو مختار شيخنا الأعظم الأنصاريّ في فرائده في مسألة البراءة والاشتغال ، وفي مقصد القطع اختار التخيير العقلي.

تنقيح موضوع البحث بتفصيل فيه

والمختار على نحو الاختصار هو التفصيل بين قدرة المكلف على المخالفة القطعية وبين عجزه عنها.

ووجه التفصيل : أنّ في صورة قدرته عليها ـ وهي : ما اذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة التوصّليّين (١) أو التعبّديين (٢) في الواقعة المتعدّدة أو أحدهما المعيّن تعبّديا (٣) ولو في واقعة واحدة ـ تصبح المسألة داخلة في وادي الشكّ في المكلّف به ، وخارجة عن دوران الأمر بين المحذورين الدائر أمرهما بين الفعل والترك ؛ لأنّ المكلف وإن لم يتمكّن من الموافقة القطعية

__________________

(١) كما لو علم إجمالا بصدور حلفين : أحدهما على فعل شيء ، والآخر على ترك أمر آخر واشتبه الأمران في الخارج ، هذا مثال لتعدّد الواقعة دفعيا. والمثال لتعدّدها تدريجيا : أن يعلم إجمالا بتعلق الحلف بإيجاد فعل في زمان وبتركه في زمان آخر ، واشتبه الزمانان.

(٢) مثل : المرأة المردّد أمرها بين الطهر والحيض ، ففي مسألة صومها يتردّد أمر إمساكها وإفطارها بين الوجوب والحرمة ، فلو كانت طاهرة يجب عليها الإمساك عن المفطّرات بقصد القربة ويحرم عليها نية القطع أو القاطع ، ولو كانت حائضا يحرم عليها نية الصيام بناء على أنّ الحائض ممنوعة ذاتا عن العبادة ، لا تشريعا ، ويجب عليها ترك نية الإمساك ، فهي متمكّنة من المخالفة القطعية بأن تصوم بعنوان العبادة بنية القربة أو بدونها ، فلو كانت طاهرة فهي تركت الصوم بترك نية القربة ، ولو كانت حائضا فارتكبت معصية وهي التلبّس بالصوم عبادة.

(٣) وهو الوجوب مثلا ، كما في المرأة الشاكّة في حيضها ، فأمر دخولها في المسجد الحرام حين الحجّ يدور بين الوجوب والحرمة.

٨٨

(كالصورة الآتية) لكنّه متمكّن من المخالفة القطعية بأن يفعل الأمر المردّد في واقعة ويتركه في اخرى ، أو يفعله بدون قصد التقرّب ، أو يتركه لا بقصد التعبّد ، ولا يجوز له ذلك.

تنجيز العلم الاجمالي في صورة التّمكن من المخالفة القطعيّة

ولأجل هذا فالعلم الإجماليّ يوجب التنجيز ، ويقتضي التأثير باختيار المكلف واحدا من الطرفين عقلا اضطرارا ، تنزّلا الى كفاية الموافقة الاحتمالية عند تعذّر الموافقة القطعية من دون الرجوع الى أصالة الإباحة ؛ لأنّه مخالفة عملية قطعية.

وفي صورة عجزه عن المخالفة القطعية ـ وهي : ما اذا كان الحكمان توصّليّين في واقعة واحدة (١) ، أو كان أحدهما غير المعين تعبّديا (٢) مع وحدة الواقعة ـ كان من باب دوران الأمر بين المحذورين ، فيختار أحدهما لا محالة.

ولكنّ الأصحاب كلّ فرقة منهم أراد ترتّب النتيجة على واحد من المسالك السبعة التي سردناها في مفتتح الأصالة ، ونشير هنا رمزا الى بطلانها وبيان ما هو الصحيح في المبحث.

__________________

(١) مثل أن يموت شخص وعلم إجمالا بوجوب دفنه لإسلامه ، أو حرمة دفنه في مقابر المسلمين لكفره. أو يعلم إجمالا بوجوب شرب دواء أو حرمته.

(٢) كما لو نذر أن يكرم عليا بعطاء وأن يحرم خالدا عن عطائه لفسقه مع تبرّع قصد القربة في أحد النذرين ثمّ اشتبه عنده عليّ بخالد فلم يميّز أي عطاء واجب وأي عطاء حرام بقصد القربة أو بدونه.

٨٩

وهو : أنّ المكلف لا يخلو قهرا من الفعل أو الترك ، فالمخالفة والموافقة القطعيّتان في مورد الكلام لا تتّفق منه ، ببرهان الاستحالة وهو عدم اجتماع النقيضين وعدم ارتفاعهما.

ومن اجل ذلك العلم الإجماليّ بلا أثر تكوينا ، ويكون الشكّ شكّا في التكليف ، إلّا أنّ الوجدان يقضي بأنّ العلم بجنس الإلزام الموجود في نوعي الوجوب والحرمة يستدعي الالتزام بالفعل أو الترك بمناط الاضطرار التكويني ، لا بمناط الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة ؛ لعدم إمكان التحريك والانبعاث للمكلف من قبل العقل أو الشرع نحو واحد من المحذورين.

وبالنتيجة : لا مسرح هنا للتخيير لا شرعا ولا عقلا ؛ لأنّه مع وصف الاضطرار والعجز عن الإدانة تكوينا تحصيل للحاصل.

التّخيير في المسألة الاصوليّة والفرعيّة

هذا إن اريد من التخيير : التخيير في المسألة الاصولية ، أي في مقام الفتوى بالأخذ بدليل أحد الحكمين لأجل عمل المقلّدين ، نظير الفتوى بالأخذ بمفاد واحد من الخبرين المتعارضين.

وكذا إن اريد به التخيير في المسألة الفرعية ، أي في مقام العمل ؛ لعدم الدليل على أيّ من هذين المعنيين ، بل الدليل على عدمه ، وهو ما ذكرناه من كون المكلف هنا مضطرّا خارجا لمتابعة قرار العقل بالتخيير الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين ، وكون المورد خاليا من مناط البعث والطلب الى المكلف

٩٠

وهو الاختيار والاقتدار على المخالفة القطعية.

تفنيد مباني الاصحاب في مجرى أصالة التّخيير

وبنفس البيان ينفى جريان البراءة العقلية والبراءة والإباحة الشرعيّتين ؛ لأنّ الأول موضوعه اللابيان في مورد له صلاحية ورود البيان المؤثّر لتجويز العقاب ، وفي المقام يقطع بعدمه ، فيقطع بعدم العقاب ، والأخيران موردهما إمكان جعل التحريم للمكلف في مورد يكون التكليف الواقعيّ فيه مجهولا ، وفي المقام فرض العلم إجمالا بوجود الإلزام ، واذا لم يمكن الوضع لم يمكن الرفع.

هذا مضافا الى أنّ الإباحة الشرعية مصبّها هي الشبهات الموضوعية ، والشبهة فيما دار أمرها بين المحذورين شبهة حكمية.

وهكذا الاستصحاب فإنّه حجّة لأجل ترتيب الأثر العمليّ المصحّح الكلّي للتعبّد بالاستصحاب ، ولا أثر عمليّ في البين على أنّه أصل تنزيلي ، والاصول التنزيلية لا تجري في أطراف العلم الإجماليّ ولو لم يلزم من الجريان مخالفة عملية.

وبعبارة اخرى : يلزم من إجراء الاستصحابين في البين مناقضة في دليل الاستصحاب ؛ لوجود العلم الاجمالي بالالزام ، ويلزم منه نقض لزوم الالتزام والتديّن بحكم الله الواقعيّ في الواقعة ، وهو : إمّا الوجوب ، أو الحرمة.

بقي التكلّم في أمرين :

١ ـ تقديم جانب الحرمة بأدلّة ، أهمها : أنّ دفع المفسدة ـ وهي الحرمة ـ أولى

٩١

من كسب المنفعة ، وادّعى اهتمام الشارع والعقلاء بهذه القاعدة وذهابهم الى أتمّيّتها.

ويرد عليها : أنّها قاصرة كبرى وصغرى.

أمّا الكبرى فالمنافع والمفاسد متفاوتة بحسب كبراها وصغراها وقيمها وأهميّتها عندهم ، فربّ نفع جذبه أهمّ من ترك المفسدة.

وأمّا الصغرى فربّ واجب في تركه مفسدة ، وهذه القاعدة في المنفعة والمفسدة القطعيتان غير مقبولة فكيف بالمحتملة؟

المختار هو العمل على طبق الاضطرار والتوقّف

٢ ـ القول بالتوقّف في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، وعدم الالتزام بحكم غير ما هو في كنه الواقع ، ولزوم الأخذ بأحدهما مخيّرا اضطرارا وأنّ التخيير استمراريّ لا بدوي ، وهذا هو القوي نتوقّف ونقف عليه. ونكتفي بهذا المقدار من الكلام في تتميم الاصول العمليّة الثلاثة الفائتة عن قلم الاستاذ المقدام العلامة المظفر رحمة الله عليه.

العبد المحتاج الى رحمة ربّه الرحمن

ميرزا غلامرضا عرفانيان اليزديّ الخراساني

جمادى الثانية ١٤١١ ه‍

٩٢