تتميم كتاب أصول الفقه

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني

تتميم كتاب أصول الفقه

المؤلف:

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-173-8
الصفحات: ٩٢

اصالة الاحتياط في لسان السنة

لسائل أن يسأل : أنّه لو وجد دليل معتبر على لزوم الاحتياط أو التوقّف تجاه الشكوك والشبهات البدوية فما ذا يكون العلاج؟

والجواب عن السؤال : أنّه استدلّ بعض الفطاحل من العلماء على ذلك بأدلّة نستعرض نموذجا منها ؛ كي ترى أنّها بعيدة عن مدّعى الاحتياطيّين. نعم ، لا شكّ في حسنه على كلّ حال عقلا ، بل في استحبابه شرعا اتخاذا من تلك الأدلّة عمدتها الأخبار ، أورد الشيخ الحرّ قسما وافرا منها في وسائله (١) تفوق عدد الستّين ، أصحّها :

صحيح وموثق من أخبار الاحتياط

١ ـ صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة الجزء ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١١١.

٦١

عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ... الى أن قال : فقال : «اذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» (١).

٢ ـ أوثقها : موثّق عبد الله بن وضّاح أنّه كتب الى العبد الصالح عليه‌السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار ، فكتب إليه : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢). ونسمّيهما بالصنف الأوّل.

تصنيف اخبار الاحتياط باصناف ثلاثة

٣ ـ معتبر هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حقّ الله على خلقه؟ قال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فاذا فعلوا ذلك فقد أدّوا الى الله حقّه» (٣).

٤ ـ خبر أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال :

«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» (٤).

وبهذا المضمار كثير في الأخبار ، ونعتبره الصنف الثاني.

__________________

(١) وسائل الشيعة الجزء ١٨ : ١١١ الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٣ ب ١٢ ح ٣٧.

(٣) المصدر السابق : ص ١١٢ ح ٤.

(٤) المصدر السابق : ح ٢.

٦٢

٥ ـ معتبر عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه الى الله والى رسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم ... الى أن قال : فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

وهذا صنف ثالث معروف بأنّه من أخبار التثليث ، وذيله من الصنف الثاني.

تحليل علميّ في الاصناف الثلاثة من اخبار الاحتياط

والإنصاف أنّ لسان الصنف الأول لسان النصيحة والإرشاد الى أنّ الاحتياط سبب النجاة في مورد العلم بالتكليف إجمالا ، وعروض الاشتباه والالتباس لشخص المكلف به ، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه ، وهو التفتيش عن وجود دليل على لزوم الاحتياط في مورد الشك البدوي ، ثمّ إجراء البراءة بعد اليأس.

وأمّا الصنف الثاني ـ وهو الأخبار الآمرة بالكفّ والتوقّف عند الشبهة ـ فإنّها ناظرة الى الكفّ عن القول بغير علم ، والوقوف أمام خطر المشكوك لا الشكّ ، أي اذا كان في الولوج في المشكوك خشية هلكة فالمناسب التريّث

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ : ١١٤ ب ١٢ ح ٩.

٦٣

والتأمل ؛ لئلّا يقع الإنسان في خطر أمر مخطور باستعجال ، والاحتياط بهذا المعنى لا ينكره أحد.

تحقيق معنى الشّبهة

على أنّ الشبهة المستعملة في هذا الصنف من الروايات غير الشكّ البدوي مفهوما فإنّه الحيرة والاحتمال ، والشبهة ما تشابه المقصد وتماثله من بين الأمثال ، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ» (١).

فهذا الصنف من الروايات يرشد الى أنّه إن كان هناك التباس وتدليس ونفاق فعليكم بالحذر والتثبّت والتمحيص الى أن يجلو لكم وجه الحقّ ويتبيّن الرشد من الضلال ، فأين هذا من الدلالة على لزوم الاحتياط في الشكوك البدوية بعد الفحص والدقّة؟ وأيّ ربط له بلزوم الاجتناب عند احتمال الثبوت لحكم شرعي؟

وأمّا الصنف الثالث الموسوم بأخبار التثليث فالهدف فيها الحثّ على الابتعاد عمّا يتردّد أنّ فيه الرشد أو الغي ، وهذا أيضا بجانب بعيد عن المقصد ، وهو لزوم الاحتياط في إطار ما هو مشكوك الحليّة والحرمة ، وما وردت الرخصة فيه من ناحية الشرع ضمن أدلة البراءة داخل في المبيّن رشده.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة المرقمة (٣٨).

٦٤

وهكذا الجواب عن أخبار ادّعيت دلالتها على لزوم الاحتياط في الشك البدويّ في الحرمة ، مضافا الى أنّها على الأغلب ضعيفة سندا.

فالحقّ أنّه لا دليل لفظيّ في البين يدلّ على تحتّم الاحتياط في مورد الشكّ في الحكم التحريميّ فضلا عن الوجوبي وفي مورد الشكّ في الموضوع.

ما ذا جار في الشك في الوجوب والموضوع؟

وبالنتيجة : وصلنا الى جواب قامع آخر عن نظريّة الأخباريّين الاحتياطيّين ، وهو : أنّ الأخبار المستدلّ بها على الاحتياط بناء على تسليم دلالتها فهي دلالة بدويّة غير مستقرّة بقرينة قطعيّة ، وهي : أنّها (على الفرض) بإطلاقها أو عمومها تشمل الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة ، لكنّهما خارجتان عنهما بالإجماع والاتّفاق من جميع العلماء الإماميّة (١) ، وهذا معناه : خروج الشبهتين المذكورتين عن تحت أدلّة الاحتياط تخصّصا ، لا من باب عمل التخصيص فانّ لسانها بلحاظ قوة دلالتها وانسجام مواضعها الثلاثة من حيث وحدة ملاك الاشتراك في الحكم بالاحتياط آب عن التخصيص. وعليه فروايات الاحتياط بهذه القرينة محمولة على الحسن والرجحان في قاطبة الشبهات ، مؤكّدة لمنطق العقل في ذلك.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول عند الكلام عن جواب أخبار الاحتياط بعنوان التوقّف في الجواب الخامس.

٦٥

اعتراض نهائي وجوابه بملاحظة النّسبة بين الادلتين

أمّا الاعتراض فقد يقال : إنّه مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الوجوب فسوف ترى أنّها تعترض الطريق عن تقدم أدلّة البراءة وعملها ، فهل هناك مخلص آخر عن مشكلة الواقعة؟

جوابه : نعم ، تلاحظ النسبة بين الأدلّتين ، فبالإضافة الى الآيات المستدلّ بها على البراءة تكون النسبة بين الآيات الثلاث الاول وأدلّة الاحتياط هي التساوي ، فبعد التعارض يتقدّم الدليل القرآني ؛ لأنّه قطعي ، وأدلّة الاحتياط أخبار آحاد ، وقد تحقّق في بحث تعارض الأدلّة أنّ في هذه الحالة لا حجيّة للخبر الواحد.

وأمّا الآية الرابعة والخامسة فقد عرفت أنّ لسانهما لسان نفي وجوب الاحتياط ، فهما من أدلّة إبطالها فلا حاجة الى ملاحظة النسبة بينهما.

وأمّا أخبار البراءة ـ منها الحديث المعروف بحديث الرفع بمجموع ألسنته ، وكذا حديث الحجب ـ فقد ظهر في صناعة تقريب دلالتهما على البراءة أنّ لهما الحكومة والتقدم على أدلّة الاحتياط ، حيث إنّ لسانهما لسان نفيه ، وسائر الأخبار تكون النسبة الملحوظة بينهما وبين أخبار الاحتياط هي التساوي ، فبعد مرحلة التعارض تقدم جانب أدلّة البراءة ترجيحا لأجل قاعدة قبح العقاب

٦٦

بلا بيان ، أو استصحاب عدم التكليف.

ولو لم يمكن إعمال ترجيح أدلّة البراءة بالقاعدة بناء على عدم تماميتها في نفسها ، وكذا عدم تمامية الاستصحاب لتسليم بعض المناقشات الواردة عليه (١) فالدليلان المتكافئان يتساقطان فيرجع الى القسم الأعلى من أدلة البراءة النافية لثبوت الاحتياط (٢).

ولكنّ كلّ ذلك فرض في فرض لا تصل النوبة اليه بعد ما قدّمنا نموذجا من التحقيق الحقيق على عدم القصور لأدلّة البراءة في إيفاء المقصود.

أقسام الشّك البدوي

هذا كله في الشكّ البدويّ في التكليف ، وهو على قسمين :

قسم متضمّن لاحتمال الوجوب فقط ، وفي مقابله احتمال عدم الوجوب ، مثل : احتمال وجوب الصلوات عند ذكر اسم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

أو احتمال الحرمة فقط ، وفي مقابله احتمال عدمها ، مثل : احتمال حرمة شرب الدخان.

وقسم متضمّن لاحتمال الوجوب والحرمة معا في شيء ، واحتمال عدمهما فيه ، مثل : صلاة يوم العيد في عصر الغيبة.

وهذا القسم الثاني أيضا مشمول لأدلّة البراءة نقلا كما تقدّم ، وعقلا من

__________________

(١) كما في كلمات صاحب الكفاية والميرزا النائينيّ وغيرهما.

(٢) مثل الآية ١١٩ و ١٤٧ من سورة الأنعام ، وحديث الرفع والحجب ، وما هو من هذا القبيل.

٦٧

قاعدة قبح العقاب بلا بيان على المشهور ، فالمكلّف مرخّص في الإتيان بالصلاة وتركها.

الاستدلال على الاحتياط بدليل عقلي

علم ممّا تقدم أنّ البراءة مجرى للشبهات الحكمية في موارد الشكوك البدوية ، والكلام الى هنا كان في ذلك.

لا يقال : إنّ الشبهات الحكمية من المشكوكات المقترنة بالعلم الإجماليّ بوجود أحكام كثيرة غير معيّنة في الشريعة المقدسة ـ بعد إكمال الدين ـ اختفيت على الناس مصادرها ومخارجها من الأدلّة والأمارات بظلم الظلمة وغصب الغصبة ، فهي ليست من الشكوك الابتدائية الساذجة البسيطة ، ولا يمكن إجراء البراءة حينئذ.

وهذا هو الدليل الآخر على الوجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريمية الموسوم بالدليل العقلي (١) ، جائيا من قبل العلم الإجماليّ بوجود تكاليف محرّمة فقدت أدلّتها عن نظر المتشرّعة.

__________________

(١) لم نتعرّض لأدلّة الاحتياطيّين غير شيء من السنّة ، وهذا الدليل العقليّ ـ مع أنّهم تمسّكوا لإثبات غرضهم بآيات قرآنية أيضا ـ لكن لمّا كان تقريب دلالتها عليه موهونا جدّا ، صفحنا عن ذكرها وتعرّض الجواب عنها ، وإن أردت فعليك بالكتب المطوّلة الاصوليّة.

٦٨

جواب الاستدلال المذكور

فإنّه يقال : إنّ هذا الإشكال له وجه لو لم يكن في أدلّة البراءة ما يدلّ عليها بعد عملية الفحص عن البيان نحو الآية الشريفة (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) بتقريب تقدم.

وله وجاهة لو كان إجراء البراءة بواسطة الفقيه قبل الفحص عن الأحكام ، حيث إنّ في هذه الصورة ، الاحتمال في أطراف العلم الإجماليّ بثبوت تكاليف واقعيّة يكون منجّزا ومانعا عن تأثير دليل البراءة للتعارض ، لكن محطّ النظر في محلّ البحث هو إجراء البراءة بنظر الفقيه بعد الفحص (٢) بتتبّع الآيات والأخبار والشهرات والإجماعات والاصول المثبتة للأحكام التكليفية والوضعية ، وبعد ملاحظتها يحصل ويتجمّع عند الفقيه المستنبط كمّية كبيرة من الأحكام تفصيلا على نحو القطع ـ افرض ـ لا تقلّ عددا عن العدد المعلوم إجمالا أولا ، فهذه المعلومة تفصيلا كانت منجّزة قبل قيام الأدلة والأمارات على ثبوتها لا يمكن أن تصبح منجّزة بالعلم الإجماليّ المذكور ؛ لعدم قبول مورد واحد لحكمين متماثلين ، فتخرج عن كونها مجرى لأصالة البراءة ، وحينئذ تبقى الموارد الاخرى المجهولة مشكوكة بدويّة تحت عمل أصالة البراءة بلا معارض.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) تقدم الكلام عليه في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة عند الوقوف على أبوابها : ص ٢٧٢ ، ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٦٩

وبناء عليه ، العلم الإجماليّ المذكور ينحلّ بانحلال أثره ، وهو التنجّز ببركة العلم التفصيليّ المسطور.

فالاصول النافية المؤمّنة من البراءة وغيرها جارية طرّا خارج نطاق هذا العلم ؛ لطرد التكليف المشكوك.

وأمّا اذا كان التكليف محرزا ويشكّ في المكلّف به بين أطراف المحتملات بعلم إجماليّ فالكلام هنا في مرحلة العمل بإتيان بعض المحتملات دون بعض يرجع الى منجّزية الاحتمال ، وهذا يكون مجرى لأصالة الاشتغال.

حقيقة العلم الإجماليّ والشكّ المقرون به

الحقّ أنّه لا إجمال في العلم ، فإنّه نور ومرآة وكاشف ، وإنّما الإجمال في متعلّقه ، فهو كالعلم التفصيليّ بيان يحتجّ به.

وحيث إنّه يتعلق لا على التعيين (أي على نحو الإبهام والإجمال) بأحد الافراد ـ الذي هو الجامع المخترع للذهن ـ على وضع يكون كلّ واحد طرفا لاحتمال تعلق التكليف به ، أو يكون هو المكلف به يطلق عليه «العلم الإجماليّ» فالوصف أوّلا وبالذات بحال المتعلّق ، لا بحال الموصوف النحوي ، وفي الوقت يكون العلم الإجماليّ بنفسه منجّزا ، ولأجل المعارضة بين الأفراد ـ تلك المعارضة الحاصلة من قولك : إمّا وإمّا ـ لا تجري الاصول المؤمّنة في الأطراف كلا ولا بعضا.

٧٠

أمّا كلا لأجل حرمة المخالفة القطعية. وأمّا بعضا لاستحالة الترجيح بلا مرجّح.

مثلا : اذا تردّد الواجب بين الظهر والجمعة في يومها فيقال : الواجب فيها إمّا صلاة الظهر ، وإمّا صلاة الجمعة ، وعلى كلّ فلا بدّ من الوفاء بحقّ تنجيز العلم المذكور والإتيان بكلتيهما ، قضاء لوجوب الموافقة القطعية حسب ما تمّ تحقيقه لدى المشهور من العلماء المحقّقين الاصوليين وهو المنصور.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التكليف المعلوم إجمالا من نوع واحد أو من نوعين ، كالعلم إمّا بوجوب سفر عليه الى نحو معيّن ، وإمّا حرمة تصرفه في مال الغير بجانب آخر ، فإنّ جنس التكليف في كلا المثالين معلوم ، وإنّما وقع الإجمال في خصوصيّته ونوعيته. هذا كلّه في الشبهة الحكمية.

وأمّا الشبهة الموضوعية : ففي البدوية منها جريان البراءة متّفق عليها. نعم ، قسم منها يستدعي الشكّ فيه وجوب الموافقة القطعية أيضا.

الميزان لمعرفة الشبهة الموضوعية الّتي لم تجر فيها البراءة

ضابط امتياز الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة عن التي لا تجري فيها : أنّ كلّما كان الشكّ فيما تتوقّف فعلية التكليف في الخارج عليه (من

٧١

موضوع التكليف أو متعلقه (١) ، أو قيد من قيوده ، أو شرط من شروطه ، أو اتّصاف الفعل بكونه فردا لمتعلق الحكم على طرز هليّة البسيطة وكان الناقصة ، أو هليّة المركّبة وكان التّامة) كان المشكوك فيه من الشبهة الموضوعية الّتي تجري فيه البراءة.

وكلما كان الشكّ في حوزة الامتثال ـ أي الخروج عن عهدة حقّ المولى بعد ما كان أصل التكليف مع ما يستلزمه ويتوقّف عليه معلوما ـ فهو من الشبهة الموضوعية التي يجب فيها الاحتياط كي يخرج عن العهدة باليقين.

مثال الأول :

وجوب الحجّ مقيّد بالاستطاعة ، فاذا شكّ في الاستطاعة فقد شكّ في فعلية الوجوب المجعول ، لا أنّه يشكّ في جعل الوجوب كي يكون الشكّ في التكليف ، فالبراءة عنه جارية ؛ لأنّه شكّ في وجود الموضوع على مفاد كان الناقصة ، وكذا الحال فيما شكّ في متعلّق التكليف على النحو المزبور ، كأن شكّ في أنّ تكلّما خاصّا هل هو كذب؟ فتجري البراءة عن حرمته.

مثال آخر ، للشكّ في قيد من قيود التكليف على مفاد كان التامة وهليّة المركبة : الشكّ في وقوع آية من الآيات لوجوب صلاتها فإنّ الوجود الخارجيّ للآية قيد لوجوب الصلاة ، والوجود الخارجيّ لشيء يكون بمفاد كان التامة لا محالة.

__________________

(١) متعلق الحكم هو فعل المكلّف ، وموضوع الحكم هو متعلق المتعلق ، أي أمرا من الامور الخارجية.

٧٢

ومثال الثاني :

وجوب الوضوء مشروط بوجود الماء المطلق فإذا شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يصح له أن يكتفي بالوضوء بالماء المشكوك ؛ لأنّه شكّ في الامتثال وحصول المحصّل ، فعليه أن يحصل على ماء يطمئن أنّه مطلق كي يحرز الامتثال ، إذ الوجوب الشرطيّ للوضوء بالإضافة الى طبيعة الماء اخذ على نحو البدلية وصرف الوجود ، لا على نحو الانحلالية والشمول كي يكون الوضوء بكلّ فرد من الماء صحيحا.

ومن هذا البيان يظهر : أن لجريان البراءة في الشبهات الموضوعية معيارا ظريفا يلزم التنبّه عليه حتّى لا يقع المفتي على خلاف الواقع ، فإنّ في قسم منها يتحتّم وجوب الموافقة القطعية ، وهو يساوق مفاد قاعدة الاشتغال كما أشرنا اليه.

وملخّص هذا القسم : هو أن يكون التكليف وموضوعه وجملة من قيوده معلوما ، وإنّما الشكّ في قيد من قيود المتعلق تردّد حصوله بين هذا وذاك ، مثل : ماء يشكّ في أنّه مطلق أو مضاف ، ومسلّم أنّ وجوب الوضوء بالإضافة الى هذا القيد مأخوذ بدلا.

أو يشكّ في موضوع التكليف وكان إسناده الى الموضوع المشكوك بدليا أيضا ، مثل قوله : أكرم عالما ، حيث لا يجوز الاقتصار بإكرام من يشكّ في أنّه عالم ؛ لأنّه من الشكّ في الامتثال ، وهو مجرى لأصالة الاشتغال.

والشغل اليقينيّ يستدعي فراغ العهدة على نحو اليقين جار فيه وفي نحوه ،

٧٣

من قبيل : ما لو لاقى شيء لجميع الأطراف المشتبهة بالنجس المعلوم إجمالا والملاقي لأحد المائعين المشتبهين بالنجس وفي مرتبته ملاقي المشتبه الآخر ، فإنّ الأول معلوم النجاسة تفصيلا ، والثاني أصل الطهارة فيه معارض مع أصل الطهارة للملاقي الآخر ، وعليه لا مناص من الاجتناب عن الملاقيين ؛ لحدوث علم إجماليّ ثان بنجاسة أحدهما.

الملاقي لأحد الأطراف المعلوم بالإجمال نجاسته

اذا لاقى شيء مائعا يعلم إجمالا بتنجّسه أو بتنجّس مائع آخر فهل يحكم بنجاسة الملاقي؟

قولان مبنيّان :

على أنّ نجاسة الملاقي للنجس هل هي من الآثار والأحكام المترتّبة على نفس النجس بحيث تكون نجاسته لأجل سراية النجاسة من النجس اليه انبساطا واتساعا فتكون الملاقاة موجبة لاتّساع دائرة النجس ـ كما في صورة اتّصال المائع النجس وامتزاجه بغيره ـ فإنّ هذا يوسّع سراية النجاسة أينما تنتقل ، فتصبح النجاسة في الملاقي عين نجاسة الملاقى ويكون الدليل على وجوب الاجتناب عن الملاقي هو الدليل على وجوب الاجتناب عن الملاقى فإنّه من شئونه؟

وعلى أنّ السراية بابها باب السببيّة ، ونجاسة الملاقي فرد آخر منها ورد عليها التعبّد الشرعيّ بوجوب الاجتناب عنه في مقابل وجوب الاجتناب عن الملاقي؟

٧٤

والمشهور منهم من في مدرسة الشيخ الأنصاريّ والميرزا النائينيّ ـ رحمة الله عليهما ـ على المبنى الثاني ، بدعوى عدم العثور على دليل معتبر يدلّ على صحة المبنى الأول ، بل استظهر أنّ الملاقي عنصر مستقلّ للزوم التجنّب عنه ، وفرد جديد من الرجز والرجس يلزم التحرّز عنه بخطاب تعبّديّ يخصّه في مقابل الخطاب والإعلام بنجاسة الملاقى.

وعلى ذلك لا يلزم الاجتناب عن الملاقي لطرف من المعلوم نجاسته بالإجمال ، لا وضعا ولا تكليفا ؛ للشكّ في ملاقاته للمتنجّس ، فأصالة الطهارة وكذا أصالة الإباحة جاريتان فيه من غير معارض بعد سقوطهما في جانب الملاقى وطرفه ، فيصحّ به الوضوء إن كان ماء ويحلّ شربه ويجوز أكله إن كان مشروبا أو مأكولا ، ولبسه في الصلاة إن كان ملبوسا.

وقد ادّعى شيخنا المظفّر ـ في أواخر البحث عن الاستصحاب عند الكلام في الشبهة العبائية ـ الإجماع على الحكم بطهارة الملاقي لأحد طرفي الشبهة المحصورة.

وهناك بعض التفاصيل في المسألة يرجع لاستيفائها الى الكتب المفصّلة.

تحتّم الاجتناب عن الملاقي كالملاقى

ولكن الاحتياط غير الناكب عن الصراط يقتضي المصير الى ما حقّقه بعض مشايخنا من أساطين العصر ، بل نابغة الدهر الشهيد السعيد السيد الصدر ، من تحتّم الابتعاد عن الملاقي ، كالملاقى وطرفه تكليفا ووضعا ؛ لكفاية تنجيز العلم

٧٥

الإجمالي الأول والثاني ـ بين الملاقى وطرفه وبين الملاقي وطرف الملاقى ـ في ذلك.

وأفاد ذلك بكلام مختصره :

انّ الخطابات الشرعية تتكفّل جعل الأحكام على الموضوعات المقدّرة الوجود ، لا الموضوعات في مرحلتها الفعلية كما في فكرة الزاعمين لنجاة الأصل المتأخّر فعليّته في طرف الملاقي من السقوط.

والتعارض الواقع بين فردين أو أفراد من الدليل يكون لا محالة تعارضا في صقع عالم الجعل من أول الأمر ، بمعنى إخراج مورد المعارضة عن متن الجعل أينما تحقّق المورد متقدّما عن طرفه ، أو متأخّرا ، أو في عرض واحد ، فلا نتيجة أصلا لسبق بعض أطراف العلم الإجماليّ عن بعض آخر زمانا ؛ لأنّ المعارضة دائما بلحاظ الجعل من البدو ، والجعل ناظر الى أفراد موضوعه في عرض واحد ، فالأصل المؤمّن ـ أيّ أصل كان في جانب الملاقى ـ له معارضان في عرض واحد بلحاظ مرحلة الجعل الذي هو مدلول الخطاب :

١ ـ الأصل في الطرف الآخر.

٢ ـ الأصل في ملاقيه ، فتسقط الاصول الثلاثة عن الاعتبار بالمعارضة.

فبهذا اتّضح : أنّ العلم الإجماليّ في البين منجّز لأطرافه في جميع الصور والتفاصيل ، يلزم بمقتضاه التجنّب عن الملاقي أيضا.

هذا مختصر الكلام في الشبهة المحصورة.

٧٦

الشبهة غير المحصورة ، حكمها وضابطها

الحقّ أنّها كالشبهة البدوية تجري في أطراف محتملاتها الاصول عقلا ونقلا ، فيسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز في ناحية وجوب الموافقة القطعية ، لا حرمة المخالفة القطعية ، فإنّه فيها يظلّ منجّزا ؛ وذلك بلحاظ وجود الاطمئنان بعدم انطباقه على الأطراف ، أي : أنّ مرتكب الأطراف بحساب الاحتمالات لمّا يضع إصبعه ـ مثلا ـ على كلّ طرف من أطراف المعلوم بالإجمال يرى نفسه مطمئنّا بعدم تطبيقه على موضوع الإصبع إلّا على احتمال ضئيل جدّا ، وهذا الاطمئنان أمر عرفيّ عقلائيّ حجّة لديهم.

وممّا ذكرنا عرف الميزان والضابط لتشخيص الشبهة المحصورة عن غيرها ، ففي كل مورد كان مريد الارتكاب مطمئنّا بانطباق المعلوم بالإجمال على موضع الارتكاب فهو من المحصورة ، واذا كان غير مطمئنّ بذلك بل كان مطمئنّا بعدم الانطباق فهو من غيرها ، سواء أعرض عسر أم حرج عند الفعل أو الترك لكثرة الأطراف أم لا ، أم اتّفق اضطرار الى أحد الأطراف أو خروجه عن تحت الابتلاء أم لا ، فإنّ الضابط الأساسيّ للافتراق بين المحصورة وغيرها هو الاطمئنان الشخصيّ المذكور.

هذا مختصر من حال العلم الإجماليّ الوجدانيّ من حيث اقتضائه لحرمة المخالفة القطعية وكفاية الموافقة الاحتمالية وعدمها.

٧٧

العلم الإجماليّ التعبّدي

وهل العلم الإجماليّ التعبّديّ المنبعث من قيام أمارة معتبرة ـ كإخبار ذي اليد بوقوع قطرة من الدم في واحد من الإناءين ـ مثل العلم الإجماليّ الوجدانيّ من حيث الاقتضاء المذكور؟

نعم ، هذا مثل ذاك في الآثار ، منها : التنجيز ، وعدم جريان الاصول المؤمّنة في جميع أطرافه ، سواء تعلّقت الأمارة بالجامع ـ المخترع ذهنا المستظلّ على الأفراد كلا ـ أو تعلقت بفرد معين وتحقّق الإجمال عندنا بسبب الاشتباه.

الاشارة الى المسالك الاربعة في حجيّة الإمارة

وذلك بمفاد الأصل الموضوعيّ المفروض لحجيّة الأمارة في مدارس الاصوليّين من جعل التنجيز أو التعذير ، وجعل ما ليس بعلم علما مجازا عقليا ، وتنزيلها منزلة العلم ، وجعل الطريقية والإرائية في مؤدّاها ، فعلى جميع المسالك كانت الأمارة المجعولة حجة وافية بالتنجيز والتأثير ، وإلّا كان لسان حجّيّتها ملغى ومنقوضا.

* * *

٧٨

انحلال العلم الإجماليّ حقيقة أو حكما

أشرنا فيما سبق الى أنّ الأصل في تنجيز العلم الإجمالي هو قراره وتوقّفه على الجامع ، وأن لا يزلق على طرف من الأطراف ، واذا زلق منه على طرف يتعيّن تعلق الجامع به : إمّا بعلم تفصيليّ وجداني ، أو قيام أمارة معتبرة ، فحينئذ قد انحلّ العلم الإجماليّ حقيقة في الصورة الاولى ، وانحلّ حكما في الحالة الثانية.

مثلا : اذا علم المصلّي إجمالا ببطلان إحدى صلاتيه إمّا الظهر أو العصر ثمّ علم وجدانا ببطلان العصر فالعلم الإجماليّ منحلّ بعلم تفصيليّ ببطلان صلاة العصر فيعيدها بالخصوص ، وهذا انحلال حقيقي.

وإذا علم ببطلان صلاته العصر أو المغرب وهو في وقت المغرب فالعلم الإجماليّ وإن كان يقضي بإعادة الصلاتين لكنّ قاعدة الشكّ بعد الوقت تعيّن صحة صلاة العصر ، فعليه أن يعيد المغرب ، إذ بالقاعدة المذكورة ينكشف فسادها ، وبها انحلّ العلم الإجماليّ انحلالا حكميا لا واقعيّا ؛ لأنّه بحكم الانحلال وبمنزلته بقيام التعبّد ، وإلّا فالعلم الإجماليّ ببطلان إحدى الصلاتين في الوجدان باق.

وهذا بعكس الصورة الاولى فإنّ فيها العلم الإجماليّ زائل ، إذ لا يمكن فيها إجراء عبارة : إمّا هذه باطلة وإمّا تلك باطلة ، بل المعلوم بطلان صلاة العصر

٧٩

وجدانا ، وبطلان صلاة الظهر مشكوك بدوا ، تجري فيها البراءة عن وجوب إعادتها ، وهذا معنى الانحلال الحقيقيّ والانحلال الحكمي.

الى هنا كان الكلام في دوران الأمر بين المتباينين بجميع الأقسام.

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

وهو على قسمين :

١ ـ استقلالي ، كالعلم باشتغال الذمّة بمقدار من الدين تردّد بين الأقلّ والأكثر.

٢ ـ ارتباطي ، كالعلم بتعلّق طلب جزميّ واحد على ماهية مركّبة عرفية أو شرعية مردّد أمرها في التركيب بين امور عشرة أو تسعة ، أو بين اثنين أو ثلاث ، بحيث أن يكون هناك امتثال واحد أو عصيان كذلك متعلق بالأقلّ أو الأكثر المرتبطين ، فهل يدخل هذا الدوران في نطاق العلم الإجمالي كما مضى في المتباينين ، أو له شأن آخر في البين؟

والجواب على هذا السؤال الذي هو الموجب لعقد هذا البحث : أنّ القسم الأول لا نزاع في خروجه عن محطّ تنجيز العلم الإجماليّ المتعلق بالجامع المنطبق إمّا على الأقلّ أو الأكثر ، ورمز الخروج أنّ هناك علم تفصيليّ متعلق باشتغال الذمة بالأقلّ مطلقا على الأقلّ ، وشكّ ابتدائيّ متعلق باشتغالها بالمقدار الأكثر ، فليس المقام من وجود العلم الإجماليّ في شيء ،

٨٠