تتميم كتاب أصول الفقه

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني

تتميم كتاب أصول الفقه

المؤلف:

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-173-8
الصفحات: ٩٢

فقد عرفت من هذا البيان أنّ الشبهة الحكميّة كالموضوعيّة يتصوّر فيها كون منشأ الاشتباه وجود قسمين معلومين للشيء ، فاذا صار مشكوكا موضوعا أو حكما يصحّ أن يدّعى بوضوح ، شمول الصحيحة للشبهتين : الحكميّة والموضوعيّة.

مثال صيرورة الشيء مشكوكا موضوعا هو الشكّ في كون لحم هل من المذكّى أو الميتة؟ والمراد من الغاية : معرفة الحرام تفصيلا كما اشير اليه في دائرة المشتبه كلّيّا كان أو جزئيّا ، وهذا واضح.

ومثل الصحيحة في تقريب الدلالة : رواية عبد الله بن سليمان ، ومرسل ابن عمّار (١).

٢ ـ معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» (٢).

قد يقال : إنّها بلحاظ ذيلها واشتمالها على أمثلة هي من الشبهة الموضوعيّة ، فهي ذات قرينة أو محتمل القرينة على اختصاصها بها.

ولكن الصحيح استفادة العموم منها بسياق صدرها ، أي : كلّ شيء

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٩٠ و ٩٢ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة الحديث ١ و ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ : ص ٦٠ الحديث ٤.

٤١

مشكوك حكما أو موضوعا لك حلال حتّى تكشف بالكشف التفصيليّ حرمته وأنّه حرام.

وأمّا الأمثلة المذيّلة فهي من قبيل ذكر النظائر والتمثيل للصدر ، وليست بصدد تطبيقه على الأمثلة كي يقال باختصاصها بالشبهة الموضوعية ، بل في الحقيقة أنّها بصدرها في مقام تحقيق أصالة الحلّ والبراءة وبذيلها حاكية عن إنشاءات مختلفة مستقلّة ، وعلى ذلك لا مانع من التمسّك بها على جريان البراءة في الشبهة الحكمية ، لا سيّما التحريمية منها.

والاستبانة والبيّنة المذكورتان في الذيل مشيرتان الى مدلول الغاية المذكور في الصّدر ، وليس المراد من البيّنة معناها المصطلح في مبحث القضاء ؛ لأنّ ذلك فيما يكون فيه الترافع ، ولا موضوع له في المفروض في المعتبرة.

مع أنّ حكم الحاكم على ما هو الغالب مستند الى علمه ، والاستبانة عنده وقيام البيّنة لديه لا بوصف المجتهد المستنبط الموجّه اليه الخطاب بل بوصف الحاكم القاضي المستهدف بها عنده : معناها اللغوي وهو الحجّة والدليل.

إذا يرتفع بما ذكرنا التشويش الواقع في بعض الكلمات من أنّ ذكر الاستبانة والبيّنة في المعتبرة منحصرا دليل على اختصاص مصبّها بالشبهة الموضوعية ، إذ ارتفاع الحلّيّة في الشبهة الموضوعية كما يكون بهما يكون أيضا بالإقرار ، وبإخبار العدل الواحد على المبنى وبالاستصحاب ، وبحكم الحاكم وغيرها ، كما في الشبهة الحكمية ، وعلى ذلك فالحصر إضافي ، وجريانه ممكن في الشبهتين.

٤٢

حديث الحلّ بقوالبه السّتّة

ثمّ اعلم : أنّ حديث الحلّ له في المنابع الروائية وبعض الكتب الاصولية قوالب ستة ، قد عرفت منها أربعة : الصحيحة ، ورواية عبد الله بن سليمان ، ومرسل ابن عمّار ، والمعتبرة. والخامس ما ورد في ذيل الخبر المرويّ في أمالي الشيخ الطوسي ، ويأتي.

والكلام في هذه الموارد نفسه في الموردين المتقدمين ، وتزيد عليهما بضعف السند ، غير أنّها لا تقلّ عن التأييد.

والاستدلال بالقالب السادس منها على البراءة ـ وهو : كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام ـ أيضا قاصر ؛ لأنّه شاذّ غير مأثور في كتب الأخبار وإن كان لا بأس به تعاضدا لسلاسته ووضوح دلالته ، ولعلّه لأجل هذا استدلّ به الشيخ الأنصاري ، ويقوى في النفس أنّه متّخذ ومقتبس من قالب مسند وهو أحد الخمسة.

حديث الرفع

٣ ـ الحديث المشهور بحديث الرفع المأثور عن النبيّ صلی الله علیه وآله :

«رفع عن امّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا اليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في

٤٣

الخلق ما لم ينطق بشفة» (١). وقد وقع التعبير عنه في ألسنة طيبة بالصحيح ، وادّعى بعض الأعاظم بأنّه صحّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، وأسندوه الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ربّما يتوهّم من كونه نبويا ضعيفا ، ضعيف جدّا. انتهى (٢).

والضعف المدّعى في شأن سنده : لوقوع أحمد بن محمد بن يحيى في الطريق وأنّه غير وثيق ، وقد حاول بعض المقرّرين لدرس بعض الأساطين من المعاصرين ـ طيّب الله رمسه ـ بتعويضه بسند آخر معتبر (٣). وتحقيق الكلام في ذلك موكول الى مستوى فوقانيّ فوق مستوى كتابنا.

تقوية سند الحديث بروايات معاضدة

ويعاضد السند والمتن أنّه مرويّ في الكافي ، عن الحسين بن محمد ، عن محمد بن أحمد النهدي رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وضع عن امّتي تسع خصال» (٤) وساقه بمثل مرسل الفقيه بتعبير «وضع عن امّتي» كما في بعض نسخ التوحيد أيضا ، وهو

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٦ الحديث ٦٠١ عن الخصال والتوحيد.

(٢) أوثق الوسائل في الاستدلال للبراءة بحديث الرفع : ص ٢٥٩.

(٣) وهو مرسل الفقيه المسترسل بقول الصدوق : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله «وضع عن امّتي تسعة أشياء الخ» ، جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٥ الحديث ٦٠٠.

(٤) الكافي ٢ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣ باب ما رفع عن الامّة ، أواخر كتاب الإيمان والكفر ، ومرسل الفقيه تقدم مصدره آنفا ، وهو فيه في باب : فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه.

٤٤

بمعنى الرفع عنهم.

ومرويّ في نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ، عن اسماعيل الجعفي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «وضع عن هذه الامّة ستّ : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا اليه» (١).

وفي مرسل الدعائم قال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : «رفع الله عن هذه الامّة أربعا : ما لا يستطيعون ، وما استكرهوا عليه ، وما نسوا ، وما جهلوا حتّى يعلموا (٢)

الاستدلال بحديث الرّفع على المطلوب في ضمن مدارج ثلاثة

وبعد ثبوت قوّة لسنده متظافرا يتمّ الاستدلال به على نفي وجوب الاحتياط ، وعلى البراءة عن لزوم التحفّظ في الشبهة الحكمية التحريمية والموضوعية التحريمية بطيّ مدارج ثلاثة :

المدرج الأول : أنّ الرفع الوارد مسند الى وجود الامور التسعة وأنفسها ، ولكن في ظرف التشريع ، أي : أنّ أكل لحم الحمير المجهول حكما أو موضوعا وجوده التشريعيّ والقانونيّ مرفوع ، فليس على آكله حدّ ، وليس متّصفا بالفسق ؛ لأنّه لم يفعل حراما.

وبعبارة اخرى واضحة : ظهور حال الشارع في أنّ إنشاء الرفع صادر منه بما

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٦ الحديث ٦٠٢.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٦ الحديث ٦٠٢ (٤).

٤٥

هو مولى ذو اللطف والتفضّل يقتضي بالعناية هذه أن يكون كلّ واحد من الأشياء التسعة مرفوعا عن جميع الامّة حقيقة بوجودها التشريعية لا التكوينية ، فإنّها بهذا الوجود ثابتة حسّا ، غير قابلة للرفع. وبالوجود التشريعيّ كانت ثابتة إمّا في الامم السالفة ، أو لهذه الامّة بداية الأمر ، ولذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ضمن النصّ مخبر عن إنشاء الشارع المقدّس عزّ شأنه.

فإنشاء الرفع وإسناده الى ذوات الامور المذكورة بلحاظ الإخبار عن عالم التقنين حقيقيّ ، لا عنائي ومجازيّ بتقدير المعاقبة والمؤاخذة ، فإنّ الأصل عدم التقدير.

والملخّص : أنّ المراد برفع الامور المذكورة : عدم توجيه الخطاب الوارد في الأدلّة الأولية على نحو يشمل مورد الاضطرار والإكراه والخطأ والجهل وما الى ذلك إن كان هناك خطاب إلزامي.

اسناد الرّفع الى ما يعلم ظاهريّ

المدرج الثاني : أنّ الرفع بالإضافة الى : «ما لا يعلمون» ظاهريّ لا واقعي بحيث إن كان الحكم ثابتا لازيل عن صفحة الوجود ونفي عن دائرة التكليف بهذا الحديث ؛ لأنّه يستلزم أخذ العلم بالحكم قيدا لنفس الحكم. ومعنى ذلك :

اختصاص التكليف بالعالم به ، وهو تصويب مستحيل ومناف مع وجود الإجماع على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام لو لم يكن لأدلّتها إطلاق وظهور في شمولها لهما ، وإلّا فينافي الرفع الواقعيّ للحكم المشكوك إطلاق

٤٦

الأدلّة أيضا.

والرفع الظاهري يقصد نفي وجوب الاحتياط على الجاهل الشاكّ ، وأنّه مأمون تجاه وضع الحكم المجهول كلّيّا أو جزئيّا وضعا ظاهريا عليه بإيجاب الاحتياط في حقّه قبال الحكم المجهول.

وبعبارة وافية مختصرة : الرفع متعلق بالمجعول كما أنّ العلم متعلق به ، فكأنّ لسان الحديث هو : أنّ الحكم المجعول المجهول فعلا حيث تحقّق مرتفع الى أن يعلم.

المدرج الثالث : أنّ مركز الاستدلال في الحديث وهو «ما لا يعلمون» شامل للشبهتين : الحكمية والموضوعية معا.

وما قد يدّعى من عدم تأتّي ذلك ـ لأنّ في الشبهة الحكمية المرفوع هو الحكم ، وفي الموضوعية هو الموضوع ، وإسناد الرفع الى الحكم إسناد الى ما هو له حقيقي ، والى غيره إسناد الى غيره مجازي ، ولا يمكن الجمع بينهما لتعاندهما ـ مردود : بأنّ إسناده الى الحكم أيضا إسناد الى غير ما هو له مجازى ، وإنما هو رفع ظاهريّ بعناية نفي لزوم الاحتياط كما عرفت.

وبالجملة : المراد برفع الحكم والموضوع المجهولين ، رفعهما ظاهرا ، أي أنّه لو اشتبه حكم شرب التتن أو اذا اشتبه الخلّ بالخمر فالحديث يدلّ على عدم توجّه الخطاب الواقعيّ بحيث يشمل صورة الجهل كي يكون الاحتياط واجبا في الشبهتين.

٤٧

وفرض جامع معقول بينهما بأن يراد بلفظة الموصول «ما» الحكم المشكوك كلّيا (الشبهة الحكمية) وجزئيا (الشبهة الموضوعية) يصحّح الإسناد ، والمصحّح للذهاب الى التعميم هو إطلاق الموصول ، وبه يحصل الوصول الى ما هو المأمول.

واختيار هذه المدارج والمناهج المعقولة المفضّلة لها ثمرات مهمّة ، منها :

الهرب والخلاص من الإشكالات الصعبة المضطربة الواردة على هذا الحديث ، صفحنا عنها اقتصادا.

ثمرات مهمّة على المدارج والمناهج

ومن الثمرات المترتبة على المختار : دفع الإيراد عن شمول الحديث لجانب الترك عند الإكراه أو الاضطرار اليه ، حيث يقال : رفع الترك مساوق لوضع الفعل ، والحديث لا ينظر الى الوضع ، وإنّما هو ناظر الى الرفع ، فيمكن الفرار من محذور تعلّق الاضطرار بالترك ، إذ على المختار في المدرج الأول لا ضير في شمول الرفع للثبوت التشريعيّ المنطبق على الترك المضطرّ اليه.

مثاله : لو نذر أن يشرب من ماء زمزم فاضطرّ الى ترك الشرب فالمرفوع هو الثبوت التشريعيّ للترك المضطرّ اليه ، ومعناه : رفع أثره تفضّلا وامتنانا ، وهو وجوب الكفّارة ، لا أنّ معناه هو رفع الترك كي يكون مساوقا مع وضع الشرب المضطرّ الى تركه فإنّه أثر باطل.

٤٨

حكومة حديث الرّفع على أدلّة الأحكام

ومن الثمرات : التصوير الصحيح لحكومة (١) هذا الحديث على أدلّة الأحكام الأوّلية ، وذلك بلحاظ نظره وتعرّضه عناية الى حيثية عقد حملها ، فيكون الرفع المسند الى الموضوعات التسعة على طراز قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا رهبانية في الاسلام» (٢). ومن المعلوم أنّ النفي في النصّ راجع بالنتيجة الى المشروعية التي هي حكم منفيّ حقيقة بنفي ثبوت الموضوع (الرهبانية) تشريعا ، فعلى هذا التصوير يكون الرفع المنصبّ على ذوات الموضوعات المرفوعة ناظرا الى عقد الحمل لأدلّة الأحكام الأولية.

ومعنى النظر : هو طردها عن هذه الموارد تشريعا بعناية طرد الوجود التشريعيّ على النحو المناسب لذوات المرفوعات ، ففي «ما لا يعلمون» المناسب هو رفع الشيء المجهول عن موطن التشريع ، وبرفعه يرفع الحكم تعبّدا عن عقد الحمل للدليل الأوّلي.

والحكومة هذه تستبطن رفع إيجاب الاحتياط والتحفّظ ظاهرا عن المورد المشكوك إلى أن يرتفع الجهل ، وبذلك يثبت جواز الاقتحام في الشبهة ، وعدم استحقاق العقاب عليه لو ثبتت مخالفته مع الحكم الواقعيّ الذي هو

__________________

(١) لا الورود ولا التخصيص ، تقدم الفرق بينها ، وكذا كيفية حكومة الأمارات على الاصول العملية في الجزء الثالث من هذا الكتاب : ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) نهاية ابن الاثير ٢ : ٢٨٠.

٤٩

مدلول الدليل الأوّلي ، فالحكم الواقعيّ لو كان ، يصبح محكوما بحديث الرفع عناية.

وفيما لا يطيقون المرفوع هو الثبوت التشريعيّ للفعل الواصل الى حدّ الحرج ، كتكليف المكلّف بشيء لا يطيق لامتثاله ، كإرادة الامتثال التفصيليّ في التكاليف المجهولة ، وبرفعه يرتفع في جانب عقد الحمل للدليل الأوّلي العقوبة ـ التي هي حكم وضعيّ ـ على ترك الامتثال ... وهكذا ، أي قس على هذا سائر الفقرات في الحديث.

وقد تبيّن إلى هنا أنّ لإجراء الحديث ضوابط ثلاث :

١ ـ أن يكون ما يرفع ممّا لا يعلم فعلا أو ترك فعل من أفعال المكلف أو من تروكه ، ويكون ملتفتا وقاصدا اليهما.

٢ ـ أن يكون في رفعه وإسقاطه تفضّل ولطف ورأفة ورحمة على الامّة ، واذا كان شيئا في رفعه كلفة ومشقّة عليهم ولو على بعضهم فلا يجري ، كالحكم ببطلان بيع من اضطرّ الى بيع داره ـ مثلا ـ فإنّ في رفع بيعه تشريعا بالحكم ببطلانه زحمة وتحميل عليه ، وكذا لو اكره زيد متوعدا على ضرب شخص بأنّه إن لم يضربه يضرب فلا يجوز لزيد أن يضربه تمسّكا بالحديث ، بل عليه أن يتحمّل الضرب ؛ لأنّ رفع الحرمة عن ضرب ذلك الشخص غير مشروع ؛ بالنظر الى أنّ رفعها مستلزم لعدم الحبّ والودّ على جميع الامّة وإن كان بالنسبة الى زيد على طبق المنّة.

والرفع في الحديث اذا يثبت الصعوبة والمشكلة على طرف فهو على خلاف

٥٠

سياقه ، حيث إنّه اجري مجرى الإحسان والامتنان.

٣ ـ أن يكون متعلّقا أو موضوعا ـ أي متعلق المتعلّق ـ للحكم الشرعي ، فحينئذ يكون له الثبوت الشرعي ، فيكون وضعه بيد الشارع ولو بإيجابه الاحتياط وعدمه.

الحديث المعتبر المعروف بحديث الحجب

٤ ـ حديث الحجب : ورد في معتبرة أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم» (١).

ظاهره أنّ الشيء الذي حجبه الله وستره عن عباده (بلحاظ أنّه فعّال لما يشاء وخبير بالمصالح وأزمّة الامور طرّا بيده ولا يسأل عمّا يفعل) فهو موضوع ومرفوض عنهم بعد جعله ووضعه عليهم ، لا ما سكت عنه سبحانه وتعالى ولم يجعله من الأول ، فإنّ ما كان غير مجعول من بدء الأمر كيف يصحّ أن يرفع؟

أظهريّة حديث الحجب

وببيان آخر : ظاهر الحجب المسند إليه تعالى أنّ ما حجبه عن عباده باعتبار أنّه ربّهم وصاحب اختيارهم فهو مرفوع عن عمومهم عموما استغراقيا ،

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٦ الحديث ٦٠٦ (٨). وفي الوسائل ١٨ : ١١٩ الحديث ٢٨ «ما حجب الله علمه عن العباد ...».

٥١

لا عموما جمعيا ؛ كي لا تشمل المعتبرة الأحكام التي يجهلها بعضهم دون بعض ، سواء كان وجه الحجب أمرا من الامور الخارجية ـ كإخفاء الغاصبين ، أو قهر سماويّ أو جبابريّ كضياع الكتب وهلاكها من قبيل التصانيف الكثيرة لمحمد بن أبي عمير حيث سال المطر عليها ، أو دفنتها اخته حينما كان في الحبس وتحت الضغط أربع سنين ـ أو غير ذلك من قبيل عدم كون المعصوم مأمورا بإبلاغه الى العباد.

وفي كل ذلك يصدق إسناد الحجب (حجب الحكم الواقعيّ) اليه سبحانه حقيقة ، حيث إنّه ربّ العالمين وخالق الكون والتكوين.

وقد يقتضي بعض المصالح إخفائه وستره ولو بسلب التوفيق عن العباد لا بسبب تقصيرهم ، وذلك بعدم فحصهم عن الحكم الواقعيّ الفعليّ على ما يشير اليه لفظ : «موضوع عنهم» ، أي الحكم الواقعيّ الفعليّ المحجوب المجهول ساقط ومرفوض ومتروك عنهم لطفا ورأفة فلا يجب عليهم الاحتياط ، وفي الحقيقة المرفوع في حقّهم هو إيجاب الاحتياط.

وبهذا الشرح المختصر لهذا الحديث المعتبر ظهر أنّه في واقعة البراءة في الشبهة الحكمية أظهر من حديث الرفع على ما تقدم ، ومن غيره على ما يأتي ؛ لخلوه عن تلك التشاويش والتفاصيل.

مرسل الصّدوق المعاضد برواية الامالى

٥ ـ ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «كلّ

٥٢

شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١).

وورد في أمالي الشيخ الطوسيّ ما يقرب من المرسلة بسند غير نقي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي ، وكلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه» (٢).

ظاهر المرسلة والمسندة : أنّ كلّ شيء أو جميع الأشياء المشكوك فيها أنّها محلّلة أو محرّمة فهي مطلقة مباحة بالإباحة الظاهرية المولوية الى أن يصل الى الشاكّ نهي ومنع مولويّ عن الاقتحام في المشكوك ، أو يصل اليه أمر مولويّ بالتجنّب عنه والابتعاد منه ، ومعنى الأمر هكذا هو النهي عن الاقتراب اليه.

وإن شئت ففكّك في الاستدلال على البراءة في الشبهة بين المرسلة والمسندة فيتمسّك بالمرسلة بأن يجعل المراد من الشيء هو عنوانه الثانوي (٣) ، فيقال : إنّه حلال ظاهرا الى أن يصل الى المكلّف في شأن المشكوك : نهي واقعيّ وحجّة تامة.

والقرينة على ما ذكرنا : أنّ الإباحة المستفادة من المرسلة بإخبار المعصوم

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٨ الحديث ٦١٣ (١٥).

(٢) المصدر : ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

(٣) لا الشيء بعنوانه الواقعيّ الأوّلي ، فإنّه لا معنى للقول بأنّ كلّ شيء مباح واقعا الى أن يرد فيه النهي واقعا ، إذ هو من باب إثبات ضدّ برفع ضدّه الآخر ، وهو توضيح الواضح.

٥٣

صادرة من الشارع بما أنّه شارع في مقام إثبات السعة على الشاكّ المتحيّر ، فهي دالّة على الحكم الشرعي المولوي ، وليست ناظرة الى حكم إرشاديّ بلحاظ أنّ الإطلاق إطلاق شرعيّ مولويّ مساوق مع الإباحة الظاهرية.

إن قلت : إنّ هذا التخريج صحيح فيما لو كان الورود بمعنى الوصول فقط وقد استعمل في الصدور ولا معين في كونه ظاهرا هنا في الأول فيصبح اللفظ مجملا لا يستفاد منه شيء.

الورود معناه الشّائع : الوصول

قلت : نعم ، إنّه استعمل في الصدور لكن نادرا ، ومعناه الشائع هو الوصول ، مضافا الى دلالة قرينة داخلية على تأكّد انصراف اللفظ الى المعنى الشائع ، وهي صدور لفظي «الورود» و «الإطلاق» عن كرسيّ الشرع ومحكمة المولى مولويّا تحبّبا وتكرّما على الأحباب.

المرسل من أصرح أخبار الباب

وعليه أنّها من أصرح أخبار الباب في الدلالة على السعة تجاه الحكم المجهول كليّا أو جزئيّا ، ومقدمة على أخبار الاحتياط الآتية لو لا ضعف سندها وإن كانت معاضدة ومؤيّدة بمسندة الأمالي ، وفيها زيادة دلالة على البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، وهي ثبوت الإطلاق والسعة الى وصول الأمر الى

٥٤

المكلّف أيضا إن لم يكن الأمر بشيء عين النهي عن ضدّه ، وإلّا فالتشريك المتقدّم يكون نافعا.

ويؤيّده أنّ المرسلة نقلت عن عوالي اللئالي بتعبير : «نصّ» ، بدل «نهي» (١).

وبعد من السّنة بقيت أحاديث اخرى حاول الاصوليّون الاستدلال بها على البراءة ، وهي مخدوشة مجموعا سندا ودلالة ، وفيما تمسّكنا به من الأحاديث المعتبرة مع ما يؤيّدها كفاية على المطلوب ويؤجّل الحديث عنها الى سطح فوقاني ، أو بحث عال خارجي.

الاستدلال بالاستصحاب على البراءة

ويمكن تكميل الاستدلال بالسنّة على البراءة باستصحابها بناء على ما هو الحقّ المختار من حجّيته من باب الأخبار ، فيقال : إنّ مفاد دليل الاستصحاب هو الشيء الذي متيقّن سابقا ويشكّ في بقائه لاحقا. وبالإمكان تصوّر المتيقّن هنا بأحد لحاظين :

١ ـ عدم التكليف اليقينيّ بلحاظ ما قبل الشريعة.

٢ ـ العدم بلحاظ ما قبل التكليف وبعد التميز ، وهو حدّ ما قبل الكمال ،

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٨ برقم ٦١٣ (١٥).

٥٥

فالمكلّف اذا شكّ في أنّه بالفعل هل هو مكلّف بلزوم الاحتياط تجاه ما يحتمل حرمته أو وجوبه؟ يجري استصحاب عدم جعل الحكم من الأول باللحاظ الأول ؛ لأنّ وضع الأحكام كان تدريجا ، وباللحاظ الثاني يجري استصحاب عدم تحقّق الفعلية فعلا للحكم الذي لم يكن عليه ثابتا قبل كماله.

ومن المعلوم أنّ المصحّح لجريان الاستصحاب هو أن يكون المستصحب صالحا لورود التعبّد عليه ، وعدم جعل الحكم مستمرّا وبقاء وعدم فعليته كذلك له تلك الصلاحية ، ولا يلزم أن يكون هو أو أثره مجعولا شرعيا ، وأثر استصحاب هذا العدم هو تحصيل المؤمّن على وجه التنجيز أو التعذير.

مضافا إلى جواز أن يجعل المستصحب عدم النهي من الاقتحام أو الترك قبل بلوغه وتميزه فالآن كما كان.

وهذا الاستصحاب مقدّم على دليل الاحتياط لو تمّ له ظهور في اللزوم ، فانّ موضوعه احتمال النهي والمنع وثبوت التكليف ، والاستصحاب رافع لهذا الاحتمال ، وحينئذ ينصرف ذاك الظهور الى موارد العلم الإجماليّ والشكّ في المكلّف به.

قد يقال : إنّ الاستدلال بالاستصحاب على البراءة مغن عن القيل والقال في جهة الاستدلال عليها بالأدلّة اللفظية والعقلية ؛ لأنّه من الأدلّة المحرزة ، وبلحاظ إحرازة اللسانيّ مقدم على سائر الاصول العملية. ولقد قرع الأسماع أنّ الاستصحاب عرش الاصول وفرش الأمارات ، ومعه يكون الاستدلال على البراءة بالكتاب والسنّة والعقل والإجماع لغوا.

٥٦

ويجاب عن المقال : أنّ من الواضح وحدة مفاد أدلّة البراءة المذكورة ، ومفاد دليل الاستصحاب في هذا الباب بلا تناف وتعاند ، وعليه فكلّ واحد دليل مستقلّ برأسه ، ومن كان غير مذعن بأحدهما أو غير ملتفت اليه فليحصل التأمين بالتنجيز أو التعذير بذاك الآخر.

ويمكن الاستفادة من الاستصحاب فيما اذا عومل مع دليلي البراءة والاحتياط معاملة المتكافئين المتعارضين ، وبعد التساقط يرجع الى استصحاب عدم فعليّة التكليف من الأول الى الآن ، وتأتي الإشارة الى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فذلكة البحث : أنّ المقصد الرابع من الكتاب الحاضر موضوعه الشكّ بالحكم والتحيّر فيه ، أي عدم تمامية دليل عليه عند الباحث. والشك على قسمين :

١ ـ شكّ بدوي ، وأنّه محور أصل البراءة ، كنا نحن في مقام التماس الحجّة عليه وقد فرغنا ـ بحمد الله ـ الى هنا عن إقامة آيات خمسة وأحاديث كذلك وكذا الاستصحاب على البراءة.

٢ ـ شكّ محفوف بالعلم الإجمالي ، يأتي كلام حوله يناسب وضع الكتاب.

٥٧
٥٨

أصالة الاحتياط

في لسان السنّة

٥٩
٦٠