تتميم كتاب أصول الفقه

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني

تتميم كتاب أصول الفقه

المؤلف:

غلامرضا عرفانيان اليزدي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-173-8
الصفحات: ٩٢

الأدلّة الظنّيّة ومعلومة بها فهي أحكام ظاهريّة وواقعيّة ثانويّة. ولو كانت التكاليف مستفادة من الرجوع إلى الدليل الفقهائي ـ وهو ما يخرج المكلّف من التحيّر في الوقائع والقضايا المشكوك فيها بعد فقدان الدليل الاجتهاديّ ، وبعد العلم بعدم خلوها من التكاليف ـ فهي أيضا أحكام ظاهريّة بحسب ما تمّ تحقيقه في مدرسة الوحيد البهبهانيّ والعصور الّتي بعده ، ووظائف عمليّة للشاكّ طبق ما كمل تخريجه في مدرسة الميرزا النائينيّ ومن في عصره وتلو عصره من المحقّقين الاصوليّين.

وهذا التنبيه الثاني لقد صدّر الكتاب بمفاده عند الكلام في المدخل ، وفي ضمن التمهيد هنا ، ولكنه لمّا كان غير منقّح وغير متّضح اعيد هنا لأجل المناسبة زيادة للفائدة.

فحينا حان حين الولوج في أدلّة البراءة كتابا وسنّة ، وعقلا واجماعا واستصحابا في الشبهة البدويّة الحكميّة التحريمية.

وأمّا الشّبهة الوجوبيّة والموضوعيّة فتأتي الإشارة الى خروجهما باتّفاق من المجتهدين والاحتياطيّين عن محور بحث البراءة (١).

__________________

(١) راجع ص ٦٢ ـ ٦٣.

٢١
٢٢

أصالة البراءة

في لسان الأدلّة الأربعة

٢٣
٢٤

أصل البراءة في لسان العقل والإجماع

قاعدة قبح العقاب بلا بيان تساند البراءة في الشّبهة الحكميّة التحريميّة

نقتصر في الكلام على تقريرهما المناسب للمقام على ما أورده الشيخ الأعظم في فرائده.

وملخّص ما أفاده في الاحتجاج بالعقل : أنّ إدراك العقل قبح العقاب واستحقاقه على شيء من دون بيان حكمه من المولى أمر ضروري ، وشاهده حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبيده على عمل لم يعلمهم حكمه بالحرمة.

ومن هنا يعلم ورود هذه القاعدة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ؛ لأنّها متفرّعة على وجود احتمال الضرر ، أي العقاب ، ولا احتمال بعد إدراك العقل وحكم العقلاء لقبح العقاب من دون بيان.

الاجماع والسّيرة على البراءة في الشّبهة المذكورة

وحاصل ما قرره في الاحتجاج بالإجماع على المطلوب من ناحيتين :

٢٥

الناحية الاولى : دعوى ذهاب كلّ العلماء من متأخّري المتأخّرين ـ وفيهم الاحتياطيّون والمجتهدون ـ الى البراءة والأمن عن العقاب على فعل شيء مجهول الحكم ، أي : لم يرد فيه دليل عقليّ أو نقليّ على تحريمه.

وهذه الدعوى إنّما هي تنفع بعد إبطال أدلّة الاحتياطيّين عقلا ونقلا ، والمسلّم بطلانها على ما يأتي.

الناحية الثانية : دعوى إجماع جميع العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين على أنّ ما يشكّ فيه من حيث الحرمة ولم يرد على تحريمه دليل يجوز ارتكابه ، ولا يجب الاحتياط فيه.

وبالإمكان تحصيل هذا النحو من الإجماع من :

١ ـ ملاحظة كلمات العلماء في كتبهم من مباحث الفقه واصوله وفتاواهم من زمن الكلينيّ والمفيد والصدوقين والسيّدين والشيخ الطوسيّ وغيرهم من المشايخ فإنّ اللائح منها عدم وجوب الاحتياط في المسألة.

٢ ـ ملاحظة الإجماعات المنقولة والشهرات المحقّقة من تتّبع كلمات الأصحاب المتضمّنة لدعوى اعتقاد الإمامية وأهل مذهبهم ، واتّفاق المحصّلين والمحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة ، وإطباق العلماء على أصل البراءة فيما شكّ في حكمه ولم يرد فيه نصّ.

٣ ـ ملاحظة سيرة المسلمين ، فإنّهم بعد الفحص وعدم وجدانهم الدليل على حكم شيء بانون على عدم وجوب الاجتناب عنه ، وبمجرّد احتمال ورود النهي عنه من الشرع لا يعتنون به ، وهذا إجماع عمليّ منهم كاشف عن رضا

٢٦

المعصوم عليه‌السلام ، ومدلّ على أنّ طريقة الشارع تبليغ المحرّمات لا المباحات ، وليس ذاك إلّا لعدم الحاجة الى بيان الرخصة في الفعل وكفاية عدم وجدان النهي فيه.

وجه تقديم العقل والاجماع على الكتاب والسّنّة

هذا وإنّما قدّمنا البحث عن مفاد العقل والإجماع في المسألة لاختصاره ، ولأنّ عمدة ما يستدلّ به على البراءة أخذا من الكتاب والسنّة راجعة إلى استقلال العقل ، وأنّ الإجماع مستندي ، إذ المسلمون ـ عالما وسوقيا ـ دأبهم في اتّفاقهم المذكور على وفق ما جاء من الشارع بلسان الوحي.

٢٧
٢٨

أصالة البراءة

في الكتاب الكريم

٢٩
٣٠

أصالة البراءة في الكتاب الكريم

استدلّ عليها بآيات :

١ ـ منها في سورة الطلاق الآية ٧ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها). ومعنى ما آتاها : ما اعطاها وما اقدرها عليه من الطاقة.

قال الطبرسيّ في المجمع : (وفي هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه) (١).

وتقريب الآية الى نفي الحكم المجهول وبراءة الذمّة عنه : أنّ الله لا يكلّف نفسا مكلفا إلّا بمقدار قدرتها عليه ، أو إلّا بشيء أقدرها عليه ، والتكليف بحكم مجهول تكليف بغير المقدور عرفا ، إذ الخطاب الشرعيّ وارد على طبق متفاهم العرف.

وبهذا التقريب تكون الآية شاملة لموردها أيضا ، وهو خصوص الإنفاق

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٣٠٩.

٣١

بقدر الرزق ، كما ينظر إليه ما قبلها ، وهو : «ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه الله» ، فالمورد لم يخصّص به الوارد ، بل هو عامّ ، والمعنى على هذا : لا يكلّف نفسا إلّا بدفع مقدار مقدور عليه من المال ، ولا يكلّف نفسا إلّا بفعل واجب أو ترك حرام أقدرها عليه ، فمجيء الإيتاء بمعنى الإقدار المناسب مع مورد الآية سهّل أمر الاستدلال بها على ما نحن فيه وإن كان في غير المقام قد يناسب أن يكون بمعنى الإعلام.

وعلى ما ذكرنا فإيراد الشيخ الأنصاريّ على إرادة المعنى الأعمّ باستلزامها لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى مندفع وغير وارد.

ونفس التقريب جار في عديل الآية الشريفة من قوله تعالى في آخر سورة البقرة : الآية ٢٨٦ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

نظرا إلى أنّ فعل مجهول الحكم أو تركه بعنوان حكم ظاهريّ ووظيفة عبودية خارج عن وسع المكلّف عند عامّة الناس وفي عرفهم ، فدلالة الآيتين واضحة على المقصود (١).

٢ ـ ومنها في سورة بني إسرائيل (الاسراء) الآية ١٥ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، أي ليس من شأننا أن نؤاخذ ونعذّب الناس دنيويا واخرويا لا فعلا ولا استحقاقا إلّا بعد أن نوصل إليهم بيانا ونعلم العباد وظيفتهم ونتمّ عليهم الحجّة عقلا ونقلا ، فالآية شاملة لبراءة المكلّف عن مخالفة التكليف

__________________

(١) وفي نفس السورة الآية : (٢٣٣) لها عين الدلالة ، ولها أخوات لفظا ودلالة في سور اخرى.

٣٢

المجهول ما لم يصل إليه.

وببيان آخر : أنّ سياق الآية وسبكها ـ استقراء لنظائرها ـ هو نفي تبدّل سجيّة الله وتغيّر عادته في القرون الماضية وهذه الامّة المرحومة طرّا بمقتضى الحكمة أن لا يعذّب من دون بيان الحجّة ، فإنّ ذلك غير لائق بالمولى اللطيف الحقيقي ، فهذا التفسير شامل لنفي العذاب الاخرويّ واستحقاقه ، وإلّا فثبوت الاستحقاق مع نفي فعلية العذاب خلاف ما هو لائق لله سبحانه أن لا يؤاخذ قبل تمامية البيان من العقل والنقل ، فدلالة هذه الآية أيضا تامّة على المرام.

٣ ـ ومنها في سورة التوبة الآية (١١٥) : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ، معناها يقرب من مفاد سابقتها ، أي لم يكن لائقا به سبحانه أن يعذّب قوما في الدنيا والآخرة إلّا بعد هدايتهم إلى الإسلام ، وبعد أن يبيّن لهم ما يرضيه وما يسخطه. ودلالتها على المدّعى ـ وهو : عدم تحقّق الذنب بفعل محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب قبل حصول البيان ووصوله من الشارع ـ أوضح من أن يخفى ، وأدلّة الاحتياط والتوقّف الآتي ذكرها لم يعدّ بيانا ملزما ؛ لأنّ مفادها على ما يأتي ليس هو الالزام.

٤ ـ ومنها في سورة الانعام الآية (١١٩) : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) تدلّ على إباحة ما لم يوجد تحريمه في الشرع بعد التفصيل والبيان من قبل الشارع.

٣٣

وجه الدلالة : أنّ الله سبحانه قد ذمّ على الالتزام بترك شيء لم يوجد تحريمه في الكتاب والسنّة ، أي الأدلّة التي بأيدينا ، فالمتروك حينئذ مجهول الحرمة ، والالتزام بتركه مورد للتوبيخ بالآية ؛ لأنّه تشريع في الظاهر مقابل دستور الشريعة.

ومن هذا التقريب يظهر : أنّ ظاهر لسان الآية لسان إبطال وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية ، فتكون الآية أظهر من أخواتها في الدلالة على المقصود ، وهو جريان البراءة وإثبات الإباحة الظاهرية في الشبهة.

٥ ـ ومنها في سورة الانعام ، الآية ١٤٧ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً).

دلّت الآية الشريفة على أنّ ما التزمه اليهود بتحريمه على أنفسهم ولم يعلم حرمته فيما أوحى الله إلى رسوله من الشريعة افتراء عليه سبحانه من قبلهم فإنّه تشريع محرّم ، إذ هو من باب إدخال ما لم يعلم من الدين فيه ، فالآية كسابقتها واردة مورد التوبيخ عليهم بأنّهم انصرفوا عن أصل مسلّم عقلائي ، وهو :

ما لم يعلم المنع عنه لا يجب ترتيب أثر التحريم عليه ، ولا يصحّ الالتزام بتركه ، فإنّه قول بغير إذن.

ومعنى هذا : أنّه لمّا لم يوجد بيان على الحرمة تكون الوظيفة الذهاب الى البراءة ، فبمجرّد عدم العلم بخطاب واقعيّ على التكليف الواقعيّ يكون المكلف مرخّصا ظاهرا في الارتكاب ، ويستساغ له الترخيص فعلا في

٣٤

الاقتحام ، وحقيقة ذلك نفي وجوب الاحتياط.

الآيات الظاهرة الباهرة مغنية عن غيرها

هذا ، وهناك آيات اخرى قد استدلّ بها على ما هو هدف الاصولي ، ولكن لمّا كانت غير ظاهرة في غرضه فالاكتفاء بالآيات الباهرة الخمس الّتي ذكرناها في إثبات المسألة كان أولى ، مراعاة للاختصار واشتغالا بالأهمّ.

٣٥
٣٦

أصالة البراءة

في لسان السنّة

٣٧
٣٨

اصالة البراءة في لسان السنة

أحاديث عديدة تمسّك بها القائلون بالبراءة في الشبهة الحكمية ، لا سيّما التّحريميّة منها ، ونحن بقرار الاختصار واختيار ما هو الأوفى والأدلّ نكتفي بذكر خمسة منها :

صحيحة عبد الله بن سنان تعمّ الشّبهة الحكميّة والموضوعيّة

١ ـ صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١). ظاهر الصحيحة فرض إمكان الانقسام الفعليّ للشيء بأقسام ثلاثة :

١ ـ معلوم الحلّيّة.

٢ ـ معلوم الحرمة.

__________________

(١) رواها المشايخ الثلاثة : الكليني ، الصدوق ، الشيخ الطوسي بأسانيدهم المعتبرة ، انظر وسائل الشيعة ١٢ : ٥٩ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١.

٣٩

٣ ـ المشكوك في انطباق أحد القسمين عليه.

وبما أنّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة يمكن فرض الاتّصاف بالانقسام المذكور بالفعل ، كالشبهة الموضوعيّة فلا مانع من تقريب دلالتها على مشكوك الحرمة ، فيقال : إنّ شرب الماء من ملكه حلال ، وشرب الماء المغصوب حرام ، وشرب الماء المملوك له عن ماعون مغصوب أو مجرى مغصوب أو شربه على الأرض المغصوبة يشكّ في حكمه ، فيقال : إنّه شيء فيه قسم حلال وقسم حرام ، فهذا القسم المشكوك من الشرب حلال الى أن يعرف عينا بمعرفة تفصيليّة أنّه من أيّ القسمين من كلّيّ الشرب ، هل هو من قسم الشرب المباح أو الممنوع؟

وهذا بعين صلاحيّة الصّحيحة لانطباقها على الشّبهة الموضوعية ، فيقال :

إنّ هذا المائع الموجود إمّا ماء فهو حلال ، وإمّا خمر فهو حرام ، وإمّا فرد يشكّ في كونه من أحد القسمين ومن أيّ الموضوعين فهو حلال الى أن يعلم أنّه خمر.

وبعبارة اخرى : كلّ شيء كلّيّ قابل للاتّصاف بوصف الحلّيّة وبوصف الحرمة ، كاللحم ـ مثلا ـ اذا صار مشكوكا في حكمه فالصحيحة تحكم بأنّه حلال ظاهرا الى ارتفاع الشكّ بعلم تفصيلي ، فيقال : لحم الغنم حلال ، ولحم الأرنب حرام ، ولحم الحمير قسم ثالث لا يدرى أنّه حلال أو حرام فهو محكوم بالحلّيّة بنطاق عموم الصحيحة حتّى تعلم حرمته بعينها ، أي تفصيلا.

٤٠