عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٥

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٢٠

على قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين المعتبر في قاعدة اليقين دون الاستصحاب ولكنك قد عرفت جواب المصنف عنه بما لا بأس به (هذا مضافا) إلى ما ادعاه المصنف هناك من ظهوره في الاستصحاب لقوله عليه‌السلام في آخر الحديث فإن الشك لا ينقض اليقين أو فإن اليقين لا يدفع بالشك فإنه إشارة إلى القضية المرتكزة في الاستصحاب الواردة في الصحاح الثلاثة المتقدمة بل الشيخ أيضا قد أنصف هناك أخيراً واعترف بذلك (فقال) ولكن الإنصاف أن قوله عليه‌السلام فإن اليقين لا ينقض بالشك بملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله لا ينقض اليقين بالشك ظاهره مساوقته لها ويبعد حمله على المعنى الّذي ذكرنا يعني به قاعدة اليقين (انتهى) (ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد ذكرها هنا توهم الاستدلال لقاعدة اليقين بما دل على عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد تجاوز محله وهكذا الاستدلال لها بأصالة الصحة في اعتقاد المسلم ولكنهما استدلالان لا يخلو ان عن ضعف ووهن جداً فلا عبرة بهما.

في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة

(قوله المقام الثاني انه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده وانما الكلام في انه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه ... إلخ)

ليس من محتملات العلة لعدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة هو التوفيق بين دليل اعتبارها ودليله وذلك لما عرفت في قاعدة لا ضرر ولا ضرار وسيأتي في صدر التعادل والتراجيح أيضاً من أن التوفيق العرفي ليس إلّا فيما إذا كان الدليلان على نحو لو عرضا على العرف وفق بينهما بحمل أحدهما على الاقتضاء والآخر على العلية التامة وأن مرجع ذلك هو إلى ترجيح أحد الدليلين بأقوائية المناط وأهمية

٢٤١

المقتضي وأن ذلك لا يكون إلا عند تزاحم المتزاحمين فيكون أجنبياً عن المقام جداً (نعم) إن من محتملات المقام كما يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه غير الورود والحكومة التخصيص ولم يذكره المصنف فما هو من محتملات المقام لم يذكره وما ذكره من التوفيق ليس من محتملات المقام (اللهم) إلا إذا كان مقصوده من التوفيق هو التخصيص كما يظهر من قوله الآتي وأما التوفيق فان كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق وان كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له.

في الإشارة إلى كل من التخصيص والتخصص

والورود والحكومة

(وكيف كان) قبل الخوض في تحقيق المقام لا بد من الإشارة إلى كل من التخصيص والتخصص والورود والحكومة (فنقول أما التخصيص) فهو إخراج بعض الأفراد عن تحت الحكم مع حفظ فرديته ومصداقيته كما إذا قال إكرام العلماء ثم قال لا تكرم العالم الفاسق (وأما التخصص) فهو خروج بعض الافراد عن تحت الدليل موضوعاً بلا حاجة إلى ما يخرجه كخروج زيد الجاهل عن تحت قوله أكرم العلماء من دون حاجة إلى قول لا تكرم زيد الجاهل (واما الورود) فهو ما إذا كان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الآخر معدماً له من أصله (وإما حقيقة) كما في الأمارات بالنسبة إلى الأصول العقلية كالبراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين فإن الأمارة إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم فلا يكاد يبقى معها موضوع لقبح العقاب بلا بيان بل ينقلب اللابيان إلى البيان وهكذا موضوع الاحتياط والتخيير العقليين وهو احتمال العقاب وعدم الترجيح كما سيأتي في كلام الشيخ أعلى الله مقامه لا يكاد يبقى مع الأمارة أصلا (وإما تعبداً) كما في الأمارات

٢٤٢

بالنسبة إلى الأصول الشرعية كالبراءة الشرعية والاستصحاب بناء على كونه أصلا عملياً وقاعدتي الحلّ والطهارة فإن الأمارة إذا قامت على شيء فالجهل وإن لم يرتفع معها حقيقة ولكن لا جهل معها شرعاً بعد تنزيل الشارع لها منزلة العلم فلا يكاد يبقى معها مجال لحديث الرفع ونحوه مما أخذ في موضوعه الجهل أو الشك (واما الحكومة) فهي ما إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مفسراً له متصرفاً فيه (إما في حكمه) كما إذا قال أكرم العلماء ثم قال لا وجوب لإكرام العالم الفاسق والفرق بين المخصص وهذا النحو من الحاكم مع مساواتهما في النتيجة ان المخصص لا نظر له إلى العام بخلاف الحاكم فله نظر إلى المحكوم (وأما في متعلقه) كما إذا قال أكرم العلماء ثم قال تقبيل الأقدام ليس بإكرام (واما في موضوعه) كما إذا قال أكرم العلماء ثم قال العالم الفاسق ليس بعالم (ثم لا فرق) في تصرف الحاكم في المحكوم بين أن يكون بنحو التضييق والتخصيص كما في الأمثلة المتقدمة كلها أو بنحو التوسعة والتعميم كما إذا قال إكرام العلماء ثم قال ولد العالم عالم أو بنحو التغيير والتبديل كما إذا قال لا تجالس الفقراء ثم قال ليس الفقير من لا مال له بل الفقير من لا دين له فالأوّل يسمى حكومة مخصصة والثاني يسمى حكومة معممة وينبغي تسمية الثالث بالحكومة المغيّرة ولم أر من تعرضها إلى الآن (كما لا فرق أيضاً) بين أن يكون الحاكم من أدلة الأحكام الواقعية كما في جميع الأمثلة المتقدمة كلها فتكون الحكومة واقعية أو من أدلة الأحكام الظاهرية كما إذا قال يشترط في الصلاة طهارة الثياب ثم قال كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر فيوسع الثاني دائرة الشرط ظاهراً ويجعل الشرط أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية أو قال يجب في الصلاة كذا وكذا من الأجزاء ثم قال رفع عن أمتي ما لا يعلمون فيضيق الثاني دائرة الأجزاء ظاهرا ويخصصها بصورة العلم فقط فتكون الحكومة ظاهرية ولا يكون العمل مجزياً عن الواقع إذا انكشف الخلاف على ما حققناه في محله وإن كان المصنف قد التزم هناك بالإجزاء في الجملة على ما تقدم التفصيل فلا نعيد (هذا

٢٤٣

كله) شرح كل من التخصيص والتخصص والورود والحكومة وقد أشار الشيخ أعلى الله مقامه إلى كل من التخصيص والورود والحكومة في صدر التعادل والتراجيح وقال فيه بورود الأمارات على الأصول العقلية وبحكومتها على الأصول الشرعية

هل الأمارات تقدم على الاستصحاب

بالتخصيص أو بالورود أو بالحكومة

(وقد صرح) الشيخ في المقام بتقدم دليل الأمارات على دليل الاستصحاب بالحكومة (قال أعلى الله مقامه ما لفظه) لكن الشأن في أن العمل به أي بما إقامة لشارع مقام العلم بالواقع من باب تخصيص أدلة الاستصحاب أو من باب التخصص يعني به الورود كما ستعرف (الظاهر انه من باب حكومة) أدلة تلك الأمور على أدلة الاستصحاب (وليس تخصيصاً) بمعنى رفع اليد عن عموم أدلة الاستصحاب في بعض موارده كما ترفع اليد عنها في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها مما دل على وجوب البناء على الأكثر (ولا تخصصاً) بمعنى خروج المورد بمجرد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب لأن هذا مختص بالدليل العلمي المزيل بوجوده للشك المأخوذ في مجري الاستصحاب (ومعنى الحكومة) على ما سيجيء في باب التعادل والترجيح أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم (قال) وحاصله تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه يعني به الحكومة المعممة (قال) أو داخل في موضوع منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه يعني به الحكومة المخصصة (قال) ففيما نحن فيه إذا قال الشارع اعمل بالبينة

٢٤٤

في نجاسة ثوبك والمفروض أن الشك موجود مع قيام البينة على نجاسة الثوب فإن الشارع جعل الاحتمال المخالف للبينة كالعدم فكأنه قال لا تحكم على هذا الشك بحكمه المقرر في قاعدة الاستصحاب وافرضه كالمعدوم (انتهى).

(وقال في صدر التعادل والتراجيح ما لفظه) (فإن كان) الأصل مما كان مؤداه بحكم العقل كأصالة البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين فالدليل أيضاً يعني الاجتهادي وارد عليه ورافع لموضوعه لأن موضوع الأول عدم البيان وموضوع الثاني احتمال العقاب ومورد الثالث عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير وكل ذلك مرتفع بالدليل العلمي المذكور يعني بما ثبت اعتباره بالعلم (وإن كان) مؤداه من المجعولات الشرعية كالاستصحاب ونحوه كان ذلك الدليل حاكماً على الأصل بمعنى انه يحكم عليه بخروج مورده عن مجري الأصل فالدليل العلمي المذكور يعني ما ثبت اعتباره بالعلم وإن لم يرفع موضوعه أعني الشك إلّا أنه يرفع حكم الشك أعني الاستصحاب (ثم قال) وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الدليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه فيكون مبيناً لمقدار مدلوله مسوقاً لبيان حاله متفرعاً عليه (إلى ان قال) والفرق بينه وبين التخصيص ان كون التخصيص بياناً للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع القرينة الصارفة وهذا بيان بلفظه للمراد ومفسر للمراد من العام (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

وقد اضطرب مجموع كلماته الشريفة في المقامين في تحقيق حال الحكومة (فمن بعضها) يظهر ان الحكومة هي تنزيل ما ليس بموضوع حقيقة منزلة الموضوع مثل قوله ولد العالم عالم أو تنزيل ما هو من الموضوع حقيقة منزلة ما ليس بموضوع مثل قوله العالم الفاسق ليس بعالم (ومن بعضها) يظهر ان الحكومة هي رفع حكم الدليل المحكوم عن بعض افراده نظير التخصيص غير ان الحاكم بمدلوله اللفظي

٢٤٥

يكون متعرضاً لحال المحكوم وناظراً إليه بخلاف المخصص فلا يكون بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال العام بل بحكم العقل يكون بياناً له.

(وكيف كان) الأمر إن الحق في المقام أن تقدم الأمارات على الاستصحاب وهكذا على سائر الأصول العملية يكون بالورود ولو قلنا بكون الاستصحاب أمارة لا أصلا عملياً فانها رافعة لموضوعه المأخوذ في لسان دليله وهو الشك ولو تعبداً لا وجداناً مزيل معدم له ولو شرعاً لا حقيقة ولا ينحصر الورود بالدليل العلمي المزيل للشك حقيقة كما يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه (واما الحكومة) فهي مما تحتاج إلى شرح ونظر كما اعترف به الشيخ ولا نظر لدليل الأمارات إلى أدلة الاستصحاب بوجه أصلا (هذا كله) من امر الشيخ أعلى الله مقامه في وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب مع بيان ما اخترناه في المقام بنحو الاختصار.

(واما المصنف) فحاصل كلامه في المقام هو عين ما اخترناه من تقدم الأمارات على الاستصحاب بالورود لكن بتعبير آخر غير ما ذكرناه نحن آنفاً وهو ان الأمارات مهما قامت على خلاف اليقين السابق فرفع اليد عنه لا يكون نقضا لليقين بالشك بل باليقين أي باليقين التنزيلي يعني به الحجة وهكذا الأمر فيما إذا قامت الأمارة المعتبرة على وفق اليقين السابق فعدم رفع اليد عنه ليس لأجل أن لا يلزم نقض اليقين بالشك بل من جهة لزوم العمل بالحجة أي باليقين التنزيلي وانتفاء الشك ولو تعبداً لا حقيقة فيكون مرجعه بالأخرة إلى ما ذكرناه آنفاً من التقريب فلا تغفل.

(هذا وللورود تقريب ثاني) في المقام وهو ان موضوع الاستصحاب عبارة عن عدم الدليل وهو يرتفع بقيام الأمارة المعتبرة (والفرق) بين هذا التقريب وتقريبنا المتقدم أن الأمارة على تقريبنا رافعة لموضوع الاستصحاب وهو الشك تعبداً لا حقيقة نظرا إلى بقاء الشك معها واقعاً بخلافها على هذا التقريب فانها رافعة لموضوع الاستصحاب وهو عدم الدليل حقيقة فينقلب اللادليل إلى الدليل نظير

٢٤٦

ورود الأمارات على الأصول العقلية عيناً (وقد أشار الشيخ) أعلى الله مقامه إلى كلا التقريبين للورود بعبارة مختصرة (قال) بعد عبارته المتقدمة (ما لفظه) وربما يجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصص يعني به الورود كما أشرنا قبلا (قال) بناء على أن المراد من الشك عدم الدليل والطريق والتحير في العمل ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة (ثم قال) وإن شئت قلت ان المفروض دليلا قطعي الاعتبار فنقض الحالة السابقة نقض باليقين (انتهى) (وعلى كل حال) يرد على التقريب الثاني للورود ما لا يخفى فإن الظاهر من الشك المأخوذ في أخبار الاستصحاب هو معناه الحقيقي وهو خلاف اليقين كما تقدم في التنبيه الرابع عشر لا عدم الدليل (وعليه) فبقيام الأمارة المعتبرة وان كان يرتفع موضوع الاستصحاب من البين ولكن رفعاً تعبدياً شرعياً لا حقيقياً وجدانياً وهذا واضح.

(قوله لا يقال نعم هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم الأخذ بدليلها ... إلخ)

هذا الإشكال متوجه إلى القول بورود الأمارات على الاستصحاب مطلقاً سواء كان الورود بتقريبنا المتقدم أو بالتقريب الثاني (وحاصله) انه نعم ان الأمارة واردة على الاستصحاب لو أخذ بدليلها في مورد الاجتماع مع الاستصحاب ولكن لما ذا لا يؤخذ بدليل الاستصحاب ويؤخذ بدليل الأمارة (ومرجع هذا الإشكال) لدى الحقيقة إلى عدم مرجح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب كي تكون واردة عليه (ويمكن أن يقال) إن أصل هذا الإشكال من الشيخ أعلى الله مقامه حيث يظهر منه انه لو لا حكومة دليل الأمارة على الاستصحاب فلا ترجيح لأحدهما على الآخر (قال) في الرد على تقريبي الورود بعد ما أفادهما بتلك العبارة المختصرة (ما لفظه) وفيه انه لا يرتفع التحير ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعي الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب الا بعد إثبات كون مؤداه حاكماً على

٢٤٧

مؤدي الاستصحاب وإلا أمكن أن يقال إن مؤدي الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها سواء كان هناك الأمارة الفلانية أم لا ومؤدي دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤداه خالف الحالة السابقة أم لا ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة كما لا يخفى (انتهى) (وحاصل جواب المصنف) عن الإشكال ان المرجح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب هو أنا لو أخذنا بجانب الأمارة فلا يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع الاستصحاب بها وهو الشك ولزوم نقض اليقين باليقين وهذا ليس بمحذور وإن أخذنا بجانب الاستصحاب ورفعنا اليد عن الأمارة (فإن كان) ذلك بدون ما يخرج الأمارة عن تحت عموم أدلة الاعتبار فهذا تخصيص بلا مخصص (وإن كان) لأجل الاستصحاب وكونه مخصصاً لأدلة اعتبارها فهذا دور فإن مخصصة الاستصحاب لها يتوقف على اعتبار الاستصحاب مع الأمارة واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على مخصصيته لها وإلّا فلا مورد له معها لما عرفت من ورود الأمارة عليه (وعليه) ففي مورد الاجتماع لا بد من الأخذ بدليل الأمارة دون الاستصحاب لئلا يلزم محذور التخصيص بلا مخصص أو التخصيص على وجه دائر.

(قوله وأما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتاً ... إلخ)

جواب عما ادعاه الشيخ أعلى الله مقامه من حكومة أدلة الأمارات على دليل الاستصحاب (وحاصل الجواب) ان الحكومة كما أشرنا قبلا هي مما تحتاج إلى نظر وشرح ولا نظر لدليل الأمارات إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتاً وان كان دالا على إلغاء الاستصحاب معها ثبوتاً وواقعاً لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ولكن هذا المعنى كما أنه موجود في طرف الأمارة فكذلك موجود في طرف الاستصحاب أيضاً لمنافاة وجوب العمل به مع العمل

٢٤٨

بها لو كانت هي على خلافه (هذا) مضافاً إلى ان المقصود من الحكومة لو كان ما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه فتختص الحكومة بما إذا كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة دون ما إذا كان موافقاً لها وذلك لعدم منافاة وجوب العمل بها حينئذ مع العمل به ولا نظن أن يلتزم به الشيخ في المقام.

(أقول)

ليس مقصود الشيخ أعلى الله مقامه من حكومة دليل الأمارات على الاستصحاب هو ما ذكره المصنف من الدلالة على إلغاء الاستصحاب معها ثبوتاً لمنافاة وجوب العمل بها مع العمل به كي تختص الحكومة حينئذ بما إذا كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة بل مقصوده كما بينا هو تنزيل ما ليس بموضوع حقيقة منزلة الموضوع أو تنزيل ما هو الموضوع حقيقة منزلة ما ليس بموضوع أو هو رفع حكم الدليل المحكوم عن بعض أفراده مع الشرح والنّظر بالمدلول اللفظي وهذا مما لا يوجب التخصيص بما إذا كان الاستصحاب مخالفا للأمارة دون ما إذا كان موافقاً لها كما لا يخفى.

(قوله وأما التوفيق فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ... إلخ)

نفي لاحتمال التخصيص في المقام كما نفاه الشيخ أعلى الله مقامه في كلامه المتقدم (حيث قال) وليس تخصيصاً بمعنى رفع اليد عن عموم أدلة الاستصحاب في بعض موارده كما ترفع اليد عنها في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها مما دل على وجوب البناء على الأكثر (انتهى) غير أن الشيخ أعلى الله مقامه لم يعلل نفي التخصيص بشيء ولعله لوضوحه والمصنف قد علله (بما حاصله) ان مع الأخذ بدليل الأمارة لا يكون نقض اليقين السابق بالشك بل باليقين أي التنزيلي لا انه نقض لليقين بالشك ولا يكون منهياً عنه كما هو شأن التخصيص بأن يرفع الحكم

٢٤٩

عن الفرد مع حفظ فرديته ومصداقيته للعام كرفع وجوب الإكرام عن العالم الفاسق مع كونه فرداً ومصداقاً للعلماء.

(أقول)

هذا مضافاً إلى انه يعتبر في التخصيص أن تكون النسبة بين العام والخاصّ عموماً مطلقاً وليست النسبة بين الأمارة والاستصحاب كذلك بل عموم من وجه فقد تكون الأمارة ولا استصحاب وقد يكون الاستصحاب ولا أمارة وقد يجتمعان جميعا وهذا واضح.

في ورود الاستصحاب على سائر الأصول

(قوله خاتمة لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية وبيان التعارض بين الاستصحابين أما الأول فالنسبة بينه وبينهما هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه ... إلخ)

فكما ان الأمارة كانت هي واردة على الاستصحاب فكذلك الاستصحاب هو وارد على سائر الأصول العملية أي على البراءة والاشتغال والتخيير غايته أنه وارد على البراءة الشرعية وروداً تعبدياً بمعنى كونه رافعاً لموضوعها أي الشك رفعاً شرعيا لا حقيقياً وذلك لبقاء الشك واقعاً ووارد على الأصول العقلية الثلاثة وروداً حقيقياً جديا لارتفاع موضوعها بالاستصحاب واقعاً فمع الاستصحاب (يرتفع اللابيان) الّذي هو موضوع البراءة العقلية وينقلب إلى البيان (ويرتفع أيضا عدم الأمن من العقوبة) الّذي هو موضوع قاعدة الاحتياط وقد نشأ عدم الأمن من العلم الإجمالي بالتكليف وينقلب إلى الأمن فإذا علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين وكان أحدهما المعين خمرا سابقاً والآخر خلا جرى الاستصحاب فيهما جميعاً وانحل العلم الإجمالي من أصله وحصل الأمن من العقاب في مستصحب الخلية (ويرتفع أيضاً

٢٥٠

عدم الترجيح) الّذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين وينقلب إلى الترجيح فإذا علم إجمالا ان صلاة الجمعة إما واجبة أو محرمة وكانت الحالة السابقة هي الوجوب جرى استصحاب الوجوب ولا يستقل معه العقل بالتخيير بين الفعل والترك أبداً.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه الّذي قد قال بحكومة الأمارات على الاستصحاب يقول في المقام أيضا بحكومة الاستصحاب على البراءة الشرعية لكن في الجملة أي بالنسبة إلى بعض أدلتها مثل قوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ونحوه واما بالنسبة إلى ما كان مساوقا لحكم العقل أو بالنسبة إلى الأصول العقلية الثلاثة فيكون الاستصحاب وارداً عليها رافعاً لموضوعها من أصله.

(أقول)

(أما التفصيل) بين أدلة البراءة الشرعية فهو حق فما كان مأخوذاً في موضوعه عدم البيان مثل قوله تعالى وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون أو ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ونحو ذلك فهو ملحق بالأصول العقلية فيكون الاستصحاب وارداً عليه رافعاً لموضوعه حقيقة (وإما حكومة الاستصحاب) على ساير أدلة البراءة الشرعية فهي غير واضحة لنا ولا معلومة وذلك لما علمت من اشتراط الحكومة بالشرح والنّظر ولا نظر لأدلة الاستصحاب إلى مدلول أدلتها أصلا.

(فالأولى) هو الالتزام بوروده عليها تعبداً كما تقدم منا آنفاً بمعنى انتفاء موضوعها به شرعاً لا حقيقة فتأمل جيداً.

(قوله فيقدم عليها ... إلخ)

أي بالورود وذلك لعين ما تقدم منه في وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب حرفاً بحرف.

٢٥١

(قوله ولا مورد معه لها للزوم محذور التخصيص إلا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلا ... إلخ)

أي ولا مورد مع الاستصحاب لسائر الأصول العملية أصلا (فلو قيل) كما تقدم في وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب هذا لو أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأصول ولكن لما ذا لا يؤخذ بدليلها ويلزم الأخذ بدليله (قلنا) في جوابه ما تقدم هناك حرفاً بحرف من أن ذلك ليس إلا لأجل انه لو أخذنا بدليل الاستصحاب لم يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع ساير الأصول بسببه وهذا ليس بمحذور ولو أخذنا بدليل ساير الأصول دون الاستصحاب فيلزم منه (إما التخصيص) بلا مخصص إن رفعنا اليد عن الاستصحاب بدون ما يخرجه عن تحت دليله (وأما على وجه) دائر إن رفعنا اليد عنه لأجل كون ساير الأصول مخصصة لدليله فإن مخصصيتها له مما يتوقف على اعتبارها معه واعتبارها معه مما يتوقف على مخصصيتها له وإلا فيكون الاستصحاب وارداً عليها وهو دور محال كما تقدم شرحه هناك (ثم إن هذا الإشكال) إنما يجري في خصوص تقدم الاستصحاب على الأصول الشرعية كالبراءة الشرعية ونحوها وأما على الأصول العقلية فلا يكاد يجري فإن موضوع الأصول العقلية مما يرتفع بالاستصحاب رفعاً حقيقياً واقعياً ومعه لا يكاد يبقى مجال لأن يقال لما ذا لا يؤخذ بدليلها ويؤخذ بدليله (وقد أشار المصنف) إلى ذلك كله بقوله في الكتاب هذا في النقليّة منها وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها بداهة عدم الموضوع معه لها ... إلخ.

٢٥٢

في تزاحم الاستصحابين

(قوله واما الثاني فالتعارض بين الاستصحابين ان كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب فهو من باب تزاحم الواجبين إلى آخره)

كاستصحاب وجوب إكرام كل من زيد وعمرو مع حدوث التضاد بين الإكرامين فعلا على نحو لا يمكن الإتيان بهما جميعاً لعدم القدرة عليهما ولكن الاستصحابين ليسا متعارضين لعدم العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ليكون خارجاً عن تحت دليل الاعتبار رأساً وخالياً عن المناط ثبوتاً بل هما من باب تزاحم الواجبين كما صرح في الكتاب وهما الإكرامان في المثال المذكور الوجدان لمناط الوجوب الشرعي جداً.

في الأصل السببي والمسببي

(قوله وإن كان مع العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما إلى آخره)

الاستصحابان المتعارضان لأجل العمل الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما الموجب لخروج أحدهما عن تحت دليل الاعتبار رأساً (اما يكونان) طوليين بان كان الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر على نحو لو ارتفع الشك في السبب ارتفع الشك في المسبب كالشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء شك في بقاء طهارته (وإما يكونان) عرضيين كاستصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجمالي

٢٥٣

بنجاسة أحدهما بملاقاته للنجس أو استصحاب نجاسة الإناءين بعد العلم الإجمالي بطهارة أحدهما بملاقاته الكر.

(اما القسم الثاني) فسيأتي حكمه عند قول المصنف وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار الأخر ... إلخ.

(واما القسم الأول) فحاصل الكلام فيه انه هل يقدم الأصل السببي على المسببي أم لا بل يتعارضان فيه قولان.

(الأول) هو مختار الشيخ أعلى الله مقامه وتبعه المصنف ومن تأخر عنهما ولعله المشهور بين من تقدمهما.

(والثاني) هو مختار شيخ الطائفة في المبسوط والمحقق في المعتبر والعلامة في بعض كتبه وجماعة من متأخري المتأخرين.

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه بعد ما اختار القول الأول واستدل له بأمور أربعة ستأتي الإشارة إليها جميعاً (ما لفظه) ثم انه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة منهم الشيخ والمحقق والعلامة في بعض أقواله وجماعة من متأخري المتأخرين (قال) فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يعلم خبره واستحسنه المحقق في المعتبر مجيباً عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء بأنها معارضة بأصالة عدم الوجوب (إلى ان قال) وقد صرح في أصول المعتبر بأن استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذّمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة (إلى ان قال) وحكى عن العلامة في بعض كتبه الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرمي لم يعلم استناد موته إلى الرمي لكنه اختار في غير واحد منها الحكم بنجاسة الماء وتبعه عليه الشهيدان وغيرهما وهو المختار بناء على ما عرفت تحقيقه وانه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

٢٥٤

(ثم إن المصنف) قد استدل لتقديم السببي على المسببي بعين ما استدل به لتقديم الأمارة على الاستصحاب من الورود (فكما) قال هناك إن رفع اليد عن اليقين السابق مع قيام الأمارة المعتبرة على خلافه لا يكون من نقض اليقين بالشك بل باليقين (فكذلك) يقول في المقام ان رفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب في المثال المتقدم مع استصحاب طهارة الماء المغسول به ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين (وكما قال هناك) في جواب إشكال عدم المرجح لتقديم جانب الأمارة على الاستصحاب ما حاصله ان الأخذ بجانب الأمارة مما لا يلزم منه شيء سوى لزوم نقض اليقين باليقين وهو ليس بمحذور بخلاف الأخذ بجانب الاستصحاب فيلزم منه إما التخصيص بلا مخصص أو على وجه دائر (فكذلك) يقول في المقام في جواب إشكال عدم المرجح لتقديم جانب السببي على المسببي مما حاصله ان الأخذ بجانب السببي مما لا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين باليقين وهو ليس بمحذور بخلاف الأخذ بجانب المسببي فيلزم منه إما التخصيص بلا مخصص أو على وجه دائر ففي المثال المتقدم إن أخذنا باستصحاب طهارة الماء وبنينا على طهارة الثوب المغسول به فلا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين السابق بنجاسة الثوب باليقين بطهارة الظاهرية الناشئة من استصحاب طهارة الماء وهذا ليس بمحذور وإن أخذنا باستصحاب نجاسة الثوب المغسول بماء شك في بقاء طهارة فإن رفعنا اليد عن استصحاب طهارة الماء بدون ما يخرجه عن تحت دليل الاستصحاب فهذا تخصيص بلا مخصص وإن رفعنا اليد عنه لأجل كون استصحاب نجاسة الثوب مخصصاً له فهذا دور فإن مخصصية المسببي للسببي مما يتوقف على اعتباره معه واعتباره معه مما يتوقف على مخصصيته له وإلّا لكان السببي وارداً عليه وهذا هو الدور المحال.

(أقول)

إنك قد عرفت اختلاف تعبيرنا مع تعبير المصنف في تقريب ورود الأمارات على

٢٥٥

الاستصحاب وأن تعبيرنا كان أسهل وأخصر (وعليه) فنقول في المقام على نحو ما تقدم منا هناك من أن الأصل السببي رافع الموضوع المسببي وهو الشك ولو شرعاً لا حقيقة فلا يبقي له مع السببي مجال أصلا وهذا من غير فرق بين أن يكون السببي والمسببي متخالفين كما في المثال المذكور أو متوافقين كالشك في بقاء طهارة الثوب المغسول بماء شك في بقاء طهارته ففي كلا الموردين يقدم السببي ولا يكاد تصل النوبة إلى المسببي أصلا وذلك لارتفاع موضوعه به أي الشك بالأصل السببي ولو رفعاً تعبدياً لا حقيقياً فتأمل جيداً.

(قوله فتارة يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر ... إلخ)

ولا يكون ذلك الا في السببي والمسببي المتوافقين ولم يذكرهما المصنف كالشك في بقاء طهارة الثوب المغسول بماء شك في بقاء طهارته فيكون بقاء طهارة الثوب من الآثار الشرعية لبقاء طهارة الماء لا مطلقاً ولو في السببي والمسببي المتخالفين كالشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء شك في بقاء طهارته فان المستصحب هاهنا في المسببي ليس إلا نجاسة الثوب وهي ليست من الآثار الشرعية لبقاء طهارة الماء بل ارتفاع المستصحب يكون من الآثار الشرعية لمستصحب السببي وهذا واضح

(قوله فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ... إلخ)

أي بطهارة الماء

(قوله وبالجملة فكل من السبب والمسبب وإن كان موردا للاستصحاب إلا ان الاستصحاب في الأول بلا محذور بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال ... إلخ)

شروع في الجواب عن إشكال عدم المرجح لتقديم جانب السببي على المسببي كي يكون وارداً عليه وقد عرفت منا تقريب الجواب فلا نعيد (ثم ان الشيخ) أعلى الله مقامه قد استدل كما أشرنا قبلا لتقدم السببي على المسببي بأمور أربعة.

٢٥٦

(الأول) الإجماع.

(الثاني) مانعية السببي عن شمول العام للمسببي.

(الثالث) انه لو لم بين على تقديم السببي كان الاستصحاب قليل الفائدة.

(الرابع) ان المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في المسببي (ثم إن) أوجه الوجوه الأربعة بعد التدبر التام في مجموعها هو الوجه الثاني منها وله أعلى الله مقامه عبارات مشوشة في بيانه قد ذكر بعضها في المتن وبعضها في الهامش وقد رقم على بعضها نسخة بدل وعلى بعضها زائد واضطرب ربط بعضها ببعض ونحن نذكر ملخص الجميع وزبدته ولا نطيل المقام بذكر العبارات بعينها على التفصيل (فنقول) إن ملخص الكلام أن شمول قوله عليه‌السلام ولا ينقض اليقين بالشك لليقين والشك في السببي مما بمنع عن شموله لليقين والشك في المسببي لأن اليقين فيه على هذا الفرض قد انتقض بالدليل فلا يكون من نقض اليقين بالشك بل بالدليل فلا يكون منكراً بخلاف ما إذا شمل القول المذكور اليقين والشك في المسببي فإنه مستلزم لنقض اليقين بالشك في السببي بدون ما يخرجه عن تحت عموم لا ينقض اليقين بالشك وهذا هو أمر منكر ولا يخفى ان مرجع ذلك كله تقريباً إلى ما أفاده المصنف في وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب وتقدم الاستصحاب على ساير الأصول وتقدم السببي على المسببي وكأن كلام المصنف قبلا كان مأخوذاً من كلام الشيخ هاهنا والله العالم.

(قوله نعم لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جارياً ... إلخ)

ففي المثال المتقدم إذا لم يجر استصحاب طهارة الماء لكونه من أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة جرى استصحاب نجاسة الثوب المغسول به أو استصحاب طهارته إن كان في السابق طاهراً.

(وبالجملة) إذا سقط الأصل السببي الوارد على المسببي فلا محالة تصل النوبة

٢٥٧

إلى الأصل المسببي سواء كان المسببي مخالفاً مع السببي أو موافقاً له.

في تعارض الاستصحابين

(قوله وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر ... إلخ)

هذا شروع في بيان القسم الثاني من الاستصحابين المتعارضين وهو أن يكون الاستصحابان عرضيين كاستصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لا طوليين كما في القسم الأول المتقدم ذكره وهو الأصل السببي والمسببي (وحاصله كلامه) في القسم الثاني أن الاستصحابين المتعارضين بل مطلق الأصلين المتعارضين ولو لم يكونا استصحابين كقاعدتي الطهارة ونحوهما (إن كانا) في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي لم يجز إجراؤهما جميعاً للزوم المخالفة القطعية ولا إجراء بعضهما دون بعض للزوم المخالفة الاحتمالية وقد تقدم في صدر الاشتغال حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية لو كان التكليف المعلوم بالإجمالي فعلياً من جميع الجهات (وأما إذا لم يكونا) في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي بحيث إذا جريا جميعاً لم يلزم مخالفة قطعية وإذا جرى بعضها دون بعض لم يلزم مخالفة احتمالية جرى الأصلان جميعاً فضلا عن جريان أحدهما دون الآخر وذلك كما في استصحابي النجاسة في أطراف العلم الإجمالي بالطهارة أو كإجراء الأصلين في دوران الأمر بين المحذورين بأن يجري الأصول عن كل من الوجوب والحرمة المعلوم أحدهما بالإجمال (ووجه الجريان) وجود المقتضي وفقد المانع (أما وجود المقتضي) فلإطلاق دليل الأصل وشموله لأطراف العلم الإجمالي كما يشمل الشبهات البدوية عيناً (واما فقد المانع) فلأن المفروض عدم لزوم مخالفة قطعية أو احتمالية لتكليف فعلي سوى المخالفة الالتزامية كالالتزام بنجاسة الإناءين مع العلم الإجمالي بطهارة أحدهما واقعاً أو الالتزام بإباحة الفعل مع العلم الإجمالي بأنه إما واجب أو

٢٥٨

حرام واقعاً وهي ليست بمحذور لا شرعاً ولا عقلا وذلك لما تقدم في الأمر الخامس من بحث القطع من عدم وجوب الموافقة الالتزامية لعدم الدليل عليه أصلا فلا تحرم المخالفة الالتزامية أبداً لا قطعيها ولا احتماليها.

(أقول)

قد ذكرنا في صدر بحث الاشتغال وجوهاً عديدة لوجوب الاحتياط وعدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

(منها) منجزية العلم الإجمالي بنحو العلية التامة.

(ومنها) معارضة الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

(ومنها) كون التمسك بدليل الأصل في كل منها تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية (وحينئذ فإن اعتمدنا) في وجه وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي وعدم جريان الأصول في شيء منها لا كلا ولا بعضاً على الوجه الأول أي على منجزية العلم الإجمالي بنحو العلية التامة بحيث لا يمكن الترخيص في أطرافه لا كلا للزوم المناقضة مع التكليف المعلوم بالإجمال ولا بعضاً للزوم احتمال المناقضة معه (فالامر) كما ذكره المصنف بمعنى انه تجري الأصول حينئذ في أطراف العلم الإجمالي بتمامها فيما لم يلزم منه مخالفة عملية لا قطعية ولا احتمالية كما في دوران الأمر بين المحذورين وكما في استصحابي النجاسة في طرفي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع كما تقدم آنفاً (وأما إذا لم نعتمد) على الوجه الأول لما تقدم منا في بحث القطع مبسوطاً وفي صدر الاشتغال مختصراً من بيان بطلانه وفساده نظراً إلى جواز الترخيص في أطراف العلم الإجمالي كلا وبعضاً من دون أن يلزم منه مناقضة ولا احتمال مناقضة (بل قد اعتمدنا) في وجه وجوب الاحتياط على خصوص الوجه الثاني والثالث (فلا يكاد تجري الأصول) في أطراف العلم الإجمالي أصلا ولو لم تلزم منه مخالفة عملية لا قطعية ولا احتمالية وذلك لقصور نفس أدلة الأصول عن الشمول لها على ما عرفت تفصيله هناك (وعليه) فما ادعاه

٢٥٩

المصنف في المقام من جريان الأصلين فيما لم يلزم منه مخالفة عملية لوجود المقتضي وفقد المانع مما لا وجه له بعد ما عرفت من فقد المقتضي من أصله.

(نعم) لو سلم وجود المقتضي فلا مانع عنه حتى لو قلنا بكون المخالفة الالتزامية محذوراً شرعاً وعقلا وذلك لما تقدم في القطع في الأمر الخامس من عدم التنافي بين الالتزام الإجمالي بما هو الثابت للشيء واقعاً وبين الالتزام بإباحته ظاهراً من جهة الأصل (فما يلوح من المصنف) هاهنا من وجود المانع لو قلنا بكون المخالفة الالتزامية محذوراً شرعاً وعقلا (حيث قال) وأما فقد المانع فلأجل أن جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّا المخالفة الالتزامية وهو ليس بمحذور لا شرعاً ولا عقلا ... إلخ مما لا وجه له (وقد اعترف المصنف) هناك بعدم التنافي وغفل عنه في المقام وكأنه لبعد المسافة (فقال هناك ما لفظه) ثم لا يذهب عليك انه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية وكان المكلف متمكناً منها يجب ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ولا تحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم انه الوجوب أو الحرمة (إلى أن قال) ومن هنا قد انقدح انه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية مع قطع النّظر عنه (انتهى).

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد جعل للقسم الثاني من الاستصحابين المتعارضين صوراً أربع.

(الأولى) ما إذا كان العمل بالاستصحابين مستلزماً لمخالفة قطعية عملية كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين.

(الثانية) ما إذا لم يكن العمل بهما مستلزماً لمخالفة قطعية عملية ولكن يقوم دليل من الخارج عقلي أو نقلي على عدم الجمع كما في الماء النجس المتمم كراً بماء

٢٦٠