عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٥

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٢٠

الزمان الثاني وبعده يكون بالدليل لا بثبوته في الزمان الأول (وإن لم نقل) بالتكرار فنسبة الحكم إلى أجزاء الزمان نسبة واحدة في كونه أداء سواء قلنا بالفور أو لا فثبوته في كل جزء من أجزاء الزمان يكون هو بالدليل أيضا لا بثبوته في الزمان الأول (وإذا علم) حال الأمر بقسميه من الموقت وغيره علم به حال النهي والإباحة أيضاً بل النهي بطريق أولى نظرا إلى إفادته التكرار وان كان مطلقاً لا موقتا (هذا حال الأحكام) التكليفية (واما الأحكام) الوضعيّة بمعنى سببية السبب وشرطية الشرط ومانعية المانع فكذلك عيناً فسببية الإيجاب والقبول مثلا لإباحة التصرفات والاستمتاعات أو سببية الدلوك مثلا لوجوب الصلاة إلى حد معين هي في كل جزء من أجزاء الزمان يكون بالدليل لا بثبوتها في الزمان الأول (ومن هنا يظهر) أن المراد من منع جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة هو بهذا المعنى أي بمعنى منع جريانه في سببية السبب أو شرطية الشرط أو مانعية المانع لا المنع عن جريانه في نفس السبب أو الشرط أو المانع فإن الفاضل المذكور قد صرح في آخر كلامه المتقدم بأن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الأحكام الوضعيّة قال أعني الأسباب والشرائط والموانع ... إلخ (وعلى كل حال) قد ذكر الشيخ أعلى الله مقامه فقرات عديدة من كلمات الفاضل المذكور وأورد على كل منها ما يناسب حاله (وعمدة) ما أورد عليه أمور ثلاثة.

(الأول) أن الموقت قد يتردد وقته بين زمان وما بعده فيجري الاستصحاب يعني به في الحكم الوجوبيّ أو الندبي الموقت المردد وقته بين زمان وما بعده.

(الثاني) انه لم يستوف أقسام الأمر لأن منها ما يتردد الأمر بين الموقت بوقت فيرتفع الأمر بفواته وبين المطلق الّذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت كما إذا شككنا في أن الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق فيجوز الإتيان به في كل جزء من النهار أو موقت إلى الزوال وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد فإن الظاهر انه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا.

١٠١

(الثالث) انه إذا قام الإجماع أو دليل لفظي مجمل على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقائها بعده كحرمة الوطء للحائض المرددة بين اختصاصه بأيام رؤية الدم فيرتفع بعد النقاء وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض فلا يرتفع إلا بالاغتسال وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار وحلية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما إلى غير ذلك مما لا تحصى فلا مانع في ذلك كله من الاستصحاب.

(أقول)

هذا كله مضافا إلى أن الأمر أو النهي إذا شك في بقاءه لتخلف حالة من الحالات وخصوصية من الخصوصيات المحتملة دخلها في الحكم من دون أن يكون من مقومات الموضوع أصلا بحيث كان الموضوع مع تخلفها باقياً في نظر العرف والشك في البقاء صادقاً في نظرهم فحينئذ يجري الاستصحاب بلا مانع عنه أبدا (وعليه) فمرجع مجموع الإيرادات الواردة عليه إلى إيرادين.

(أحدهما) أن الأمر أو النهي قد لا يكون مضبوطاً في مقام الإثبات فيكون مرددا بين الموقت وغيره أو الموقت يكون مردداً بين زمان وما بعده فحينئذ يجري الاستصحاب بلا مانع عنه.

(ثانيهما) أنه إذا شك في بقاء الأمر أو النهي لا من ناحية تردد وقته أو تردده بين الموقت وغيره بل من ناحية تخلف حالة من الحالات المحتملة دخلها في الحكم من دون دخل لها في بقاء الموضوع عرفاً فحينئذ يجري الاستصحاب أيضاً بلا مانع عنه (ثم إن) جميع ما ذكر إلى هنا يجري في الأحكام الوضعيّة حرفا بحرف كما يظهر بالتدبر وإمعان النّظر.

١٠٢

في تحقيق حال الوضع

(قوله فنقول وبالله الاستعانة لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما ... إلخ)

هذا شروع في تحقيق حال الوضع فلا تغفل.

(قوله واختلافهما في الجملة موردا ... إلخ)

(فقد يكون) الوضع ولا تكليف كما في المحجور عليه فالأموال هي ملكه ولا يحل له التصرف فيها (وقد يكون) التكليف ولا وضع كما إذا أجازنا المالك في التصرف في أمواله فيحل لنا التصرف فيها وليست هي بملك لنا (وقد يجتمعان) كما في الأغلب

(قوله بداهة أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصح إطلاقه على الوضع إلّا ان صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة إطلاقه عليه بهذا المعنى مما لا يكاد ينكر ... إلخ)

فالحكم بمعنى طلب الفعل أو طلب الترك المنشأ بداعي الإرادة الحتمية أو الغير الحتمية أو بداعي الإذن والترخيص وإما في الفعل كما في كلوا واشربوا أو في الترك كما في لا يغتسل ولا يعيد مما لا يصح تقسيمه إلى التكليفي والوضعي ولكن بمعنى ما جعله الشارع وأوجده أو ما اعتبره الشارع ولو إمضاء مما صح تقسيمه إليهما جميعاً وصح إطلاقه عليهما بهذا المعنى.

(قوله أو مع زيادة العلية والعلامية ... إلخ)

(أما العليّة) فالظاهر انه لا فرق بينها وبين السببية التي قد حصر العلامة الحكم الوضعي بها وبالشرطية والمانعية على ما ذكر المصنف في الكتاب وقال كما هو المحكي عن العلامة (اللهم إلا أن يقال) إن السبب هو المقتضي والعلة هي العلة التامة أي مجموع المقدمات من المقتضي والشرط وفقد المانع كما تقدم شرح الكل

١٠٣

مفصلا في مقدمة الواجب (وأما العلامية) فهي كما في زيد الظل أو ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن حيث جعلا شرعاً علامتين للزوال بل وفي بعض الأخبار ان ارتفاع أصوات الديكة وتجاوبها علامة للزوال أيضاً.

(قوله أو مع زيادة الصحة والبطلان ... إلخ)

الظاهر ان الصحة والفساد أمران واقعيان وهما التمامية وعدم التمامية سواء كانتا في العبادات أو في المعاملات كما تقدم في بحث النهي عن العبادات والمعاملات غايته انه يختلف أثر التمامية فيهما فأثرها في العبادات هو الإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء وأثرها في المعاملات هو ترتب الأثر الخاصّ عليها من النقل والانتقال ونحوهما (وعلى كل حال) هما ليسا قابلين لجعل الجاعل واعتبار المعتبر كي يكونا حكمين وضعيين بل هما أمران واقعيان يدوران مدار الواقع ثبوتاً فان كان الشيء تماماً واقعا فهو صحيح وإلّا فهو فاسد باطل ناقص.

(قوله والعزيمة والرخصة ... إلخ)

الظاهر انه لا وجه لعد العزيمة والرخصة من الأحكام الوضعيّة فانهما عبارتان عن الوجوب والإباحة فقولك مثلا هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة أي هل هو واجب متعين شرعاً أو مباح جائز عند الشرع ومن المعلوم ان الوجوب والإباحة هما حكمان تكليفيان لا وضعيان.

(قوله بل كلما ليس بتكليف مما له دخل ... إلخ)

أي بل الوضع هو عبارة عن كلما ليس بتكليف مما له دخل ... إلخ.

(قوله وإنما المهم في النزاع هو ان الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعاً بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه أو غير مجعول كذلك بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله ... إلخ)

(إشارة إلى بحث معروف) ونزاع مشهور في الأحكام الوضعيّة وقد أشرنا ان ذلك غير مرتبط أصلا بتفصيل الفاضل التوني رحمه‌الله من عدم جريان الاستصحاب

١٠٤

لا في التكليف ولا في الوضع وجريانه في متعلقات الوضع فقط من السبب والشرط والمانع بل النزاع المشهور هو جار ولو لم يكن هناك تفصيل في الاستصحاب أصلا (وقد اختلفت) عبارات الشيخ أعلى الله مقامه في تعيين محل النزاع (فمن بعضها) يظهر ان النزاع قد وقع في ان الحكم الوضعي هل هو مرجعه إلى الحكم التكليفي أم لا (وبعبارة أخرى) ان الحكم الوضعي هل هو عين الحكم التكليفي وليس هو شيئاً آخر ما ورائه أم لا بل هو شيء آخر ما وراء التكليف (قال) أعلى الله مقامه (ما لفظه) المشهور كما في شرح الزبدة بل الّذي استقر عليه رأي المحققين كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين ان الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وان كون الشيء سبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء فمعنى قولنا إتلاف الصبي سبب لضمانه انه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله اغرم ما أتلفته في حال صغرك انتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الإتلاف للضمان ويقال انه ضامن بمعنى انه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف ولم يدع أحد إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف الفعلي المنجز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص حتى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين من انه قد يتحقق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي كالصبي والنائم وشبههما (إلى ان قال) والعجب ممن ادعى بداهة بطلان ما ذكرنا مع ما عرفت من أنه المشهور الّذي استقر عليه رأي المحققين فقال قدس‌سره في شرحه على الوافية تعريضا على السيد الصدر وأما من زعم ان الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي على ما هو ظاهر قولهم إن كون الشيء سبباً لواجب هو الحكم بوجوب الواجب عند حصول ذلك الشيء فبطلانه غني عن البيان (انتهى) (ومن بعض) عبارات الشيخ أيضاً يظهر ان النزاع قد وقع في ان الحكم الوضعي هل هو مستقل بالجعل كالتكليف أم لا بل هو تابع له في الجعل

١٠٥

(قال) أعلى الله مقامه بعد ما وصل كلامه المتقدم إلى قوله كالصبي والنائم وشبههما (ما لفظه) وكذا الكلام في غير السبب فإن شرطية الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة وكذا مانعية النجاسة ليست إلا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب (إلى أن قال) هذا كله مضافاً إلى أنه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه حتى يتكلم انه بجعل مستقل أولا (انتهى)

(وبالجملة) إن عبارات الشيخ أعلى الله مقامه مضطربة في المقام مختلفة في تعيين محل النزاع (ودعوى) ان تبعية الحكم الوضعي للتكليفي في الجعل هي عبارة أخرى عن رجوعه إليه وعينيته له فيكون مرجع النزاعين إلى شيء واحد (مما لا وجه له) فإن التبعية في الجعل مما لا يساوق الاتحاد والعينية فإن الأربعة مثلا إذا جعلت هي تكويناً فقد جعلت الزوجية لها تبعا وليست الزوجية مرجعها إلى الأربعة بلا شبهة ولا هي عينها بلا كلام (وكيف كان) قد حرر المصنف محل النزاع والكلام على النحو الثاني أي في الاستقلال في الجعل وعدمه ونحن نتكلم على كلا النحوين جميعا (فنقول) أما النزاع على النحو الأول (فالحق فيه) أن الحكم الوضعي هو غير الحكم التكليفي فلا هو عينه ولا هو مرجعه إليه (فسببية) الدلوك لوجوب الصلاة أمر ووجوب الصلاة لديه أمر آخر وضمان المتلف بالكسر للمثل أو القيمة أمر ووجوب دفعه وأدائه إلى المضمون له أمر آخر (وهكذا) كل حكم وضعي آخر وما يقابله من الحكم التكليفي فهو أمر اعتباري خاص عند العقلاء وذاك امر اعتباري آخر عندهم.

(نعم هما متلازمان) في الوجود نظير استقبال الجنوب واستدبار الشمال فكلما كان استقبال الجنوب كان استدبار الشمال وبالعكس ومن المعلوم ان مجرد التلازم في الوجود هو مما لا يلازم الاتحاد والعينية (ومن هنا يظهر) حال النزاع) على النحو الثاني أيضا (وان الحق فيه) أنه كلما تحقق أحدهما خارجاً تحقق الآخر

١٠٦

تبعا كما هو الشأن في ساير المتلازمين في الوجود فإذا أنشأ وجوب الصلاة لدى الدلوك وقال أقم الصلاة لدلوك الشمس تحققت السببية للدلوك تبعاً وإذا قال دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة تحقق وجوب الصلاة لدى الدلوك تبعاً وهكذا الأمر في الضمان ووجوب أداء المثل أو القيمة للمضمون له (وعليه) فكل من الحكم الوضعي والتكليفي قابل للجعل استقلالا وتبعا (وقد أجاد) بعض شراح الوافية المتقدم ذكره على الإجمال الّذي ادعي بداهة بطلان عينية الحكم الوضعي مع التكليفي حيث جمع ما هو الحق في محل النزاع على كلا النحوين في عبارة واحدة مختصرة (قال) بعد قوله المتقدم فبطلانه غني عن البيان (ما لفظه) إذ الفرق بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مسكة والتكاليف المبنية على الوضع غير الوضع والكلام انما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير وبالجملة فقول الشارع دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة والحيض مانع منها خطاب وضعي وإن استتبع تكليفاً وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض كما ان قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس ودعي الصلاة وأيام أقرائك خطاب تكليفي وان استتبع وضعاً وهو كون الدلوك سبباً والأقراء مانعا (قال) والحاصل إن هناك امرين متباينين كل منهما فرد للحكم فلا يغني استتباع أحدهما الآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام (انتهى) (وقد اعترض) عليه الشيخ أعلى الله مقامه (بما ملخصه) انه إذا قال لعبده أكرم زيداً إن جاءك فهل يجد المولى من نفسه انه أنشأ إنشاءين وجعل امرين أحدهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه أو ان الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه فإن أراد بتباينهما مفهوماً فهو أظهر من ان يخفى وان أراد كونهما مجعولين بجعلين فالحوالة على الوجدان لا البرهان وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد فإن الوجدان شاهد على ان السببية والمانعية في المثالين اعتبار ان منتزعان كالمسببية والمشروطية والممنوعية (انتهى) (وفيه ما لا يخفى) فإن المولى إذا قال

١٠٧

لعبده أكرم زيداً إن جاءك فقد أنشأ إنشاءين وجعل امرين غايته ان أحدهما استقلالي وهو جعل وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر تبعي وهو جعل السببية للمجيء نظير ما إذا أوجد الأربعة استقلالا وجعلت الزوجية لها تبعاً ومن المعلوم انه لا يعتبر في الجعل التبعي ان يجده الجاعل من نفسه كي صح ان يقال فهل يجد المولى من نفسه انه أنشأ إنشاءين وجعل امرين أو يقال فالحوالة على الوجدان لا البرهان (واما قوله) أو ان الثاني مفهوم منتزع من الأول فهو حق ولكن مجرد كون السببية أو الشرطية أو المانعية منتزعة عن التكليف مما لا يلازم الاتحاد والعينية كما أشرنا قبلا كيف والانتزاع هو ملاك الاثنينية لا ملاك الاتحاد والعينية.

(وبالجملة) إن كلا من التكليف والوضع هو امر اعتباري عند العرف والعقلاء غير الآخر وكل منهما قابل للجعل التشريعي استقلالا وتبعاً فإذا جعل أحدهما استقلالا فقد جعل الآخر تبعا.

(نعم إن من الأحكام الوضعيّة) ما لا يقبل الجعل التشريعي إلا استقلالا لا تبعاً كالزوجية والملكية والحرية ونحوها فإنها وإن كانت هي أموراً اعتبارية قد اعتبرها العرف والعقلاء مع قطع النّظر عن الشرع ولكنها مع ذلك هي أحكام وضعية شرعية ولو بملاحظة إمضائه لها في موارد خاصة ومع الشرائط مخصوصة لا في كل مورد يراها العرف والعقلاء (وعلى كل حال) هي مما يحتاج إلى الجعل الاستقلالي والإيجاد بأسباب خاصة وأمور مخصوصة ولا يكفيها مجرد جعل الحكم التكليفي الّذي هو في موردها فلا ينتزع الزوجية مثلا من جواز الوطء أو الملكية عن إباحة التصرفات بل تحتاجان إلى عقد خاص يترتب عليهما بعد إنشائهما بالعقد جواز الوطء أو إباحة التصرفات وهكذا الأمر في الحرية ونحوها عينا (هذا كله) تفصيل ما عندنا من التحقيق.

(واما المصنف) فسنذكر تحقيقه مع ما فيه من المناقشات عند ذكر كل نحو من أنحاء الوضع على حده فانتظر يسيرا.

١٠٨

(قوله والتحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء ... إلخ)

بل على نحوين كما عرفت فإن الأحكام الوضعيّة بين ما يتطرق إليه الجعل التشريعي استقلال وتبعا وبين ما لا يتطرق إليه الجعل التشريعي الا استقلالا لا تبعا.

(قوله منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلا لا استقلالا ولا تبعا ... إلخ)

هذا هو النحو الأول من أنحاء الوضع وهو كما سيأتي من المصنف كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه وقد عرفت منا وستعرف أيضا ان هذا النحو من الوضع هو مما يتطرق إليه الجعل التشريعي بكلا قسميه من الاستقلالي والتبعي جميعا.

(قوله وان كان مجعولا تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك ... إلخ)

مقصوده ان حال السببية مثلا هي بعينها كحال الزوجية للأربعة فكما أن الأربعة إذا كانت مجعولة تكويناً كانت الزوجية أيضا مجعولة لها تكويناً عرضاً فكذلك دلوك الشمس مثلا إذا كان مجعولا تكويناً كانت السببية أيضاً مجعولة له تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعها أي بعين جعل السبب تكوينا.

(قوله ومنها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعاً للتكليف إلى آخره)

هذا هو النحو الثاني من أنحاء الوضع وهو كما سيأتي من المصنف كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه وستعرف منا ان هذا النحو من الوضع أيضاً مما يتطرق إليه الجعل التشريعي بكلا قسميه من الاستقلالي والتبعي جميعا.

(قوله ومنها ما يمكن فيه الجعل استقلال بإنشائه وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ... إلخ)

هذا هو النحو الثالث من أنحاء الوضع وهو كما سيأتي من المصنف كالحجية

١٠٩

والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك.

(ثم إن المصنف) هاهنا وفيما سيأتي آنفا يصرح في بدو الأمر بإمكان كل من الجعل الاستقلالي والتبعي في هذا النحو الثالث ولكن يختار أخيراً قابليته للجعل الاستقلالي فقط لا تبعا (وقد أشار) إلى ذلك في المقام بقوله وان كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ... إلخ

(قوله أما النحو الأول فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ... إلخ)

(ان سبب) التكليف هو عبارة عما فيه اقتضاء التكليف كدلوك الشمس في قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس أو مجيء زيد في قوله إن جاءك زيد فإكرامه وهكذا (وشرط) التكليف هو عبارة عما له دخل في تأثير السبب في التكليف كالبلوغ والعقل ونحوهما (واما المانع والرافع) للتكليف فهو كالحيض من قبل الوقت المانع عن توجه التكليف إلى الحائض أو من بعد الوقت الرافع للتكليف عن الحائض من حين طروه وحدوثه.

(قوله حيث انه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ... إلخ)

شروع في الاستدلال على عدم تطرق الجعل التشريعي إلى النحو الأول من الوضع أصلا لا استقلالا ولا تبعاً بل يكون جعله تكويناً عرضا بعين جعل موضوعه تكوينا كما أشير قبلا (وملخصه) بعد التدبر التام في صدر كلام المصنف وذيله ان سببية مثل دلوك الشمس لوجوب الصلاة ليست إلّا لأجل ما فيه من الخصوصية المستدعية لذلك للزوم ان يكون بين العلة والمعلوم من ربط خاص به تؤثر العلة في المعلول لا في غيره ولا غير العلة فيه وتلك الخصوصية لا تكاد توجد بإنشاء عنوان السببية له مثل قول ودلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة كي صح ان يقال إن السببية قابلة للجعل التشريعي الاستقلالي ولا من إيجاب الصلاة عنده مثل قول الشارع أقم الصلاة

١١٠

لدلوك الشمس أو من التكليف المتأخر عن الدلوك الحادث في كل يوم بسبب القول المذكور كي صح أن يقال إن السببية قابلة للجعل التشريعي التبعي.

(نعم) لا بأس باتصاف الدلوك بالسببية المجازية من إيجاب الصلاة عنده بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس أو من قوله الدلوك سبب لوجوب الصلاة بدل إيجاب الصلاة عنده لا اتصافه بالسببية الحقيقية (وفيه) ان لمثل الدلوك سببيتين (سببية) تكوينية وهي دخله في أصل حدوث الملاك في الفعل أو في تكميله فيه إذ لولاه لما علق الشارع وجوب الصلاة عليه أو لما أنشأ وجوبها عنده وهذه السببية غير مجعولة تشريعاً لا استقلالا ولا تبعاً بل تكويناً عرضا بتبع جعل الدلوك تكوينا كما أفاد المصنف عينا (وسببية) تشريعية وهي دخل الدلوك في حدوث التكليف عنده وفي صيرورة المشروط مطلقا حاليا بسببه وهذه هي منتزعة إما عن قول الشارع دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة أو عن قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس فتكون مجعولة تشريعا إما استقلالا أو بتبع جعل التكليف عرضاً فإنه لو لا قول الشارع أحد هذين القولين لم تجب الصلاة عند الدلوك أصلا ولو كان فيه سبعون خصوصية وسبعون ملاك ومجرد كون السببية الأولى تكوينية والثانية تشريعية مما لا يوجب تسمية الثانية بالمجازية فإنهما سببيتان مختلفتان وكل منهما حقيقية في حد ذاتها غير مجازية

(قوله حدوثا أو ارتفاعا ... إلخ)

أي لا يعقل انتزاع السببية مثلا للدلوك من حدوث التكليف المتأخر عنه أو انتزاع الرافعية للحيض الطاري بعد دخول الوقت من ارتفاع التكليف المتأخر عنه فإن كلا من حدوث التكليف أو ارتفاعه متأخر عن الدلوك أو الحيض فكيف ينتزع عنه السببية للأول أو الرافعية للثاني فتأمل جيدا.

(قوله به كانت مؤثرة في معلولها لا في غيره ولا غيرها فيه وإلا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ... إلخ)

أي بذلك الربط الخاصّ كانت العلة مؤثرة في معلولها لا في غيره ولا غير العلة فيه

١١١

وإلا بأن لم يكن في العلة بأجزائها من ربط خاص لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء وقد عرفت غير مرة عند تصوير الجامع الصحيحي وغيره أن هذه المقدمة وهي لزوم ربط خاص بين العلة والمعلول بضميمة عدم جواز أن يكون شيء واحد بما هو واحد مرتبطاً ومتسنخا مع أمور مختلفة بما هي مختلفة نظرا إلى كون الربط والسنخية نحوا من الاتحاد والعينية تكون هي مدركا لقاعدتين قاعدة الواحد لا يصدر إلا من الواحد وقاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد فتذكر.

(قوله وتلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ... إلخ)

(بهذه العبارة) قد سد المصنف احتمال الجعل التشريعي الاستقلالي في السببية وأخواتها (كما أن بقوله المتقدم) حيث انه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ... إلخ (وبقوله الآتي) ومنه انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ... إلخ قد سد احتمال الجعل التشريعي التبعي فيهما فإذا ينحصر جعلهما بالتكويني العرضي بتبع جعل السبب تكوينا (وقد أشرنا) إلى ذلك كله عند تلخيص استدلال المصنف آنفا فلا تغفل.

(قوله ومعه تكون واجبة لا محالة وان لم ينشأ السببية للدلوك أصلا إلى آخره)

أي ومع وجود ما يدعو إلى وجوبها تكون الصلاة واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا (وفيه) ما عرفته منا من أن الشارع ما لم ينشأ وجوب الصلاة لدى الدلوك بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس أو لم ينشأ السببية للدلوك بقوله جعلت الدلوك سببا لوجوب الصلاة لم تكن الصلاة واجبة عند الدلوك ولو كان فيها سبعون خصوصية وسبعون ملاك إلّا إذا أدرك العقل بنفسه وجود المناط في الصلاة لدى الدلوك بحد الإلزام فتجب حينئذ بلا حاجة إلى إنشاء الشارع وجوب الصلاة لدى الدلوك أو إنشاء السببية للدلوك أصلا وهذا واضح ظاهر.

١١٢

(قوله ومنه انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ... إلخ)

أي ومن قولنا ضرورة بقاء الدلوك (إلى آخره) انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية للدلوك حقيقة من إيجاب الصلاة عنده أي من قول الشارع أقم الصلاة لدلوك الشمس ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ومعه تكون واجبة وإن لم توجب الشارع الصلاة عنده.

(قوله كما انه لا بأس بأن يعتبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بأنه سبب لوجوبها ... إلخ)

أي كما لا بأس بأن يعتبر عوض إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك بأن الدلوك سبب لوجوب الصلاة فيكني بذلك عن وجوبها عنده (ومقصود المصنف) من ذلك كله انه كما لا بأس باتصاف الدلوك بالسببية المجازية لأجل إيجاب الصلاة عنده بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس فكذلك لا بأس باتصافه بها بإنشاء السببية له بقوله دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة فكل من القولين مما صح أن يكون منشأ لانتزاع السببية المجازية له (وقد أشرنا) إلى ذلك كله عند تلخيص استدلال المصنف آنفا فتذكر.

(قوله لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة للتكليف ... إلخ)

مقصوده من سائر ما لأجزاء العلة للتكليف هي أخوات السببية من الشرطية والمانعية والرافعية ولو قال لا منشأ لانتزاع السببية وأخواتها كان أولى.

(قوله وأما النحو الثاني فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ... إلخ)

فجزء الصلاة كالفاتحة وشرطها كالطهور ومانعها كلبس غير المأكول وقاطعها كالحدث وقد ذكرنا الفرق بين كل من المانع والقاطع قبيل الشروع في التنبيه الثاني من تنبيهات الأقل والأكثر الارتباطيين فراجع.

١١٣

(قوله حيث أن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون الا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ... إلخ)

شروع في الاستدلال على عدم تطرق الجعل التشريعي إلى النحو الثاني من الوضع إلا تبعاً للتكليف (وحاصله) ان اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطية المأمور به أو مانعية عنه أو قاطعية له لا يكاد يكون إلّا بتعلق الأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي خاص كالطهارة والستر والقبلة ونحوها أو عدمي مخصوص كعدم لبس غير المأكول وعدم الحدث وعدم الاستدبار ونحوها ولا يكاد يمكن اتصاف شيء بالعناوين المذكورة بمجرد إنشاء الشارع له الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو القاطعية (وفيه ما لا يخفى) وذلك لوضوح أن الشارع إذا أمر بماهية مركبة كالصلاة مثلا وصارت هي مأمورة بها ثم بدا له أن يزيد في أجزائها أو شرائطها أو موانعها أو قواطعها فله في ذلك طريقان.

(أحدهما) أن يأمر بإتيان ذلك الأمر الزائد في الصلاة أو ينهى عن إتيانه فيها فيقول يجب في الصلاة أمر كذا أو يحرم في الصلاة أمر كذا فينتزع له الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو القاطعية يتبع التكليف الشرعي المتعلق به.

(ثانيهما) أن يقول جعلت الأمر الفلاني جزءا للصلاة المأمورة بها أو شرطاً لها أو مانعا عنها أو قاطعا لها فيحدث له عنوان الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو القاطعية وبتبعها يجب الإتيان به شرعا أو يحرم كذلك كسائر الأجزاء والشرائط أو الموانع والقواطع من دون حاجة إلى إنشاء أمر جديد متعلق بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي زائد أو عدمي كذلك وهذا لدى التدبر واضح فتدبر.

(قوله وجعل الماهية وأجزائها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ... إلخ)

(دفع) لما قد يتوهم من أن الشارع إذا جعل ماهية واخترع أمراً مركبا من عدة أمور مقيدة بأمور خاصة فبمجرد جعله لها واختراعه إياها ينتزع لكل جزء من

١١٤

أجزائها عنوان الجزئية ولكل قيد من قيودها عنوان الشرطية من قبل أن يأمر بها ويتعلق بها التكليف (وعليه) فلا تكون الجزئية أو الشرطية مجعولة بتبع التكليف (وحاصل الدفع) ان جعل الماهية واخترعها ليس إلا تصورها بأجزائها وقيودها وانها مما فيه مصلحة ملزمة مقتضية للأمر بها (ومن المعلوم) أن مجرد تصورها كذلك مما لا يوجب اتصاف شيء من أجزائها ولا شرائطها بالجزئية للمأمور به أو الشرطية له ما لم يؤمر بتلك الماهية ويتعلق التكليف بها.

(وبالجملة) ما لم يتعلق الأمر بالماهية المركبة لم يتصف شيء من أجزائها ولا شرائطها بكونه جزءا أو شرطا للمأمور به وإن اتصف بكونه جزءاً أو شرطاً للماهية المتصورة أو المشتملة على المصلحة الملزمة فتدبر جيدا.

(قوله وأما النحو الثالث فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك حيث أنها وان كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في موردها كما قيل ومن جعلها بإنشاء أنفسها ... إلخ)

قد أشرنا فيما تقدم عند الإشارة الإجمالية إلى النحو الثالث أن المصنف هاهنا وفيما سيأتي آنفا يصرح في بدو الأمر بإمكان كل من الجعل الاستقلالي والتبعي فيه ولكن يختار أخيراً قابلية للجعل الاستقلالي فقط دون التبعي وهذا هو تصريحه في بدو الأمر بإمكان كل من الجعل الاستقلالي والتبعي فيه وسيأتي بعد ذلك بلا فصل اختيار قابليته للجعل الاستقلالي فقط دون التبعي فانتظر يسيرا.

(قوله إلّا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى أو من بيده الأمر من قبله جل وعلا لها بإنشائها ... إلخ)

شروع في الاستدلال على قابلية هذا النحو الثالث من الوضع للجعل الاستقلالي فقط دون التبعي (وقد استدل) لذلك بأمرين.

(أحدهما) لقابليته للجعل الاستقلالي.

١١٥

(وثانيهما) لعدم قابليته للجعل التبعي.

(أما الأول) فحاصله انه لا شك في صحة انتزاع تلك الأمور المذكورة من مجرد جعله تعالى لها أو من بيده الأمر من قبله جل وعلا كما في الحجية والقضاوة والولاية أو من مجرد العقد أو الإيقاع ممن بيده الاختيار كما في النيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية والطلاق والعتاق ونحوها وكل ذلك بملاحظة التكليف والآثار التي هي في موردها من جواز النّظر والمس والدخول ونحو ذلك في الزوجية أو جواز أنحاء التصرفات في الملكية وهكذا فلو كانت هذه الأمور منتزعة من التكاليف التي هي في موردها بدعوى ان المجعول أولا بوسيلة العقد أو الإيقاع هي تلك التكاليف ثم ينتزع هذه الأمور من تلك التكاليف المجعولة بالعقد أو الإيقاع لزم أمران.

(أحدهما) أن لا يصح انتزاع هذه الأمور بمجرد جعلها بلا ملاحظة تلك التكاليف مع انها تنتزع بلا ملاحظتها قطعا.

(ثانيهما) أن لا يقع ما قصد من العقد أو الإيقاع وهي هذه الأمور الوضعيّة وأن يقع ما لم يقصد منهما وهي تلك التكاليف المجعولة بوسيلة العقد أو الإيقاع.

(وأما الثاني) وقد أشار إليه بقوله كما لا ينبغي ان يشك ... إلخ فحاصله انه لا شك في عدم صحة انتزاع هذه الأمور من مجرد التكليف الّذي في موردها فلا تنتزع الملكية عن إباحة التصرفات ولا الزوجية من جواز الوطء وساير الاستمتاعات وهكذا ساير الاعتبارات مما في موردها من التكليفات فانقدح من تمام ما ذكر إلى هنا ان هذه الأمور المذكورة هي مجعولة استقلالا لا تبعا لجعل التكليف والأثر.

(أقول)

قد تقدم منا ان مثل الزوجية والملكية والحرية ونحوها هو مما يحتاج إلى الجعل الاستقلالي ولا يكاد يكفيها مجرد جعل الحكم التكليفي الّذي هو في موردها كي تكون مجعولة تبعاً ولكن لا يبعد في مثل الحجية والقضاوة والولاية والنيابة قابليته للجعل

١١٦

التبعي أيضا كالجعل الاستقلالي عينا فكما صح انتزاعها من مثل قوله خبر الثقة حجة أو إن فلانا جعلته قاضيا أو واليا أو نائبا فكذلك صح انتزاعها من قوله يجب العمل بخبر الثقة أو يحرم رد قضاء فلان أو يجب إطاعة فلان أو يحل لفلان التصرف في أموالي ببيع أو إجارة ونحوهما ولعل ذلك كله مما يتضح بالتدبر فتدبر جيدا.

(قوله وهم ودفع ... إلخ)

(اما الوهم) فحاصله ان الملكية كيف تكون من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء التي هي من خارج المحمول أي ليس بحذائها شيء في الخارج سوى منشأ انتزاعها كما في الفوقية والتحتية والأبوة والنبوة ونحوها من الإضافات مع ان الملك على ما قرر في محله هو إحدى المقولات المحمولات بالضميمة أي التي بحذائها شيء في الخارج كالكم والكيف والفعل والانفعال ونحوها من الأعراض المتأصلة التي لها حظ من الوجود وليست هي من الاعتبارات المحضة الحاصلة بالجعل والإنشاء فإن مقولة الملك هي نسبة الشيء إلى ما يحويه والحالة الحاصلة له من ذلك (قال العلامة) أعلى الله مقامه في شرح التجريد عند قول المصنف السابع وهو نسبة التملك ... إلخ (ما لفظه) أقول قال أبو علي إن مقولة الملك لم أحصلها إلى الآن ويشبه ان تكون عبارة عن نسبة الجسم إلى حاوله أو لبعض اجزائه كالتسلح والتختم فمنه ذاتي كحال الهرة عند إهابها ومنه عرضي كبدن الإنسان عند قميصه (قال) واما المصنف (ره) فإنه حصل هذه المقولة وبين انها عبارة عن نسبة التملك (قال) قال رحمه‌الله ولخفائها اعتبر المتقدمون عنها بعبارات مختلفة كالجدة والملك وله (انتهى).

(واما الدفع) فحاصله ان الملك مشترك لفظي قد يطلق على المقولة التي يعتبر عنها بالجدة وقد يطلق على الإضافة التي قد تحصل بالعقد وقد تحصل بغيره من إرث ونحوه فالذي هو من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ويكون من خارج المحمول هو الملك بالمعنى الثاني والّذي هو من الاعراض

١١٧

المتأصلة ويكون من المحمولات بالضميمة أي التي لا تحصل بالجعل والإنشاء هو الملك بالمعنى الأول ومنشأ الوهم اشتراكه اللفظي وإطلاقه على هذا مرة وعلى ذاك أخرى فتأمل جيدا.

(قوله إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل فقد عرفت انه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف ... إلخ)

(وحاصله) انه لا مجال للاستصحاب.

(في النحو الأول) من الوضع الّذي لا يتطرق إليه الجعل التشريعي أصلا على ما حققه المصنف لا استقلالا ولا تبعاً فلا يستصحب دخل ما له الدخل في التكليف إما بنحو السببية أو الشرطية أو المانعية أو الرافعية وذلك لما يعتبر في الاستصحاب كما سيأتي في التنبيه العاشر ان يكون المستصحب حكماً شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي والنحو الأول من الوضع أي السببية وأخواتها ليس هو امرا مجعولا شرعا لا استقلالا ولا تبعا ولا هو ذو أثر مجعولا شرعا.

(واما النحو الثالث) من الوضع الّذي ادعى المصنف تطرق الجعل الاستقلالي إليه فقط دون التبعي وإن صرح في بدو الأمر بقابليته للجعل الاستقلالي والتبعي جميعا كالحجية والقضاوة والولاية ونحوها فلا مانع عن استصحابه فإنه كالتكليف بعينه.

(واما النحو الثاني) من الوضع الّذي قد ادعى تطرق الجعل التبعي إليه فقط دون الاستقلالي كالجزئية لما هو جزء المكلف به أو الشرطية لما هو شرط المكلف به وهكذا فلا مانع عن استصحابه أيضا نظرا إلى كفاية الجعل التبعي في صحة استصحابه فإن امر وضعه ورفعه بالأخرة بيد الشارع قطعا.

(نعم) لا مجال لاستصحابه من ناحية أخرى وهي كون الأصل الجاري فيه مسببياً ومع جريان السببي لا تصل النوبة إلى المسببي فإن الشك في بقاء جزئية الجزء مثلا ناش عن الشك في بقاء الأمر بالكل الّذي قد انتزع منه جزئية الجزء فيجري

١١٨

الأصل في السبب دون المسبب وان كانا متوافقين لا متخالفين وسيأتي تحقيق السببي والمسببي مفصلا في أو آخر الاستصحاب إن شاء الله تعالى فانتظر.

(أقول)

قد عرفت منا أن النحو الأول من الوضع أيضا قابل للجعل التشريعي بل قابل له استقلالا وتبعاً وعليه فلا مانع عن استصحابه كما في النحو الثالث والثاني عينا.

(قوله والتكليف وإن كان مترتباً عليه إلا انه ليس بترتب شرعي فافهم ... إلخ)

أي والتكليف وإن كان مترتبا على ما له الدخل في التكليف أي على نفس السبب وأخواته ولكن ترتبه عليه ليس بترتب شرعي من قبيل ترتب الحرمة على الخمر بل ترتب عقلي كترتب المعلول على العلة.

(وفيه أولا) ان ترتب الوجوب مثلا على الدلوك الّذي هو سبب للتكليف أو على العقل الّذي هو شرط للتكليف أو ترتب منع التكليف على الحيض الّذي هو مانع عنه أو ترتب رفع التكليف على الحيض الطاري في أثناء الوقت الّذي هو رافع له هو ترتب شرعي وإذا يستصحب نفس السبب والشرط والمانع والرافع بلا مانع عنه أصلا.

(وثانيا) إن الكلام إنما هو في استصحاب النحو الأول من الوضع أي دخل ما له الدخل وهو السببية والشرطية والمانعية والرافعية لا استصحاب نفس ما له الدخل أي السبب والشرط والمانع والرافع والظاهر ان إلى هذين الأمرين قد أشار المصنف بقوله فافهم.

(قوله فافهم ... إلخ)

ولعله إشارة إلى ان استصحاب المسبب وإن لم يكن له مجال مع استصحاب سببه ومنشأ انتزاعه فلا مجال لاستصحاب جزئية الجزء مع جريان استصحاب وجوب الكل الّذي هو سبب لانتزاع جزئية الجزء ولكن السببي إذا سقط للمعارضة بما هو

١١٩

في عرضه فتصل النوبة إلى المسببي قهراً فإذا سقط استصحاب الطهارة في أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة لمعارضته باستصحابها في الطرف الآخر فتصل النوبة إلى استصحاب الطهارة في الملاقي لأحد طرفي العلم الإجمالي وقد تقدم تفصيل ذلك كله في أصل الاشتغال كما هو حقه فراجع.

في تنبيهات الاستصحاب وبيان اعتبار فعلية

الشك واليقين فيه

(قوله ثم إن هاهنا تنبيهات الأول انه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين ... إلخ)

المقصود من عقد هذا التنبيه هو الإشارة إلى ما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه في الأمر الخامس مما تعرضه بعد تعريف الاستصحاب قبل الشروع في أدلة الاستصحاب (قال) الخامس إن المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرد الوجود السابق ان الاستصحاب يتقوم بأمرين أحدهما وجود الشيء في زمان (إلى ان قال) والثاني الشك في وجوده في زمان لا حق عليه (إلى ان قال) ثم المعتبر هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات إليه أما لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض الشك فيه على فرض الالتفات فالمتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشك جرى الاستصحاب في حقه فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة ولا يجري في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل نعم لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلى ثم التفت وشك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهراً يعني بذلك أنه احتمل التطهير بعد الحدث قبل الصلاة جرى في حقه قاعدة الشك

١٢٠