عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

للمذكى والميتة وعلى شرب التتن وعلى لحم الحمير إن شككنا فيه ولم نقل بوضوحه (وقد أورد عليه الشيخ) أعلى الله مقامه بما ملخصه ان الظاهر من قوله عليه‌السلام فيه حرام وحلال هو وجود القسمين فيه فعلا لا ان فيه احتمالهما (وعليه) فلا تنفع الرواية الا للشبهة الموضوعية فقط فلحم الغنم مثلا الّذي فيه حلال وهو المذكى وفيه حرام وهو الميتة هو لك حلال حتى تعرف انه الحرام بعينه أي الميتة فتدعه ولا يكاد ننتفع بها في الشبهة الحكمية كالشك في حلية لحم الحمير أصلا.

(أقول)

وهو رد متين لا يتعدى عنه.

(الثاني) من تقريب الاستدلال ما حكاه الشيخ أيضاً عن بعض معاصريه من انا نفرض شيئاً له قسمان حلال وحرام واشتبه قسم ثالث منه كما في اللحم فانه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم وفيه حرام وهو لحم الخنزير فهذا اللحم الكلي هو لك حلال حتى تعرف الحرام منه وهو لحم الخنزير فتدعه (وعليه) فيندرج لحم الحمير المشتبه تحت عموم الحل كما لا يخفى (وقد أورد عليه الشيخ) أعلى الله مقامه بما حاصله ان الظاهر من القيد المذكور في الحديث الشريف وهو كلمة فيه حلال وحرام انه المنشأ للاشتباه في المشتبه وانه الموجب للشك فيه فيحكم بحليته ظاهراً وهذا مما لا ينطبق على ما إذا علم ان في اللحم مثلا حلال كلحم الغنم وحرام كلحم الخنزير ومشتبه كلحم الحمير فإن وجود الغنم والخنزير في اللحم مما لا مدخل له في الشك في حلية لحم الحمير أصلا ولا في الحكم بحليته ظاهراً أبداً وهذا بخلاف ما إذا شك في اللحم المردد بين لحم الغنم والخنزير بنحو الشبهة الموضوعية فيكون وجود القسمين في اللحم هو المنشأ للشك فيه والموجب للحكم بحليته ظاهراً وهذا واضح.

(أقول)

وهذا رد متين أيضاً لا يتعدى عنه فيكون خلاصة الكلام في المقام ان روايات الحل التي فيها تعبير بفيه حلال وحرام مما لا تلائم الشبهات الحكمية أصلا بل تلائم الشبهات

٤١

الموضوعية فقط سيما بقرينة ورود روايتين منها في الجبن الّذي قد علم ان في بعضه ميتة

(نعم) هي صادقة على موردين (على الكلي) الّذي فيه حلال وحرام واشتبه فرد منه بنحو الشبهة الموضوعية بين الحلال والحرام ككلي الجبن الّذي فيه حرام وهو ما فيه الميتة وفيه حلال وهو ما ليس فيه الميتة وفرد مردد بين ما فيه الميتة وبين ما ليس فيه الميتة أو اللحم الّذي فيه حلال وهو لحم الغنم وفيه حرام وهو لحم الخنزير وفرد مردد بين لحم الغنم ولحم الخنزير وهكذا (وعلى الأمر الخارجي) الّذي فيه حلال وحرام جميعاً كالقطيع من الغنم الّذي يعلم إجمالا ان فيه موطوء وغير موطوء أو الأواني التي يعلم إجمالا أن فيها نجس وطاهر أو غصب ومباح وهكذا (ومن هنا يظهر) أن هذه الروايات بظاهرها قابلة للشمول لأطراف العلم الإجمالي نظراً إلى كونها مغياة بالعلم التفصيليّ بمقتضى ظهور لفظة بعينه وانها تأكيد للمعرفة كما سيأتي اعتراف الشيخ به (ومن المعلوم) ان العلم التفصيليّ مفقود في أطراف العلم الإجمالي فلا يبقى مانع عن الشمول لها بتمامها وسيأتي تحقيق الكلام فيه في صدر بحث الاشتغال إن شاء الله تعالى وان هذا الظهور غير معمول به عند الأصحاب فلا يمكن الأخذ به فتأمل جيداً.

(بقي شيء) وهو انه يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه مناقشة في الأمثلة المذكورة في ذيل رواية مسعدة بن صدقة المتقدمة من حيث ان الحل الموجود فيها ليس مستنداً إلى أصالة الحلية بل إلى أمور أخر (والظاهر) ان المناقشة بمحلها غير انها مما لا يضر بالاستدلال بصدر الحديث كما صرح به بنفسه (قال) أعلى الله مقامه (ما لفظه) ولا إشكال في ظهور صدرها في المدعي إلّا أن الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستنداً إلى أصالة الحلية فإن الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد وإن لوحظا مع قطع النّظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرف لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرية في الإنسان المشكوك في رقيته وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب

٤٢

أو الرضاع فالحلية مستندة إليه وإن قطع النّظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها فيحرم وطيها (قال) وبالجملة فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأولى محكومة بالحرمة والحكم بحليتها انما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانوي فالحل غير مستند إلى أصالة الإباحة في شيء منها هذا ولكن في الاخبار المتقدمة يعني بها الاخبار التي استدل بها للبراءة بل في جميع الأدلة من الكتاب والعقل كفاية مع ان صدرها وذيلها ظاهر ان في المدعي (انتهى) والظاهر ان المراد من ذيلها هو قوله عليه‌السلام والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.

(قوله وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب ... إلخ)

(توضيح المقام) انه لما دل الحديث الشريف وهو قوله عليه‌السلام كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً في نظر المصنف حتى في الشبهات الحكمية أراد الاستدلال به في الشبهات الوجوبية أيضاً بضميمة عدم القول بالفصل فإن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية فقط وهم الأخباريون وبين من يقول بالبراءة فيها وفي الشبهات الوجوبية جميعاً وهم المجتهدون فالقول بالبراءة في التحريمية فقط دون الوجوبية قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل والإجماع المركب.

(قوله مع إمكان أن يقال ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال تأمل ... إلخ)

هذا استدلال بنفس الحديث الشريف للبراءة مطلقاً حتى في الشبهات الوجوبية من غير حاجة إلى التشبث بعدم القول بالفصل أصلا (ومحصله) ان ترك الواجب حرام فإذا شك مثلا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فقد شك في حرمة تركه فيكون حلالا بالحديث الشريف (وفيه) ان المنصرف من الحرام هو الأمر

٤٣

الوجوديّ الّذي تعلق الطلب بتركه كالكذب والغيبة ونحوهما لا الأمر العدمي الّذي تعلق الطلب بتركه كترك الصلاة وترك الزكاة ونحوهما (وعليه) فالظاهر من الحديث الشريف ليس إلا حلية الوجوديّ الّذي شك في تعلق الطلب بتركه كشرب التتن أو شرب المائع الخارجي المحتمل كونه خمراً ونحوهما لا العدمي الّذي شك في تعلق الطلب بتركه كترك الدعاء عند رؤية الهلال ونحوه (ولعله) إليه أشار أخيراً بقوله تأمل (فتأمل جيداً).

في الاستدلال بحديث السعة

(قوله ومنها قوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ... إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه ومنها أي ومن السنة قوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون فان كلمة ما إما موصولة أضيف إليه السعة وإما مصدرية ظرفية وعلى التقديرين يثبت المطلوب (انتهى) وإلى هذا الترديد قد أشار المصنف بقوله فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم ... إلخ (وعلى كل حال ان كانت) كلمة ما موصولة قد أضيف إليها السعة بلا تنوين فحالها حال الموصول فيما لا يعلمون في حديث الرفع فيستدل بها لأصل البراءة في المسائل الأربع جميعاً من الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية منهما والوجوبية (وان كانت) مصدرية ظرفية بمعنى ما دام فهي دالة على المطلوب أيضاً يستدل بها للبراءة في المسائل الأربع جميعاً (وقد ذكر المحقق القمي) الحديث الشريف بنحو آخر لا تكون كلمة ما فيه الا موصولة (ولفظه) الناس في سعة مما لم يعلموا (ثم إن) هذا الحديث محكي عن بعض كتب العامة (وذكر في الوسائل) في كتاب الطهارة في باب طهارة ما يشتري من مسلم ومن سوق المسلمين حديثاً مسنداً عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام

٤٤

يقرب من هذا الحديث لكن لا يبعد اختصاصه بالشبهات الموضوعية فقط بقرينة المورد (ولفظه) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سأل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة يكثر لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يقوّم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أم سفرة مجوسي فقال هم في سعة حتى يعلموا

(قوله ومن الواضح انه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلا فيعارض به ما دل على وجوبه كما لا يخفى ... إلخ)

رد على ما أفاده الشيخ أعلى الله مقامه فإنه بعد أن ذكر الحديث الشريف وذكر تقريب الاستدلال به بالعبارة المتقدمة (قال ما لفظه) وفيه ما تقدم في الآيات من ان الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمل والتتبع (انتهى) (ومحصله) بملاحظة ما تقدم منه في الآيات الشريفة ان الحديث الشريف مما لا يعارض دليل الاحتياط فإنه بالنسبة إليه كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي ينتفي به موضوعه وهو اللابيان فاللازم على منكر الاحتياط رد دليل الاحتياط أو معارضته بما دل على الرخصة.

(قوله لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط ... إلخ)

أي قد علم وجوب الاحتياط بما دل على الاحتياط وهو إشارة إلى ما في نظر الشيخ في وجه عدم معارضة الحديث الشريف مع دليل الاحتياط من كونه بالنسبة إليه كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي يرتفع به موضوعه وهو عدم العلم (فيقول) في جوابه ما محصله إن الحديث الشريف مما يثبت السعة ما لم يعلم الواقع المجهول من الوجوب أو الحرمة ودليل الاحتياط مما يثبت الضيق مع كون الواقع مجهولا غير معلوم فيتعارضان الدليلان.

(نعم لو كان) وجوب الاحتياط نفيساً لا طريقياً شرّع لأجل حفظ الواقعيات لم يكن بينهما تعارض بل كان مما ينتفي به موضوعه فانه شيء قد علم به

٤٥

المكلف فليس في سعة منه وان كان في سعة من الواقع المجهول لكن قد عرفت قبلا ان وجوب الاحتياط على القول به طريقي شرّع لأجل حفظ الواقعيات المجهولة فهو مما يثبت الضيق لأجل الواقع المجهول والحديث الشريف مما يثبت السعة من ناحية الواقع المجهول فيتنافيان.

(أقول)

وفي جواب المصنف ضعف كما لا يخفى فان الحديث الشريف ودليل الاحتياط وإن كانا يتعارضان من حيث ان أحدهما يثبت السعة من ناحية الواقع المجهول والآخر يثبت الضيق من ناحيته فليس الحديث الشريف بالنسبة إلى دليل الاحتياط كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي بحيث ينتفي به موضوعه (ولكن) الثاني حيث انه أخص من الأول لاختصاصه بالشبهات التحريمية الحكمية فقط فيقدم على الأول إذا تم وسلم مما أورد عليه ويختص الأول بالشبهات الوجوبية فقط بل بالوجوبية والتحريمية الموضوعية جميعاً (وعليه) فالحق في الجواب عن الشيخ أعلى الله مقامه كما تقدم منا قبلا أن يقال إن الآيات الشريفة وهكذا الأحاديث الشريفة الا مرسلة الفقيه وهي ما سيأتي من قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وإن لم تعارض دليل الاحتياط لم تم وسلم ولو لأخصيته منها لا لحكومته أو وروده عليها فاللازم على منكر الاحتياط رد دليل الاحتياط أو معارضته بما دل على الرخصة (ولكن) مجرد رده ودفع المانع وإبطاله مما لا يكفي لمدعي البراءة فإنا بعد رده نحتاج لا محالة إلى أدلة نستند إليها وبراهين نعتمد عليها فنحن الآن بصدد تلك الأدلة والبراهين ثم نجيب بعداً عن دليل الاحتياط كما هو حقه إن شاء الله تعالى

(قوله فافهم ... إلخ)

ولعله إشارة إلى ضعف جوابه كما أشير آنفاً فلا تغفل.

٤٦

في الاستدلال بحديث كل شيء مطلق

(قوله ومنها قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى ... إلخ)

(قد رواه في الوسائل) في القضاء في باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى عن الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (قال الشيخ) أعلى الله مقامه بعد ذكر الحديث الشريف (ما لفظه) استدل به الصدوق قدس‌سره على جواز القنوت بالفارسية واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية (انتهى) (وقال المحقق القمي) قدس‌سره (ما لفظه) ورواه الشيخ رحمه‌الله يعني به الطوسي وفي روايته امر أو نهي (انتهى).

(أقول)

وحكى عن البحار انه نقله عن الأمالي مسنداً عن أبي غندر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي (الحديث).

(قوله ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود الا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد مع انه ممنوع إلى آخره)

(ولكن يظهر من الشيخ) تسليم دلالته (بل قال) ودلالته على المطلب أوضح من الكل (إلى ان قال) فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسنداً وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية (انتهى).

(أقول)

إن اعتمدنا في الحديث الشريف على رواية الصدوق أو الطوسي رضوان الله عليهما كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو حتى يرد فيه أمر أو نهي (فالحق مع المصنف)

٤٧

من منع دلالته على المطلوب وذلك لوضوح صدق الورود على الصدور من الشارع وإن اختفى علينا لبعض الأسباب والدواعي ومن الواضح المعلوم أنا نحتمل الصدور في كل شبهة حكمية فلا يمكننا التمسك فيها بالحديث الشريف فإنه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية (وعليه) فالحديث أجنبي عن البراءة ويكون من أدلة ما اشتهر على الألسن ونسبه الصدوق رحمه‌الله إلى دين الإمامية من أن الأصل في الأشياء هو الإباحة إلى أن يرد فيه النهي لا الحظر أو الوقف إلى أن يرد فيه الرخصة (وإن اعتمدنا) في الحديث الشريف على ما حكى عن البحار عن الأمالي الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي (فالحق مع الشيخ) ويكون الحديث الشريف من أدلة المطلوب فإن الإطلاق فيه مغيا بالورود على المكلف فما لم يصل إليه امر أو نهي لم يصدق الورود عليه (بل يظهر من الحديث) انه لا يجب الفحص عليه في الشبهات الحكمية فيكون الإطلاق ثابتاً إلى أن يصل الحكم إليه بنفسه ولكن لا بد من تقييده بما سيأتي من أدلة الفحص كما ستعرف (هذا وإن شئت التوضيح) بنحو أبسط فنقول إن لنا نزاعين ممتازين كل منهما عن الآخر.

(أحدهما) أن الأصل في الأفعال الغير الضرورية التي لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها هل هو الإباحة إلى أن يرد من الشرع الحظر أو الأصل فيها الحظر ولا أقل من الوقف إلى أن يرد فيه الرخصة وهذا هو النزاع المعروف بين القدماء المشتهر بالإباحة والحظر (وقد عرفت) ان الصدوق رحمه‌الله قد اختار الأول بل جعله من دين الإمامية (ويظهر من الشيخ) في ذيل بيان الدليل العقلي على الاحتياط أن القول بالحظر منسوب إلى طائفة من الإمامية وان الوقف قد ذهب إليه الشيخان أي المفيد والطوسي وان الطوسي رضوان الله عليه قد احتج في العدة على الوقف بكون الإقدام على ما لا يؤمن من المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة (كما انه يظهر من الفصول) أن القائلين بالحظر يحتجون بأن فعل ما لم يرد فيه رخصة تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم.

٤٨

(ثانيهما) أن الأصل في الأفعال عند الشك في حرمتها واحتمال ورود النهي فيها وعدم وصوله إلينا هل هو حليتها ظاهراً إلى أن يثبت الحرمة أم لا بل الأصل في ظرف الشك هو الاحتياط إلى أن يثبت الحل وهذا هو النزاع المعروف بين المجتهدين والأخباريين (والفرق بين النزاعين) أن مجري الأول هو ما علم بعدم ورود النهي عنه ومجري الثاني هو ما احتمل ورود النهي عنه ثبوتاً وانه اختفى علينا ولم يصل إلينا (ففي المقام) إن اعتمدنا في الحديث الشريف على رواية الصدوق أو الطوسي فهو نافع للنزاع الأول ويكون هو دليلا اجتهادياً كالدليل على المباحات ويكون مدركاً لكون الأصل في الأشياء هو الإطلاق حتى يرد فيه نهي وليس هو أصلاً عملياً مضروباً لظرف الشك أبداً (وإن اعتمدنا) في الحديث الشريف على رواية الأمالي فهو نافع للنزاع الثاني ويكون مدركاً للبراءة الشرعية الجارية في ظرف الشك أي لإباحة الشيء وإطلاقه ظاهراً مع احتمال ورود النهي فيه واقعاً.

(قوله لا يقال نعم ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم ... إلخ)

(وحاصل الإشكال) انه نعم يصدق الورود على صدور النهي عن الشارع وإن اختفي علينا لبعض الأسباب والدواعي ولكن الأصل عدم صدوره فإنه مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه فيتم الاستدلال بضميمة الأصل (وحاصل الجواب) ان الاستدلال حينئذ وان كان يتم بضميمة الأصل ويحكم بإباحة ما شك في حرمته لكن لا بعنوان انه مشكوك الحرمة ومحتمل النهي بل بعنوان انه مما لم يرد فيه نهي (وبعبارة أخرى) ان مفاد الأدلة المتقدمة التي استدل بها للبراءة هو الحكم بحلية المشكوك ظاهراً مع احتمال حرمته وورود النهي عنه واقعاً ومفاد هذا الحديث الشريف بضميمة الأصل هو أن المشكوك حرمته مما لم يرد فيه نهي واقعاً فهو مطلق حلال من هذه الجهة لا من جهة انه مشكوك الحرمة يحتمل ورود النهي عنه واقعاً

٤٩

(أقول)

والحق في الجواب أن يقال ان الحديث الشريف كما تقدم آنفاً على رواية الصدوق أو الطوسي رضوان الله عليهما انما هو من أدلة كون الأصل في الأشياء هو الإباحة حتى يرد فيه نهي غايته انه إن علم أن الشيء مما لم يرد فيه نهي فيتمسك حينئذ بالحديث الشريف لإثبات إطلاقه بلا حاجة إلى شيء آخر أصلا وإن شك في ورود النهي فيه فبأصالة عدم ورود النهي فيه يحرز الصغرى ثم يحكم عليه بالإطلاق والإباحة (وعليه) فالحديث الشريف على كل حال انما هو من أدلة كون الأصل في الأشياء هو الإباحة حتى يرد فيه نهي إما بنفسه أو بضميمة الأصل وليس هو مربوطاً بمسألة البراءة أصلا وان كان لا يتفاوت الأمر لدى النتيجة فيما يهمنا في المقام من الحكم بالإباحة لدى الشك في الحرمة كما سيأتي في لا يقال الثاني غايته ان دليل البراءة هو يحكم في المشكوك بالإباحة مع احتمال ورود النهي فيه وهذا الحديث الشريف بضميمة الأصل يزيل الشك والاحتمال أو لا ثم يحكم عليه بالإباحة.

(قوله لا يقال نعم ولكن لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان ... إلخ)

(حاصل الإشكال) انه نعم ان مفاد الحديث الشريف بضميمة أصالة العدم هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة إلّا انه لا بعنوان انه مجهول الحرمة بل بعنوان انه مما لم يرد فيه نهي ولكن لا يتفاوت ذلك فيما هو المهم في المقام من الحكم بإباحة مجهول الحرمة سواء كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان (وحاصل الجواب) انه لو كان الحكم بإباحة مجهول الحرمة بالعنوان الثاني أي بعنوان انه مما لم يرد فيه نهي لاختص ذلك بما إذا لم يعلم ورود النهي فيه فيستصحب عدم الورود أولا ثم يحكم عليه بالإطلاق واما إذا علم إجمالا بورود النهي فيه في زمان وبورود الإباحة فيه في زمان آخر واشتبه السابق باللاحق فلا يكاد يتم الاستدلال حينئذ إذ لا يستصحب العدم لينضم إلى الحديث الشريف ويتم الأمر ويثبت المطلوب كما لا يخفى وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم بإباحته بعنوان انه مجهول

٥٠

الحرمة فيجري الأصل حينئذ حتى في مثل الفرض لأنه مجهول الحرمة ولو مع العلم الإجمالي المذكور فيحكم بحليته ظاهراً إلى أن يعلم الخلاف.

(أقول)

ويرد على هذا الجواب أن التفاوت المذكور (مضافاً) إلى انه مما لا يهم إذ لا يكون إلّا في موارد يسيرة لو سلم أصل الفرض وتحققه في الخارج (ان الفرق) يرتفع بوسيلة عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته كما سيأتي في لا يقال الثالث (واما ما أجاب به) المصنف عن عدم الفصل فهو مخدوش كما ستعرف.

(قوله لا يقال هذا لو لا عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته إلى آخره ... إلخ)

(وحاصل الإشكال) ان اختصاص الحكم بإباحة مجهول الحرمة بما إذا لم يعلم ورود النهي فيه انما يكون لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته فإن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية جميعاً وهم الأخباريون وبين من يقول بالبراءة فيها جميعاً وهم المجتهدون فالقول بالإباحة في خصوص ما إذا لم يعلم ورود النهي فيه دون ما إذا علم إجمالا بورود النهي فيه في زمان والإباحة في زمان آخر واشتبه السابق باللاحق قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل (وحاصل الجواب) ان عدم القول بالفصل انما يجدي إذا كان المثبت للحكم بالإباحة فيما لم يعلم ورود النهي فيه هو الدليل الاجتهادي واما إذا كان المثبت له هو الأصل العملي كما هو المفروض فلا يكاد يجدي فان الأصل مما لا يمكنه إثبات اللازم وهو الإباحة في الفرد الآخر الّذي علم إجمالا بورود النهي فيه في زمان والإباحة في زمان آخر (وفيه) ان مثبت الإباحة فيما لم يعلم ورود النهي فيه ليس هو الأصل كي يعجز عن إثباتها فيما علم بل الأصل ينقح الموضوع وانه مما لم يرد فيه نهي فيشمله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وهو دليل اجتهادي بناء على كون الورود فيه هو الصدور

٥١

كما تقدم من المصنف لا الوصول إلى المكلف ولعله إليه أشار المصنف أخيراً بقوله فافهم.

(ثم إن هاهنا) أخبار أخر قد استدل بها للبراءة على ما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه فلا بأس بالإشارة إليها واحداً بعد واحد (فنقول).

في الاستدلال بحديث المعرفة

(منها) رواية عبد الأعلى رواها في الوافي في كتاب العقل والعلم والتوحيد في باب البيان والتعريف ولزوم الحجة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئاً هل عليه شيء قال لا (وفيه ما لا يخفى) إذ الاستدلال به مما يبتني على كون المراد من قوله شيئاً شيئاً خاصاً مثل حرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ونحوهما لا شيئاً بنحو العموم كما هو الظاهر بمقتضى وقوع النكرة في سياق النفي أي سألته عمن لم يعرف شيئاً أصلا فيحمل على السؤال عن القاصر الّذي لا يعلم شيئاً بقرينة قوله عليه‌السلام (لا) فيكون أجنبياً عن المقام جداً (قال في الفصول) بعد ذكر الحديث الشريف (ما لفظه) نعم انما يتم الاحتجاج بالرواية الأخيرة يعني بها رواية عبد الأعلى إذا حملت على السلب الجزئي (انتهى) (وقال الشيخ) أعلى الله مقامه بعد ذكر الحديث الشريف (ما لفظه) بناء على ان المراد بالشيء الأول فرد معين مفروض في الخارج حتى لا يفيد العموم في النفي فيكون المراد هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول واما بناء على إرادة العموم فظاهره السؤال عن القاصر الّذي لا يدرك شيئاً (انتهى).

٥٢

في الاستدلال بحديث الجهالة

(ومنها) قوله عليه‌السلام أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء ـ عليه ذكره في الوسائل في الباب الثلاثين من خلل الصلاة في حديث عن عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وفي الاستدلال به ما لا يخفى) أيضاً فإنه مما يبتني على كون المراد بالجهالة ما يقابل العلم وهو غير معلوم إذ من المحتمل أن يكون المراد منها هي السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل (كما في قوله تعالى) إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم (أو قوله تعالى) كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فانه غفور رحيم إلى غير ذلك (وقد تقدم) في آية النبأ ما ذكره الطبرسي رحمه‌الله في تفسير الآية الأولى عن أبي عبد الله عليه‌السلام من انه قال كل ذنب عمله العبد وان كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله (انتهى) (هذا) ولكن الّذي يؤيد الاستدلال بهذا الحديث الشريف للبراءة بل يصححه انه قد رواه الوسائل ثانياً في الباب الثامن من أبواب بقية كفارات الإحرام بنحو أبسط عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال لرجل أعجمي أحرم في قميصه أخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه (الحديث) إذ من المعلوم ان المراد من الجهالة على هذا ليس إلّا ما يقابل العلم لا السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل.

٥٣

في الاستدلال بحديث الاحتجاج

(ومنها) رواية ابن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام رواها في الوافي في كتاب العقل والعلم والتوحيد في باب البيان والتعريف ولزوم الحجة قال قال لي اكتب فأملى على ان من قولنا إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم (الحديث) (قال الشيخ) أعلى الله مقامه بعد ذكر الحديث الشريف (ما لفظه) وفيه ان مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الاخبار مما لا ينكره الأخباريون (انتهى) وهو إشارة إلى الإشكال العام الّذي أورده كما تقدم على تمام الآيات وبعض الاخبار من أنها بالنسبة إلى دليل الاحتياط كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي يرتفع به موضوعه وهو اللابيان فاللازم على مدعي البراءة رد ذلك الدليل أو معارضته بما دل على الرخصة (ولكن) قد عرفت منا الجواب عنه فلا نعيد.

(نعم) قد يتوهم ان الإيتاء والتعريف مما نحتملهما في كل شبهة حكمية ولا أقل في أغلبها وان الحكم قد اختفى علينا لبعض الأسباب والدواعي فلا يمكن التمسك بالحديث الشريف لنفي الاحتجاج فانه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية (ولكن) قد عرفت من الجواب عنه أيضاً في آية نفي الإضلال من ان المراد من البيان المأخوذ فيها لو لم يكن هو البيان الواصل بنفسه فلا أقل هو البيان الّذي يمكن الوصول إليه وإلّا فليس ببيان فكما قلنا هناك انه إذا تفحصنا في الشبهة ولم نجد فيها شيئاً فلا بيان ولا إضلال فكذلك نقول في المقام انه إذا تفحصنا في الشبهة ولم نجد فيها شيئاً فلا إيتاء ولا تعريف ولا احتجاج (وعليه) فالحديث الشريف مما لا بأس بالاستدلال به ويكون هو من جملة الأدلة الدالة على البراءة وإن كان مما ننتفع به لخصوص الشبهات الحكمية التي من شأن الشارع الإيتاء والتعريف فيها لا لمطلق الشبهات ولو كانت موضوعية.

٥٤

في الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن

بن الحجاج

(ومنها) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (وقد رواها) في الوسائل في النكاح في أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها في الباب السابع عشر قال سألته عن الرّجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبداً فقال لا أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك فقال بأي الجهالتين يعذر بجهالته أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة فقال إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت وهو في الأخرى معذور قال نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها فقلت فإن كان أحدهما معتمداً والآخر بجهل فقال الّذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً

(أقول) وفي رسائل شيخنا الأنصاري بأي الجهالتين أعذر ... إلخ (وحكي) أعلى الله مقامه عن الكافي انه يعذر كما في الوسائل (وعلى كل حال) غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بها للبراءة أن الصحيحة قد دلت على معذورية كل من الجاهل بالحكم والجاهل بالموضوع جميعاً أي الجاهل بأن ذلك محرم عليه والجاهل بأنها في العدة فيتم المطلوب ولو في خصوص الشبهات التحريمية دون الوجوبية.

(وفيه) (أولا) ان المراد من معذورية الجاهل فيها بشهادة السؤال عن حليتها له بعد أن تزوجها في عدتها بجهالة معذوريته من حيث الحكم الوضعي أي جواز تزويجها بعد انقضاء العدة وعدم حرمتها عليه مؤبداً حيث قال عليه‌السلام

٥٥

فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ... إلخ بل ويشهد بذلك أيضاً قول الراوي فقلت وهو في الأخرى معذور قال نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها إلى آخره فيكون المتحصل من الصحيحة أن من تزوج امرأة في عدتها جهلا سواء كان بالحكم أو بالموضوع فهو معذور لا تحرم المرأة عليه مؤبداً وإن لم يكن معذوراً إذا دخل بها بمقتضى اخبار أخر وليس المتحصل منها معذوريته من ناحية الحكم التكليفي ورفع المؤاخذة عنه ونفي العقاب له كما هو المطلوب.

(وثانياً) لو سلم دلالتها على معذورية الجاهل مطلقاً ولو من ناحية الحكم التكليفي فلا تدل هي على معذوريته في غير مورد الجهل بحرمة التزويج في العدة أو الجهل بكونها في العدة من موارد أخر أبداً إذ ليس فيها ما يدل على معذورية الجاهل بنحو الإطلاق أصلا.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه يظهر منه ان هنا إشكالا يرد على الرواية على كل تقدير ولم يؤشر إلى جوابه (وحاصله) أن تعليل كون الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه أهون من الأخرى بأنه لا يقدر معها على الاحتياط لا يستقيم فإن الجاهل بالحكم إن فرض غافلا فالجاهل بالموضوع أيضاً إذا فرض كذلك لا يقدر على الاحتياط وإن فرض ملتفتاً فهو يقدر على الاحتياط كالجاهل بالموضوع عيناً فالتفكيك بين الجهالتين مما لا وجه له (وفيه) ان الجهل بحرمة النكاح في العدة مما يستلزم الغفلة عنها نوعاً حين التزويج بخلاف ما إذا علم حرمته وعرف ان الشارع حرمه فانه حين التزويج سيما بالثيب يلتفت إلى العدة نوعاً فيمكنه الاحتياط قهراً.

(قوله فافهم ... إلخ)

قد أشرنا في صدر الحاشية المتقدمة لدى التعليق على قوله لا يقال هذا لو لا عدم الفصل ... إلخ إلى وجه قوله فافهم فتذكر.

٥٦

في الاستدلال بالإجماع لأصالة البراءة

(قوله واما الإجماع فقد نقل على البراءة إلّا انه موهون ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة ... إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه واما الإجماع فتقريره من وجهين.

(الأول) دعوى إجماع العلماء كلهم من المجتهدين والأخباريين على ان الحكم فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ولا على تحريمه من حيث انه مجهول الحكم هي البراءة وعدم العقاب على الفعل وهذا الوجه لا ينفع إلّا بعد عدم تمامية ما ذكر من الدليل العقلي والنقلي للحظر والاحتياط فهو نظير حكم العقل الآتي.

(الثاني) دعوى الإجماع على ان الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو هو عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه.

(الأول) ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه فإنك لا تكاد تجد من زمان المحدثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط نعم ربما يذكرونه في طي الاستدلال في جميع الموارد حتى في الشبهة الوجوبية التي اعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها (ثم ذكر) كلام جملة ممن يظهر منه عدم الاحتياط وإن كان كلام بعضهم صريحاً في إباحة الأشياء حتى يرد فيها النهي وهو أجنبي عن مسألة البراءة والاحتياط كما تقدم.

(إلى ان قال الثاني) الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة فانها قد تفيد القطع بالاتفاق (ثم ذكر) كلام جملة ممن يظهر منه دعوى الاتفاق على البراءة

٥٧

وإن كان كلام بعضهم صريحاً في دعوى الاتفاق على إباحة الأشياء حتى يرد فيها النهي وهو أيضاً أجنبي عن المقام.

(إلى ان قال الثالث) الإجماع العملي الكاشف عن رضاء المعصوم عليه‌السلام فإن سيرة المسلمين من أول الشريعة بل في كل شريعة على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان وان طريقة الشارع كان تبليغ المحرمات دون المباحات وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم وجدان النهي فيها (انتهى موضع الحاجة) من كلامه رفع مقامه (ثم لا يخفى) ان قول المصنف واما الإجماع فقد نقل على البراءة إلى آخره ناظر إلى الوجه الثاني من وجوه التقرير الثاني (وحاصله) ان نقل الإجماع في المسألة موهون جداً ولو قلنا باعتبار الإجماع المنقول في الجملة على التفصيل المتقدم في محله وذلك لأن تحصيل الإجماع على نحو يكشف عن رضاء الإمام عليه‌السلام في مثل المسألة مما استدل فيه بالدليل العقلي والنقلي بعيد غاية البعد لجواز استنادهم فيها إلى الدليل العقلي أو النقلي لا إلى رأي الإمام عليه‌السلام (وعليه) فلا يكون الإجماع دليلا مستقلا برأسه غير ما بأيدينا من العقل والنقل جداً.

(أقول)

اما الإجماع على التقرير الأول فهو كما أفاد الشيخ أعلى الله مقامه مما لا ينفع إلّا بعد عدم تمامية ما ذكر للقول بالاحتياط من الدليل النقلي بل العقلي بوجهيه الآتيين من العلم الإجمالي بوجود المحرمات في المشتبهات ومن أن الأصل في الأشياء الحظر أو الوقف إلى أن يرد الرخصة (واما الإجماع) على التقرير الثاني فلا يكاد ينفع أيضاً بجميع وجوهه كلا بعد أن ذهب معظم الأخباريين إلى الاحتياط وهم من أجلاء الأصحاب وأساطين الشيعة (وعليه) فالأولى بل اللازم هو رفع اليد عن الاستدلال بالإجماع لأصالة البراءة رأساً والاكتفاء بما تقدم من بعض الآيات الشريفة وجملة من الأخبار المروية وما سيأتي من حكم العقل بعد الجواب عن أدلة الاحتياط من

٥٨

الاخبار ووجهي العقل جميعاً واحداً بعد واحد إن شاء الله تعالى.

في الاستدلال بالعقل لأصالة البراءة

(قوله واما العقل فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس ... إلخ)

(وقد أكد الشيخ) أعلى الله مقامه حكم العقل بحكم العقلاء (قال الرابع) من الأدلة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه (انتهى)

(أقول)

وهاهنا أمور لا بأس بالتنبيه عليها مختصراً.

(الأول) ان المراد من عدم البيان الّذي هو موضوع لحكم العقل بقبح العقاب ليس هو عدم البيان الواصل بنفسه بل عدم البيان الّذي يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه فإن مجرد عدم البيان الواصل بنفسه مع احتمال وجود البيان الّذي لو تفحص عنه لظفر عليه مما لا يكفي في حكم العقل بقبح العقاب كما لا يخفى بل إذا تفحص عنه ولم يكن هناك بيان فعند ذلك يستقل العقل بقبح العقاب وإن احتمل وجود بيان في الواقع لا يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه (وإليه أشار المصنف) بقوله قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس ... إلخ.

(الثاني) ان المراد من عدم البيان الّذي هو موضوع لحكم العقل بقبح العقاب ليس خصوص عدم بيان الواقع المجهول بل يعم عدم بيان الاحتياط أيضاً فإذا كان في البين أحد البيانين من الشرع لم يستقل العقل بقبح العقاب أبداً (ومن هنا

٥٩

يتضح) ان دليل الاحتياط لو تم لكان وارداً على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يرتفع به موضوعه من أصله.

(الثالث) انه قد يتوهم في المقام ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مما يختص بالشبهات الحكمية فقط فإنها هي التي من شأن الشارع بيان الواقع فيها دون الشبهات الموضوعية مثل كون هذا المائع خمراً يحرم شربه أو ذلك الرّجل عالماً يجب إكرامه وهكذا (ولكن) يرد عليه أن الشارع وإن لم يكن من شأنه بيان الواقع في الشبهات الموضوعية ولكن كان من شأنه بيان الاحتياط فيها فإذا لم يبين فيها جرى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلا كلام.

(نعم يمكن) دعوى عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في الشبهات الموضوعية التي قد أحرز اهتمام الشارع بها جداً الا بعد الفحص واليأس كما في الشبهات الحكمية عيناً كما إذا شك في كون هذا العين الزكوي بالغاً حد النصاب أم لا أو في كون هذا المال المعين بالغاً حد الاستطاعة أم لا فيكون مجرد الاحتمال فيها بمنزلة البيان بل بعض الشبهات الموضوعية لا تكاد تجري البراءة فيه إلى الآخر حتى بعد الفحص بحد اليأس إذا لم يزل الشك بعده كما إذا كان المحتمل فيه مهما جداً غاية الأهمية كما إذا احتمال احتمالا معتداً به أن هذا سم قاتل يقطع به الأمعاء بمجرد الشرب أو احتمل أن هذا الشيخ المرئي نفس محترمة لا يجوز رميه بالسهم أبداً وهكذا فيكون هذا النحو من الشبهات الموضوعية أعلى شأناً من الشبهات الحكمية وهذا واضح.

(قوله ولا يخفى انه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم انها تكون بياناً ... إلخ)

(إشارة إلى ما قد يتوهم في المقام من ورود قاعدة دفع الضرر المحتمل على قاعدة قبح العقاب بلا بيان (بدعوى) ان حكم العقل بدفع الضرر المحتمل يكون بياناً

٦٠