عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

وسلم بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه (قال) الخبر ولم يذكر تمامه غير انه (قال) أخيراً إن النبوي المذكور مشتمل على ذكر الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطبق الإنسان بشفة.

(أقول)

ووجدت الحديث الشريف في الوافي في كتاب الإيمان والكفر في باب ما لا يؤخذ عليه وقد نقله عن الفقيه (ولفظه) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع عن أمتي تسعة أشياء السهو والخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة (ونقله) أيضاً في الباب المذكور عن الكافي عن الحسين بن محمد عن محمد بن أحمد النهدي رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع عن أمتي تسع خصال الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد.

(قوله فالإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتاً واقعاً فلا مؤاخذة عليه قطعاً ... إلخ)

(قال الشيخ) في تقريب الاستدلال بالحديث الشريف (ما لفظه) فإن حرمة شرب التتن مثلا مما لا يعلمون فهي مرفوعة عنهم ومعنى رفعها كرفع الخطاء والنسيان رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة ... إلخ وهو إشارة إلى الخلاف الآتي من ان المرفوع هل هو خصوص المؤاخذة أو الأثر الظاهر في كل من الأمور التسعة أو جميع الآثار على ما ستعرف شرحه (وحاصل تقريب المصنف) أن الإلزام المجهول سواء كان في الشبهة الحكمية كحرمة شرب التتن أو الموضوعية كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمراً مما لا يعلمون فهو مرفوع أي ظاهراً وهو

٢١

المقصود من قوله فعلا بقرينة قوله وان كان ثابتاً واقعاً ... إلخ (ولعل) الفرق بين التقريبين ان المرفوع في نظر الشيخ هو المؤاخذة أو الأثر الظاهر أو جميع الآثار فيقدر أحد هذه الأمور في الحديث الشريف لا محالة وفي نظر المصنف نفس الحكم المجهول يكون مرفوعاً ولو ظاهراً لا واقعاً برفع تنجزه بلا حاجة إلى التقدير أصلا.

(ثم) إن الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما لا يعلمون فيه احتمالات ثلاثة.

(الأول) أن يكون المراد منه بقرينة الأخوات وساير الفقرات خصوص فعل المكلف الغير المعلوم كالفعل الّذي لا يعلم انه شرب الخمر (وعلى هذا الاحتمال) يختص الحديث الشريف بالشبهات الموضوعية فقط ولا يكاد ننتفع به في الشبهات الحكمية أصلا.

(الثاني) أن يكون المراد منه خصوص الحكم المجهول سواء كان في الشبهات الحكمية أو الموضوعية وهو الظاهر من المصنف سيما بقرينة ما سيأتي منه من قوله ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية فيما لا يعلمون فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً وإن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه ... إلخ (وعلى هذا الاحتمال) يشمل الحديث كلا من الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً من غير اختصاص بالموضوعية فقط.

(الثالث) ان يكون المراد من الموصول ما يعم الحكم والفعل جميعاً وهو الظاهر من الشيخ سيما بقرينة ما سيأتي من تصريحه بأن تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ... إلخ (وعلى هذا الاحتمال) يشمل الحديث أيضاً كلا من الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً بل يشمل الشبهات الموضوعية من جهتين من جهة الحكم الغير المعلوم فيها ومن جهة الفعل الغير المعلوم

٢٢

فيها (والظاهر) انه لا وجه للاحتمال الثاني فان الموصول فيما لا يعلمون (إما ظاهر) في الفعل بقرينة الأخوات وهي ما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطروا إليه بل الخطأ والنسيان والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق فإن كل هذه أفعال للمكلف (أو ظاهر) في العموم الشامل للحكم والفعل جميعاً بمقتضى وضعه للعموم لغة فيدور الأمر بين هذين الاحتمالين أي الأول والثالث (وقد أورد الشيخ) أعلى الله مقامه على الاحتمال الثالث بإيرادين (قال) بعد ذكر الحديث الشريف والاستدلال به (ما لفظه) ويمكن ان يورد عليه بان الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة أخواتها هو الموضوع أعني فعل المكلف الغير المعلوم كالفعل الّذي لا يعلم انه شرب الخمر أو شرب الخل وغير ذلك من الشبهات الموضوعية فلا يشمل الحكم الغير المعلوم مع ان تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم لأن المقدر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة (انتهى) ويعني بذلك ان المؤاخذة انما تكون على الفعل المحرم لا على نفس الحرمة.

(أقول)

والظاهر أن الاحتمال الثالث هو المتعين من بين الاحتمالات إذ لا وجه لرفع اليد عن العموم الثابت للموصول بمقتضى الوضع اللغوي بمجرد كون المراد من الأخوات خصوص الفعل بعد جواز إبقاء الموصول فيما لا يعلمون على عمومه الوضعي واستعماله فيما هو معناه الحقيقي (ودعوى) ان تقدير المؤاخذة في الرواية مما لا يلائم عموم الموصول نظراً إلى انه لا معنى للمؤاخذة على نفس الحكم (مما لا وجه له) فإن التقدير بالنسبة إلى الحكم غير محتاج إليه إذ الحكم بنفسه قابل للرفع ولو بمعنى رفع تنجزه وهو المرتبة الأخيرة منه فترتفع المؤاخذة بتبعه بل بالنسبة إلى ما سوى الحكم أيضاً غير محتاج إليه غايته أن إسناد الرفع إليه يكون مجازاً بلحاظ المؤاخذة من قبيل إسناد السؤال إلى القرينة مجازاً بلحاظ الأهل.

٢٣

(نعم) يلزم حينئذ أن يكون إسناد الرفع إلى بعض افراد الموصول حقيقاً وبالنسبة إلى بعضها الآخر مجازياً وهو سهل يسير (هذا) مضافاً إلى جواز تقدير المؤاخذة بالنسبة إلى الجميع حتى الحكم فإن المؤاخذة على كل شيء بحسبه فالمؤاخذة على الفعل هو على ارتكابه وعلى الحكم بترك امتثاله ولعل هذا أظهر من الأول وأقوى.

(قوله لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً فلا دلالة على ارتفاعها ... إلخ)

هذا الإشكال مع جوابه مأخوذان عن كلام للشيخ في المقام فإنه أفاد أولا (ما ملخصه) انه لو بنينا على عموم رفع الآثار فالمراد بالآثار المرفوعة بحديث الرفع هي الآثار المجعولة التي وضعها الشارع لأنها هي القابلة للارتفاع برفعه (ثم أشكل) على نفسه بما حاصله انه على ما ذكر يخرج أثر التكليف فيما لا يعلمون بناء على عموم الموصول وشموله للحكم والفعل جميعاً عن مورد الرواية فإن المؤاخذة ليست من الآثار المجعولة الشرعية (ثم أجاب عنه) بما ملخصه ان أثر التكليف المجهول هو إيجاب الاحتياط لحفظ الواقعيات وهو أمر مجعول وسبب لاستحقاق المؤاخذة على التكليف المجهول وهو أمر غير مجعول (قال) فالمرتفع أولا وبالذات أمر مجعول يترتب عليه ارتفاع أمر غير مجعول (انتهى) (ومن هنا يعرف) أن مراد المصنف من قوله فإنه يقال إنها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلّا انه مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من إيجاب الاحتياط شرعاً فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ... إلخ (هو هكذا) ان المؤاخذة وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً قابلا للرفع ولكنها مما يترتب على التكليف المجهول بسبب ما هو أثره الشرعي القابل للرفع وهو إيجاب الاحتياط فإذا دل حديث الرفع على رفع التكليف المجهول فقد دل على عدم إيجاب الاحتياط المستتبع لعدم استحقاق المؤاخذة عليه.

(وبالجملة) إن للتكليف المجهول أثرين مترتبين عليه بنفسه أحدهما شرعي

٢٤

وهو إيجاب الاحتياط والآخر عقلي وهو استحقاق العقاب على مخالفته غايته ان الشرعي سبب لترتب العقلي.

(أقول)

إن المؤاخذة وإن لم تكن هي أثراً مجعولا شرعاً ولكن أمرها بيد الشارع وهي تحت قدرته وسلطته فيمكنه رفعها بمعنى أن لا يؤاخذ على التكليف المجهول.

(نعم) إذا كان المراد من المؤاخذة استحقاقها كما يظهر من القول المتقدم للمصنف (المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته) فهو أثر لا يقبل الرفع شرعاً إلّا برفع منشئه وهو إيجاب الاحتياط المرتفع برفع التكليف المجهول إلا ان المصنف ممن لا يحتاج إلى هذا الجواب أصلا بعد ما التزم ان المراد من الموصول فيما لا يعلمون هو الإلزام المجهول وهو بنفسه مرفوع من غير حاجة إلى تقدير المؤاخذة أبداً (اللهم) إلا ان يقال إنه يحتاج إلى هذا الجواب لسائر الفقرات مما يحتاج إلى تقدير المؤاخذة ونحوها جداً فتأمل جيداً.

(قوله لا يقال لا يكاد يكون إيجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول بل على مخالفة نفسه كما هو قضية إيجاب غيره ... إلخ)

(حاصل الإشكال) ان إيجاب الاحتياط وإن كان أثراً شرعياً للتكليف المجهول وهو قابل للرفع ولكنه ليس سبباً لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول بل على مخالفة نفسه كما هو مقتضي سائر الأوامر الصادرة من المولى (وحاصل الجواب) ان إيجاب الاحتياط لو كان نفسياً لكان موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفة نفسه ولكنه طريقي قد شرّع لأجل حفظ الواقعيات في المشتبهات فيوجب استحقاق العقاب على الواقع المجهول في المشتبهات كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطريقيين كما في موارد الأمارات بناء على الطريقية وجعل الأحكام الظاهرية فإن الإيجاب والتحريم الطريقيين المجعولين في موارد الأمارات منجزان للواقع عند الإصابة يوجبان استحقاق العقاب على مخالفته لا مخالفة

٢٥

نفسهما فكما صح أن يحتج بهما عند الإصابة على مخالفة الواقع بنفسه فكذلك صح ان يحتج بإيجاب الاحتياط عند الإصابة على عدم مراعاة الواقع بنفسه.

(قوله وقد انقدح بذلك ان رفع التكليف المجهول كان منة على الأمة حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط فرفعه ... إلخ)

(لا إشكال) في ان رفع التكليف المجهول امتناني حيث كان له تعالى وضعه بوضع ما هو مقتضاه من إيجاب الاحتياط الّذي هو سبب لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ولم يفعل فهو منة منه تعالى على الأمة (ولكن الكلام) في أن رفع المؤاخذة على ساير الأمور من الخطأ والنسيان وأخواتهما هل هو امتناني أيضاً ومن خواص أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يشعر به الحديث الشريف حيث يقول (رفع عن أمتي) المشعر بعدم الرفع عن ساير الأمم (فيه إشكال) نظراً إلى استقلال العقل بقبح المؤاخذة على تلك الأمور فلا منة في رفعها ولا اختصاص للرفع بأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وقد أجاب الشيخ) أعلى الله مقامه عن الإشكال بما ملخصه ان الّذي يهون الأمر في الرواية جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضاً لقوله تعالى.

(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)

الآية (قال) والّذي يحسم أصل الإشكال منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الأمور بقول مطلق فإن الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفظ لا يقبح المؤاخذة عليهما وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط وكذا في التكليف الشاق الناشئ عن اختيار المكلف (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

(اما منع استقلال العقل) بقبح المؤاخذة على ما لا يعلمون بمجرد إمكان الاحتياط

٢٦

بلا دليل عليه من الشرع فممنوع أشد المنع فإنه هدم لما سيأتي من استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان الّذي هو من أقوى أدلة البراءة بل العقل يستقل بقبح العقاب على ما لا يعلمون ولا يكاد يسقطه عن حكمه به مجرد إمكان الاحتياط أبداً ما لم يقم دليل عليه شرعاً (وعليه) فرفع التكليف المجهول غير امتناني (إلا أن يقال) إن رفعه امتناني من ناحية أخرى وهي كما أشير آنفاً جواز وضع منشأ استحقاق العقاب عليه وهو إيجاب الاحتياط كما أفاد المصنف فحيث ان سبحانه وتعالى لم يضعه فقد منّ على الأمة وهذا غير دعوى عدم قبح العقاب عقلا على التكليف المجهول بمجرد إمكان الاحتياط كما لا يخفى.

(واما الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه) (فإن كان) المراد من هذه الأمور ما كان حاصلا بطبعه فلا إشكال في استقلال العقل أيضاً بقبح المؤاخذة عليها فيكون الرفع غير امتناني (وإن كان) المراد منها ما كان حاصلا من ترك التحفظ وسوء الاختيار فالعقل حينئذ وإن لم يستقل بقبح المؤاخذة عليها ويكون الرفع امتنانياً ولكن الظاهر عدم رفعها كي يكون امتنانياً إذ لم يعلم ان من وقع في الحرام كالزناء وشرب الخمر ونحوهما خطأ أو نسيانا أو إكراهاً أو اضطراراً مستنداً إلى ترك التحفظ وسوء الاختيار لا يكون معاقباً شرعاً بل يستحق العقاب بلا كلام فالرفع الامتناني غير واقع والواقع منه غير امتناني.

(ومن هنا يظهر حال ما لا يطيقون) في الحديث الشريف (فإن كان) المراد منه ما لا يقدر عليه فالعقل يستقل بقبح المؤاخذة عليه قطعاً ويكون الرفع غير امتناني (وإن كان) المراد منه ما لا يحتمل عادة إلا بكلفة شديدة وهو الظاهر من الرواية كما صرح به الشيخ أعلى الله مقامه (قال) والمراد بما لا يطاق في الرواية هو ما لا يتحمل في العادة لا ما لا يقدر عليه كالطيران في الهواء (انتهى) فالعقل لا يستقل بقبح المؤاخذة عليه ويكون الرفع امتنانياً قهراً.

(واما الحسد فان كان) المراد منه هو محض الصفة الكامنة في النّفس ما لم

٢٧

يظهر أثرها باللسان أو باليد كما يظهر من رواية الكافي على ما تقدم حيث قال في آخرها (والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد) فلا إشكال حينئذ في كونه أمراً غير اختياري يستقل العقل بقبح المؤاخذة عليه فيكون الرفع غير امتناني (وإن كان) المراد منه إظهاره باللسان واليد فالرفع وان كان امتنانياً ولكن الحسد بهذا المعنى مما لم يرفع قطعاً بشهادة ما ورد في النهي عنه مثل قوله عليه‌السلام (اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً) (أو ان الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب) (أو ان آفة الدين الحسد والعجب والفخر) إلى غير ذلك مما ذكره في الوافي في كتاب الإيمان والكفر في باب الحسد فان النهي لا يكاد يتعلق إلّا بأمر اختياري لا بصفة كامنة نفسانية خارجة عن تحت القدرة والاختيار وهكذا الّذي يأكل الإيمان ويكون آفة للدين لا يكون إلّا فعلا اختيارياً للمكلف لا صفة كامنة خارجة عن تحت الاختيار والقدرة.

(واما الطيرة) فالظاهر انها في الأصل التشؤم بالطير كما أفاد الشيخ أعلى الله مقامه (قال) لأن أكثر تشأم العرب كان به خصوصاً الغراب (انتهى) (وعليه) فهي أمر غير اختياري فيكون الرفع غير امتناني (ويؤيده) ما ذكره الشيخ أيضاً من انه روى (ثلاثة لا يسلم منها أحد الطيرة والحسد والظن قيل فما نصنع قال إذا تطيرت فامض وإذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقق) (قال) والبغي عبارة عن استعمال الحسد (انتهى) ووجه التأييد ان الطيرة والحسد والظن لو كانت هي أموراً اختيارية وكانت هي تحت القدرة والاختيار لم يجز أن لا يسلم منها أحد من الناس وفيهم الأنبياء والمعصومون.

(واما التفكر في الوسوسة في الخلق) أو الوسوسة في التفكر في الخلق على ما في رواية الكافي (فالظاهر) انه أمر غير اختياري أيضاً فالرفع غير امتناني (وقد ذكر) في الوافي في كتاب الإيمان والكفر في باب الوسوسة أحاديث متعددة في شأنها

(منها) ما رواه محمد بن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

٢٨

الوسوسة وإن كثرت فقال لا شيء فيها تقول لا إله إلّا الله.

(ومنها) ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قالت قلت له يقع في قلبي أمر عظيم فقال قل لا إله إلّا الله قال جميل فكلما وقع في قلبي شيء قلت لا إله إلّا الله عني.

(ومنها) ما رواه ابن أبي عمير عن محمد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا رسول الله هلكت فقال هل أتاك الخبيث فقال لك من خلقك فقلت الله تعالى فقال لك الله من خلقه فقال أي والّذي بعثك لكان كذا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك والله محض الإيمان قال ابن أبي عمير فحدثت بذلك عبد الرحمن بن الحجاج فقال حدثني أبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما عني بقوله هذا والله محض الإيمان خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض ذلك في قلبه إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة فراجع الباب المذكور.

(بقي الكلام) في معنى الآية الشريفة ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ... إلخ.

(فنقول) اما قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) فيظهر من الطبرسي أن فيه وجوهاً.

(أحدها) ان المراد بنسينا تركنا كقوله تعالى نسوا الله فنسيهم أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه والمراد بأخطأنا أذنبنا لأن المعاصي توصف بالخطإ من حيث انها ضد للصواب وإن كان فاعلها متعمداً.

(ثانيها) ان معنى قوله إن نسينا إن تعرضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر والغفلة عن الواجب أو أخطأنا أي تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ويحسن الدعاء بذلك كما يحسن الاعتذار منه.

٢٩

(ثالثها) ان معناه لا تؤاخذنا إن نسينا أي إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو والغفلة أو أخطأنا أي فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به وان كان مأموناً منه المؤاخذة بمثله (واما قوله تعالى ربنا ولا تحمل علينا إصراً) فيظهر من الطبرسي أيضا ان فيه وجهين.

(أحدهما) أن معناه لا تحمل علينا عهداً نعجز عن القيام به ولا تعذبنا بتركه ونقضه (قال) عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع والسدي.

(ثانيهما) ان معناه لا تحمل علينا ثقلا عن الربيع ومالك وعطا يعني لا تشدد الأمر علينا كما حملته على الذين من قبلنا أي على الأمم الماضية والقرون الخالية لأنهم كانوا إذ ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وأخذ عليهم من العهود والمواثيق وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفاً عنها (واما قوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) ففيه وجوه أيضاً.

(أحدها) ما يثقل علينا تحمله من أنواع التكاليف والامتحان مثل قتل النّفس عند التوبة وقد يقول الرّجل لأمر يصعب عليه إني لا أطيقه.

(ثانيها) ان معناه ما لا طاقة لنا به من العذاب عاجلا وآجلا.

(ثالثها) انه على سبيل التعبد وإن كان تعالى لا يكلف ولا يحمل أحداً ما لا يطيقه.

(قوله فافهم ... إلخ)

ولعله إشارة إلى ان رفع التكليف المجهول وان كان امتنانيا حيث كان له تعالى وضعه بوضع ما يوجب استحقاق العقاب عليه وهو إيجاب الاحتياط (ولكن) رفع المؤاخذة على ساير الأمور من الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا

٣٠

إليه إلى آخر الفقرات ليس امتنانياً على وجه الإطلاق وقد اتضح لك تفصيل الكل واحداً بعد واحد فلا نعيد.

(قوله ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية فيما لا يعلمون ... إلخ)

قد عرفت فيما تقدم ان المراد من الموصول فيما لا يعلمون في نظر المصنف هو الحكم المجهول ومن المعلوم ان الحكم المجهول هو بنفسه قابل للرفع ولو بمعنى رفع تنجزه وهو المرتبة الأخيرة منه من غير حاجة إلى تقدير شيء فيه أصلا (ومن هنا) يقول المصنف إنه لا حاجة إلى تقدير شيء فيما لا يعلمون وان كان في غيره من ساير الفقرات لا بد من تقدير المؤاخذة أو الأثر الظاهر في كل منها أو تمام الآثار كما سيأتي تفصيل الجميع أو إسناد الرفع إليه مجازاً بلحاظ المؤاخذة أو الأثر الظاهر أو تمام الآثار من قبيل إسناد السؤال إلى القرية مجازاً بلحاظ الأهل.

(قوله نعم لو كان المراد من الموصول فيما لا يعلمون ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ... إلخ)

هذا هو الاحتمال الأول من الاحتمالات المتقدمة في موصول ما لا يعلمون (ثم إنه) استدراك عن قوله المتقدم ثم لا يخفى عدم الحاجة ... إلخ فلا تغفل.

(قوله ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح ان المقدر في غير واحد غيرها فلا محيص عن ان يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها ... إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه (ما لفظه) والحاصل ان المقدر في الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل ان يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة وهو الأقرب اعتباراً إلى المعنى الحقيقي وان يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه وان يقدر المؤاخذة في الكل وهذا أقرب عرفاً من الأول وأظهر من الثاني أيضاً لأن الظاهر

٣١

أن نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد (انتهى) (ومحصله) ان في الحديث الشريف من حيث التقدير احتمالات ثلاثة.

(الأول) ان يكون المقدر جميع الآثار من التكليفية والوضعيّة تماماً.

(الثاني) ان يكون المقدر في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه.

(الثالث) ان يكون المقدر في الكل خصوص المؤاخذة وهو اقرب من الأول وأظهر من الثاني.

(فيقول المصنف) انه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح ان المقدر في غير واحد غيرها يعني بها الفقرات الثلاث الآتية في الصحيحة الآتية وهي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا فلا محيص ان يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها أو تمام آثارها من التكليفية والوضعيّة جميعاً.

(أقول)

(أولا) انك قد عرفت آنفاً ان التقدير أمر غير متعين بل الأمر يدور بين تقدير جميع الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة وبين اسناد الرفع إلى تلك الأمور مجازاً بلحاظ الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة.

(وثانياً) ان تقدير جميع الآثار من التكليفية والوضعيّة تماماً غير ظاهر من الحديث الشريف فمن أحدث مثلا في الصلاة أو استدبر فيها خطأ أو نسياناً أو إكراهاً أو اضطراراً أو جهلا لم نعرف من الحديث انه لا تبطل صلاته وان القاطعية للصلاة التي هي أثر وضعي للحدث أو الاستدبار قد ارتفعت بسبب طرو أحد العناوين المذكورة وهكذا إذا ترك جزءاً أو شرطاً في المعاملات لأحد العناوين المذكورة فلو كان الظاهر من الحديث الشريف رفع جميع الآثار من التكليفية والوضعيّة تماماً لعرفنا ذلك منه جداً وهكذا الأمر في تقدير الأثر الظاهر في كل من الفقرات فلا يكون ظاهراً من الحديث الشريف بل الظاهر منه هو تقدير خصوص المؤاخذة بالنسبة إلى الجميع فإنه أقرب وأظهر كما أفاد الشيخ (ثم إن الشيخ)

٣٢

أعلى الله مقامه قال بعد عبارته المتقدمة (ما لفظه) نعم يظهر من بعض الاخبار الصحيحة عدم اختصاص المرفوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة فعن المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعاً عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرّجل يستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك فقال لا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا (الخبر) فان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وان كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضاً إلا ان استشهاد الإمام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة لكن النبوي المحكي في كلام الإمام عليه‌السلام مختص بثلاثة من التسعة فلعل نفي جميع الآثار مختص بها فتأمل (انتهى).

(أقول)

إن التمسك بالصحيحة لإثبات كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار حتى الوضعيّة ضعيف جداً فإن الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا من أصله حتى مع الاختيار فكيف مع الإكراه فكان مقتضي القاعدة أن يبين الإمام عليه‌السلام بطلانه مطلقاً ولم يفعل (ومن هنا) يقوي في النّظر ان الجواب مبني على التقية فكأن الإمام عليه‌السلام لم يتمكن من إظهار الحق وهو بطلان الحلف بتلك الأمور مطلقاً ولو مع الاختيار فاقتصر على بيان بطلانه في مورد السؤال فقط وهو الإكراه بوسيلة الاستشهاد بالنبوي ليسلم من شر الأعداء لا لأن الإكراه رافع للأثر الوضعي واقعاً والله العالم.

(ثم إن) ها هنا امرين لا بأس بالتنبيه عليهما.

(الأول) انه إذا شك في حكم وضعي مثل ما شك في حكم تكليفي فلا إشكال في رفعه ولو ظاهراً بمثل رفع التكليف عيناً فإذا شك في نجاسة الخمر مثلا بناء على كون النجاسة والطهارة من الأحكام الوضعيّة أو شك في ضمان ما يفوت على الحر

٣٣

بسبب حسبة ظلماً يرفعها حديث الرفع بلا كلام وذلك لاندراج الحكم الوضعي تحت عموم الموصول فيما لا يعلمون ولو قيل باختصاصه بالحكم المجهول فقط كما ظهر من المصنف.

(نعم) لو قيل بكون المراد منه خصوص الفعل الغير المعلوم لم يندرج فيه الحكم الوضعي كما لا يندرج فيه التكليفي أيضاً (وهذا كله) غير مربوط بالنزاع المعروف من ان المرفوع بالحديث الشريف هل هو جميع الآثار أو الأثر الظاهر أو خصوص المؤاخذة فإن النزاع المذكور انما هو في خصوص الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقون بل والفعل الغير المعلوم لا في غيره كما لا يخفى.

(الثاني) انه إذا بنينا على كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار فلا إشكال في ان الرفع امتناني ومن خواص هذه الأمة إذ ليس رفعها جميعاً مما استقل به العقل كي لا يكون في رفعها منة وحينئذ فلا ببعد اختصاص رفع الآثار بما إذا لم يكن في رفعها ما ينافي الامتنان (قال الشيخ) أعلى الله مقامه (ما لفظه) واعلم أيضاً انه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الأمة كما إذا استلزم إضرارا المسلم فإتلاف المال المحترم نسياناً أو خطأ لا يرتفع معه الضمان وكذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما اضطروا إليه إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير فليس الإضرار بالغير نظير ساير المحرمات الإلهية المسوغة بالفتح لدفع الضرر (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(قوله كما ان ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا ... إلخ)

قد عرفت فيما نقدم ان الأمر يدور بين تقدير المؤاخذة أو الأثر الظاهر أو جميع الآثار فيكون التجوز في التقدير وبين إسناد الرفع إلى نفس تلك الأمور التسعة مجازاً بلحاظ المؤاخذة أو الأثر الظاهر أو جميع الآثار فيكون التجوز في الإسناد

٣٤

(فيقول المصنف) لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح ان المقدر في غير واحد من الفقرات غيرها فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر أو تمام الآثار أو يكون الإسناد إليها مجازاً بلحاظ الأثر الظاهر أو تمام الآثار.

(قوله ثم لا يذهب عليك ان المرفوع فيما اضطر إليه وغيره مما أخذ بعنوانه الثانوي انما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولى ... إلخ)

(وتوضيحه) انه إذا بنينا على كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار كما صرح به المصنف بقوله فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي ... إلخ فالمرفوع هي الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو وبعنوانه الأولى بحيث كان طرو أحد العناوين الثانوية من الخطأ والنسيان وأخواتهما رافعاً لها لا الآثار المترتبة على نفس تلك العناوين الثانوية كوجوب الكفارة المترتبة على الخطأ في القتل ووجوب سجدتي السهو المترتب على النسيان في بعض أجزاء الصلاة ونحوهما فإن العنوان الثانوي موضوع للآثار المترتبة عليه فكيف يعقل أن يكون هو سبباً لرفعه (وإليه أشار المصنف) بقوله والموضوع للأثر مستدع لوضعه أي لثبوته فكيف يكون موجباً لرفعه ... إلخ.

(قوله لا يقال كيف وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان يكون أثراً لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها ... إلخ)

(حاصل الإشكال) انه ادعيتم أن الآثار المرفوعة بحديث الرفع ليست هي الآثار المترتبة على نفس تلك العناوين الثانوية فإنها موضوعة لها فكيف يعقل أن تكون رافعة لها مع أن إيجاب الاحتياط فيما لا يعلمون وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان هما من الآثار المترتبة على نفس عنوان ما لا يعلم أو عنوان الخطأ والنسيان فكيف يكونان مرفوعين (وحاصل الجواب) انهما من آثار الواقع المجهول أو الواقع الصادر خطأ أو نسياناً لا من آثار عنوان الجهل أو الخطأ أو النسيان فتفطن.

٣٥

في الاستدلال بحديث الحجب

(قوله ومنها حديث الحجب ... إلخ)

وهو حديث موثق كما في الفصول مروي في الوسائل في القضاء في باب وجوب التوقف والاحتياط عن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.

(قوله وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع إلى آخره)

فكما قيل في تقريب الاستدلال بحديث الرفع إن الإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا أي ظاهراً وان كان ثابتاً واقعاً فكذلك يقال في تقريب الاستدلال بحديث الحجب حرفاً بحرف.

(أقول)

إن المصنف وإن استدل هناك بحديث الرفع للبراءة في كل من الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً (حيث قال) فان ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً (ولكن الاستدلال) هاهنا بحديث الحجب للبراءة مطلقاً ولو في الشبهات الموضوعية مشكل جداً فإن بيان الأحكام المجهولة في الشبهات الموضوعية كحرمة هذا الخمر أو ذاك الخمر هو كبيان الأفعال الغير المعلومة كالفعل الّذي لا يعلم انه شرب الخمر أو شرب الخل ليس من شأنه تعالى كي إذا لم تعلم هي صدق عليها انها مما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (ومن هنا يظهر) ان المراد من الموصول هاهنا هو خصوص الحكم المجهول الّذي من شأنه تعالى بيانه كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ونحوهما (وعليه) فلا يستدل بالحديث الشريف الا للشبهات الحكمية فقط دون الموضوعية.

٣٦

(قوله إلّا انه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه ... إلخ)

هذا الإشكال من الشيخ أعلى الله مقامه (قال) بعد ذكر الاستدلال بالحديث الشريف (ما لفظه) وفيه ان الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد لا ما بينه واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ان الله حدد حدوداً فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم (انتهى).

(أقول)

ويظهر من المصنف التسليم لهذا الإشكال حيث سكت عنه ولم يذكر في تضعيفه شيء بل يظهر منه التأييد بقوله حيث انه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى إلى آخره مع ان الإشكال ضعيف غير وارد فإن الحجب كما انه صادق مع عدم بيانه تعالى من أصله فكذلك صادق مع بيانه للعباد واختفائه عليهم بالعرض فإن التكليف في الثاني وإن كان مما بينه تعالى لهم ولكن حيث انه اختفى عليهم وأمكنه سبحانه أن يظهره لهم ثانياً بأسباب خاصة ولم يفعل صدق انه مما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.

٣٧

في الاستدلال بحديث الحل

(قوله ومنها قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه الحديث حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته ... إلخ)

(قد رواه في الوسائل) في التجارة في باب عدم جواز الإنفاق من الكسب الحرام مسنداً عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (وقد ذكره الشيخ) أعلى الله مقامه في الشبهة التحريمية الموضوعية ولفظه كل شيء لكل حلال ... إلخ بإسقاط كلمة هو كما فعل المصنف بل المصنف مضافاً إلى الإسقاط المذكور بدّل قوله عليه‌السلام حتى تعلم حتى تعرف والصحيح ما ذكرناه (ودعوى) ان ما ذكره المصنف لعله رواية أخرى غير رواية مسعدة (غير مسموعة) فان روايات الحل التي ليس فيها تعبير بفيه حلال وحرام منحصرة بحديثين.

(أحدهما) ما ذكر.

(وثانيهما) ما رواه في الوسائل في الأطعمة في باب جواز أكل الجبن ونحوه مما فيه حلال وحرام مسنداً عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة وحيث ان ما ذكره المصنف ليس هو الثاني فيتعين انه هو الأول (وعلى كل حال) يستدل المصنف بهذه الرواية لأصالة البراءة في الشبهة التحريمية مطلقاً سواء كانت

٣٨

موضوعية قد نشأ الشك فيها من اشتباه الأمور الخارجية أو كانت حكمية قد نشأ الشك فيها من عدم الدليل أو غيره (وقد أشار إلى ذلك) بقوله حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته.

(أقول)

إن قوله عليه‌السلام كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام وإن كان وزانه وزان قوله عليه‌السلام كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فلا يأبى عن الشمول لكل من الشبهة الحكمية والموضوعية جميعاً (ولكن الضمير) في انه حرام حيث أكده الإمام عليه‌السلام بكلمة بعينه فهو مما لا يخلو عن اشعار بل عن ظهور في الشيء الخارجي المعلوم على التفصيل فتنحصر الرواية إذاً بالشبهة الموضوعية فقط (مضافاً) إلى أن الأمثلة المذكورة في ذيلها هي مما يؤيد بل تشهد باختصاصها بالشبهة الموضوعية فقط (ومن هنا قال في الوسائل) بعد ذكر الحديث الشريف (ما لفظه) هذا مخصوص بما يشتبه فيه موضوع الحكم ومتعلقه كما مثل به في هذا الحديث وغيره بقرينة الأمثلة وذكر البينة والتصريحات الآتية لا نفس الحكم الشرعي كالتحريم (انتهى) (بل ولعل من هنا) لم يذكره الشيخ أيضاً في الشبهة التحريمية الحكمية ولم يستدل به فيها بل ذكره في الشبهة التحريمية الموضوعية فقط.

(نعم قد ذكر الشيخ) أعلى الله مقامه في الشبهة التحريمية الحكمية الاستدلال بقوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه أخذاً من الشهيد في الذكرى (قال) ويستدل على المطلب أخذاً من الشهيد في الذكرى بقوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (انتهى).

(أقول)

إن روايات الحل التي فيها تعبير بفيه حلال وحرام حسب ما ظفرت عليه في كتب الأخبار أربعة.

٣٩

(الأولى) ما رواه في الوسائل في الأطعمة في باب حكم السمن والجبن وغيرهما إذا خلطه حرام وفي التجارة في باب عدم جواز الإنفاق من الكسب الحرام بسند صحيح عن عبد الله سنان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه فتدعه.

(الثانية) ما رواه في الوسائل في الأطعمة أيضاً في باب جواز أكل الجبن ونحوه مما فيه حلال وحرام مسنداً عن عبد الله بن سليمان قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن (وساق الحديث إلى أن قال) فقال أي الإمام عليه‌السلام وسأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

(الثالثة) ما رواه في الوسائل في الأطعمة في الباب المذكور أيضاً مسنداً عن رجل من أصحابنا قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.

(الرابعة) ما ذكره في المستدرك في التجارة أيضاً في باب عدم جواز الإنفاق من الكسب الحرام عن الشيخ الطوسي في أماليه مسنداً عن الحسين بن أبي غندر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه فتدعه.

(وتقريب الاستدلال بها) على نحو تشمل الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً على قسمين.

(الأول) ما حكاه الشيخ أعلى الله مقامه عن شرح الوافية (وملخصه) ان ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراماً فهو لك حلال (وبعبارة أخرى) كل شيء صح ان تجعله مقسماً لحكمين فتقول هو إما حلال وأما حرام فهو لك حلال فالرواية صادقة على مثل اللحم المشتري من السوق المحتمل

٤٠