عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

عليه‌السلام قال إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن فكلّمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبي جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبي ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار.

(قال) ورواه الصدوق بإسناده عن ابن بكير نحوه (ثم قال) ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله (ثم قال) وعن علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن عبد الله مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام نحوه إلّا أنه قال فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال ثم أمر بها فقلعت ورمى بها إليه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انطلق فاغرسها حيث شئت.

(أقول)

ورواه في الباب المذكور أيضا مسندا عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام باختلاف في اللفظ (قال) في آخره قال أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أراك يا سمرة إلا مضارا اذهب يا فلان فاقطعها واضرب به وجهة.

(ومنها) ما رواه في إحياء الموات أيضا في باب كراهة بيع فضول الماء والكلاء مسندا عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشاوب النخل انه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ فقال لا ضرر ولا ضرار

٣٠١

(أقول)

ورواه في الباب المتقدم أيضا مختصرا.

(ومنها) ما رواه في الشفعة في باب ثبوت الشفعة في الأرضين والدور والمساكن والأمتعة مسندا عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال لا ضرر ولا ضرار وقال إذا أرفت الأرف وحددت الحدود فلا شفعة.

(قال) ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يحيى مثله.

(ومنها) ما رواه في المستدرك في إحياء الموات في باب عدم جواز الإضرار بالمسلم عن دعائم الإسلام.

(قال) روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه سأل عن جدار الرّجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال ليس يجبر على ذلك إلا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ولكن يقال لصاحب المنزل استر علي نفسك في حقك إن شئت فإن كان الجدار لم يسقط ولكن هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه قال لا يترك وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لا ضرر ولا ضرار.

(ومنها) ما رواه في الباب أيضا عن دائم الإسلام.

(قال) وروينا عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لا ضرر ولا ضرار.

(ومنها) ما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه في رسالته المستقلة نقله عن التذكرة ونهاية ابن الأثير وفي الرسائل عن النهاية فقط مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

(ومنها) ما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه في رسالته المستقلة وهي رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام رجل شهد بعيرا مريضا يباع فاشتراه رجل

٣٠٢

بعشرة دراهم فجاء واشترك فيه رجل بدرهمين بالرأس والجلد فقضي أن البعير برء فبلغ ثمنه دنانير قال فقال لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فإن قال أريد الرّأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار قد أعطى حقه إذا أعطى الخمس.

(أقول)

وهاهنا روايتان آخرتان تناسبان الروايات المتقدمة.

(إحداهما) ما رواه في الوسائل في إحياء الموات أيضا في باب عدم جواز الإضرار بالمسلم مسندا عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

(وأخراهما) ما رواه في إحياء الموات أيضا في الباب الخامس عشر مسندا عن محمد بن الحسن قال كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطل هذه الرحى أله ذلك أم لا فوقّع عليه‌السلام يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن.

(قال) ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب قال كتب رجل إلى الفقيه وذكر مثله.

(ثم قال) ورواه الصدوق أيضا كذلك.

(قوله وقد ادعى تواترها مع اختلافها لفظا وموردا ... إلخ)

(قال الشيخ) في الرسائل قد ادعى فخر الدين في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ولكن زاد الشيخ في رسالته المستقلة كلمة ولم أعثر عليه.

(قوله فليكن المراد به تواترها إجمالا بمعنى القطع بصدور بعضها ... إلخ)

قد عرفت ضعف هذا المعنى للتواتر الإجمالي في بحث خبر الواحد في صدر البحث مرّة وأشير إليه عند الاستدلال على اعتباره بالأخبار أخرى وأن الصحيح في معناه

٣٠٣

ما ذكرناه هناك فلا نعيد (والإنصاف) أن أخبار المقام لو كانت متواترة لكانت متواترة معنى بمعنى اتفاقها على معنى واحد وإن اختلفت هي في اللفظ لا متواترة إجمالا بمعنى اختلافها لفظا ومعنى وإن كان بين الكل قدر جامع كل يقول بذلك القدر الجامع فتأمل جيدا.

في بيان مفاد القاعدة

(قوله وأما دلالتها فالظاهر ان الضرر هو مما يقابل النّفع من النقص في النّفس أو الطرف أو العرض أو المال ... إلخ)

شروع في الجهة الثانية من الجهات الثلاث التي أشير إليها في صدر البحث وهي شرح مفاد القاعدة وبيان معنى لا ضرر ولا ضرار.

(وقد حكى الشيخ) أعلى الله مقامه في الرسائل كلام جملة من اللغويين في مادة الضرر والضرار (فيظهر) من محكي الصحاح والنهاية الأثيرية والقاموس أن الضرر ما يقابل النّفع (كما انه يظهر) من الصحاح والمصباح أن الضرر اسم مصدر والمصدر الضرّ (وعليه) فالضر فعل الضار والضرر نتيجته وهو النقص الوارد في النّفس أو الطرف كاليدين والرجلين ونحوهما أو في العرض أو المال.

(قوله تقابل العدم والملكة ... إلخ)

قد تقدم في صدر بحث الضد شرح المتماثلين والمتخالفين والمتقابلين وأن أقسام التقابل أربعة تقابل التضايف وتقابل التضاد وتقابل الإيجاب والسلب وتقابل العدم والملكة وهما الأمران اللذان كان أحدهما عدميا والآخر وجوديا وكان العدمي مما لا يطلق إلا على محل قابل للوجودي كالعمى والبصر والفقر والغنى والضرر والنّفع ونحو ذلك.

٣٠٤

(قوله كما ان الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا إلى آخره)

قد وقع الخلاف في معنى الضرار على أقوال.

(منها) انه فعل الاثنين.

(ومنها) انه الجزاء على الضرر.

(ومنها) أن تضر صاحبك من غير أن تنتفع به.

(ومنها) ان الضرار والضرر بمعنى واحد.

(ومنها) الضيق.

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه في الرسائل (ما لفظه) وعن النهاية الأثيرية (وساق الكلام إلى أن قال) والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين والضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه وقيل الضرر ما يضر صاحبك وتنتفع أنت به والضرار أن تضره من غير أن تنتفع به وقيل هما بمعنى والتكرار للتأكيد (قال الشيخ انتهى).

(ثم حكى عن القاموس) أن الضرار الضيق ولكني راجعت القاموس فوجدت فيه أن الضرر الضيق لا الضرار ولعل النسخ مختلفة أو الشيخ قد اشتبه في النقل (وعلى كل حال) هذه معاني خمسة للضرار.

(أقول)

لا إشكال في أن الضرار هو مصدر من مصادر المفاعلة تقول ضارر يضارر مضاررة وضرارا وضيرارا والأصل في المفاعلة أن يكون من الاثنين إلا ما خرج كما في سافرت الدهر وعاقبت اللص (ولكن الظاهر) أن المراد من الضرار في المقام ليس فعل الاثنين ويشهد لذلك أمور.

(منها) إطلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظ المضار على سمرة حيث قال له في رواية الحذاء ما أراك يا سمرة إلا مضارا وفي رواية ابن مسكان عن زرارة

٣٠٥

إنك رجل مضار ومن المعلوم أن الضرر كان من ناحية سمرة فقط لا من ناحيته وناحية الأنصاري جميعا.

(ومنها) إطلاق الصادق عليه‌السلام لفظ الضرار على ما أراده صاحب الدرهمين في رواية الغنوي حيث قال عليه‌السلام فإن قال أريد الرّأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار مع أن الضرر فيه لم يكن الا من ظرف واحد.

(ومنها) تصريح الصحاح على ما ذكر الشيخ أعلى الله مقامه في الرسائل أن ضرّه وضاره بمعنى.

(ومنها) تصريح المصباح على ما ذكر الشيخ أيضا أن ضاره يضاره مضارة وضرارا يعني ضرّه (والظاهر) ان الشواهد المذكورة كلها كما تشهد على نفي المعنى الأول فكذلك تشهد على نفي المعنى الثاني وهو الجزاء على الضرر فيبقى في البين المعنى الثالث وهو ان تضر صاحبك من غير ان تنتفع به والمعنى الرابع وهو ان يكون الضرار والضرر بمعنى واحد والمعنى الخامس وهو الضيق (ولا يخفى) ان الشاهدين الأخيرين هما يعيّنان المعنى الرابع من بين المعاني الثلاثة ولعل فيهما الكفاية كما لا يبعد ذلك لحصول الوثوق من قولهما وهما من أهل الخبرة فيكون الأقرب من بين المعاني الخمسة ما استظهره المصنف وهو كون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا والله العالم.

(قوله كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة ... إلخ)

إن إطلاق المضار على سمرة وإن كان مما يشهد بعدم كون الضرار فعل الاثنين بل ولا الجزاء على الضرر ولكن مما لا يشهد انه بمعنى الضرر جيء به تأكيدا كما أفاد المصنف وذلك لملاءمته مع المعنى الثالث والخامس أيضا من المعاني المتقدمة.

(قوله وحكى عن النهاية ... إلخ)

عطف على إطلاق المضار على سمرة ولكن لا يخفى انه لم يحك عن صاحب النهاية بنفسه كون الضرار بمعنى الضرر بل صاحب النهاية قد حكى ذلك عن الغير قطعا

٣٠٦

(فقال) في آخر كلامه المتقدم وقيل هما بمعنى والتكرار للتأكيد فتذكر.

(قوله ولا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة ... إلخ)

هذا التعليل وإن كان حسنا في حد ذاته ولكن قد عرفت منا أن الشواهد الأربعة المتقدمة على نفي فعل الاثنين هي بعينها مما تشهد على نفي الجزاء على الضرر أيضا.

(قوله كما ان الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاء كناية عن نفى الآثار ... إلخ)

(فنفي الحقيقة) حقيقة هو كما في لا رجل في الدار أو لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ونحو ذلك (ونفي الحقيقة) ادعاء كناية عن نفي الآثار هو كما في لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد أو يا أشباه الرّجال ولا رجال أو لا شك لكثير الشك ونحو ذلك

(قوله فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفى الحقيقة ادعاء لا نفى الحكم أو الصفة كما لا يخفى ... إلخ)

دفع لما قد يتوهم من انه كما يمكن إرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار فكذلك يمكن نفي الحكم ابتداء كما ادعى ذلك في المقام على ما سيأتي تفصيله أو نفي الصفة من الصحة أو الكمال كما ادعى ذلك في لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أي لا صلاة صحيحة الا بها أو في لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد أي لا صلاة كاملة لجار المسجد الا فيه.

(فيقول المصنف) في دفع التوهم إن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء لا نفي الحكم ولا نفي الصفة وإلّا لما دل على المبالغة كما تقدم في الصحيح والأعم (قال) قدس‌سره هناك عند الاستدلال للصحيح (ما لفظه) واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى في مثل لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد مما يعلم ان المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية لا على الحقيقة وإلّا لما دل على المبالغة (فراجع وتأمل).

٣٠٧

(قوله ونفى الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفى أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة كما لا يخفى ... إلخ)

هذا وجه آخر لترجيح إرادة نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الحكم كما في لا ضرر ولا ضرار أو بلحاظ نفي الصفة كما في لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد على إرادة نفي الحكم أو الصفة ابتداء غير ما تقدم من قضية البلاغة والوجه الآخر هو عبارة عن لزوم التجوز من الثاني.

(إما في التقدير) كما إذا قدّرنا لفظ الحكم أو لفظ الكاملة.

(وإما في الكلمة) بأن يراد من لفظ الضرر الحكم الضرري ومن لفظ الصلاة الصلاة الكاملة (هذا ولكن الظاهر) ان المجاز في التقدير في مثل لا ضرر ولا ضرار لا يكاد يتم إذ المقدار لا بد وان يكون كلمة تناسب المذكور بحيث يصح المعنى ويتم كتقدير الأهل في واسأل القرية أو الماء في جرى الميزاب وليس في المقام ما يناسب قوله لا ضرر ولا ضرار إذ لا معنى لتقدير الحكم فيه فتقول مثلا لا ضرر ولا ضرار أي لا حكم ضرر ولا ضرار وهذا مما لا محصّل له (وعليه) فينحصر التجوز هنا لو قيل به بالتجوز في الكلمة باستعمال لفظ الضرر وإرادة الحكم الضرري منه وهذا أيضا بعيد جدا فالأقرب الأظهر في المقام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء كما قال به المصنف بلحاظ نفي الحكم الضرري فتأمل جيدا.

(قوله وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفى الحكم الضرري أو الضرر الغير المتدارك أو إرادة النهي من النفي جدا ... إلخ)

إن في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار وجوه ثلاثة.

(أحدها) أن يكون لنفي الحكم الضرري بمعنى نفي الحكم الشرعي الّذي يلزم منه ضرر على العباد تكليفيا كان أو وضعيا كوجوب الصوم مع المرض أو لزوم البيع مع الغبن ونحو ذلك وهو الّذي يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه اختياره في الرسائل وفي رسالته المستقلة بل لعله المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم.

٣٠٨

(ثانيها) ان يكون لنفي الضرر المجرد عن التدارك أي لا ضرر لم يحكم الشارع بوجوب تداركه وجبرانه وقد تقدم هذا المعنى من الفاضل التوني في ذيل الشرط الثاني من الشروط التي ذكرها لأصل البراءة ونسبه الشيخ أعلى الله مقامه في رسالته المستقلة إلى بعض الفحول.

(ثالثها) ان يكون النفي للنهي والتحريم كما في قوله تعالى لا يمسه إلا المطهّرون أو لا يغتسل ولا يعيد أو في قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ونحو ذلك وقد ذكره الشيخ أعلى الله مقامه في الرسائل وفي رسالته المستقلة جميعا ولم يذكر قائله غير انه اشتهر نسبته في هذا العصر إلى بعض الأعاظم ممن أدركناه.

(ثم إن الوجه الأول) وهو نفي الحكم الضرري يقع على نحوين.

(فتارة) ينفي حقيقة الضرر وماهيته ادعاء كناية عن نفي الحكم الضرري وهذا هو الّذي اختاره المصنف.

(وأخرى) ينفي نفس الحكم الضرري ابتداء مجازا إما في التقدير أو في الكلمة على التفصيل المتقدم آنفا وهذا هو الّذي يظهر من عبارة الشيخ أعلى الله مقامه (قال) في الرسائل (ما لفظه) فاعلم ان المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر بمعنى ان الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا كان أو وضعيا (انتهى) (وقال) في رسالته المستقلة (ما لفظه) الثالث يعني من محامل الحديث ان يراد به نفي الحكم الشرعي الّذي هو ضرر على العباد وانه ليس في الإسلام مجعول ضرري وبعبارة أخرى حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد (انتهى) (وقد استدل المصنف) على بطلان النحو الأخير من الوجه الأول وهو نفي الحكم الضرري ابتداء مجازا إما في التقدير أو في الكلمة وعلى بطلان الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المتقدمة وهو نفي الضرر الغير المتدارك وعلى بطلان الوجه الثالث وهو إرادة النهي من النفي (مضافا) إلى ما تقدم منه من ان قضية البلاغة هو إرادة

٣٠٩

نفي الحقيقة ولو ادعاء وإلا لما دل على المبالغة (ببشاعة) استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه يعني به الحكم الضرري وهكذا إرادة خصوص الضرر الغير المتدارك وأن إرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز إلّا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب.

(أقول)

أما الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المتقدمة وهو نفي الضرر المجرد عن التدارك فمما لا شاهد عليه ولا يساعده فهم العرف فهذا الوجه بمعزل عن الصواب جدا وقد عبّر عنه الشيخ أعلى الله مقامه في رسالته المستقلة بأردإ الاحتمالات وهو كذلك فيبقى في البين الوجه الأول والثالث أي نفي الحكم الضرري أو كون النفي للنهي والتحريم شرعا ولعل الثالث هو أقرب عرفا وأظهر انسباقا سيما في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض طرق قصة سمرة المتقدمة ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن فإن لفظة على مؤمن مما يشعر بحرمة الإضرار به كما لا يخفى (ويؤيده) قول أبي عبد الله عليه‌السلام في الروايتين الأخيرتين إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم أو يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن فان الظاهر من الروايتين الأخيرتين هو التحريم بلا كلام (هذا كله مضافا) إلى ما سيأتي من الموهن القوي لإرادة نفي الأحكام الضررية من القاعدة المذكورة وهي كثرة التخصيصات بل التخصيص الأكثر.

(نعم قد يتوهم) أن كلمة الإسلام في مرسلة التذكرة وابن الأثير المتقدمة وهي لا ضرر ولا ضرار في الإسلام مما تناسب نفي الأحكام الضررية في الشريعة نظير نفي الأحكام الحرجية في الدين (أو يتوهم) أن استعمال كلمة (لا) كناية عن التحريم إنما يصح إذا دخل على فعل من أفعال المكلف نظير الرفث والفسوق والجدال لا على مثل الضرر مما هو اسم المصدر وهو النقص الوارد في المال أو البدن أو العرض (ولكن يدفعهما) أن شيئا منهما مما لا ينافي الظهور العرفي في الحرمة كما

٣١٠

في قولك لا خمر ولا مزمار في الإسلام أو لا أنصاب ولا أزلام في الإسلام فمع وجود لفظة الإسلام في المثالين ودخول لفظة (لا) على الأعيان الخارجية فيهما جميعا يفهم منهما عرفا حرمة الخمر والمزمار في الإسلام وهكذا حرمة الأنصاب والأزلام فيه بلا كلام (ثم لا يخفى) ان بناء على الوجه الثالث وهو كون النفي للنهي والتحريم شرعا الظاهر أن لفظة (لا) مستعملة فيما هو معناها الحقيقي من نفي حقيقة الضرر غايته انه ادعاء وكناية عن حرمته وعدم جوازه كما هو ظاهر قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج لا أنها مستعملة في النهي والتحريم مجازا فتأمل جيدا.

بقي أمور مهمة

(الأول) ان الشيخ أعلى الله مقامه بعد ما اختار في الرسائل كون القاعدة لنفي الأحكام الضررية تكليفية كانت أو وضعية (قال) ما لفظه ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن ضرر النّفس أو الغير ابتداء أو مجازاة لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم المضي للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في الشروط والعقود فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره وهذا المعنى قريب من الأول بل راجع إليه (انتهى).

(ومحصله) انه على تقدير إرادة النهي من النفي لا بد من إرادة الفساد مع الحرمة دون محض التكليف فقط فكما ان الأمر بالوفاء في الشروط والعقود يكون للوجوب والصحة جميعا فكذلك النهي في المقام يكون للحرمة والفساد جميعا وذلك للاستدلال به في كثير من رواياته على نفي الحكم الوضعي فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلا في رواية عقبة بن خالد المتقدمة بعد ما قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين

٣١١

والمساكن لا ضرر ولا ضرار أي يحرم إضرار الشريك بالشريك ولا يكون ماضيا أصلا فإذا باع الشرك نصيبه من الأجنبي دون الشريك لا يكون ممضى شرعا.

(الثاني) أنه إذا قلنا إن القاعدة لنفي الأحكام الضررية لا لتحريم الضرر فهل المنفي بها خصوص الأحكام الضررية الوجودية أو مطلق الأحكام الضررية ولو كانت عدمية.

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه في رسالته المستقلة في التنبيه الثاني (ما لفظه) وأما الأحكام العدمية الضررية مثل عدم ضمان ما يفوت على الحر من عمله بسبب حبسه ففي نفيها بهذه القاعدة فيجب ان يحكم بالضمان إشكال (من أن القاعدة) ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية فمعنى نفي الضرر في الإسلام ان الأحكام المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرري ومن المعلوم ان عدم حكم الشرع بالضمان في نظائر المسألة المذكورة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام وحكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول بل هو اخبار بعدم حكمه بالضمان إذ لا يحتاج العدم إلى حكم به نظير حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة أو غيرهما فإنه ليس إنشاء منه بل هو إخبار حقيقة (ومن ان المنفي) ليس خصوص المجعولات بل مطلق ما يتدين به ويعامل عليه في شريعة الإسلام وجوديا كان أو عدميا فكما انه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضررية كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

الظاهر ان الأحكام العدمية على قسمين.

(فتارة) يكون المقصود منها حكم الشارع بعدم التكليف أو الوضع (وفي هذا القسم) لا يبعد جريان القاعدة نظرا إلى كونها ناظرة إلى مطلق ما للشارع من الحكم سواء كان وجوديا أو عدميا وان الحكم بالعدم حكم أيضا فكما ان حكمه بالتكليف أو الوضع إذا صار ضرريا فينفي بالقاعدة فكذلك حكمه بعدم التكليف

٣١٢

أو الوضع في مورد خاص إذا صار ضرريا ينفي بها.

(وأخرى) يكون المقصود منها مجرد عدم حكم الشارع بالتكليف أو الوضع (وفي هذا القسم) لا وجه لجريان القاعدة لأن معنى نفي عدم الحكم بالقاعدة هو إثبات الحكم بها وهو كما ترى ضعيف فإن القاعدة مضروبة لنفي الأحكام الضررية ولو كانت عدمية لا لإثبات الأحكام التي لولاها لزم الضرر.

(الثالث) أن الشيخ أعلى الله مقامه بعد ما استظهر في الرسائل من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار نفي الأحكام الضررية وذكر حكومة القاعدة على جميع العمومات (قال) ما لفظه ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا انه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة إلا أن الّذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي كما لا يخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدم بل لو بنى على العمل بعموم هذا القاعدة حصل منه فقه جديد ومع ذلك فقد استقرت سيرة لفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوي في غاية الاعتبار بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور وان كان في كفايته نظر بناء على أن لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك (إلى أن قال) إلا أن يقال مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلمت كثرته إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل وقد تقرر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي كما إذا قيل أكرم الناس ودل دليل على اعتبار العدالة خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

٣١٣

(أقول)

أما لزوم التخصيصات الكثيرة في القاعدة بناء على كونها لنفي الأحكام الضررية فهي موهن قوي جدا فإن الأحكام الضررية كثيرة في الإسلام كالزكاة والخمس والحج والجهاد والنفقات والكفارات بل الصلاة نظرا إلى توقفها على الستر وتحصيل الماء للغسل أو الوضوء ولو بثمن كثير ونحو ذلك فيجب إخراج هذه الأحكام كلها عن تحت القاعدة وهكذا يجب إخراج الأحكام التي استلزمت أحيانا بعض المراتب النازلة من الضرر كما إذا توقف فعل الصلاة أو الصيام أو الطواف وترك الزنا أو الخمر أو القمار ونحو ذلك من التكاليف المهمة على تحمل وجع في الظهر أو ضعف في القوي أو ضعف وعصر أو نقص درهم أو درهمين في المال أو ما يقرب من ذلك فإن أمثال هذه الواجبات والمحرمات مما لا تسقط بمثل هذه الأضرار قطعا (وهذا بخلاف) ما إذا قلنا إن القاعدة هي لتحريم الضرر شرعا فلا يبقى حينئذ إشكال ولا إيراد.

(أما في القسم الأول) فواضح فإنها أضرار من الله تعالى على العباد أوردها عليهم عن حكم ومصالح غالبة عليها والّذي يحرم بالقاعدة هو إضرارنا على أنفسنا أو على غيرنا فخروج هذا القسم الأول عن تحت القاعدة يكون بالتخصص لا بالتخصيص.

(وأما في القسم الثاني) فكذلك لوقوع التزاحم بين تلك الواجبات والمحرمات وبين تلك المراتب النازلة من الضرر فيقدم تلك الواجبات والمحرمات على تلك المراتب من الضرر لأهميتها وأقوائية مناطها.

(وأما استقرار سيرة الفريقين) على الاستدلال بالقاعدة في مقابل العمومات المثبتة للأحكام ففي كفايته في جبر الوهن المذكور نظر كما أفاد أعلى الله مقامه نظرا إلى لزوم تخصيص الأكثر وانه قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك وهو التحريم لا نفي الأحكام الضررية.

٣١٤

(وأما ما أفاده أخيرا) في دفع الوهن المذكور من أن خروج الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل فهو مجرد دعوى لا شاهد عليها وإلّا فيقال بذلك في جميع موارد تخصيص الأكثر كما لا يخفى.

(وبالجملة) لزوم كثرة التخصيصات بل التخصيص الأكثر هو موهن قوي جدا لإرادة نفي الأحكام الضررية من القاعدة المذكورة لا دافع له بما ذكر ولا بغيره بخلاف ما إذا أريد منها تحريم الضرر في الإسلام وعدم جواز إيراده على النّفس أو على الغير فلا إشكال حينئذ ولا إيراد.

(قوله ومثله لو أريد ذاك بنحو التقييد ... إلخ)

أي ومثل استعمال الضرر وإرادة خصوص الضرر الغير المتدارك في البشاعة لو أريد ذاك بنحو التقييد أي بنحو تعدد الدال والمدلول كما في أعتق رقبة مؤمنة فالمقيد قد أريد من لفظ والقيد من لفظ آخر فإن ذلك وإن لم يكن ببعيد ولكنه بلا دلالة على القيد كما في المقام غير سديد إذ لا قرينة في الخبر يدل على تقييد الضرر بالغير المتدارك كما لا يخفى.

(قوله وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز إلّا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب ... إلخ)

الظاهر أن مراده ان إرادة النهي من النفي الداخل على الفعل ليس بعزيز كما في قوله تعالى لا يمسّه إلّا المطهرون أو في قوله عليه‌السلام لا يغتسل ولا يعيد ولكنها لم تعهد في مثل هذا التركيب مما كان المدخول عليه هو الاسم كالضرر (لكنك) قد عرفت منا انها معهودة أيضا كما في قولك لا خمر ولا مزمار في الإسلام أو لا أنصاب ولا أزلام في الإسلام فإن المدخول في المثالين مع كونه عينا خارجيا لا فعلا من افعال المكلف يكون المفهوم منهما حرمة الأمور المذكورة لا نفي حقيقتها وهذا واضح.

٣١٥

(قوله ثم الحكم الّذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها ... إلخ)

(وحاصله) ان الحكم الّذي ينفيه الضرر هو الحكم الثابت للفعل بعنوانه الأوّلي قبل طرو عنوان الضرر لا الحكم المترتب على نفس عنوان الضرر فالوضوء مثلا قبل طرو عنوان الضرر قد تعلق به حكم شرعي وهو الوجوب الغيري الثابت له فإذا طرأه عنوان الضرر فيرتفع به هذا الحكم الشرعي المتعلق به ولا يكاد يرتفع به الحكم الشرعي المترتب على نفس عنوان الضرر مثل قوله من أضر بغيره فعليه كذا وكذا فإن الموضوع مما لا يمكنه رفع حكم نفسه بل يثبته ويقتضيه وإنما يرتفع به الحكم الثابت للغير بطبعه الأوّلي (وقد تقدم) نظير ذلك في فقرات حديث الرفع في البراءة فالقتل مثلا قبل طرو عنوان الخطأ قد تعلق به حكم شرعي وهو الحرمة فإذا طرأه عنوان الخطأ فيرتفع به هذا الحكم ولا يكاد يرتفع به الحكم الشرعي المترتب على نفس عنوان الخطأ مثل قوله من قتل نفسا خطأ فعليه كذا وكذا.

(قوله أو المتوهم ثبوته لها كذلك ... إلخ)

فالضرر في مثل الوضوء مما يرتفع به الوجوب الثابت له بعنوانه الأوّلي وفي الدعاء عند رؤية الهلال ونحوه مما هو شبهة بدوية للوجوب يرتفع به الوجوب المتوهم ثبوته له بعنوانه الأوّلي

في بيان نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام

الأولية أو الثانوية

(قوله ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الأحكام وتقدم أدلته على أدلتها مع أنها عموم من وجه حيث انه يوفق بينهما عرفا ... إلخ) من هاهنا شرع المصنف في الجهة الثالثة من الجهات الثلاث التي أشير إليها في صدر

٣١٦

البحث وهي إيضاح نسبة القاعدة مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأوّلية كأدلة وجوب الصلاة والصيام والوضوء ونحو ذلك أو الثانوية كأدلة نفي العسر والحرج ونحوها.

(أما نسبتها) مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للافعال بعناوينها الثانوية فسيأتي تفصيلها لدى التعليق على قوله ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر ... إلخ فانتظر قليلا.

(وأما مع الأوّلية) (فحاصلها) أن وجه تقديم دليل الضرر على أدلة الأحكام الأوّلية مع ان النسبة بينهما عموم من وجه فإنه قد يكون الضرر ولا صوم مثلا وقد يكون الصوم ولا ضرر قطعا وقد يجتمعان وهكذا إذا لوحظ الضرر مع كل واحد من الواجبات وترك المحرمات (هو التوفيق العرفي) وهو ليس إلّا فيما كان الدليلان على نحو لو عرضا على العرف وفق بينهما يحمل أحدهما على الاقتضائي والآخر على العلية التامة.

(هذا ما اختاره المصنف) في وجه تقديم دليل الضرر على أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية.

(وأما الشيخ أعلى الله مقامه) فقد اختار الحكومة نظرا إلى كون دليل الضرر ناظرا إلى أدلة الأحكام فهي تثبت الأحكام مطلقا ولو كانت ضررية وهو يوجب قصرها وحصرها بما إذا لم تكن ضررية.

(قال في الرسائل ما لفظه) ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري كأدلة لزوم العقود وسلطنة الناس على أموالهم ووجوب الوضوء على واجد الماء وحرمة الترافع إلى حكام الجور وغير ذلك (إلى ان قال) والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه فالأوّل مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين فإنه حاكم على ما دل على أنه لا صلاة

٣١٧

إلا بطهور فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل لا صلاة إلّا بطهور وغيرها ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة والثاني مثل الأمثلة المذكورة يعني بها حكومة مثل أدلة نفي الضرر والحرج ورفع الخطأ والنسيان ونفي السهو عن كثير السهو ونفي السبيل على المحسنين إلى غير ذلك بالنسبة إلى الأحكام الأوّلية.

(وأما المتعارضان) فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الآخر من حيث العموم والخصوص وإنما يفيد حكما منافيا لحكم الآخر وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحققهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعين ان كان الآخر أقوى منه فهذا الآخر الأقوى قرينة عقلية على المراد من الآخر وليس في مدلوله اللفظي تعرض لبيان المراد منه (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

إن التوفيق العرفي بين الدليلين على نحو لو عرضا على العرف وفق بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي والآخر على العلية التامة هو مما يرجع إلى ترجيح أحد الدليلين بأقوائية المناط وأهمية المقتضي وهذا لا يكون إلا في المتزاحمين (وعليه) فإن قلنا إن دليل نفي الضرر ليس إلا لتحريم الضرر وعدم جوازه في الإسلام كسائر المحرمات بدعوى ان كون النفي للنهي والتحريم هو أقرب عرفا وأظهر انسباقا كما تقدم فتقديمه على ساير الأحكام يكون بأقوائية المناط وأهمية المقتضي وإن شئت قلت بالتوفيق العرفي كما أفاد المصنف وأما إذا قلنا إنه لنفي الأحكام الضررية كما اختاره المصنف تبعا للمشهور فلا محالة يكون حاكما على أدلة الأحكام كدليل الحرج ناظرا إليها مضيقا لدائرتها موجبا لحصرها بما إذا لم تكن ضررية كما أفاد الشيخ أعلى الله مقامه (ومن هنا يعرف) أن المصنف ما لزمه من القول بالحكومة لم يقل به وما قال به من التوفيق العرفي لم يلزمه.

٣١٨

(قوله كما هو الحال في التوفيق بين ساير الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية والأدلة المتكفلة لحكمها بعناوين الأوّلية ... إلخ)

فيوفق بينهما بحمل العناوين الأوّلية على الاقتضائية والثانوية على العلية التامة.

(ثم إن الأدلة المثبتة) لحكم الأفعال بالعناوين الثانوية هي مثل أدلة وجوب الوفاء بالشرط أو النذر أو العهد أو اليمين أو أدلة وجوب إطاعة الوالدين أو الزوج أو المولى ونحو ذلك

(وأما الأدلة النافية) للأحكام بالعناوين الثانوية فهي مثل أدلة نفي الحرج والضرر أو دليل رفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ونحو ذلك غايته أن نفي الحرج بل والضرر أيضا بناء على كونه لنفي الأحكام الضررية نفي واقعي ونفي البقية نفي ظاهري بمعنى أن المرفوع فيها خصوص مرتبة التنجز فقط لا الحكم من أصله (ومن هنا يظهر) أن حكومة أدلة الحرج وهكذا أدلة الضرر بناء على كونها لنفي الأحكام الضررية حكومة واقعية من قبيل قوله عليه‌السلام لا شك لكثير الشك وفي البقية حكومة ظاهرية من قبيل حكومة قاعدة الطهارة على دليل اشتراط الصلاة بها وإن ذهب المصنف في الجميع إلى التوفيق العرفي وسيأتي لك شرح الحكومة الواقعية والظاهرية في آخر الاستصحاب إن شاء الله تعالى وقد أشير قبلا مختصرا في بحث الإجزاء فتذكر.

(قوله نعم ربما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر ان الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء بل بنحو العلية التامة ... إلخ)

كما في حرمة قتل المؤمن فإنها حكم بعنوان أوّلي بنحو العلية التامة ولا ترتفع بعنوان ثانوي كالضرر والحرج والاضطرار والإكراه ونحو ذلك أبدا إلا بالخطإ والنسيان وما لا يعلمون إذ لا يعقل ثبوت حكم على حاله وإن كان في أقصى مرتبة القوة مع وجود أحد العناوين الثلاثة بل يرتفع بها لا محالة ولو رفعا ظاهريا بمعنى رفع التنجز فقط لا رفع الحكم من أصله المشترك بين الكل من الخاطي والعامد والذاكر والناسي

٣١٩

والعالم والجاهل جميعا (ومن هنا يظهر) أنه لا حكم لنا بعنوان أوّلي يكون بنحو العلية التامة مطلقا أي بالإضافة إلى تمام العناوين الثانوية.

(فقول المصنف) في المتن وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أوّلي تارة يكون بنحو العلية مطلقا أو بالإضافة إلى عارض دون عارض ليس كما ينبغي بلا كلام (ثم إن الظاهر) أن المراد من الإحراز بوجه معتبر سيما بشهادة قوله الآتي بدلالة لا يجوز الإغماض عنها ... إلخ أن يقوم دليل معتبر مخصوص على كون الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء بل بنحو العلية التامة وهو كما ترى نادر جدا بل لا نحتاج إليه أصلا وذلك لما عرفت من ان التوفيق العرفي بين الدليلين بحمل أحدهما على الاقتضائي والآخر على العلية التامة ليس إلا عبارة أخرى عن ترجيح أحد الطرفين بأقوائية المناط وأهمية المقتضي وهو مما يعرف غالبا بوسيلة الخواصّ والآثار وشدة الاهتمام به شرعا وعدمه من غير حاجة إلى قيام دليل معتبر على ان هذا مثلا أهم وأقوى مناطا من ذلك وهذا واضح.

(قوله وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزوم الإغماض عنها بسببه عرفا ... إلخ)

هذا في قبال قوله المتقدم تارة يكون بنحو العلية مطلقا أو بالإضافة ... إلخ أي وأخرى يكون الحكم الثابت بعنوان أوّلي على نحو لو كانت هناك دلالة على العلية وجب الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض.

(وبعبارة أخرى) يكون بنحو الاقتضاء مطلقا فيرتفع مع أيّ عنوان من العناوين الثانوية الطارية كالضرر والحرج والاضطرار والإكراه ونحو ذلك وهذا كما في الوضوء والغسل وشبههما.

(قوله هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله كما قيل ... إلخ)

أي هذا ولو لم نقل بحكومة دليل العارض على دليل الحكم الثابت بعنوان أوّلي نظرا

٣٢٠