عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

(قوله بل مجرد تركهما كاف في صحتها وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة مع احتماله لأجل التجري ... إلخ)

تضعيف لما أفاده الشيخ أعلى الله مقامه في كلامه المتقدم بقوله فإذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه فإن لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب.

(فيقول المصنف) إن مجرد ترك التعلم والفحص هو مما يكفي في استحقاق العقاب وإن لم يكن هناك تكليف واقعا مع التفاته إليه واحتماله له وذلك لأجل التجري وعدم المبالاة بالتكليف الإلهي وهو حق لا ينكر بعد ما عرفت في محله من استحقاق المتجري للعقاب.

(قوله نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت ولو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما فضلا عما إذا لم يؤد إليها ... إلخ)

(وحاصل الإشكال) ان استحقاق العقاب على مخالفة الواقع إنما يتم في التكاليف المطلقة واما التكاليف المشروطة أو الموقتة فلا يتم فيهما ذلك إذ الواقع فيهما لم يتنجز على المكلف كي يعاقب عليه لا قبل الشرط والوقت ولا بعدهما اما قبل الشرط والوقت فواضح واما بعدهما فكذلك لأجل الغفلة عنه الناشئة عن ترك الفحص والتعلم فكيف يصح العقاب عليه (ومن هنا) قد التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا فيكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع وبه يسهل الأمر حتى في التكاليف المطلقة إذا لم يكف الجواب السابق فيها من كون العقاب على الواقع المغفول عنها لانتهائه إلى ما بالاختيار (وأصل هذا الإشكال) من الشيخ أعلى الله مقامه فإنه بعد ما نسب إلى المشهور من كون العقاب على مخالفة الواقع وذكر مخالفة صاحب المدارك لهم تبعا لشيخه الأردبيلي تردد في أن المشهور القائلين بكون العقاب على مخالفة الواقع (هل يقصدون) بذلك توجه النهي إلى الغافل حين غفلته وهذا مما لا ريب في قبحه (أم يقصدون) بذلك استحقاق العقاب على المخالفة وإن لم يتوجه إليه نهي وقت

٢٨١

المخالفة وهذا حسن إن أرادوا استحقاق العقاب من حين ترك التعلم لا حين المخالفة إذ لا وجه لترقب حضور زمان المخالفة (إلى ان قال ما لفظه) ومما يؤيد إرادة المشهور للوجه الأول أي توجه النهي إلى الغافل حين غفلته دون الأخير أنه يلزم حينئذ أي على الأخير عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجز على المكلف الا بعد دخول أوقاتها فإذا فرض غفلة المكلف عند الاستطاعة عن تكليف الحج والمفروض انه لا تكليف قبلها فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا اما حين الالتفات إلى امتثال تكليف الحج فلعدم التكليف به لفقد الاستطاعة واما بعد الاستطاعة فلفقد الالتفات وحصول الغفلة وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها (قال) ومن هنا قد يلتجئ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه من ان التعلم واجب نفسي والعقاب على تركه من حيث هو لا من حيث إفضائه إلى المعصية أعني ترك الواجبات وفعل المحرمات (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(قوله ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلّا بذلك أو الالتزام بكون المشروط أو الموقت مطلقا معلقا ... إلخ)

(وحاصل الكلام) انه لا يكاد ينحل إشكال استحقاق العقاب في المشروط والموقت إلّا بأحد نحوين (إما بما اختاره) المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك من وجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب عليه لا على مخالفة الواقع (وإما بالالتزام) بكون الواجبات المشروطة والموقتة كلها واجبات مطلقة معلقة ليكون الوجوب فيها حاليا من قبل حصول الشرط والوقت ويترشح منها الوجوب الغيري إلى الفحص والتعلم فإذا تركهما بسوء اختياره فعلا فيكون هو المصحح للعقاب على الواقع المغفول عنه في محله بعدا.

(ثم ان الشيخ) أعلى الله مقامه قد تصدّى لحل الإشكال بنحو ثالث (وأشار إليه المصنف) أيضا في تعليقته على الكتاب (ومحصل كلاميهما) أن العقلاء لا يفرقون

٢٨٢

بين تارك التكاليف المطلقة وتارك التكاليف المشروطة أو الموقتة إذا استند الترك فيها إلى ترك التعلم والفحص ولو من قبل حصول الشرط أو الوقت فيكون مرجعه إلى دعوى أن العقلاء يرون تعلم التكاليف المشروطة أو الموقتة واجبة ولو من قبل حصول الشرط أو الوقت بحيث إذا ترك التعلم وفات الواجب في موطنه بعد حصول الشرط أو الوقت لم يروه معذورا.

(أقول)

نعم ولكن ذلك مما لا يختص بترك الفحص والتعلم فقط بل كل مقدمة وجودية للمشروط أو الموقت هو مما يجب الإتيان به عقلا من قبل حصول الشرط أو الوقت لكن في خصوص ما إذا علم بعدم تهيأ المقدمة من بعد حصول الشرط أو دخول الوقت وذلك حفظا للقدرة على الواجب وتحفظا على عدم فوت التكليف في محله (هذا) والأصح من الجميع في الجواب عن إشكال استحقاق العقاب في الواجبات المشروطة والموقتة هو أن يقال إن التعلم والتفحص فيهما واجب شرعا غيريا لأجل حفظ الواقعيات ولو من قبل حصول الشرط ودخول الوقت بمقتضى إطلاقات أدلة التفقه والتعلم فيكون وجوبهما هو المصحح للعقاب على ترك الواجبات المشروطة أو الموقتة في موطنها أي بعد الشرط أو الوقت ولو كانت هي مغفولة عنها حين الترك بسبب ترك الفحص والتعلم والوجوب الغيري إنما لم يجز تقدمه على الشرط أو الوقت إذا كان ترشحيا قد نشأ من وجوب ذي المتقدمة وأما إذا كان منشأ بخطاب مستقل فمن الجائز تقدمه على وجوب ذي المقدمة فيقول المولى أدخل معي السوق ليتهيأ ويستعد لشراء اللحم فإذا دخل واستعد وتمكن من الشراء قال له اشتر اللحم (وهذا من غير حاجة) إلى الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا لتصح العقوبة عليه (أو بكون) الواجبات المشروطة أو الموقتة كلها مطلقة معلقة ليكون الوجوب فيها حاليا من قبل حصول الشرط أو الوقت ويترشح منها الوجوب الغيري إلى الفحص والتعلم (ولا إلى دعوى) وجوب تعلم الواجبات المشروطة أو

٢٨٣

الموقتة عقلا من قبل حصول الشرط أو الوقت لتختص الدعوى كما عرفت بما إذا علم المكلف أنه لا يتيسر التعلم بعد الشرط أو الوقت لا مطلقا (وقد تقدم) تفصيل هذا التحقيق كله في مقدمة الواجب في ذيل التكلم في المعرفة والتعلم وأنهما مما لا يتبعان وجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط وتقدم أيضا تفصيله بعد ذلك بقليل في ذيل التخلص عن العويصة المشهورة وهي وجوب المقدمة من قبل وجوب ذيها في عدة موارد فراجع الموضعين وتدبرهما بدقة.

(قوله لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم ... إلخ)

لا يخفى انه إذا التزمنا بكون الواجبات المشروطة أو الموقتة مطلقة معلقة فلا بد من اعتبارها على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه كالاستطاعة للحج بان يقول مثلا يجب عليك من الآن الحج عند حصول الاستطاعة بطبعها لا أن يقول يجب عليك من الآن الحج عن استطاعة كي يجب تحصيل الاستطاعة غيريا كسائر المقدمات الوجودية (ولكن هذا الاعتبار) مما يختص بالشرط فقط واما ساير المقدمات الوجودية فلا وجه للتفكيك فيها بين التعلم وغيره بأن يعتبر المشروط بنحو يجب التعلم خاصة من بين مقدماته دون غيره فإنه تفكيك بلا موجب إذ لا مانع عن اعتبار المشروط بنحو يجب تمام مقدماته الوجودية من التعلم وغيره الا الشرط فقط إذ غاية ما يلزم حينئذ أن يجب تمام مقدمات الحج مثلا من قبل الاستطاعة وهو مما لا محذور فيه إذا كان بنحو الواجب الموسع كما لا يخفى.

(قوله لتكون العقوبة لو قيل بها على تركه ... إلخ)

كلمة لو قيل بها مما لا يخلو عن مسامحة فإن العقوبة مما لا كلام فيه وإنما الكلام في أنها هل هي على مخالفة الواقع أو على ترك التعلم ولعل مقصوده من ذلك الإشارة إلى إمكان عدم تحقق العقوبة للعفو والمغفرة ولكن الصحيح حينئذ كان ان يقول ليكون استحقاق العقوبة على تركه ... إلخ.

٢٨٤

(قوله ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم انما هو لغيره لا لنفسه ... إلخ)

إشارة إلى ما أفاده الشيخ أعلى الله مقامه في توجيه كلام المدارك ومن تبعه من أن التعلم واجب نفسي وان العقاب على تركه من حيث هو لا من حيث إفضائه إلى المعصية أعني ترك الواجبات وفعل المحرمات (قال) ما لفظه وما دل بظاهره من الأدلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمول على بيان الحكمة في وجوبه وأن الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلف قابلا للتكليف بالواجبات والمحرمات حتى لا يفوته منفعة التكليف بها ولا يناله مضرة إهماله عنها فإنه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه صيرورة المكلف قابلا للخطاب (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه (ومن هنا) قد أفاد المصنف في وجه عدم المنافاة أن وجوب التعلم لغيره مما لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره بل يكون نفسيا للتهيؤ لإيجاب غيره.

(قوله فافهم ... إلخ)

ولعله إشارة إلى عدول الشيخ أعلى الله مقامه أخيرا عما أفاده في توجيه كلام المدارك ومن تبعه من أن التعلم واجب نفسي (قال) بعد عبارته المتقدمة (ما لفظه) لكن الإنصاف ظهور أدلة وجوب العلم يعني به التعلم في كونه واجبا غيريا (مضافا) إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة يعني به مثل قوله تعالى في الخبر المتقدم هلا تعلمت حتى تعمل (انتهى).

(أقول)

هذا مضافا إلى أن الوجوب النفسيّ التهيئي مما لا محصل له فإن الواجب إن كان نفسيا فما معنى كونه تهيئيا وإن كان تهيئيا فما معنى كونه نفسيا فإن التهيئي ليس إلّا الغيري كما لا يخفى.

٢٨٥

(قوله واما الأحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة فيما لا يتأتى منه قصد القربة ... إلخ)

(يظهر) من هذه العبارة أن المعيار في الصحة والفساد في المعاملة هو موافقتها مع الواقع ومخالفتها له فإن وافقته صحت وإن خالفته بطلت (وأن المعيار) في العبادة أمران موافقتها مع الواقع وتمشي قصد القربة فإن وافقت العبادة مع الواقع وتمشي قصد القربة صحت وإلّا بأن خالفت الواقع أو وافقته ولم يتمش قصد القربة لتردد العامل بالبراءة قبل الفحص وعدم جزمه بأحد الطرفين بطلت (ويستفاد هذا كله) من كلام الشيخ أيضا (قال) أعلى الله مقامه (ما لفظه) وأما الكلام في الحكم الوضعي وهي صحة العمل الصادر من الجاهل وفساده فيقع الكلام فيه (تارة) في المعاملات (وأخرى) في العبادات.

(أما المعاملات) فالمشهور فيها أن العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد أم لا عنهما فاتفقت مطابقته للواقع لأنها من قبيل الأسباب لأمور شرعية فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتب المسببات عليها (فمن عقد) على امرأة عقدا لا يعرف تأثيره في حلية الوطء فانكشف بعد ذلك صحته كفى في صحته من حين وقوعه وكذا لو انكشف فساده رتب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع (وكذا من ذبح) ذبيحة بفري ودجيه فانكشف كونه صحيحا أو فاسدا (ثم ساق) الكلام طويلا (إلى أن قال) هذا كله حال المعاملات

(واما العبادات) فملخص الكلام فيها انه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما تقتضيه البراءة كأن صلّى بدون السورة (فإن كان) حين العمل متزلزلا في صحة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحة بعد ذلك بلا خلاف في ذلك ظاهرا لعدم تحقق نية القربة لأن الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به (اما لو غفل) عن ذلك أو سكن فيه إلى قول من يسكن إليه من أبويه وأمثالهما فعمل باعتقاد التقرب فهو خارج عن محل

٢٨٦

كلامنا الّذي هو في عمل الجاهل الشاك قبل الفحص بما تقتضيه البراءة إذ مجري البراءة في الشاك دون الغافل أو معتقد الخلاف (وعلى أي حال) فالأقوى صحته إذا انكشف مطابقته للواقع إذ لا يعتبر في العبادة إلّا إتيان المأمور به على قصد التقرب والمفروض حصوله (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(قوله مع عدم دليل على الصحة والإجزاء إلا في الإتمام في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر ... إلخ)

وقد أجاد المصنف في عبارته هذه حيث يظهر منها ان مواضع الصحة والإجزاء هي ثلاثة على طبق ما قرر في محله الإتمام في موضع القصر وكل من الجهر والإخفات في موضع الآخر (وهذا) بخلاف عبارة الشيخ أعلى الله مقامه حيث يظهر منها أن القصر في موضع الإتمام أيضا من مواضع الصحة والإجزاء وهو مسامحة في التعبير وإن كان المقصود معلوما من الخارج (قال) في الأمر الثاني مما ختم به الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص (ما لفظه) قد عرفت ان الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال غير معذور لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الآثار يعني بها الصحة والفساد (إلى ان قال) وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والإتمام والجهر والإخفات فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(قوله مع الجهل مطلقا ولو كان عن تقصير ... إلخ)

نعم قد أفتى المشهور بصحة الصلاة وتماميتها في الموضعين كما في المتن مع الجهل مطلقا ولو كان عن تقصير ولكن ذلك مع الغفلة أو اعتقاد الخلاف واما مع الالتفات والتزلزل فلا يفتى أحد ظاهرا بالصحّة كما تقدم في كلام الشيخ أعلى الله مقامه لعدم تمشي قصد القربة (ومن هنا يظهر) أن معذورية الجاهل من حيث الحكم الوضعي في الموضعين هي خارجة عما هو محل الكلام وهو العامل بالبراءة بدون

٢٨٧

الفحص فإن العمل بها لا يكون إلّا مع الشك والالتفات لا مع الغفلة أو اعتقاد الخلاف فتأمل جيدا.

(قوله وإن صحت وتمت إلّا أنها ليست بمأمور بها ... إلخ)

الصحة والتمامية هاهنا بمعنى سقوط الفعل ثانيا كما سيأتي في عبارة الشيخ أعلى الله مقامه لا بمعنى المطابقة مع الواقع.

(قوله ان قلت كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها ... إلخ)

(حاصل الإشكال) كما يستفاد من كلام الشيخ أعلى الله مقامه أن ظاهر الأصحاب ان الجاهل في المواضع المذكورة معذور من حيث الحكم الوضعي فقط أي من حيث الصحة وعدم الإعادة دون التكليفي أي استحقاق العقوبة والمؤاخذة (ومن المعلوم) أن استحقاق العقوبة والمؤاخذة لا يكاد يكون إلا مع بقاء التكليف بالواقع فحينئذ يقع الكلام في ان الإتمام مثلا في موضع القصر إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط به الواجب وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع بقاء الأمر بالقصر (قال) أعلى الله مقامه بعد عبارته المتقدمة (ما لفظه) وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي وهي الصحة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة وهو الّذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا فحينئذ يقع الإشكال في انه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصر فيكون تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا وما يأتي به من الإتمام المحكوم بكونه مسقطا إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط به الواجب وان كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر (ثم قال) ودفع هذا الإشكال إما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقع المتروك وإما بمنع تعلقه بالمأتي به وإما بمنع التنافي بينهما (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

٢٨٨

(أقول)

أما منع تعلق التكليف فعلا بالواقع المتروك فهو مما لا ينحل به الإشكال فإن التكليف بالواقع وان سقط عن الفعلية بسبب الغفلة الناشئة عن ترك التعلم كسائر الموارد الساقطة فيها التكليف عن الفعلية بسبب الجهل والغفلة وترك التفقه ولكن الإنشائيّ منه المشترك بين العالم والجاهل باق على حاله فحينئذ يقع الإشكال في أن المأتي به إن لم يكن مأمورا به فكيف أسقط الأمر بالواقع وان كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع الأمر بالواقع (وأما منع تعلق التكليف بالمأتي به) فهو مما لا ينحل أيضا به الإشكال بل الإشكال باق على حاله إذ يقال حينئذ إن المأتي به مع عدم كونه مأمورا به كيف أسقط الأمر بالواقع.

(نعم ينحصر) حلّ الإشكال (إما بمنع التنافي) بين الأمرين بالالتزام بالترتب بينهما كما سيأتي من كاشف الغطاء (أو بمنع) تعلق الأمر بالمأتي به ولكن مع الالتزام بعدم إمكان تدارك الواقع بالإعادة أو القضاء بعد الإتيان بما أتى به (ومما ذكرنا يظهر لك ضعف) ما أفاده المصنف في الكتاب لدفع الإشكال مما محصله أن الإتمام مثلا غير مأمور به ولكنه حيث كان مشتملا على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في حد ذاتها وان كان دون مصلحة القصر فسقط به الأمر بالقصر وإنما لم يؤمر به في عرض الواقع تخييرا لكون مصلحة الثاني أكمل وأتم (ووجه الضعف) ان التفاوت بين مصلحة الإتمام والقصر (ان كان) بمقدار يسير فهذا مما لا يمنع عن الأمر بكل منهما في عرض الآخر تخييرا غايته أن الثاني يكون من أفضل الافراد (وان كان) بمقدار مهم فهذا مما يوجب الأمر بالإعادة والقضاء لدرك المهم اللازم (وعليه) فالصحيح في مقام الجواب هو دعوى عدم إمكان تدارك المصلحة بالإعادة أو القضاء بعد ما أتى بالإتمام جهلا نظير ما إذا امره بشرب ماء بارد فشرب ماءً حارا فلم يمكن التدارك بسبب امتلاء المحل وهذا كله

٢٨٩

من غير فرق بين كون الإتمام المأتي به مشتملا على مقدار مهم من المصلحة أم غير مشتمل عليها أصلا فتأمل جيدا.

(قوله وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي امر بها حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها كما هو ظاهر إطلاقاتهم ... إلخ)

(هذا إشكال) آخر أورده المصنف من عند نفسه ولم يؤشر إليه الشيخ أعلى الله مقامه (وحاصله) ان ظاهر إطلاقات الأصحاب أن من أتى بالإتمام مثلا في موضع القصر جهلا بالحكم يستحق العقاب حتى فيما إذا تمكن من الإعادة في الوقت بأن ارتفع جهلة قبل مضي الوقت وهو مشكل جدا إذ لا وجه لاستحقاق العقاب بعد التمكن من الإتيان بالمأمور به الواقعي في وقته (وقد أجاب عنه المصنف) بما أشرنا به آنفا من أن مصلحة الواقع غير قابلة للاستيفاء والتدارك بعد الإتيان بالإتمام مثلا جهلا فاستحقاق العقاب إنما هو لفوت الواقع عنه بسوء اختياره وهو ترك التعلم المفضي إلى فوته.

(قوله ان قلت على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ... إلخ)

(حاصل الإشكال) ان بناء على ما تقدم آنفا من أن مع استيفاء مصلحة الإتمام في موضع القصر أو مصلحة كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي هي في المأمور به يكون الإتمام في موضع القصر جهلا وهكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر كذلك سببا لتفويت الواجب والسبب المفوت للواجب حرام وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام فكيف يقال إنه صح وتم (وحاصل الجواب) أن الإتمام في موضع القصر وهكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر ليس سببا لفوت الواجب بحيث يتوقف الواجب على عدمه توقف الشيء على عدم المانع كي يجب عدمه غيريا ويحرم فعله ويفسد بل الإتمام والقصر وهكذا الجهر والإخفات ضدان فعدم كل منهما في عرض وجود

٢٩٠

الآخر لا تقدم له عليه كما ان وجود كل منهما في عرض عدم الآخر لا تقدم له عليه (وعليه) فإذا وجب أحد الضدين لم يحرم ترك الآخر مقدمة له كي يحرم فعله ويفسد إذا كان عبادة كما انه إذا وجب ترك أحد الضدين لم يجب فعل الآخر مقدمة له (وقد تقدم تفصيل) عدم التمانع بين الضدين وعدم التوقف من كلا الطرفين لا وجود هذا على عدم ذاك ولا عدم ذاك على وجود هذا في بحث الضد مشروحا فلا نعيد.

(قوله لا يقال علي هذا فلو صلّى تماما أو صلّى إخفاتا في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة ... إلخ)

(حاصل الإشكال) أن بناء على ما تقدم من اشتمال الإتمام في موضع القصر وهكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها وأن مع استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الواجب إذا صلّى المكلف تماما في موضع القصر أو صلى جهرا أو إخفاتا في موضع الآخر عالما عامدا كانت صلاته صحيحة وإن استحق العقاب على مخالفة الواجب (وحاصل الجواب) أن ذلك ثبوتا مما لا مانع عنه غير انه إثباتا لا دليل لنا على الاشتمال على المصلحة مطلقا حتى في صورة العلم والعمد وذلك لاحتمال الاختصاص بصورة الجهل فقط كما لا يخفى.

(قوله وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب ... إلخ)

إن بعض الفحول هو كاشف الغطاء رحمه‌الله كما أشير قبلا فهو المتصدي لدفع الإشكال الأول المتقدم من ان الإتمام مثلا في موضع القصر إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط به الواجب وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع الأمر بالواقع أعني القصر (وحاصل الدفع) هو منع التنافي بين الأمرين إذا كانا بنحو الترتب فالواقع مأمور به مطلقا والإتمام مأمور به على تقدير المعصية ولو جهلا

٢٩١

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه (ما لفظه) والثالث أي دفع الإشكال بمنع التنافي بين الأمرين ما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله من أن التكليف بالإتمام مرتب على معصية الشارع بترك القصر فقد كلفه بالقصر والإتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر (ثم قال) وسلك هذا الطريق في مسألة الضد في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيقين إذا ترك المكلف الامتثال بالأهم (ثم قال) ويردّه أنا لا نعقل الترتب في المقامين وإنما يعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصية الأول كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية فكلف لضيق الوقت بالترابية (انتهى) كلامه رفع مقامه.

(أقول)

والمصنف أيضا قد ردّه بالمنع عن الترتب على طبق ما تقدم منه في بحث الضد ولكن يردّهما جميعا ان الّذي تقدم منا تحقيقه في بحث الضد هو جواز الترتب ولو بنحو الواجب المعلق من دون محذور فيه أصلا سيما الترتب المفروض في المقام فإن الأمر بالقصر مثلا قد سقط عن التنجز لغفلة الجاهل عنه ولو كان أصله المشترك بين العالم والجاهل باقيا على حاله فيكون الأمر بالإتمام هو المنجز فعلا فيكونان من قبيل الحكم الواقعي والظاهري المتخالفين في عدم التنافي بينهما لأجل عدم تنجز الواقع وعدم الإرادة والكراهة على طبقه وكون المنجز هو الظاهري فقط على طبق قيام الأمارة أو الأصل العملي على الحكم الشرعي وقد تقدم تفصيل الجمع بينهما في بحث إمكان التعبد بالأمارات الغير العلمية مفصلا فلا نعيد.

٢٩٢

هل العبرة في باب المؤاخذة بمخالفة الواقع

أو بمخالفة الطريق

(بقي شيء) وهو أن الشيخ أعلى الله مقامه بعد ما فرغ عن بيان ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام قد ذكر امرا لم يؤشر إليه المصنف وهو ان العبرة في باب المؤاخذة (هل هو بمخالفة الواقع) الأوّلي الثابت في كل واقعة عند المخطئة (أو بمخالفة الطريق) الشرعي المعثور عليه بعد الفحص (أو يكفي في المؤاخذة) مخالفة أحدهما (أو يكفي في عدم المؤاخذة) موافقة أحدهما فإذا شرب العصير العنبي مثلا من غير فحص عن حكمه وفرضنا انه في الواقع كان حراما ولكن لو تفحص لظفر على خبر معتبر دال على الحلية (فهل يعاقب) حينئذ (أو يعاقب) فيما إذا انعكس الأمر بأن كان في الواقع حلالا ولكن لو تفحص لظفر على خبر معتبر دال على الحرمة (أو يعاقب) في كلتا الصورتين جميعا (أو لا يعاقب) في شيء من الصورتين أصلا وإنما يعاقب على الواقع الّذي لو تفحص عنه لم يمنعه طريق معتبر على الخلاف (وجوه أربعة) وقد ذكر الشيخ أعلى الله مقامه لكل وجه ما يناسبه من الدليل ولكنه أخيرا هو قوّى الوجه الأول.

(أقول)

(ان قلنا) باستحقاق المتجري للعقاب كما تقدم تحقيقه في محله فلا إشكال في إن العمل بالبراءة من غير فحص عن الحكم الشرعي هو مما يوجب استحقاق المؤاخذة على كل حال ولو على التجري ولعل من هنا لم يؤشر المصنف إلى هذا البحث أصلا بعد ما رأى استحقاق المتجري للعقاب ولو على قصد العصيان لا على الفعل المتجري به كما تقدم تفصيله في بحث القطع مشروحا (واما إذا قلنا) بعدم

٢٩٣

استحقاق المتجري للعقاب فالظاهر ان الأقوى هو الوجه الرابع من الوجوه الأربعة المتقدمة (فإذا شرب العصير العنبي) من غير فحص عن حكمه وفرضنا انه في الواقع كان حراما ولكن لو تفحص لظفر على خبر معتبر دال على الحلية فلا وجه للمؤاخذة والعقاب أصلا إذ الواقع المحجوب الّذي لا يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه لا يكاد يعقل العقاب عليه وهكذا إذا انعكس الأمر بأن كان في الواقع حلالا ولكن لو تفحص لظفر على خبر معتبر دال على الحرمة فلا وجه للعقاب أيضا لأن مخالفة الطريق المعتبر إنما يوجب استحقاق العقاب إذا أصاب الواقع ولم يصب هاهنا ومخالفته بما هو هو مما لا يوجب استحقاق العقاب إلا على التجري وهو خلاف المفروض (وعليه) فينحصر استحقاق العقاب بما إذا كان في الواقع تكليف إلزامي وكان بحيث لو تفحص عنه لم يمنعه طريق شرعي على الخلاف وهذا هو الوجه الرابع عينا فتأمل جيدا.

قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران

(قوله ثم إنه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران ... إلخ)

بل شروط أخر وهي للفاضل التوني رحمه‌الله (قال الشيخ) أعلى الله مقامه تذنيب ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا أخر ثم شرع في ذكرها وفي النقض والإبرام فيها واحدا بعد واحد وسيأتي منا التنبيه على الثالث بعد ذكر الشرطين جميعا قبل الشروع في قاعدة لا ضرر فانتظر.

(قوله أحدهما ان لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى إلى آخره)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه الأول أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين الأصل عدم وجوب

٢٩٤

الاجتناب عنه فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا أو عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة فإن إعمال الأصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء (ثم قال ما لفظه) أقول توضيح الكلام في هذا المقام أن إيجاب العمل بالأصل لثبوت حكم آخر (إما بإثبات) الأصل المعمول به لموضوع أنيط به حكم شرعي كأن يثبت بالأصل براءة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال واف بالحج من الدين فيصير بضميمة أصالة البراءة مستطيعا فيجب عليه الحج فإن الدين مانع عن الاستطاعة فيدفع بالأصل ويحكم بوجوب الحج بذلك المال (ثم قال) ومنه المثال الثاني فإن أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا يوجب الحكم بقلته التي أنيط بها الانفعال (ثم قال وإما) لاستلزام نفي الحكم به عقلا أو شرعا أو عادة ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين (ثم قال فإن كان) إيجابه للحكم على الوجه الأول كالمثال الثاني فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل لجريان أدلته من العقل والنقل من غير مانع ومجرد إيجابه لموضوع حكم وجودي آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلته كما لا يخفى على من تتبع الأحكام الشرعية والعرفية ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع فإذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الإباحة بحيث لو كان محرم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين فلا مانع من إجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور فيجب عليه الصلاة (إلى ان قال وإن كان) على الوجه الثاني الراجع إلى وجود العلم الإجمالي بثبوت حكم مردد بين الطرفين (فإن أريد) باعمال الأصل في نفي أحدهما إثبات الآخر ففيه أن مفاد أدلة أصل البراءة مجرد نفي التكليف دون إثباته وان كان الإثبات لازما واقعيا لذلك النفي فإن الأحكام انما يثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت (إلى ان قال وان أريد) بإعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الإثبات فهو جار

٢٩٥

إلا انه معارض بجريانه في الآخر (إلى ان قال) واما أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصل نعم نفس الكرية حادثة فإذا شك في تحققها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها وهذا معنى عدم تقدم الكرية على الملاقاة لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية وهو معنى عدم تقدم الملاقاة على الكرية فيتعارضان فلا وجه لما ذكره من الأصل يعني به أصالة عدم تقدم الكرية على ملاقاة النجاسة (انتهى موضع الحاجة) من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

وقد أجاد أعلى الله مقامه في توضيح الكلام في هذا المقام غير انه يمكن تأدية المطلب بنحو أسهل (فنقول إن كان) المقصود من ثبوت حكم شرعي من جهة أخرى أن يثبت بالأصل موضوعا لحكم شرعي كما في مثال الحج ومثال عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا فهذا مما لا يمنع عن جريان الأصل بل يجري وثبت به الموضوع كالاستطاعة أو القلة ويترتب عليه حكمه (وإن كان المقصود منه) أن يثبت به اللازم الواقعي لمجرى الأصل كما في مثال الإناءين المشتبهين ومثال عدم تقدم الكرية على ملاقاة النجاسة فهذا مما لا يثبته الأصل كي يمنع عن جريانه بل عدم الجريان في المثالين مستند إلى المعارضة أو لغير ذلك مما تقدم في صدر بحث الاشتغال مفصلا (ثم لا يخفى) إن أصل الكلام في بدو الأمر كان في خصوص أصل البراءة وأنه قد ذكر الفاضل التوني له شروطا أخر غير ما تقدم من شرائط الأصول العملية ولكن الكلام في ذيل الأمثلة المتقدمة قد تعدى منه إلى ما يعم الاستصحاب أيضا فكأن الشروط المذكورة هي لمطلق الأصل لا لخصوص البراءة فقط وإن اختص عنوان الكلام بها كما لا يخفى.

(قوله ثانيهما أن لا يكون موجبا للضرر على آخر ... إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه (ما لفظه) الثاني يعني من الشروط التي ذكرها

٢٩٦

الفاضل التوني لأصل البراءة أن لا يتضرر بإعمالها مسلم كما لو فتح إنسان قفس طائر فطار أو حبس شاتا فمات ولدها أو أمسك رجلا فهرب دابته فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك فيحتمل اندراجه تحت قاعدة الإتلاف وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع وإلّا فالضرر غير منفي فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النص بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار ولكن لا يعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح (انتهى).

(أقول)

وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار كما سيأتي احتمالات عديدة من جملتها أن يكون المراد هو نفي الضرر الّذي لم يحكم الشرع بجبرانه وتداركه فيكون هو من أدلة الضمان نظير قوله من أتلف مال الغير فهو له ضامن وكلام الفاضل التوني مبني على هذا المعنى (وعلى كل حال) محصل كلامه أنه لا تكاد تجري البراءة في الأمثلة المذكورة وذلك لأمرين.

(أحدهما) أنها مما توجب الضرر على المالك فيحتمل اندراج المورد تحت قاعدتي الإتلاف والضرر فيكون مما فيه نصّ لا مما لا نصّ فيه كي تجري فيه البراءة

(ثانيهما) انه يعلم إجمالا بتعلق حكم بالضار لا محالة إما التعزير وإما الضمان وإما هما معا ومع هذا العلم الإجمالي لا تكاد تجري البراءة فيجب تحصيل العلم ببراءة الذّمّة ولو بالصلح.

(وقد أورد الشيخ) أعلى الله مقامه على الأمر الأول (بما هذا لفظه) ويرد عليه انه إن كانت قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل كانت دليلا كسائر الأدلة الاجتهادية الحاكمة على البراءة وإلا فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراءة ومجرد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر لا يوجب رفع

٢٩٧

اليد عن الأصل (انتهى) (وقد أورد) على الأمر الثاني (بما هذا لفظه) والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان متعمدا وإلا فلا يعلم وجوب شيء عليه فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح (انتهى).

(قوله ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية ... إلخ)

شروع في الرد على الشرط الأول من شروط الفاضل التوني.

(قوله لو كان موضوعا لحكم شرعي ... إلخ)

بمعنى ان رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة لو كان موضوعا لحكم شرعي كما في مثال الحج المتقدم فلا محيص عن ترتبه عليه فإن الواجد لمقدار من المال واف بالحج إذا أجرى البراءة عن الدين المشكوك يحرز بها الاستطاعة ويجب عليه الحج وهكذا استصحاب عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا يثبت به قلة الماء الملاقي للنجاسة ويحكم بنجاسته ويجب الاجتناب عنه.

(قوله أو ملازما له ... إلخ)

بمعنى ان رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة لو كان ملازما لحكم شرعي فلا محيص عن ترتيب ذلك الحكم الشرعي فإذا دخل مثلا عليه الوقت وشك في دين حال يجب أداء الآن على نحو يسقط به تنجز الأمر بالصلاة فعلا لفورية الدين وسعة وقت الصلاة تجري البراءة ويثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الظاهري فإن مجرد انتفاء الدين ولو ظاهرا بوسيلة الأصل مما يكفي في وجوب الصلاة فعلا بعد دخول وقتها.

(نعم) لا يثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الواقعي وذلك لابتنائه على القول بالأصل المثبت ولا نكاد نقول به كما سيأتي في محله.

(قوله فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفى التكليف واقعا ... إلخ)

أي فإن لم يكن الحكم الشرعي مترتبا على رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة بل كان مترتبا أو ملازما لنفي التكليف واقعا كما في مثال الإناءين المشتبهين المتقدم لأن

٢٩٨

وجوب الاجتناب عن الآخر ملازم لنفي وجوب الاجتناب عن أحدهما واقعا لا ظاهرا بالبراءة ونحوها.

(قوله وهذا ليس بالاشتراط ... إلخ)

أي عدم ترتب ذاك الحكم لعدم ثبوت ما يترتب عليه بالبراءة ليس بالاشتراط أي شرطا للبراءة كما لا يخفى.

(قوله واما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر ... إلخ)

شروع في الرد على الشرط الثاني من شروط الفاضل التوني وقد تقدم من الشيخ أعلى الله مقامه ما يتضح به ردّ المصنف على الفاضل فلا نعيد.

(بقي شيء) وهو أنا قد أشرنا قبلا أن الفاضل المذكور على ما صرح به الشيخ أعلى الله مقامه قد ذكر شروطا لأصل البراءة لا شرطين ولم يؤشر المصنف إلى الشرط الثالث بل الشيخ أيضا لم يذكره إلا في ذيل الثاني (ولعل) من هنا غفل عنه المصنف وقال ذكر لأصل البراءة شرطان ولم يتفطن الشرط الثالث (وعلى كل حال قال الشيخ) أعلى الله مقامه بعد الفراغ عن الشرط الثاني (ما لفظه) كما لا وجه لما ذكره من تخصيص مجري الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة بناء على أن المثبت لأجزاء العبادة هو النص.

(أقول)

ولعل نظر الفاضل المذكور إلى أن أصل البراءة إذا جرت عن الجزء المشكوك فيتعين بها الواجب في الأقل والأصل العملي مما لا يصلح لذلك بل لا بد من تعيين الواجب بالنص (وقد ردّ) عليه الشيخ أعلى الله مقامه بقوله فإن النص قد يصير مجملا وقد لا يكون نصّ في المسألة فإن قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بثبوت التكليف المردد بين الأقل والأكثر فلا مانع عنه وإلّا فلا مقتضي له وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة (انتهى).

(ومحصله) أنا إن قلنا بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين لانحلال

٢٩٩

العلم الإجمالي بالتكليف المردد بينهما إلى علم تفصيلي وشك بدوي كما تقدم شرحه بما لا مزيد عليه فلا مانع عن الأصل أبدا وإلا فلا مقتضي له أصلا لا أنه مما لا يجري لكونه مثبتا لأجزاء العبادة.

(قوله مع ساير القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية ... إلخ) كقاعدة من أتلف وقاعدة اليد ونحوهما.

في قاعدة لا ضرر ولا ضرار وبيان مدركها

(قوله ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاختصار وتوضيح مدركها وشرح مفادها وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية أو الثانوية ... إلخ) ومحصله انه يقع الكلام في جهات ثلاث من قاعدة الضرر.

(الأولى) في بيان مدركها.

(الثانية) في شرح مفادها.

(الثالثة) في إيضاح نسبتها مع الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كأدلة وجوب الصلاة والصيام ونحوهما أو الثانوية كأدلة نفي العسر والحرج ونحوها.

(قوله انه قد استدل عليها بأخبار كثيرة ... إلخ)

شروع في الجهة الأولى من الجهات الثلاث وهي بيان مدركها والمدارك اخبار كثيرة كما قال المصنف.

(منها) ما هو أشهرها قصة وأصحّها سندا وأكثرها طرقا.

(وهو ما رواه) في الوسائل في إحياء الموات في باب عدم جواز الإضرار بالمسلم عن عدة من أصحابنا مسندا عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر

٣٠٠